خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-28-2024, 09:33 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبد المنعم عجب الفيا(agab Alfaya & عجب الفيا )
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-16-2005, 12:18 PM

Agab Alfaya
<aAgab Alfaya
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 5015

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، (Re: Agab Alfaya)

    المتعة العميقة في الجزئيات

    نعود بعد ذلك إلى رواية " مريود " نفسها لنجدها صعبة جداً على التلخيص ، ذلك لأنها حقاً وصدقاً تقترب من " الموسيقى " ، حيث لا يمكن تلخيص الانغام والسيمفونيات ، ولكن الصحيح هو أن نسمعها كلها ، أو نسمع أجزاء منها ، فلكل جزء سحره وجماله . وهكذا نجد أنفسنا مع " مريود " فهي من الأعمال الروائية القليلة جداً في أدبنا العربي والتي يحن الإنسان – بعد أن يطوي صفحتها الأخيرة – إلى اعادة القراءة لصفحة معينة منها أو سطور محددة ، فما تعطيه لنا الرواية من متعة روحية وفكرية في معناها العام ، لا يلغي المتعة الاخرى التي تنبع من " الجزئيات" في هذه الرواية ، سواء كانت هذه الجزئيات جملة أو عبارة أو مقطعاً كاملاً أو أسطورة أو وصفاً لمنظر من المناظر أو تأملاً في لحظة من لحظات النفس والحياة .

    ومعظم الروايات العربية ، وحتى الممتاز منها ، ترتبط في أذهاننا بمعناها العام ، وفكرتها الرئيسية ، وشخصياتها وأبطالها المختلفين ، ولكن القليل النادر من الروايات العربية هو الذي يستطيع ان يعطينا هذه المتعة العميقة في " الجزئيات " بجانب المتعة بما هو عام وشاكل ، وهذه القيمة الفنية العالية للجزئيات هي ما نجده على العكس في كثير من نماذج الأدب العالمي الراقية ، فنحن نستطيع أن نقف عند صفحات معينة في رواية "الحرب والسلام " لتولستوي ، ونستطيـع أن نقف طويلاً – في استمتاع عميق – أمام عبارات أو صفحات أو فقرات من رواية " الأخوة كرامازوف" لدوستويفسكس ، بل أن كاتباً معاصراً مثل " همنجواي" ، قد وصل في هذا المجال إلى درجة عالية من النضج ، فاهتم بالتركيز الشديد في الوصف والتعبير وبناء الكلمة والجملة ، حتى اصبحت الأحداث والمواقف عنده – أحياناً كثيرة – نوعاً من الشعر الخالص الرقيق الذي ينساب في وجدان الإنسان كأنه موسيقى خفية ، ونستطيع أن نقف أمام سطور من " العجوز والبحر " وأمام عبارات أو صفحات قليلة منها ، فنجد فيها متعة العمل الفني الكامل ، كل ذلك دون أن تذوب في ايدينا – مثل الثلوج – تلك المتعة الفنية النابعة من المعنى العام الشامل .

    ولعل هذا العيب في معظم نماذج الرواية العربية المعاصرة – وهو عدم الاهتمام بالجزئيات – يعود إلى اهتمام الكتاب بالأحداث والافكار والشخصيات أكثر من اهتمامهم " باللغة " التي يكتبون بها . ولو أن هناك اهتماماً " باللغة " لاستطاعت الرواية العربية أن " تنجز " تلك القيمة التي أنجزتها الرواية العالمية وهي ما يمكن أن نسميه – دون أن نزعم لانفسنا الدقة في التسميـة – باسـم " الروح الغنائية " أو "الروح الشعرية الموسيقية " . ولعل المهتمين بالرواية العالمية يذكرون ان الروائي الفرنسي الفذ ، صاحب الانتاج القليل والموهبة النبيلة " أنطوان دي سانت اكسوبري" ، وذلك في روايته المعروفة " أرض البشر " ففي هذه الرواية التي يمكن أن نصفها بانها " استحمت " في نبع من الشعر ، فخرجت تقطر اشعاراً ، وتمتلئ في كل سطورها بموسيقى لها عطر يفوح في الكلمات .. في هذه الرواية يطربنا المعنى العام الذي يتناول كفاح الإنسان وصبره ، وصموده في وجه المصاعب والعقبات وذلك من خلال تجربة الطيران عندما كانت جديدة على الإنسان ، ولكن الرواية تطربنا أيضاً بكلماتها وعباراتها المختلفة ، وتطربنا في المواقف الجزئية التي تنتشر كالنجوم على صفحات الرواية ، وكثيراً ما كنت في بعض اللحظات أحن إلى ترديد عبارات محددة فيها ، وذلك كله لأن الروائي قد توصل إلى لغة خاصة ، لها استقلالها وقيمتها الذاتية ، بالاضافة إلى وظيفتها في الرواية ، وهي وظيفة وصف الأحداث وتسلسلها والشخصيات وما تتطور إليه من مواقف وحالات .

    وفي هذا المجال يمكننا مرة أخرى – بلا أي مبالغة – أن نعتبر الطيب صالح رائداً من رواد الادب الروائي العربي ، فقد اهتدى بموهبته الرقيقة النبيلة العميقة إلى " لغة روائية " خاصة ، وهي لغة شعرية موسيقية ، تلعب دورها الاساسي الذي تلعبه اللغة عادة في توصيـل المعاني والافكار والاحداث ، ولكنها تحتفظ لنفسها بقيمتها الجمالية والروحيـة الخاصة المستقلة .


    هذا النبع الصافي

    والطيب صالح في هذا المجال قريب جداً من مدرسة " هيمنجواي " ومدرسة "أنطوان دي سانت اكسوبري" . وهو أقـرب إلى الفنان الفرنسي منه إلى الفنان الامريكي ، ذلك لأن في " اكسوبري" حناناً يتدفق في كلماته وسطوره ، وفيه عطف وعاطفة ، وفي عينيه كثير من الدموع النادرة ، وتلك كلها نجدها عند الطيب صالح ، في وضوح وجلاء ، أما " هيمنجواي" فهو – على شاعريته الجميلة العالية – مقاتـل ، فيه قسـوة على نفسه وعلى العالم ، وشعره ينبع من اليأس والصبر وقورة الارادة ، لا من الحنان والعطف والامل في شئ جميل غامض مثلما نجد عند " اسوبري" والطيب صالح .

    هذا النبع الصافي من الشعر أو الشعر الروائي إذا صح التعبير نلتقي معه كثيراً في رواية " مريود " ، يقول الشيخ " نصر الله ود حبيب " لبلال المؤذن : " يابلال ، أنت عبد الله كما انا عبدالله نحن أخوة في شأن الله . أنا وأنت مثل ذرات الغبار في ملكوت الله عزوجل . ويوم لا يجزي والد عن ولده يمكن أنت كفتك ترجح كفتي في ميزان الحق جل جلاله . كفتي أنا أرجح من كفتك في موازين أهل الدنيا ولكن كفتك يا بلال سوف ترجح كفتي في ميزان العدل . أنا أجري جري الابل العطاش يا بلال لكي أحظى بقطرة من كأس الحضرة ، وأنت شربت إلى أن أرتويت يا بلال . أنت سمعت ورأيت ، أنت عبرت وعديت ، ولما ناداك الصوت قلت نعم ، قلت نعم ، قلت نعم " .

    أليست هذه الكلمات قصيدة كاملة ممتعة للقلب والروح ؟

    وهذا مقطع آخر ، يفيض بالشعر والسمو الوجداني حيث نقرأ في "مريود " هذا الوصف لبلال " ... كان اسمه حسن ، وسماه الناس بلال ، لأن صوته في الاذان جميلاً وفيـه لكنة ، قالوا إن الشيخ نصر الله ود حبيب هو الذي أعطاه الاسم لما سمع من صوته ، وعلمه الآذان وجعله مؤذناً ، وكان يقول له " طوبى لمن شهد صلاة الفجر في المسجد على صوتك يا بلال ، فو الله ان صوتك ليس من هذه الدنيا ولكنه نزل من السماء " ، وأحياناً كانوا ينادونه " هلا هلا ولد لا اله الا الله " أما " هلا هلا " ، فلأنها كانت العبارة الوحيدة التي يفوه بها إذا خوطب ، وأما " لا اله الا الله " فلأنه كان حين يسأل عن أبيه يجيب " أنا ولد لا اله الا الله " .

    مثل هذه الفقرات نتوقف أمامها ونقرأها لنجد فيها متعة مستقلة حتى عن سياق الرواية ، كل ذلك رغم أنها تخدم سياق الرواية ومعناها العاك ، فشخصية " بلال" هنا ، تخلصت من الكثافة المادية تماماً ، وأصبحت روحاً رقيقة شفافة ، أصبحت شعراً نقياً صافياً . وعندما نغمض عيوننا ونتأكل الفقرتين السابقتين ، فإننا نشعر أن "بلال" هذا قد تسلل إلى نفوسنا وجرى في ذمائنا ، واصبح معزوفة جميلة ، تعزف في قلوبنا ألحاناً عن العشق والرضا والوصول والوجد والسر العذب في هذا الوجود .

    وينبع هذا الشعر نفسه في " مريود " من نبع آخر ، هو نبع " الاشياء" التي أصابتها لمسة إنسانية ، فالاشياء في رواية " مريود " ليست جامدة وإنما هي حية ومتحركة ، ولها تاريخ وذكريات ومستقبل ، مثلها في ذلك مثل الإنسان .

    الاشياء في مريود ليست " أشياء " ولكنها ترتبط مع الإنسان بخيوط ، كأنها عروق تجري فيها الدماء . انظر " الزير" في الفصل الأول من "مريـود" . انه كائن حي ، وصديق لنا ، وموجود من موجودات الله يتنفس الهواء ويفكر في الغد ، وله بالناس علاقات وداد ومحبة :

    " بلا غطاء ، ذلك السبيل ، عليه قرعة تتأرجح فوق الماء ، تضرب فم الزير يسرة ويمنة ، يشرب منه الغادي والرائح . من اقامه ؟ لا أحد يذكر . ولكنه لم يعدم أحداً يملؤه صباح مساء " .

    و " عصـا مريود " أنها هي ايضاً كائن " حي " : " ... غريبة تلك العصا ، الآن ، كأنها امرأة عارية وسط رجال . يحس ملمسهـا ويتذكر مريم . ذلك الصوت . ذلك الشباب . ذلك الحلم . " ...

    وهكذا أصبحت العصا في يد " مريود " كائناً حياً ومعشوقاً وله ملمس ناعم كالمرأة المحبوبة .

    والنخلة ايضاً تتنفس بالحياة وتربطها " بمريود " علاقات عاطفيـة عميقة :

    " رفع رأسه إلى جريد النخلة اليابس . نعم انها شاخت كما شاخ ، وشعرها سقط كما سقط شعره . نقر جذعها في رفق بعصاه كأنه يواسيها ، وحيا مودعاًُ بصوت مسموع . لا عجب فهي تعلم سره ونجواه . بعدها ذهب يضرب على الدرب، حاملاً يأسه صوت النهر " .


    النيل .. كائن حي

    على أن أهم الاشياء التي أصابتها " اللمسة الإنسانية " في رواية "مريود " هي " النيل " ، وارجو أن يغفر لي أهل وادي النيل الكرام وأرجو أن أغفر لنفسي وأنا وأجدادي من أهل هذا الوادي ، أرجو منهم ومن نفسي غفران جرأتي على تسمية النيل باسم " الشئ" ، فلقد كان النيل كائناً مقدساً عبدته أجيال بعد أجيال من آبائنا الاقدمين .. هذا " النيل" هو في "مريود" كائن حي يفيض بالماء والشعر والغموض والسحر ويعاشر الناس معاشرة الاحياء للاحياء ، يخاطبهم ويتحدث إليهم ويفاجئهم ويغضب ويفرح ويعلن رأيه في المشكلات والازمات ، وهذا الدور الذي يلعبه "النيل" في رواية "مريود" هو جزء من الدور الذي يلعبه " النيل " في أدب الطيب صالح على وجه العموم ، فالنيل في أدب الطيب له عمقه ، وأصالته ، وهو بحاجة إلى دراسة مستقلة تتبع معناه ومغزاه في روايات الطيب المختلفة ، والنيل في "مريود" ، هو الكائن الحي ، كبير الكبراء ، الذي يكتشـف فيه الإنسان نفسه ، ويستمع إلى الأصوات الداخلية العميقة في قلب روحه ، وفي النيل يبدأ الإنسان حياته ، وفيه تنتهي هذه الحياة ، إن كان للحياة مع النيل نهاية . وفي النيل يجرب الإنسان ويحس بالخطر والخوف ويقترب من الموت وفي النيل يولد الحب الكبير ، وفي النيل تولد الأحزان وتذهب الاحزان ، فمنه يخرج العذاب وفيه تتطهر النفس وتهدأ وتغسل كل ما أصابها من جراحات وهموم . النيل في "مريود " هو الامتداد اللانهائي للحياة بكل ما فيها من عواطف وعواصف وصراعات ، " فمريود" عندما أحس لاحزن " ذهب يضرب على الدرب حاملاً يأسه صوب النهر " والنهر في حياة مريود هو "التجربة الكبرى" التي نقلته من الصبا والطفولة إلى القوة والفتوة والرجولة ، ومن الاحلام الهادئة الوديعة إلى النداءات البعيدة والصراعات الحادة في هذه الحياة :

    " ... أخذ يضرب بيديه ورجليه في الماء على غير هدى ، والجد على مبعدة منه يناديه بصوت فيه قسوة " اسبح . اسبح " ؟ لا يدري ماذا حدث . ولكنه يذكر لذعة شمس الصباح وهو يستيقظ على الشاطئ ، ويذكر ضحك جده . قال له أنه سبح بالفعل دون معونة ، ليس صوب الجد ولكن صوب الشاطئ " " كان ذهنه مرهفاً مسيطراً على كل عضلة في جسمه . يذكر برودة الماء قريباً من الشاظئ ، ويذكر جذع نخلة طاف على يساره ، ويذكر غراباً ينعق صوب الشرق . ثم أحس بالماء دافئاً ، وكأن كل خلية في جسمه تسمع وترى . وبدا حس الدوامة يعلو والنداء يشتد . في برهة لمح وجه مريم وسمع صوتها ينادي " يا مريود . يا مريود " وأخذ الصوتان يتجاذبانه . وأخذ صوت الدوامة الكونية يعلو حتى طغى على الأصوات كلها . لا يذكر أين كان جده حينئذ . انقطع الحبل الذي كان يربط ما بينهما . أصبح وحده ازاء قدر يخصه هو . ثم حملته موجة إلى مركز الفوضى . كان ألف برق برق ., ألف رعد رعد . ثم ساد صمت ليس كالصمت . أحس كأنه يجلس فوق عرش الفوضى مثل شعاع باهر مدمر . كان اله . وكان يريد أن يقتل ويدمر ويشعل حريقاً في الكون كله . ويقف وسط النار ويرقص ، ويتراقص اللهب حوله . لم يعد مسيطراً على قوى جسمه ، ولا على قوى النهر وحسب . بل على كل احتمالات المستقبل ...

    وهكذا يصور لنا الطيب صالح شخصية "النيل" غي حياة " مريود " فالنيل ليس نهراً ، ولكنه هو الحياة بأكملها ، صراعه مع النيل هو صراعه مع الحياة ، وتجاربه في النيل هي تجاربه فيالحياة ، وكأن الطيب صالح في " مريود " يقول لنا " من النهر جئنا والى النهر نعود " ، ففي النهر تتجسد الحياة بمعناها الواسع ، بما فيها من حكمة واسرار وتجربة وغموض ووضوح ، ومن هذا النهر تنبع مياه الحكمة الخالدة النبيلة التي نقرؤها في هذه السطور من رواية " مريود " :

    " ... شغلتني الصوات المبهمة التي تنبع من النهر ، كأنني أسمعها من مسافة ألف ميل ، فيها أصداء الاودية البعيدة والشلالات ، وأذعنت زمناً للغط الموجات الصغيرة تعدو بلا كلل من شاطئ إلى شاطئ . ومن آن لآن كان النهر ، هنالك في القلب ، عند ملتقى التيارات ، يعوي عواءه القديم ، وبينا أنا كذلك إذ بصـوت إنسان إلى يميني كأنه يخاطب النهر والفجر الذي قرب يطلع : " الإنسان يا محيمد ... الحياة يا محيمد ما فيها غير حاجتين اثنين ... الصداقة والمحبة . ما تقولي حسب ونسب ، لا جاه ولا مال .. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد .. يكون كسبان " .. تلك هي حكمة النهر تفيض منه على قلوبنا في رواية " مريود " .

    ويصعـب علينا أن نرصـد كل " الوظائف" التي يقوم بها لانيل في رواية "مريود " ، ذلك لأنها متعددة متنوعة ، وخلاصتها ، أنه يمثل الحياة في اصفى وأعمق وأهدأ وأعنف صورها ومعانيها ، فهو الحب والحكمة ، والتجربة ، وهو مجال الرؤية والتأمل ، وعلاقته بالانشان وثيقة ، حيث يبدو الناس على شاطئ النيل أو في مياهه وهم يتكاشفون ويبوحون بأعمق ما في نفوسهم من اسرار . ولنترك النيل في هذه الرواية مؤقتاً ، ولعلنا نعود إليه مرة أخرى في دراسة عن " النيل في أدب الطيب صالح " ، ولنواصل رحلتنا الآن مع " مريود " ، فماذا نجد وماذا نرى ؟

    مريم ..الارادة

    نلتقي في " مريود " بشخصية مريم التي أشرنا إليها في البداية ، وهي شخصية قوية ذات إرادة ، مندفعة نحو التحضر والتقدم والغد ، لا تترك فرصة لاكتشاف الاساليب المختلفة التي تفك من حولها أي حصار مضروب عليها وعلى المرأة في البيئات المتخلفة من المجتمع العربي ، تعلمت القراءة قبل أن تدخل المدرسة من شدة شغفها بالاكتشاف والمعرفة ، وأرادت أن تدخل المدرسة مع الاولاد فقيل لها " المدرسة للاولاد . ما في بنات في المدرسة " فقالت في جرأة وعزم " خلاص ما دامت الحكومة ما تقبل الا الاولاد أصير ولد " " ما دامت الحكومة ما تقبل الا الاولاد ألبس جلابية وعمة وأمشي معاكم ، متلي متلكم . ما في أي إنسان يعرف اي حاجة . ايه الفرق بين الولد والبنت " ونفذت مريم ، التي تعيش في " ود حامد" تلك البيئة البشسيطة البدائية ... نفذت مريم ما ارادته بعزيمتها ، التي هي من الحديد أو اشد صلابة ، ودخلت المدرسة مع الصبيان بملابس الصبيان ، وكانت تقول فيما يشبه التحدي الصريح " البنت مثل الولد . الخالق الناطق" ومن شدة ايمانها بما تقول لفظاً وتطبيقاً ، اقتنع الذي حولها برأيها ووجهة نظرها ، بعد أن سرى فيهم ايمانها الحار بما تقول مسرى الدم في العروق . وعن هؤلاء الذين حولها تقول لنا رواية مريود :

    " لم تكن خجلة . واجهتنا بغتة ، فرأينا اضواء ذلك الأفق البعيد تتوهج على جبهتها وحول عينيها . نظرنا بعضنا إلى بعض كالمسحورين ، وقلنا أنا ومحجوب بصوت واحد . وقد بدا ذلك الأفق يتراءى لنا نحن أيضاً : صحيح ليش لأ " .. أي أن الذين حول " مريم" أو " مريوم" كما كان يدللها حبيبها "مريود " اقتنعوا بوجهة نظرها ووافقوها على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة ، خاصة إذا كانت المرأة مثلها في القوة والشخصية والتطلع إلى الامام ، وهو موقف ليس نابعاً من البيئة ولكنه مخالف لها ومعارض ومتمرد عليها أشد التمرد .

    وهنا نتوقف قليلاً لنسجل ملاحظة عامة على أدب الطيب صالح ، هذه الملاحظة هي : أن " المرأة عند الطيب صالح " قوية جداً ، وذات إرادة صلبة ، وقدره على الاختيار في كل الأمور ، وبالذات فيما يتصل بأمور الزواج والحب ، والمرأة في أدب الطيب صالح أيضاً ، تتطلع دائمـاً إلى الامام ، وتختار الأحسن والأفضل ، وتحلم احلاماً زاهية عن المستقبل . وعلى سبيل المثال فإن " مريم" في " مريود " تريد أن تتعلم وتصـر على ذلك ، وهل تحلم بأن يكون لها عشرة أولاد . يكونون جميعاً من أهل العصر الجديد والتقدم والنور ، فهي تحلم بهم : أطباء ، ومهندسين ، ومدرسين ، وعندما يعابثها حبيبها " مريود " حول حلمها بمستقبل الاولاد فيقول : الافضل أن يخرج الاولاد " مزارعين ومداحين وصعاليك " . عندما يقول لها ذلك فان مريم تنشب أظافرها – كما يقول مريود – " في وجهي وتضربني بقبضة يدها الصغيرة ، وتعضني وتركلني برجلها . وأنا اضحك متقلباً في الرمل وهي تصرخ : أبداً . أبداً . أبداً " فهذه "الأبداً" الثلاثية . هي قسم منها على الايمان بالتحضر والتقدم والمستقبل ، وهو قسم جميل صادق لا افتعال فيه ، وان كان كما قلت مخالفاً للبيئة الواقعية متمرداً ثائراً على ما فيها من جمود وركود . هذه " المرأة القوية" صاحبة الارادة والتطلع في أدب الطيب صالح لا علاقة لها بالمرأة المتهالكة الضعيفة التابعة والمسحوقة والتي تشيع صورتها في أدبنا المكتوب عن الريف العربي .

    و " المراة عند الطيب صالح " تكشف لنا عن أنه يفهم المرأة على أنها هي جوهر الحياة الإنسانية كما يحس بها الفنان في وطنه ، انها حافز للحياة ، وشعلة مدفونة في الرماد ، يرى لها القلب البصير وهجاً ولهيباً يشتعل . وليست صورة المرأة في مجتمعنا العربي هي الصورة الخارجية المعروفة في هذا المجتمع ، حيث يسود النموذج السلبي المغلوب على أمره ، والذي لا يرى فيه ذوو الرؤية المحدودة إلا موضوعاً للجنس والحب السهل . المرأة عند الطيب صالح جوهر صاف ، ونبع حس من ينابيع الحياة تتدفق بالحب والارادة وتكسر الحواجز بقوتها وشفافيتها عن عد ساطع له بريق . والمرأة عند الطيب صالح هي وجه آخر للنيل في قوته وسحره واندفاعه وارتباطه بكل ما في الحياة من حركة وتطلع ، والمرأة عند الطيب صالح هي التي تريد أن تجدد الحياة والإنسان ، كما أرادت مريم أن ترى مدرسة جديدة فقيل لها مثل مدرية " ود حامد " فقالت في ثورة : " ود حامد تغطس في الارض . مدرسة كبيرة من الحجر والطوب الاجمر وسط الجناين " . هذا هو حلم " مريم" التي تريد تغيير الواقع ، وبناء مدينة فاضلة جديدة ، وهذه المدرسة التي تحلم بها " مريم " البسيطة الطيبة في قرية " ود حامد " ، هي نفسها التي بناها يوماً شاع الشرق "طاغور" لتلاميذه : " مدرسة كبيرة من الحجر والطوب الاحمر وسط الجناين " ، ذلك لأن طاغور كان مثل مريم يعشق الحياة ويحلم بالمستقبل الجميل والإنسان القوي السعيد ، والفرق هو أن طاغور كان يملك تحقيق ما يحلم به أما مريم فلم تكن تملك إلا أن تحلم ، وقد يتساءل الذين ينظرون إلى سطح الاشياء : هل صورة المرأة عند الطيب صالح صورة واقعية ؟ وهل المرأة في السودان تشبه نساء الطيب صالح القويات صاحبات الارادة والعزيمة والقدرة على الاختيار بحرية واصرار ؟ والاجابة عندي هي أن الطيب صالح " فنان صاحب رأي ورؤية" ، ولا مجال في أدبه للتصوير الواقعي " الميكانيكي" السطحي المباشر ، ولكنه يعطي من دفقات قلبه صورة للمرأة التي هي عنده وطن وحافز وإرادة للحياة ، وحلم كامن في أعماق أرضنا يتطلع إلى المستقبل ، إن المرأة عنده هي المرأة الجوهر والمرأة الحلم ، والمرأة الرمز وليست المرأة هي أبداً تلك الظواهر الخارجية التي قد تكون غارقة في مظاهر التخلف والبعد عن هذه الصورة القوية التي يرسمها الطيب صالح للمرأة . فمن قلب الطيب صالح ومن رؤياه الإنسانية تولد هذه الصورة للمرأة والتي نجدها في شخصية " مريم" في رواية " مريود " ، ونجدها في شخصية "حواء بنت العربي" في نفس الرواية – وقد أشرنا إليها أيضــاً من قبل – " وكانت صاعقة الحسن فأرادها الكثيرون ومنهم بعض سراة أهل البلد ، فتمنعت واعتصمت ولم تقبل منهم طالب حلال أو حرام " ، " قالوا ولم يعلق قلب حواء هذه إلا ببلال ، فكانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته ، فلا يرد عليها ولا يجاوبها وظن الناس أول الامر أنها تعبث به ، ثم تيقنوا أنها ويا للعجب ، قد هامت به هياماً كاد يذهبها عن نفسها ، ولما أعيتها الحيلة ذهبت إلى الشيخ نصر الله ود حبيب ، وشكت له وتذللت ، فأشار على بلال أن يتزوجها فقال له :

    " يا سيدي روحي فداك ، لكن لا تخفى عليه خافية من أحوال عبدك المسكين ، أنا ماشي في دروب أهل الحضرة ، وأنت تأمرني بأفعال أهل الدنيا " فقال الشيخ " يا بلال . إن دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة . مشيئة الحق غامضة . يا بلال ، ان حب بعض العباد من حب الله ، وهذه المسكينة تحبك حباً لا أجده من جنس حب أهل الدنيا ، فعسى الحق أن يكون أرسلها اليك لأمر اراده . عساه جلت مشيئته أراد لك أن تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك فاما صحوت وانقطع سبيلك واما ازددت ظمأ إلى كأس الحب السرمدي ويكون سبحانه وتعالى قد انفذ مشيئته باذلالك في ارادته القصوى " ، فصرع بلال بأمر شيخه وتزوج حـواء" .

    " قالوا . ولم يجتمع بها إلا ليلة واحدة ، بعدها استاذن شيخه أن يسمح له بأن يبرئ ذمته منها . فأذن له ، وكانت قد حبلت منه في تلك الليلة ، بابنه الذي سمى الطاهي ، وبعد أن سرحها بلال ، ابت أن تدخل على رجل آخر ، وانصرفت لتربية ابنها ، فكان شأنها في ذلك شان المتصوفة العاكفين ، وذكروا أنها لما رحلت عن الدنيا وهي تناهز السبعين ، كانت على أبهى هيئتها وحسنها ، لم ينقص من جمالها مثقال ذرة ، ولم يغير الزمن منها مقدار شعرة ، فكأنها كانت من تصاريفه في حصن حصين " .


    الأصل والصورة

    هذه هي جواء بنت العربي ، ذات الشخصية القوية والارادة النادرة والقادرة على الاختيار في الحب والحياة . شخصية ، ولا الرجال ، فد قدرتها على الاستمرار في الحياة وفي اندفاعها وراء ما تريد واصرارها عليه ، وفي قـدرتها على الاحتمال والصبر ورفض ما لا تهواه ولا تريده بالقلب أو بالعقل ، إنها نموذج للإنسان الكامل ، إذا اعتبرنا أن الإنسان الكامل هو الذي يعيش حسب خطته هو لا حسب خطة الآخرين ، أو بعبارة أخرى هو ذلك الإنسان الذي يعيش كما يؤمن ويعتقد ، لا كما يؤمن الآخرون ويعتقدون .

    وفي رأيي أن الطيب صالح ، يرسم هذا النموذج للمرأة في أدبه ، عن رؤية خاصة وحلم عميق وايمان كامل – يريد أن ينقله بالفن إلى عقولنا وقلوبنا – بما في المرأة من رمز رفيع للحياة ، وهذا هو الأصل في هذه الصورة التي يرسمها الطيب للمرأة ، ولكن قد تكون هناك عوامل ثانوية تدخل في تكوين الصورة ، فقد حدثني الطيب صالح عن شقيقة له قوية الشخصية صاحبة وعي وعزم وارادة ، كما أن الطيب صالح " مثله في ذلك نجيب محفوظ الذي انجب فاطمة وأم كلثوم" أب لثلاثة اطفال كلهن بنات . كما أن الريف السوداني والريف العربي عموماً ملئ بنماذج نسائية مشرقة ، رغم ظروفها الصعبة وما فيها من تلقائية وبساطة ، وكلما التقيت بهذه الصور النسائية في أدب الطيب صالح تذكرت أمي رحمها الله ، وأحسست ان الطيب يشفيني بهذه الصورة التي يرسمها للمرأة في الارض العربية ، فقد كانت أمي فلاحة فقيرة وأمية ، عاشت وكل خبزها هو العمل والكفاح والكدح من اجل أسرتها واولادها وماتت – على فراش من الشوك – في التاسعة والثلاثين من عمرها ، وكانت – حتى اللحظة الأخيرة – مدرسة من مدارس الصبر والكرامة والتعفف والحزن الذي كانت تحتمله وحدها بلا شريك ، وفي حياة كل الذين عاشوا في الريف العربي – ولا شك – نماذج نسائية من هذا الطراز لم تجد من ينصفها أو يفهمها أو يعبر عنها بصدق ويرد لها الجميل ، وربما كانت هذه العوامل الثانوية جميعاً من بين ما أثر في نفس الطيب صالح ووجدانه فتعاطف مع المرأة وخلق منه في فنه نماذج فريدة في ادبنا العربي المعاصر .

    ولكن الأصل في نظرة الطيب صالح إلى المرأة هي النظرة الإنسانية والفلسفية والحضارية التي يحملها في وجدانه وعقله ويؤمن بها ، ويريد أن يبذرها في الارض العربية لتثمر في قلوبنا وواقعنا أجمل الثمرات ، وكل فنان كبير في أدب العالم يريد ان يبذر في هذه الدنيا بذوراً في الواقع وفي وجدان الناس ، ويريد أن يخلق في جيله وفي غيره من الاجيال نظرة عقلية وحساسية وجدانية ازاء بعض القضايا الرئيسية ، والطيب صالح فنان كبير ، وهو " يلقح" قلب جيلنا وعقله ببعض البذور الإنسانية الاساسية ، ومن بينها هذه البذور التي تتمثل في احترام المرأة ، والكشف عن قوتها وتأثيرها وعمق اندفاعها إلى الحياة الصحيحة الخصبة وما يتمثل فيها من " إرادة الحياة " في أحسن صورة واجملها ، وما تشيعه في نفوسنا من أن حرية الاختيار ليست عبثاً ، وإنما هي حرية محكومة بمجد الحياة وسعادة الإنسان ، كل ذلك بالاضافة إلى ما تحمله المرأة عند الطيب صالح من رموز للحياة والوطن والارض . والحق أن نظرة الطيب للمرأة تستحق الاعجاب والتقدير ، ففي ظني أنه لا يمكن أن تقوم حضارة حقيقية للإنسان دون أن تكحون هذه الحضارة مبنية على عدد من القيم والمبادئ من أهمها : احترام المرأة ، والحضارات التي لا تعرف احترام المرأة هي نوع من الجاهلية الإنسانية تسود فيها القسوة والعنف وتختل فيها العلاقات الإنسانية والافكار والمشاعر أشد الاختلال .


    يتبع ..،

    (عدل بواسطة Agab Alfaya on 05-19-2005, 08:00 PM)
    (عدل بواسطة Agab Alfaya on 05-19-2005, 08:00 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، Agab Alfaya05-16-05, 12:17 PM
  Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، Agab Alfaya05-16-05, 12:18 PM
    Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، Agab Alfaya05-16-05, 12:21 PM
      Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، Agab Alfaya05-16-05, 12:24 PM
        Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، انور الطيب05-16-05, 01:08 PM
          Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، Agab Alfaya05-16-05, 09:30 PM
  Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، محمد أبوجودة05-17-05, 01:11 AM
    Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، newbie05-17-05, 01:58 AM
      Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، انور الطيب05-17-05, 01:19 PM
        Re: المراة في ادب الطيب صالح Agab Alfaya05-17-05, 08:57 PM
      Re: يا له من مشهد ! Agab Alfaya05-17-05, 08:47 PM
    Re: النبع الجديد Agab Alfaya05-17-05, 08:26 PM
  Re: ماذا قال بشري الفاضل عن مريود ؟ Agab Alfaya05-17-05, 09:04 PM
  Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، Agab Alfaya05-19-05, 07:54 PM
  Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، Agab Alfaya05-19-05, 07:56 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de