اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 00:27 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبد المنعم عجب الفيا(agab Alfaya & عجب الفيا )
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-10-2005, 05:05 AM

Agab Alfaya
<aAgab Alfaya
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 5015

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! (Re: Agab Alfaya)


    التملك هو التكرار والتماثل بالماضي في زمن القص :

    لماذا الصراع ؟ لماذا التملك ؟ هل السبب هو الهجرة فقط ؟ إن السبب هو أيضا نوع من التملك زمنه هو زمن يتكرر ويتماثل بذاته ويغيب فيه الزمن كسيرورة ، كزمن له مذاق الحياة المتغيرة والنامية .. يغيب الزمن كحاضر ليس حاضراً إلا حين يبقى ماضيا . هذا النوع من التملك نموذجه الراوي في المقطع الأول من الرواية ، الراوي قبل أن تصيبه الخلخلة وساوره القلق ، الراوي وأهله : الأم ، والأب ، والأخت ، والجد . الراوي وعشيرته : ود الريس ، العمدة ، سعيد التاجر ، حاج أحمد ، بنت مجذوب ، والد حسنة زوجة مصطفى .. (يبقى محجوب شخصية متميزة . شخصية وسطية بين أهل القرية من جهة وبين مصطفى والراوي من جهة ثانية) .

    الراوي نموذج لتملك يعيشه أهل القرية وإن كان يختلف عنهم من حيث أنه " مثقف" سافر خارج السودان ليتعلم في لندن ، وبالتالي من حيث أنه يحمل بذرة عانى منها مصطفى . لذلك نرى أن الراوي هو نموذج لهذا النوع من التملك – قبل أن يصيبه القلق – وليس نموذجاً لنوعية هذه الشخصيات التي لا يصيبها قلق مصطفى ، ولا تعيش معاناته في التملك ، والتي في ما هي تمارس تملكها تمارس أيضا حياتها المختلفة وتؤدي دلالات متميزة في الرواية (1) .

    ما يهمنا هنا هو هذا النوع من التملك وليس الشخصيات بذاتها ، لذلك سيتركز كلامنا على الراوي كنموذج لهذا التملك :

    تبدأ الرواية في مقطعها الأول بإعلان الراوي عن عودته ، يقول : " عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة ، سبعة أعوام على وجه التحديد ، كنت خلالها في أوروبا . تعلمت الكثير وغاب عني الكثير . لكن تلك قصة أخرى " (ص 5) .

    في هذا القول الذي تبدأ به الأسطر الأولى من " موسم الهجرة إلى الشمال" ، يؤكد الكاتب وعلى لسان الراوي ، على أكثر من نقطة ندرك أهميتها التقعيدية في الصفحات اللاحقة حين يبدأ السرد متناولاً هجرة مصطفى ، ما هي هذه النقاط ؟

    - إن الراوي هنا حريص على تحديد مدة الغيبة التي هي 7 سنوات ، وعلى التعبير عن إحساسه بأنها طويلة ، الغيبة كانت في أوروبا ، أي حيث كان مصطفى سعيد – كما نعلم ذلك في ما بعد – كما كانت للغاية نفسها أي للتعلم .

    مواصفات البعاد عن الوطن وظروف هذا البعاد بالنسبة للراوي ولمصطفى واحدة . ومع هذا فإن بعاد الراوي هو غيبة وليس هجرة كبعاد مصطفى ، الراوي يكتفي بالإشارة السريعة إلى هذه الغيبة ، أسطر معدودة ، مجرد مدخل للكلام على شيء آخر ، على ما هو عكس الغيبة ، أي على العودة إلى البلد . لم يرو الراوي قصة غيابه ، بل أن غيابه في نظره هو " قصة أخرى " ليس مكانها هنا . ما مكانه هنا هو العودة إلى الأهل واستعادة العلاقة بهم .

    ونحن نلاحظ أن المدة التي قضاها الراوي في أوروبا لا حضور لها ، على طولها ، في زمن الحاضر الروائي ، وهي مدة زمنية لا تحمل معنى الغربة ولا تكسر زمن انتماء الراوي إلى قريته كما لا تهدم إحساسه بهذا الانتماء . كأن هذه المدة هي زمن خارج الزمن . أو كأنها فقط زمن جغرافي إذا صح التعبير ، أو مكان لا زمان له ولا تاريخ . مكان مفرغ وقائم خارج الزمن ، هكذا ، وبمجرد العودة إلى القرية ، إليها كزمن سابق يسقط المكان الغربي ويسقط زمانه . إن زمن القرية هو بالنسبة للراوي ، التاريخي الأصيل ، وهو المحمول معه إلى هناك ، يحتله . يحتل الراوي ويملأ مكانيته . وهو فقط الزمن عنده .

    كان الراوي يحمل زمنه في بعده المكاني ، وكان زمنه هذا حاضراً في المكاني يلغيه ، وهو في حضوره أليف وداخلي ، حميمي ومعاش أي هو " حقيقي" . هكذا وحين حملت لحظة اللقاء عند العودة ، وهم الانقطاع عن هؤلاء الناس الذين عاد إليهم ، عن مكانهم وزمانهم ، لم يكن لهذا الوهم إلا أن يتلاشى ، وأن يفسخ مجالا لهذا الذي كان ، للماضي ، أن يستمر . وهم الانقطاع يترك مكانه للقاء هو الحقيقي ، الحاضر يترك مكانه للماضي . الخارج للداخل . يسقط زمن الخارج مكانياً مفرغا ويستمر زمن الداخل مكانياً حقيقة .

    سقوط زمن الخارج عند الراوي تبعه غياب مكانه في الرواية كلها . لا ذكر لمشهد أو حديث يرتبط بالخارج الذي هو الغرب . لا ذاكرة عند الراوي لحدث ما ، لحوار ما ، لرؤية ما في هذا المكان وزمانه (1)

    ليست العودة إلا لحظة استمرار ما كان مستمراً . لحظة ذاب فيها ثلج المكان الـ (هناك) ، وراح الضباب . لحظة زال فيها وهم المسافة وتأكد فيها الراوي أن القرية والعشيرة يملأون ، حقاً ، فضاءه الداخلي كله . يقول معبراً عن ذلك : " لم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في مخيلتي ، فلكأنني مقرور طلعت عليه الشمس . ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زمنا في بلاد " تموت من البرد حيتانها" . تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثلا الضباب ، أول وهلة رأيتهم ، لكن الضباب راح " (ص 5) .

    راح الضباب بسرعة ، في يوم وصوله الثاني (1) استعاد الراوي إحساسه بكل تفاصيل الحياة في القرية : الفراش في الغرفة . الجدران التي تشهد على ترهات حياته في طفولته ومطلع شبابه . صوت الريح في النخيل المتميز عن صوت الريح في حقول القمح ... أناس القرية وكل ما يخصهم .

    هذا الإحساس يشكل شرعية التملك ، إنه أساسه ومنطقه الذي يستمر به ، به تولد الطمأنينة وتستقر وتركن إلى زمن هو زمنها.

    في هذا المناخ المشاعري ينبت معنى الأصالة . الراوي يرى نفسه في مرآة زمنه. يرى انعكاس الذات للذات والزمن للزمن والقرية للقرية والأهل للأهل .. كل شيء هو نفسه وهو " مخلوق أصيل " (ص 6) . لم يتغير شيء ، كما في الماضي جاءت أمه " تحمل الشاي " أو كما في لغة النسبة إلى الذات : " ... جاءت أمي تحمل الشاي . وفرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء . وجاءت أختي ، وجاء أخواي ، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث ، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة . نعم ، الحياة طيبة ، والدينا كحالها لم تتغير " (ص 6 – إشارة التأكيد لـ : ي العيد) ، استمرار الزمن كما هو واضح في تعبير : " شأننا" و " كحالها" .

    سبعة أعوام قبل هذه العودة . سبعة أعوام هي زمن مضى ولكن لا حضور هنا ، بل إن ما هو حاضر هو زمن هذا (الما قبل) . زمن الماضي ، وكأن هذه الأعوام السبعة هي أعوام بلا زمن ، بلا تاريخ . حين يحضر هذا (الما قبل) يحضر كاستمرار لا كسر فيه ولا تغير . هل هو الماضي الذي يستمر إذا أم أن الحاضر هو الذي يتماثل بالماضي ؟ وأي حاضر هذا الذي لا حضور للمتغير فيه ؟ أين هي أحداث عام 1898 ؟ وأين هو أثرها في هذا الزمن الحاضر ؟ أين هي اللغة وأين هي الثقافة خضوعهما لهذه الأحداث ؟

    وفي وعي الراوي يهيمن أمر واحد هو الإحساس بـ " الاستقرار" . الاستقرار هو الاستمرار وهو التكامل (ص 9) . الإحساس هذا هو كناية عن تملك زمن متماثل بذاته ، زمن جوهري ، مقدس ، مطلق ، يتكرر ويستمر من داخل . إنه زمن لا تاريخي . زمن اللاتغير واللاسيرورة هذا هو الزمن الذي يطمئن إليه الراوي ضد زمن آخر لا حضور له حتى الآن عنده .

    يرتبط وعي الراوي ، في انمائه لهذا الزمن ، برموز تعبر عن الماضوية : الأم ، الأب – الجد .. ويغرق في حنين عارم إلى الطفولة . نرى إلى هذه الرموز بشكل واضح في زمن العودة في بداية الرواية . فحين يعود الراوي يعيد صلته " بالناس والأشياء بالقرية " (ص ، يشعر أنه سعيد ويرى إلى نفسه " كطفل يرى وجهه في المرآة لأول مرة " . يفرح الراوي بعودة البراءة إليه ، براءة الطفولة وهي تعي ذاتها لأول مرة في صفاء كلي هو صفاء الذات قبل أن تتعامل ، بوعي ، مع حركة الزمن ، أو قبل أن تكون في الزمن وعياً له . إنها الذات النقية التي لم تراكم فيها الحياة بعد ، ما يقيم داخلها المسافة ، وما يجعل النظر إلى المرآة أكثر من انعكاس ، أكثر من صورة تحاكي المثل . هي الذات الطفلة المنفلتة من عبء الوعي الذي يقوم المجتمع ، أو من عبء الصراع فيه وما يمكن أن يكون تأنيبا ومحاسبة وإثما داخله .

    هذه الذات ، ذات الطفولة بما هي صفاء وبراءة ، هي هنا ذات الراوي في امتلاكه لزمنه اللاتاريخي . الراوي هو طفل أو رجل يتنفس الطفولة ، يعيشها سلوكاً سمته السعادة . نراه طوع أمه التي " كانت له بالمرصاد ، حسب قوله ، والتي يستمر الآن في حضانتها فاقداً استقلالية الرجل ، تاركاً لها – كما الأطفال ، زمام وقته بل ونفسه ، لا رغبات عنده تعترض على ما تقوده إليه . سلساً ، مطواعا تسوسه وتذهب به لاداء ما اعتاده أهل القرية من واجبات.

    يذهب الراوي في اتجاه الماضي . صوت الماضي مصدر نشوة هي عنده نشوة الطمأنينة ، يوغل بعيداً في هذا الاتجاه . يذهب إلى الجد ليحدثه " عن الحياة قبل أربعين عاما ، قبل خمسين عاما ، لا بل ثمانين " (ص 9) . يتزنر بالماضي ضد الآتي . يمتلك الحاضر بصوت الماضي . يقبع في حوض زمن مستقر يقوي " إحساسي بالأمن " (ص 9) .

    في هذا كله يبقى الراوي واحداً من أهل القرية ، يندمج فيهم ، يرى رؤياهم ويعيش حياتهم بكل قيمها ومثلها . لم تغيره السنوات السبع ، لم تغير الثقافة ، التي حصلها في لندن ، نظرته إلى هذه الحياة في بلده ، بل هو ما زال يسعى إليها كما هي ، يريدها ويتعشقها في سكونها وثباتها.

    ولكن ما هي هذه الثقافة التي تلقاها الراوي في غيبته ؟ هل هي ثقافة تغير زاوية رؤياه وتجعله يطلب التغيير ويبادر إلى فعل ما ينهض بحياة القرية ؟ أم هي ثقافة تستمر بزاوية الرؤية نفسها ؟ هل تمكنه هذه الثقافة أن يرى إلى حياتهم بعين فاحصة معاينة ومتسائلة ؟ بعين ترى إلى الـ (ما بعد) في الزمن ، أم هي ثقافة تتأطر في الـ ( ما قبل) منه ؟ يقول الراوي مخاطبا مصطفى سعيد ، متكلفا إظهارا التواضع في كلامه :

    " ثلاثة أعوام ، أ،قب في حياة شاعر مغمور من شعراء الإنكليز " (ص 12) وهذا معناه ، بالنسبة لنا ، ثلاثة أعوام من التحصيل الذي لا يثمر ولا يمكنه أن يثمر سوى الرغبة في الإدعاء . فحين يسأل مصطفى الراوي عن أسم شهادته ، يقول هذا الأخير في نفسه : " يقول لي ماذا تسمونها ؟ لم يعجبني ذلك فقد كنت أحس أن الملايين العشرة في القطر كلهم سمعوا بانتصاري " (ص 12) .

    في هذا تبدو الثقافة ، عند الراوي ، معادلا للحصول على لقب ، وهي تنقيب يقتصر على حياة شاعر وهو في نهاية الأمر شاعر مغمور ومن شعراء الإنكليز ، والثقافة هذه لا تعني القرية ولا أهلها ولا حتى الراوي ، بل هي تعني أمرا واحدا : الشهادة واللقب ، أي لا شيء يضيف ويغير ، لا شيء سوى تمويه الثقافة . أو ثقافة اللا ثقافة .

    هذا النوع من الثقافة الواجهة هو الذي لم يغير هوية التملك عند الراوي وربما هو الذي يفسر استمرار الماضي زمنا متكررا متماثلا بذاته . وعليه نسأل : هل يشكل هذا النوع من الثقافة عاملاً محدداً لمفهوم التملك ويفسر زمنه اللاتاريخي ؟ سؤال نطرحه حول إمكانية دلالة تقدمها الرواية ونترك الإجابة عليه أو تأكيد الإجابة عليه لسياق البحث نفسه فلربما أضموه .

    في الحوار الذي دار بين الراوي ومصطفى سعيد يظهر هذا الحد بين ثقافة كل منهما ، يقول مصطفى جازما وواضحاً :

    " نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر " .

    يتقدم مصطفى كوعي آخر يكشف وعي الراوي . الراوي نموذج (1) من الوعي يتملك زمنه كزمن ماضوي . مجموعة من القيم تكون هذا النموذج في المقطع الأول من " موسم الهجرة على الشمال" : الطمأنينة ، الاستقرار ، الأمن ، التكامل ، الأصالة تجد هذه القيم لغتها في الرواية ، فالغيبة عند الراوي المسكون بماضويته ليست هجرة ، كما هي عند مصطفى . والدفء هو دفء العشيرة وليس دفء المرأة مثلا . والثقافة هي شهادة الدكتوراه أي ما يبقيه استمرارا لثقافة سابقة أو للإثقافة سابقة وليس هي – أي هذه الثقافة – ما يغيره .

    التملك بزمنه هذا الذي هو ماضوي يشكل في المقطع الأول زمن القص من حيث هو زمن الحاضر الروائي . لا حضور بعد لزمن الوقائع في هذا المقطع ، فالسرد الروائي يقوم فيه بزمن القص ولا يقوم بزمن الوقائع أو بكليهما معا كما هو الحالي في المقطع الثاني . بذلك يبدو زمن القص في سرديته كأنه زمن التملك .

    التملك هو التميز والآتي في زمن القص :
    غير أن زمن القص في هذا المقطع الأول ليس هو زمن لتملك واحد أو لنوع واحد من التملك . بل هو زمن لنوعين من التملك : تملك الراوي الذي أوردنا وتملك مصطفى سعيد الذي سنعرض (1) ، أي أن زمن الحاضر الروائي الذي هو زمن لتملك الراوي ماضوي هو أيضا زمن لتملك مصطفى لوطنه لا ماضوي ، كيف ؟

    إن مصطفى سعيد الذي يعده أهل القرية غريبا من حيث علاقته بهذا الزمن. ليس هو كذلك في رؤيته لنفسه . مصطفى سعيد يرى ، ولا نقول يحس أو يظن ، أن هذا الزمن هو زمنه ، وأن غربته فيه لا تعني سوى تملكه المختلف للوطن ، غربته هي اختلاف تملكه عن التملك الذي يمثله الراوي أو الذي يعيشه . والراوي الذي ينظر إلى مصطفى سعيد كغريب يبدو هو الغريب من موقع نظرة هذا الأخير لمعنى التملك . حين يقول مصطفى للراوي : " نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر " (ص 13) يقول الراوي في سره : " أنظر كيف يقول " نحن" ولا يشملني بها ، مع العلم بأن البلد بلدي ، وهو ، لا أنا – الغريب " ..

    إن " نحن" مصطفى هي نحن الانتماء الجماعي . الانتماء المدرك ، المفكر والواعي لحاجات القرية . أما غربته فهي ، مع هذه النحن ومع هذا الانتماء ، مسافة الاختلاف ومسافة العين الرائية إلى المستقبل ، الباحثة عن سبل الوصول إليه.

    " لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان خيراً " (ص 13) إن العلوم التي تحدث تغيراً مادياً في وضعية المجتمع هي خير ، في نظر مصطفى ، لأنها هي التي تحتاجها القرية لتنتقل إلى زمن آخر ، وهي بذلك السبيل الضروري لرفعة الوطن.

    " إنما العلم (ولنلاحظ أنه لم يقل الثقافة مثلا) مهما كان ، ضروري لرفعة الوطن " (ص 13) . العلم ، لا الأدب ولا الشعر – العلم بشكل عام ، هو المعادل لفكر آخر ولثقافة أخرى في زمن آخر مغاير للذي كان وللذي يستمر به الراوي.

    نمطان من التفكير يتمايزان في هذا الحوار بين الراوي ومصطفى على مستوى اللفظ كلغة وعلى مستوى الزمن . معجم الراوي اللفظي يتسم بالمحلية والضيق والماضوية ، يقول : " أبي" ، " جدي" . " البلد بلدي" و" أهل بلدنا" و " مكاني" و"دارنا" . أما معجم مصطفى فيتسم بالشمولية والعمومية والمستقبلية ، فهو يتحدث عن " الوطن " وعن " العلم" و" القرية " و " الحقل" و " الناس" و" المكان" و " الحياة في هذا البلد" .

    مصطفى سعيد هو الفكر الذي يحتاجه أهل القرية الذين مازالوا يعملون بعفوية وفوضى . حين احتد النقاش بين أفراد " لجنة المشروع الزراعي" حول مسألة توزيع الماء على الحقول . هب مصطفى واقفا ، و " هدأ اللغط واستمعوا إليه باحترام زائد... ولما فرغ من كلامه هز أغلب أعضاء اللجنة رؤوسهم استحساناً . وصمت من عناهم الكلام" . (ص 16) .

    هذا هو مصطفى سعيد ، رجل كما يقول الراوي " من عجينة أخرى" رجل يمتلك الوطن من موقع مختلف. شخص يريد ويختار. لا يعود حين يعود من سفره إلى بلده أو قريته بل يختار هذه القرية . وهو في حاضره الذي يعيش لا يتذكر الماضي. ولا يعبر عن حنين إليه ولا يتكلم عن أهله وعندما يحكي قصته للراوي ، في ما بعد ، إنما يمارس فعل الإخبار ، وهو حين يصل إلى الحديث عن علاقته بأمه يقول : " كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق" (ص 23) . مصطفى مستقل عن أمه أو عن الأم رمز الارتباط بالماضي ، بالطفولة ، بالرحم وبزمن الولادة . مستقل حتى كأنه إنسان مقطوع عن الماضي والأهل ، مقطوع حتى الاتهام بالغربة بل وبالجريمة . يقول الراوي في محاولة منه لتفسير وضعية مصطفى : " لعل الرجل قتل أحداً في مكان ما وفر من السجن " (ص 20) .

    غربة مصطفى عن الماضي هي غربته عن أناس يعيشون زمن الماضي في الحاضر . هكذا يبرز السؤال : هل مصطفى سعيد غريب عن وطنه أو عن زمن يعيشه أناس وطنه ؟ .

    مصطفى سعيد يعيش زمنا آخر ، وهو يمتلك هذا الزمن حاضرا مختلفا يمتلكه فكرا ووعيا وعلما ويمارس ، في هذه القرية ، التي أختار وأراد ، انتاج هذا الزمن واقعا ماديا اجتماعيا . وربما ، لذلك ، يضع فترة من حياته ، هي التي عاشها في لندن ، موضع الخفاء والسرية.

    هكذا يبدو مصطفى في المقطع الأول من " موسم الهجرة إلى الشمال" شخصا يمتلك زمنه ووطنه ، يمتلكهما زمنا للقص ، للحاضر الروائي ، زمنا ينهض السرد به كما ينهض بامتلاك الراوي لبلده وأهله .

    في هذا الضوء يمكننا القول أن الطيب صالح يقدم لنا في هذا المقطع الأول من روايته نموذجين لتملك الوطن كلاهما ينهض في زمن القص ، في الحاضر الروائي ولكن :

    الأول يمتلك الوطن زمنا ماضيا ولذلك فهو ليس غريبا فيه . التملك هنا هو إعدام لزمن الحاضر أو نفي له.

    الثاني يمتلك الوطن زمنا ليس ماضيا ولا بعد حاضرا لذلك فهو غريب فيه.

    التملك هنا انتاج لهذا الزمن.

    بذلك تكتسب الغربة دلالتها في النسيج الروائي وليس في المواقع المكانية. الغربة وعدمها هي علاقة بالزمن. وإذ ينهض هذان النوعان من التملك في الزمن الروائي المتخيل إنما يوحي الأول (التماثل بالماضي) بوهمه لأنه اللاتملك ، ويوحي الثاني بحقيقته لأنه الرغبة والفعل (انتاج الحاضر) .

    اللا غريب هو الوهمي ، والغريب هو الحقيقي . والوهمي والحقيقي ليسا كذلك إلا من حيث علاقتهما بالزمن الروائي ، بعالمه وبالفضاء فيه . وهما خارج هذا الفضاء الروائي عكس ما هما فيه. خارج هذا الفضاء . الوهمي (اللاتملك) هو الحقيقي والحقيقي (التملك) هو الوهمي . هكذا يتميز السرد الروائي في " موسم الهجرة إلى الشمال " بقدرته على انتاج دلالاته أو على خلق عالم داخلي مختلف بما يقول ، وهو في اختلافه يضيء عالم الخارج – عالم الواقع الاجتماعي – ويبقى مضاء به.
                  

العنوان الكاتب Date
اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 04:48 AM
  Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 04:55 AM
    Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 05:05 AM
      Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 05:10 AM
        Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 05:20 AM
          Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 05:28 AM
            Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 05:32 AM
              Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! Agab Alfaya02-10-05, 05:34 AM
                Re: ننشر هذا النص باذن خاص من يمني العيد Agab Alfaya02-11-05, 08:42 AM
  Re: في القراءة الخاطئة ل"موسم الهجرة الى الشمال"-"يمنى العيد" مثالا Agab Alfaya02-11-05, 02:21 AM
  Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! WadalBalad02-11-05, 09:33 AM
  Re:عفوا يا ود البلد Agab Alfaya02-11-05, 10:24 AM
  Re: الاخ بكري ارجو حذف هذا البوست للتكرار Agab Alfaya02-11-05, 10:34 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de