|
Re: نحو إنصاف الرواية (Re: هشام آدم)
|
استكمالاً لحديثنا عن "الخيال" في الكتابة الإبداعية
_______________ تناول السير موريس بورا Mourice Bowra في كتاب (الأغنية البدائية) والذي قدّمه الناقد المصري الكبير جابر عصفور في كتابه (الخيال. الأسلوب. الحداثة) الأدب البدائية على اعتبار أنه يُشكل النواة الحقيقية للأدب الإنساني في شكله الطبيعي النقي، ولقد في مقدمة كتابه:
"تحاول هذه الدراسة أن تقتحم مجالاً جديداً لم تلجه دراسات تاريخ الأدب حتى الآن فيما أعلم، هذا على الرغم من أنه يُشكل –بالتأكيد- قسماً كاملاً من هذه الدراسات. إن بدايات فن الأدب تحتفي وراء عصور ما قبل التاريخ، ولكننا نستطيع أن نجلو شيئاً منها ونكشف عن تشكلّها وتطورها بواسطة الدارسة المقارنة لما نعرفه من شعر البدائيين الذين ما زالوا يحيون في عالمنا. إننا نستطيع أن نخرج ببعض النتائج التي تكشف لنا عن الأنماط الأولى لفن الأدب من خلال دراستنا لما نعرف من أغاني هؤلاء البدائيين."
ويذكر الأستاذ جابر عصفور في كتابه المشار إليه هذا تعريفاً عن الخيال اعتماداً على الاستخدام اللغوي المعاصر لهذه الكلمة من حيث إنها "القدرة على تكوين صور ذهنية لأشياء غابت عن متناول الحواس"، ولم يُغفل الأستاذ جابر عصفور في تعريفه للخيال البُعد الزمني والمكاني سواء بحضوره أو انصرافه، ويذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: "إن الخيال يُقدّم نتائجه إلى عين العقل التي تتلقاه مفترضة أنه واقع، حتى لو كانت تعلم أنه غير ذلك" وهو بذلك يخلط بصورة واضحة بين الخيال والوهم أو بين التخيّل والتوهّم. والحقيقة أن الفارق الأوحد بينهما هو في ميزة الإدراك، فالصور الذهنية المتخيّلة سواء ارتبطت بالواقع أو لم ترتبط به، وسواء كانت أسيرة للزمكان أو خارجة عليه تظل صوراً محاطة برعاية الإدراك وحدوده، في حين يتعدى هذا الأمر في التوهّم؛ إذ يُصبح من الصعب على العقل البشري التحقق من ارتباط هذه الصور الذهنية بالواقع، أو حتى الفصل بين ارتباطاتها.
يبقى الخيال خارجاً عن حدود العادة الذهنية المنصرفة إلى ما هو مادي محسوس عمّا هو فوقي وماورائي، وربما ولّد شغف الإنسان بالماورائيات إلى خلق أنساق من التصورات التخيّلية التي يسعى بها إلى إشباع حاسة المعرفة والتطلّع إلى ما هو أبعد من الزمان والمكان، وإلى ما هو أقوى وأصدق من الكائن والممكن. هذا الشغف الذي أجزم بأنه كان النواة الأولى التي ولّدت الأدب في صورته البدائية، في شكل طقوس أو ترانيم أو حتى أساطير. وربما يُفيد في هذا الصدد مراجعة المخزون الشعبي للوقوف على الأسس التراثية والفلكلورية التي ينطلق منها الإنسان المبدع في تكوين تصوّراته الذهنية، دون أن نغض الطرف عن إسهامات الجوانب الروحية الأخرى سواء المتكسبة أو الأصيلة منها من مشاعر وغرائز وتعاليم دينية وغيرها.
إن التخيّل شغف غريزي على الأرجح، يحتاج إليه الإنسان على الدوام لإشباع حاجاته المعرفية، وتساؤلاته غير المحدودة عن الطبيعة والإنسان والله والآخرة وكل ما يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في حياته ويُحدد نمط معيشته، بسلطة يختارها هو أو تفرض عليه. ويُساعد هذا الخيال في اكتساب قدرات ذهنية خاصة من شأنها أن تُثري مهاراته اللغوية، ولاشك أن اللغة تُفيد من هذه المهارات في تطوير نفسها، ولتكتسب اللغة –بعدها- طابعاً تفاعلياً ديناميكياً. كما أنّ الخيال في أحيان كثيرة يعمل كميكانيزم دفاعي يلجأ إليه الإنسان للهروب من واقعه، ويحتاج إلى هذا الأمر الكثير من الفئات والشرائح الواقعة تحت وطأة الاضطهاد والقهر، وفي أحيان أخرى يُساعد الخيال على التخلّص من حالات الاكتئاب والتوتر. ويُصبح السؤال الأكثر أهمية: "هل الخيال مُثير أو مُستجيب؟" بمعنى هل الخيال هو ما يُحرّك الصور الموضوعية أم أن هذه الصور الموضوعية هي من تُحفّز على الخيال؟ وكما أرى فإن الأمر لا يقع في جانب التكاملية الصرفة، بقدر ما هي منحازة إلى الاستثارة لا الإثارة، ففكرة الموت وصورته (مثلاً) هي من تستفز الخيال وتدفعه إلى التصوّر، وكذلك الشيء نفسه في الصور والأفكار الأخرى: الحب، الجنس، الحرب، السلام، الخير، الشر ... إلخ.
وعلى هذا فمن النادر جداً أن تجد إنساناً ينظر إلى هذه الصور والأفكار بصورة مجرّدة دون أن تنتابه نزعة التخيّل، وهؤلاء الذين لا يرون في هذه الصورة إلا تصورات عامة مجرّدة، هو في الحقيقة مرضى نفسيون، منفصلون عن واقعهم، ومصابون بخلل ذهني ما. وعلى أيّ حال؛ فقد ساعد الدين كثيراً على تنشيط هذه العملية الذهنية، وتنميط بعض الصور والأفكار، أو حتى إكسابها طابعاً خيالياً؛ بحيث يتمكن كل شخص من تصوّر الأفكار بالكيفية التي يُريدها، فكل واحد منا له تصوّراته الذهنية الخاصة عن الجنة (مثلاً)، مستندين في ذلك على الطابع التخيّلي الذي منحته لنا النصوص الدينية عنها (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وحتى النصوص المسيحية واليهودية لم تخل أبد من هذه التصورات الخيالية لكل ما هو واقع في نطاق الحراك البشري؛ بل إنّ غالبية نصوص التوراة معتمدة على هذا النسق التخيّلي الأسطوري.
|
|
|
|
|
|
|
|
|