|
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، (Re: Agab Alfaya)
|
الموت .. والاحلام
وذا تركنا موضوع المرأة – رمز الحياة – في مريود وهو متصل اشد الاتصال بصورة المرأة في أدب الطيب صالح كله ، فاننا نلتقي بظاهرة اخرى تلفح مشاعرنا ونحن نقرأ "مريود" ، هذه الظاهر هي "مشاهد الموت" ، فهناك مشهدان أساسيان للموت في الرواية ، الأول هو موت مريم المفاجئ والذي يوحي أن هذه المرأة مليئة بالاحلام الرائعة ، والتي كانت هي نفسها حلماً جميلاً ، قد عجزت عن تحقيق ما تريد ، وانقض عليها الموت . ولعل هذا المصير يكشف لنا أن الطيب صالح نفسه كان يحس في اعماقه أن أحلام مريم لم تتحقق بعد ، وأن مريم ، بموتها ، قد عادت إلى باطن الارض ، وعندما تم دفنها فقد تم دفن احلامها معها ، فهذه الاحلام موجودة في باطن الارض ... أرضنا ولابد للارض أن تعود فتلد " مريم" من جديد وتحقق الاحلام المدفونة . ونكاد نحس بمشاعر مقدسة نحو أرضنا هذه التي تضم جسد مريم ، ونحس أن في باطنها كنزنا الكبير ، وأن علينا أن نستخرج مرة أخرى هذا الكنز أو هذا الجسد لنحقق به أحلام مريم التي لم تتحقق . ولهذا كله فمشهد موت مريم هو مشهد عن " موت الاحلام " ، ومريم لم تكن يوم موتها في جنازة وإنما كانت في عرس ، وهي لم تدفن داخل الارض وانما "زرعت" في جوفها كسنبلة أو كجذع نخلة ، وعلينا أن ننتظر بزوغها ونموها من جديد . لقد كان مشهد موت مريم من أروع ما اتيح لي أن أقرأه في أدب الإنسان ، وهذه هي لحظاتهـا الاخيرة قبل الموت كما تصفها لنا رواية مريود :
" لم تكن بها علة ، ولم تلزم فراشها غير يوم واحد ، كأنها قررت أن ترحل فجأة . كأن كل الذي حدث لم يحدث . كانت خضلة مثل عروس . ليس بها شئ سوى بعض حبات العرق على جبهتها ، كان وجهها متألقاً وعيناها تتلامعان مثل البروق " ونقرأ في مريود ايضاً صورة لجنازتها أو عرسها : " ... دفناها عند المغيب كاننا نغرس نخلة ، أو نستودع باطن الارض سراً عزيزاً سوف تتمخض عنه في المستقبل بشكل من الاشكال . محجوب قبل خدها . وأنا قبلت جبهتها ، وكاد الطريفي يهلك من البكاء ، وحملناها برفق نحن الستة ووضعناها على حافة القبر . أسمع ذلك الصوت الذي ليس مثله صوت يجيئني من بعيد مثل ناي سحري ، في غلالة من أضواء الأقمار في ليالي الصيف ، ولمع الشعاع على سعف النخل الندي ووهج النوار في حدائق البرتقال . تقول وهي تجر عمامتي من راسي : نسكن البنـدر . سامع ؟ البندر . المويه بالانابيب والنور بالكهرباء والسفر سكة حديد . فاهم ؟ اتمبيلات وتطورات . ابتاليات ومدارس وحاجات وحاجات . البندر . فاهم ؟ الله يلعن ود حامد . فيها المرض والموت ووجع الرأس . أولادنا كلهم يطلعوا أفندية . فاهم ؟ زراعة ابداً . وحياة محجوب أخوي زراعـة ما نزرعهـا أبداً " .
هكذا ماتت مريم بحلمها الحضاري ، وكان نداؤها يتردد في وجدان "مريود " وهو يشارك في جنازتها أو عرسها ويحملها مع الآخرين إلى القبر . وانطلاق هذا الصوت القوي في وجدان مريود – يسمعه وحده – في " جنازة عرس" مريم معناه أن مريم قد غلبت على أمرها إلى حين ، وأن احلامها قد عادت إلى باطن الارض أملاً في النمو من جديد . بل أنها تعود بالفعل – وربمـا كان ذلك حلماً من أحلام اليقظة – وذلك في مشهد مكمل لمشهد المـوت ، لأنه يعطي لهذا الموت معنى خاصاً عميقاً صافياً ، وها هو مشهد العودة من الموت عند حافة القبر يصوره الطيب صالح على لسان " مريود " تصويراً رائعاً يفيض بالشعر والموسيقى والوجد الجميل :
" كانت مثل طائر ، رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر ، وسمعت هبوب أمشير تناديني بلسان مريم " لا شئ . لا أحد " خطا بها نحو القبر ، فاعترضت طريقه ومددت يدي . نظر إلي برهة ، ورايت في عينيه ترقان وتغرورقان ، فتركها لي . كانت خفيفة مثا فرخ طائر وأنا أسير بها في طريق طويل يمتد من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل لم يكن حلماً . أيداً . كانت مريم نائمة على كتفي . سرت بها على ضفة نهر إلى وقت الضحى ، فأيقظها لفح الشمس على وجهها . انفلتت مني وقفزت في الماء . كانت عارية . أشحت عنها ولكنني لم أطق صبراً فأدرت لها وجهي . نظرت ، فاذا هي بركة من الضوء ن وكان أشعة الشمس هجرت كل شئ وتعلقت بجسدها . كانت تغطس وتقلع وتختفي هنا وتظهر هناك . وتضحك لي من جهة اليمين ، ثم إذا هي تناديني من جهة اليسار . نعم . نعم . نعم . أريـد أن أغـرق في نبع ذلك الضوء الذي ليس من اضواء هذا الزمان ولا هذه الأرض . لكنني ترددت ليس أكثر مما يطرف جفن العين . في تلك اللحظة عاد الشعاع إلى منبعه وذهب الطيف . لا اعلم إلى اين . ناديت بأعلى صوتي " يا مريوم. يا مريوم " فعاد الصدى مجسماً بألسنة شتى " يا مريود . يا مريود " . ضربت دون هدى في صحراء تويوي ريحها وتتهايل رمالها ، حتى بلغ اليأس وأخذ مني الجهد . ثم إذا شجرة طلح يلمع نوراها فجأة احسست بمريم . بعيد العشاء أو قبيل الفجر . لا أعلم . لكنني أذكر ظلاماً رهيفاً وضوءاً ينسكب على وجهي من عينيها ، شربت منه حتى بلغ مني الظمأ عايته " ... وهكذا عادت مريم في قلب مريود وروحه إلى الحياة ، بينما كان يحملها إلى داخل القبر . ودار بينهما حوار طويل – غير مسمـوع لأحـد – بعد العودة تسجله الصفحات الأخيرة من " مريود " . وهو حوار يبحث فيه " مريود" عن طريق في نفسه وفي عالمه يمشي على ضوئه ولا يضيع .
تلك هي مريم التي استطاعت أن تجمع في شخصيتها بين المعنى الخاص كامرأة محبوبة ، والمعنى العام كرمز للطريق والرؤية ، ورمز لحلم الحياة وشوقها إلى التجدد وكسر الاسلاك الشائكة التي تحول بيننا وبين الانطلاق الروحي والانطلاق الحضاري معاً وهذا هو مشهد موت مريم ، وهو ليس موتاً كالموت ، وكلنه وعد جديد بالنور بحياة اخرى تنبع من باطن التراب الذي فيه جسد مريم ، هذه هي مريم ، " العذراء " الثانية التي أنجبت لعالمنا بلا زواج : حلماً ، وعشر بنين وبنات لم يولدوا الا في الخيال ووصية بالطريـق تضئ الظلام أمام أهـل الطريق ن واصحاب القلوب التائهة فلا تضل . أنها حقاً عذراء ثانية ، مثل العذراء الاولى التي أنجبت للدنيا عيسى المسيح من غير زواج كالزواج المعروف في دنيا البشر .
والمشهد الرئع الثاني من مشاهد الموت في " مريود " هو مشهد موت بلال . وهو أيضاً مشهد نادر في أدبنا وأدب الإنسان ، فالموت هنا نظام وترتيب واختيار ، وهو موت برغبته ورضاه ، وكأنه في الموت يمشي على قدميه من مكان إلى مكان ، على أن الموت على طريقة بلال ليس ميسوراً للجميع ، فهو نعمة لا ينالها إلا المتصوفون والعشاق وأهل الحظوة والرؤية والحضرة والذين لهم في قلوبهم عيون ترى ما لا نراه ، واني لأكاد أجرؤ على القول – بضمير أدبي مستريح – أننا نستطيع أن نقارن هنا بين مشهد موت " بلال " ومشاهد الموت المشهورة عند شكسبير ، ويخرج " بلال " من هذه المقارنة خالداً مثل غيره من الموتى الخالدين . نستطيع أن نقارن بين مشهد موت بلال ، ومشهد موت " هاملت النبيل " ، ونقارن بينه وبين مشهد مـوت " أوفيليا" الرقيقة ، ومشهد موت " جولييت" الطاهرة ، التي ماتت مرتين ، مرة بالمنوم ، فكان موتها وهماً ولكن الأهل والأحباب عاملوه معاملة الموت الحقيقي لأنهم كانوا يجهلون ولا يعلمون ، أما الموت الثاني لجولييت فقد كان بخنجر حبيبها روميو ، طعنت به نفسها ، عندما اكتشفت أن موتها الوهمي قد أدى إلى انتحار حبيبها ، فاختارت ان تعيش بالموت على صدر حبيبها المعشوق ، بل أكاد أجرؤ على القول مرة اخرى بأن " الموت " في "مريود " له طعم خاص ، ولون لا يختلط مع غيره من الألوان ، انه موت جميل يلبس عمامة سودانية وجلباباً أبيض ويحمل في يده مبخرة تفوح برائحة عربية إفريقية ، وهو موت فيه موسيقى وطبول من تلك التي نسمعها في الغابات وفي موالدنا الدينية ، إلا أن صوت الطبول والموسيقى ، في مريود ، ليس عالياً لأن الموت هنا وديع متواضع يمشي في عرسه على أطراف أصابعه في رشاقة وابتهاج وحكمة ... موت بلال هو – حقاً – موت عربي إفريقي ، وهو لا يمكن أن يظهر إلا في بلادنا حيث يوجد التصوف والسحر والقدرة على مخاطبة . الموتى والايمان الصحيح الثابت بأن ما بعد الحياة هو حياة أيضاً .
وهذا هو مشهد العرس الصوفي ، أو مشهد " موت بلال " كما نقرؤه في رواية " مريود " :
" قالوا أنه مكث حولا واحداً فقط بعد وفاة الشيخ نصر الله ود حبيب ، وأنه توفى مثله في نفس الساعة من نفس اليوم من أيام شهر رجب . كان قد امتنع عن الاذان ودخول الجامع بعد وفاة شيخه واحتجب ، وذات فجر استيقظ الناس على صوته ينادي من على مئذنة الجامع ، صوت وصفه الذين سمعوه بأنه كان مجموعة أصوات ، تأتي من أماكن شتى . ومن عصور غابرة . وأن نفس ود حامد ارتعشت لرحابة الصوت ، وأخذت تكبر وتعلو وتتسع ، فكأنها مدينة أخرى من زمان آخر ، قام كل واحد منهم من فراشه وتوضأ وسعى إلى منبع الصوت ، كأن النداء عناه وحده في ذلك الفجر . ولما وقفوا للصلاة رأوا " بلال" يلبس كفناً . وكان الجامع غاصاً بخلق كثير ، من أهل البلد ومن غير أهل البلد . كان أمراً عجباً . كبر للصلاة كما كان يفعل أيام "ود حبيب" ثم وقف ليصلي بهم . فلم يقف أمامهم حيث كان يقف الشيخ ، بل وقف معهم في وسط الصف الأول ، وهو على تلك الهيئة . وقرأ سورة الضحى بصوت فرح ، فاذا بالآيات نضرة كأنها عناقيد كرم . وبعد الصلاة التفت إليهم بوجه متوهج سعيد وحياهم مودعاً ، وطلب منهم ألا يحملوه على نعش بل على أكتافهم ، وأن يدفنوه بجوار شيخه " نصر الله ود حبيب " ، على أن يتركوا بينه وبين الشيخ مسافة تقتضيها أصول الاحترام والتبجيل ، بعد ذلك تمدد على الارض عند المحراب وتشهد واستغفر ، والناس ينظرون في رهبة ودهشة ، ثم رفع يده كأنه يصافح احداً وأسلم روحه إلى بارئها . وحملوه من موضعه ذاك من الجامع إلى المقبرة ، وقالوا انه مشى في جنازته خلق كأن الأرض انشقت عنهم . ودفنوه عند الشروق فيما رووا ، وأمَّ بهم الصلاة رجل مهيب لم ير وجهه أحد ولكن أكثرهم قال أنه كان كأنه الشيخ نصر الله ود حبيبي . وحدثوا أنه ما من رجل شهد وفاة بلال إلا وقد اشتهى أن تقبض روحه في تلك الساعة ، فقد جعل مذاق الموت في أفواههم كمذاق العسل " .
هذا هو مشهد موت بلال وهو كما قلت مشهد نادر في أدبنا ، وهو ايضاً من اجمل وأعمق مشاهد الموت في أدب الإنسان ، وهو مشهد يكشف لنا أن عالم الطيب صالح قد حلت فيه "بركة" من بركات الوجود ، وأصابه "مس " من الحياة ، فأصبح كل شئ في هذا العالم يتحرك وينبض بالحرارة حتى الموت ، ولأن الطيب صالح من نبع الوجدان والقلب يكتب ، ولأن الطيب صالح من عين الرؤية والمشاهدة الداخلية يكتب ، فهو لا يعبأ بالحدود الكثيفة للاشياء ، بل يحس أن هناك وحدة للوجود ، تجمع كل شئ ، وتجعل الكل ناطقاً وعاشقاً ، وتصيب الموت بالدفء فيصبح امتداداً لعالمنا ، فيه كلام وأحاديـث وفعل وآمال واحلام ، وهو يحيط ذلك كله بجد من الصوفية الكاملة ، ولكنها صوفية " اليقظة " المتفتحة على الحياة " المنفعلة والفاعلة " ، وليست صوفية الخمول والجمود ، تلك الصوفية الذابلة المعتزلة التي لا ترى في الوجود إلا ما يوجب الانصراف عنه . انها صوفية لا علاقة لها بمشكلة "الاعتزال والانتماء " والاختيار بينهما ، وكلنها صوفية يختار فيها الإنسان بين " الحياة بالعشق " " والحياة بالعقل والسلطة والحياد بين الاشيـاء " ، وهي صوفية ، لا تختار ، لأنها تختار " الحياة بالعشق " ولا تتردد في الاختيار .
يتبع ..،
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:17 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:18 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:21 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:24 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | انور الطيب | 05-16-05, 01:08 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 09:30 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | محمد أبوجودة | 05-17-05, 01:11 AM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | newbie | 05-17-05, 01:58 AM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | انور الطيب | 05-17-05, 01:19 PM |
Re: المراة في ادب الطيب صالح | Agab Alfaya | 05-17-05, 08:57 PM |
Re: يا له من مشهد ! | Agab Alfaya | 05-17-05, 08:47 PM |
Re: النبع الجديد | Agab Alfaya | 05-17-05, 08:26 PM |
Re: ماذا قال بشري الفاضل عن مريود ؟ | Agab Alfaya | 05-17-05, 09:04 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-19-05, 07:54 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-19-05, 07:56 PM |
|
|
|