|
القااااع
|
(1)
نهض من فراشه في بطء .. جلس علي حافة السرير ممسكاً رأسه بين يديه وهو يتثاءب في تثاقل .. دعك عيناه في قوة مما زاد من إحمرارهما بعد ليلة تقاسمها الأرق والكوابيس .. كانت دقات قلبه مرتفعة وكأنه عائد من حصة للعدو وليس مستقيظاً من النوم .. إرتدى حذاءه البيتي وتناول بشكيره الأخضر ثم فرده أمامه وألقاه علي كتفه في إهمال وخرج من غرفته الي الحوش الذي إنتصبت عند زاويته الجنوبية الشرقية نيمة تمردت علي الجدار فتمددت فروعها الي الشارع وبالقرب منها ينتصب قن الدجاج الذي كان ينفض ريشه في كسل والنعاس لا زال يداعب عيونه الصغيرة اللامعة ماعدا الديك الذي كان قد أعتلى زاوية المطبخ التي تطل علي الميدان الذي يقع جنوب البيت مباشرة فارداً عنقه بطول إمتدادها وإن خرج صوته ضعيفاً وكأنه مصاب بالزكام محاولاً ممارسة مهمته الأزلية في إيقاظ الناس وقت السحر وإن كان متأخراً بما يزيد عن الساعة فقد كبر وهرم وإختلت ساعته البيوليجية منذ زمن بعيد كما فقد كل مزاياه التي كانت تمنحه الخيلاء والزهو بداخل قن الدجاج فهرب من مملكته الخاصة الي منفاه الإختياري عند زاوية سقف المطبخ قانعاً من الغنيمة بالإياب.
إختلط صياح الديك بهديل ذكر الحمام وهو يقترب من أنثاه متمايلاً في إغراء .. قبلها قبلة طويل وهي تتراجع الي الخلف في خطوات مدروسة ويتبعها هو بنفس الإيقاع وشمس كانون الثاني ترسل أشعتها الواهنة فتداعب مقدمة الأشجار وأعلي البيوت في حياء , وقتها كان الديك العجوز قد أخفئ رجليه في الريش الكثيف عند بطنه وغفا غفوة صغيرة قبل أن تشتد حرارة الشمس .. تابع المشهد بعينيه وكأنه يراه لأول مرة .. صوت طرقات الماء التي كانت نساب من الصنبور الي طشت النحاس أخرجته من إستغراقه فأحكم إغلاقها ثم دلف الي الغرفة الثانية في بيته الكائن بقشلاق البوليس بمدينة ود مدني.
نظر الي زوجته عواطف في حنان وصوت تنفسها المنتظم يصله في وضوح .. كان الشيب قد غزا مقدمة شعرها وتجاعيد الزمن قد تركت أثرها علي أسفل عينيها وعلي جانبي فمها وإن كانت قد تضاءلت أثناء نومها فبدت أقرب الي خطوط رقيقة قد خطها فنان منها الي تجاعيد , لم تكن جميلة في يوم من الأيام ولكنها أيضاً لم تكن دميمة , كان يدرك أنه لا يحبها وإن كان لا يستطيع الإستغناء عنها .. إقترب منها في حذر ثم قبلها علي خدها الأيسر فنهضت في ذعر وهي تنظر إليه في دهشة فهو لم يقبلها منذ مايزيد عن الخمسة أعوام .. لم يبال بالدهش التي ملاءت عينيها وهو ينظر الي إبنته مروة ذات الأربعة عشر ربيعاً وقد إنكفأت علي بطنها غارقة في نومها ثم حول نظره الي إبنه محمد ذو الستة أعوام وهو مكور علي نفسه في منتصف الفراش .
كانت ولادة محمد خطاً فاصلاً لعلاقته الزوجية بعواطف فبعد أن أكملت الأربعين وعادت أمها الي بيتها لم ترجع الي غرفتهما وعندما سألها عن السبب تعللت بأن محمد مازال صغيراً وهو يكثر من البكاء ليلاً ولكن تحت إلحاحه أخبرته بصراحة بأن السبب هو الكوابيس التي تداهمه كل ليلة فتحرمها من النوم بسبب صراخه وبكائه أثناء نومه .. لم يرد عليها وانسحب في هدوء ولكن كبرياؤه كانت قد جرحت جرحاً بليغاً أدي الي كبت نداء الجسد وعواطف تتسلل اليه عند عتمة الليل فيتعلل بالإرهاق أو الصداع فتحتج في حياء ثم لم تعد تطالب بشئ وإن كانت عينيها تنطق به في بعض الأحيان فيتجاهله متظاهراً بالغباء حتى رفعت الراية البيضاء وحصرت حياتها بين طفليها وجاراتها وجلسات الجبنة عند ظل النيمة تتبادل فيها الأخبار والنميمة ورمي الودع وقراءة الفنجان فأصبحا أقرب لشريكي سكن منهما لزوجين.
شد الحزام الأخضر حول خصرة المتضخم حتي آلمته بطنه .. نظر الي كرشه المتدلي في إستياء ثم أعاد الأزبليطة الي مكانها الطبيعي وارتدي قبعته التي زينها صقر الجديان ثم تأكد من أن وسام الخدمة الطويلة الممتازة مثبت علي بدلته الكاكي ثم خرج أخيراً من البيت وأغلق الباب من خلفه
كان هذا هو عبد الرؤوف محمد عبد الرؤوف منفذ أحكام الإعدام في سجن ودمدني العمومي.
|
|
|
|
|
|
|
|
|