وحدث فلكي آخر + صور من الفضاء

Quote: الزمن في العلوم الطبيعية ورباعيات توماس إليوت . [5] عودة لانحناء الضوء بالقرب من الشمس، وهو كما ذكرنا في الحلقة السابقة، ما تنبأت به نظرية النسبية العامة وأثبتته التجربة. في الكون شموس (نجوم) أكبر بكثير من شمسنا لذا فإن جاذبيتها أعلى وقد ينهار الثقيل منها تحت وطأة جاذبيته الذاتية فيكّون ثقبا أسودا، وهو جسم يبتلع ـ نظرا لشدة جاذبيته ـ أي جسم وضوء يكون على مسافة منه تقل عن حد معين يسمى بأفق الحدث Event horizon. جاذبية الجسم الكروي تزيد كلما زادت كتلته أو نقص حجمه، فإذا كان للجسم بدءا كتلة كبيرة جدا وتداعي فانكمش حتى أصبح قطره صغيرا بدرجة كافية فقد يصبح ثقبا أسودا. وقد يكون الجسم ثقبا أسودا حتى وان لم يكن ضخما. خذ مثلا الأرض وتخيل أنها تقلصت، محافظة على كتلتها، حتى أصبح نصف قطرها سنتمترا واحدا. عندئذ تصبح الأرض ثقبا أسودا. إننا لا نستطيع أن نرى الثقب الأسود لأنه يأسر الضوء المقترب منه، ونحن نرى الأشياء بواسطة الضوء الذي تعكسه. ومع ذلك ففي الكون شواهد تدل بشكل غير مباشر على وجود ثقوب سوداء. تخيل امرءاً مسافرا في الفضاء وساقه سوء طالعه لأن يقترب من أفق الحدث لثقب أسود وكنا نراقبه من مكان آمن بعيد. إن سقوط ذلك الشخص في الثقب بعد عبوره أفق الحدث لن يستغرق وقتا طويلا – سيسقط بسرعة في وقت وجيز جدا بالنسبة له (في الواقع ستمزقه جاذبية الثقب إربا إربا قبل سقوطه، لكن دعنا نغض الطرف عن هذه التفاصيل). ومع أن سقوطه في الثقب الأسود إلى حيث لا ندرى و لا نستطيع أن نعلم سيكون سريعا، لكنه سيبدو لنا من البعد حدثا يستغرق الدهر كله. لماذا ؟ لنفترض أن صورة الشخص وهو يهوي في الثقب الأسود تنقل إلينا عبر إرسال تلفازي وسيصلنا توالي حركاته بوتيرة منتظمة ما ظل بعيدا عن تأثير جاذبية الثقب. لكنه عندما يقترب من أفق الحدث فإن جاذبية الثقب تؤثر على الأشعة المنعكسة منه بشكل ملحوظ فيصلنا الضوء عبر مسار به انحناء نحو الثقب فيتأخر وصوله إلينا لأنه سلك مسارا أطول. ومع اقتراب المسافر التعيس أكثر وأكثر من أفق الحدث يزداد انحناء الضوء المنعكس منه نحو الثقب الأسود أكثر وأكثر فيزيد تبعا لذلك تأخر وصوله إلينا. فإذا وقف على مشارف أفق الحدث ورفع يده مودعا فستصلنا هذه الصورة بعد وقت طويل جدا. ومع أن صورة الوداع هذه ستكون باهتة المعالم لأن الضوء يصلنا منهكا بعد أن "عافر" ليفلت من قبضة جاذبية الثقب الأسود إلا أنها ستبقى معنا "مجمدة" إلى ما يشبه الأبدية Eternity. إن هذه الصورة لتجمد الزمن بالقرب من الثقب الأسود تكسب عبارة إليوت All time is unredeemable (الزمن، أي زمن، لا يمكن استرجاعه) معنىً يشي باستيعاب الشاعر لذاتية subjectivity الإحساس بالزمن حيث هو في الفيزياء الحديثة ليس مطلقا بل نسبي. فهذه الأبدية المتمثلة في تجمد صورة المسافر بالقرب من الثقب الأسود ما هي إلا مجرد إدراك حسي perception للمشاهد البعيد من الثقب الأسود ـ هي وهم لا يعكس حقيقة النهاية المأساوية التي آل إليها صاحبنا المسافر المسكين. لكن دعنا نعود مرة أخرى لعلم الأحياء وننظر لأصغر الكائنات فيه: البكتيريا. لقد عاشت منذ عصور الأرض الغابرة قبل آلاف ملايين السنين وأحيانا في بيئات ذات ظروف متطرفة غير مضيافة للحياة وذات تراكيب معقدة (الفيروسات لا تنشط إلا في وجود مضيف لذا لا يميل كثير من علماء الأحياء إلى اعتبارها كائنات حية). إن البكتيريا تتوالد توالدا لاتزاوجي Asexual reproduction، بالانقسام إلى اثنين. إن الخلايا الجسدية Somatic cells في أجسامنا تفعل نفس الشيء مع اختلاف واحد مهم: إنها تهرم بينما خلية البكتيريا لا تتقادم وتبلى. إنها تستمر في الانقسام إلى الأبد (مهما يعني ذلك!) دون أن يعتريها الوهن. إن التركيب الكيميائي الأساسي لهذه البكتيريا التي تتمتع ـ بمعنى من المعاني ـ بما يشبه الحياة الأبدية التي شغلت الشاعر إليوت لا يختلف عن تركيب الإنسان إلا في عنصر أساسي واحد. كلاهما تركيبه الأساسي مكون من الهيدروجين والأوكسجين والكربون والنيتروجين والفوسفور. بالإضافة لذلك يحتوي جسم الإنسان في تركيبه الأساسي على الكالسيوم بينما يحتوي جسم البكتيريا على الكبريت. للفلكي الإنجليزي فردريك هويل Hoyle (1915م- 2001م) نظرية وهى أن هذه البكتيريا ـ بما في ذلك تلك التي تسبب الأمراض ـ قد أتت للأرض من الفضاء محمولة على ظهور مذنبات وكويكبات، وهذا رأى يسنده الآن اكتشاف مواد الحياة العضوية في مذنب هالي ويوافق ما نعلمه عن وجودها حينما كانت الأجسام الكونية الفضائية تقصف الأرض بلا هوادة في عهدها المبكر. لقد كان هويل شخصا جدليا حاد الذكاء، وكذلك ساخرا حاد اللسان مثل كثير من أهله في ولاية يوركشاير بشمال إنجلترا. لقد أغضب زعمه أن البكتيريا الضارة قد وفدت من الفضاء المجتمع الطبي الدولي فأثاروا ضجة وغبارا صرفا لجنة جائزة نوبل للفيزياء عن منحها له تقديرا لإسهامه المفتاحي في فهم التفاعلات النووية المصنعة لعنصر الكربون (أساس كافة أشكال الحياة كما نعرفها) في النجوم. لقد منحت الجائزة عام 1983م لشريكه العالم الذي أثبت بالتجربة صحة فكرته بينما حجبت عنه، مما يجافي العدل كما ألمح بذلك شريكه. لقد كانت الظاهرة التي اكتشفها هويل مذهلة تدل على ترتيب فيزيائي دقيق للدرجة التي جعلته يتحول من منكر لوجود الله إلى مؤمن به. . عبد الملك محمد عبد الرحمن

.