غادة عبد العزيز خالد و حاجة مومنين رحمها الله... كتابة بطعم الزمن الجميل

Quote: أدين بفضل كبير لجدتي أم المؤمنين رحمها الله. أنجبتني أمي وهي لا تزال تخوض غمار السنة الثانية بكلية التربية جامعة الخرطوم، وتولت الحاجة ممنين (كما كان يطلق عليها) تربيتي في تلك السنوات الأولى. كانت تحيك ثيابي الصغيرة بماكينة الخياطة التي برعت فيها وظلت الماكينة بهيكلها الأسود قابعة في ركن من أركان الصالون تذكر أيام كانت تدور عجلاتها الصغيرة بهمة ونشاط. راعت جدتي أيضا أكلي وشربي وعلاجي، فكانت تذكر موعد التطعيم بدقة وتعود بي إلى عيادة الطبيب حالما شعرت بألم يعصرني. ويرقبها التمرجي في ذهابها وإيابها حتى سألها يوما: "أنتي أمها ولا حبوبتها؟" أجابت "دي بت بتي!" فما كان من التمرجي إلا أن صافح يدها بقوة قائلا لها: "أمشي يا حاجة، والله عفيت منك." كنت أشعر دوما بحب كبير تجاه جدتي دونما أدرك دورها في تربيتي آنذاك. فهي دوما طيبة القلب حنون، تنظر إليها بشلوخها وهمتها العالية التي لم تكن تتناسب وعمرها، فتجعلها تدخل المطبخ وتحاول أن (تفرك) الملاح بينما تتسابق والدتي وأخواتها في راحتها وهي تضجر من الخلود بدون عمل وتعشق قوتها واستقلاليتها. في أحد أيام المطبخ تلك نادتني:"أمشي يا غادة جيبي البندورة." ونظرت إليها لوهلة محاولة التوصل لماهية البندورة التي تنادي بها الحاجة. ووقفت في مكاني لا أعرف كيف أتصرف حتى أدركت الوالدة سبب حيرتي فأعقبت "حبوبه عاوزة الطماطم." وظلت البندورة راسخة في ذهني بالرغم من قلة استعمال الاسم في هذا العصر الذي بدأ يطمس لغة الحبوبات. أيضا من التعبيرات التي استخدمتها الحبوبه في زمن لم يمض عليه الكثير كانت "حبيب قساي" "تعالي يا عشاي." كانت الحبوبه تجلس في العنقريب وتستعمل السحارة والحمارة والمشلعيب. كانت جدتي تعطينا من وقتها الكثير، في بعض من أحيان تنشغل والدتي وتحاول جدتي أن تخفف عنها "نقتنا" الكثيرة فتقوم بجمعنا حولها وتقص علينا الأحاجي وتذكر الحكاوي. حسن الشاطر... النعجات الثلاثة (حمور.. خدور.. صفور)... فاطمة السمحة وأمنا الغول، أتخيل فاطمة شابة يانعة ذات شعر أسود طويل وأتصورها وهي خائفة وأتعاطف معها. لا زلت أذكر صوت جدتي يرن في أذني وهي تمسك شعري تداعب خصلاته وتملؤها بدهن الكركار وأهتف لها "كفاية يا حبوبه" فترد بنبرة حاسمة "علشان شعرك يبقى طويل" وكنت أتضايق من الدهن أول يوم ولكن أختال بشعري بقية الأسبوع. وكما ابتدأت لغة الحبوبات في التواري بدأت هيئتهن في الانطماس أيضا. من أشكال الحبوبات التي أذكرها دوما كانت تلك "المحفضه" التي تتدلي طويلة من العنق وتلمس الأرض لدى الجلوس في الكرسي أو السرير. تلك الشفاه المحتقن لونها ما بين الأخضر والأسود كانت من علامات الجمال والشعر مهندم المساير من الأمام وممشط من الوراء. هيئة الحبوبه المألوفة التي ساهمت في تربية معظم جيل اليوم قاربت على الانقراض. فحبوبات اليوم هم الجيل الذي قاد نهضة النساء قبل بضعة عقود ولا يزالون يقدمون الكثير للحياة العامة. فمن الحبوبات اليوم الصحفية ومحاضرة الجامعة والطبيبة وصرن لا يملكن ذات الوقت المتسع لتربية أحفادهن والتأثير عليهم بذات الصورة التي لمسناها من حبوباتنا. أدفع بعض من عمري مقابل جلسة مع حبوبتي وحجوة من جراب قصصها التي لا تنتهي.