|
Re: قضايا معاصرة (Re: هشام آدم)
|
.:: مواصلة ::.
فيما سبق عرفنا أن الإسلام لم يُحرّم الرق، وما كان له ليفعل؛ لأن الرق قوام الاقتصاد العربي، لاسيما عرب مكة الذين كانوا أثرى بدو العرب لاشتغالهم بالتجارة، وكان لتحريم الرق أن يعمل على نفور عدد كثير منهم عن الدين الإسلامي. إن الخلاف الأساسي بين محمد وبين سادة قريش كان قائماً على مبدأ السيادة، ولذا فإن كبارات قريش رفضوا هذا الدين الذي جاء به واحد منهم، وكان الأجدر بهم أن يُفاخروا به، ويُناصروه، كونه سيكون فخراً لمعاشر الأميين في مقابل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين علا شأنهم على العرب بسبب اتصالهم بالسماء عبر دياناتهم السماوية، وكان لظهور نبي متصل بالسماء ليكون عزوة لأهل قريش والعرب جميعاً، حتى تجتمع لهم مجامع السيادة مالاً وحسباً وديناً.
وما حدث أنّ الإسلام حاول إلغاء الرق في بداياته (العهد المكّي) ثم تراجع عن هذا القرار، فأباحه وقيّده في إطار شديد الخصوصية كما في بعض الكفارات ككفارة الظهار وككفارة اليمين والقتل الخطا، ومن المعلوم أنّ هذه الكفارات هي من أصعب الكفارات على الإطلاق ولذا نقرأ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) (البلد: 11/13) وعليه فإن تقييد الإعتاق بالكفارة لا تعد مساوية للكرامة التي يبحث عنها الإنسان الحر منذ ولادته، ومن المعلوم أن العديد من الصحابة (بل وحتى محمد نفسه) كان له عبيد وجواري، وكان يتم تهادي العبيد والإماء بين الصحابة على زمانهم.
وأولى الإشكاليات التي تواجهنا هنا الآن، هو موقف الإسلام من قضية الرق والعبودية في مقابل نهايات الفكر الإنساني العام الذي توجّه إلى تحريم الاسترقاق دولياً. تظل هذه النصوص الدينية عقبة كئود لا يستطيع المسلمون تجاوزها إلا بالتحايل على النصوص المقدسة نفسها، أو مصارعة التيار الكوني العام، ليقفوا بذلك في ظل التاريخ؛ وعلى هذا فإن حكم الاسترقاق يظل جارياً ونافذاً في الزمان والمكان بلا قيد أو حصر؛ وإن كان الأئمة والفقهاء يرون انتفاء الاسترقاق مستخلص من انتفاء مصادره (أي مصادر الاسترقاق) فإن هذا (سواء علموا ذلك أو لم يعلموا) دلالة على قصور التشريع الإسلامي، أو قصور الفقه الإسلامي في أفضل الحالات. فقد اتفق جمهور من العلماء على أن للاسترقاق مصدران رئيسان:
• السبي في الحرب. • وابن الأمة من غير سيّدها (لأن ابن الأمة من سيّدها لا يُعد عبداً وإنما حراً) بالإضافة إلى التملّك (الشراء من حر المال)
ولكننا اليوم نرى صنوفاً من الاسترقاق المعاصر التي لا تنحصر في لون أو عرق أو طائفة دينية عن الأخرى؛ وإنما اتسعت رقة الاسترقاق لتبلغ ذروتها في عصر طغيان الرأسمال، والانتهازية من صاحب العمل للعمّال، ومن المخدوم لخادمه، ومن المستأجر للأجير، وغير ذلك من أصناف يُمكن أن تكون تقنيناً لعملية الاسترقاق، أو يُمكننا أن نرى بأنها اتجاه إلى قوننة الاسترقاق. ويمكن لمن يُريد الاستزادة أن يُراجع مقال الأستاذ فهمي هويدي في صحيفة الرؤية الكويتية (7 مايو 2009) بعنوان (في الاسترقاق المعاصر)
والكلام عن الاسترقاق يأخذنا قصراً إلى حقوق الأرقاء والعبيد والإماء وواجباتهم: ما لهم وما عليهم، لنعرف إلى أيّ مدى كان المنحى الديني صادقاً في دعاواه للمساواة بين الفئات البشرية، ولنرى إن كانت الدعاوى -التي يُصرّح بها المسلمون في أنّ الإسلام شدد فعلاً على حسن التعامل مع العبيد- صحيحة أم لا.
وهذه جزئية يسيرة من فقه الاسترقاق كما جاء في الموسوعة الفقهية الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت:
عدة الأمة في الحيض شهران بينما عدة الحرة ثلاثة أشهر (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (النساء:228).
• لا يحق للعبد أكثر من طلقتين. • إذا تزوّج العبد دون إذن مالكه، فللمالك أن يُطلقه من زوجته. • لا يحق للعبد أن يتزوّج بأكثر من امرأتين. • لا يجوز أن تنكح الأمة على الحرة. • العبيد والإماء لا يُورّثون. • ديّة العبد عن أيّ ضرر يلحق به هي ملك لسيّده. • دين العبد لسيّده. • العبد يتبع دين المالك لأن المالك يُعتبر وليّه. • إذا أخلّت العبادات والشعائر الدينية بواجبات العبد تجاه سيّده، فإنه يكون في حل منها كصلاة الجماعة والجهاد وغيرهما.
وجاء في موقع (الإسلام ويب) ما يلي في حكم الاسترقاق وفقهه:
(وأما الكبار فلا يسترقون لانقطاع التبعية بالبلوغ ، ويجبرون على الإسلام وذكر في الجامع الصغير : الولدان فيء أما الأول فلأن أمه مرتدة . وأما الآخر فلأنه كافر أصلي ; لأن تبعية الأبوين في الردة قد انقطعت بالبلوغ، وهو كافر، فكان كافرا أصليا، فاحتمل الاسترقاق ولو ارتدت امرأة وهي حامل ولحقت بدار الحرب، ثم سبيت وهي حامل كان ولدها فيئا ; لأن السبي لحقه وهو في حكم جزء الأم، فلا يبطل بالانفصال من الأم والذمي الذي نقض العهد ولحق بدار الحرب بمنزلة المرتد في سائر الأحكام من الإرث والحكم بعتق أمهات الأولاد والمدبرين ونحو ذلك; لأن المعنى الذي يوجب لحاقه، اللحاق بالموت في الأحكام التي ذكرنا لا يفصل، إلا أنهما يفترقان من وجه: وهو أن الذمي يسترق والمرتد لا يسترق وجه الفرق أن شرع الاسترقاق للتوسل إلى الإسلام، واسترقاق المرتد لا يقع وسيلة إلى الإسلام لما ذكرنا أنه رجع بعد ما ذاق طعم الإسلام، وعرف محاسنه فلا يرجى فلاحه، بخلاف الذمي والله - سبحانه وتعالى – أعلم)
إذن فالعبيد والأحرار ليسوا سواء في الإسلام، وعليه فإن دعاوى الرحمة والتعامل باللين معهم تبقى ضمن إطار المشروع الإنسان العام الذي تنادي به الأخلاق العامة، وليس الخاصة والتي بدورها يشترك فيها الجميع مسلمين وغير مسلمين، وعلى هذا فإن المؤسسات المدنية والمنظومات الدولية –كذلك- تشترك في هذه الأخلاق العامة التي يرفضها البعض بحجة أنها دخيلة على الدين ومنافية للأخلاق.
وجواز وطء الأمة والجارية دون عقد نكاح إلا بملك اليمين هو في حدّ ذاته تناقض واضح لهذه الكرامة التي يُنادي بها المسلمون. فكيف يُمكن لرجل أن يطأ امرأة لا تحل له فقط لأنه سيّدها؟ هذا السؤال الساذج يفتح أمامنا مجموعة من الأسئلة التي تنسل من ذات البكرة: هل يحق للسيّد أن يقتل عبده أو أمته؟ فإذا كان للسيّد أن يتحكّم في جسد عبده وأمته فما الذي يمنعه من التصرّف فيه بالقتل أو بالتشويه أو غيره؟
إنّ الإسلام يرى الناس –في حقيقة الأمر- على صنفين: مسلمين وكفار. ولذا فإنّ ما يحل للمسلم لا يحل لغيره، وكأن هؤلاء بشر وهؤلاء جنس آخر؛ ولذا نقرأ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء:92) فيكفي أن تؤدي الكفارة لينتهي جرم القتل الخطأ لغير المسلم، في حين أن قتل المسلم الخطأ يُلزم الديّة، وكذلك فإن ديّة الكافر (مسيحي أو يهودي) تعدل ثلث ديّة المسلم أما المجوسي فديّة أقل من الثلث، وكأن أرواح غير المسلمين أرخص من أرواح المسلمين (أين المساواة في هذا؟)
وكذلك جاء في كتاب (منهاج الصالحين) كتاب الديّات:
( ( مسألة 216 ) : دية العبد قيمته ما لم تتجاوز دية الحر ، فان تجاوزت لم يجب الزائد ، وكذلك الحال في الاعضاء والجراحات ، فما كانت ديته كاملة كالانف واللسان واليدين والرجلين والعينين ونحو ذلك ، فهو في العبد قيمته ، وما كانت ديته نصف الدية : كاحدى اليدين أو الرجلين فهو في العبد نصف قيمته وهكذا . ( مسألة 217 ) : لو جنى على عبد بما فيه قيمته ، كأن قطع لسانه او أنفه أو يديه لم يكن لمولاه المطالبة بها إلا مع دفع العبد إلى الجاني . كما أنه ليس له المطالبة ببعض القيمة مع العفو عن بعضها الآخر ما لم يدفع العبد إليه وأما لو جنى عليه بما لا يستوعب قيمته كان لمولاه المطالبة بدية الجناية مع إمساك العبد وليس له إلزام الجاني بتمام القيمة مع دفع العبد إليه" )
وعلى هذا فهنالك فرق بين ديّة العبد (سواء أكان مسلماً أو غير مسلم) عن ديّة الحر (سواء أكان مسلماً أو غير ذلك) وذلك مما ينافي المساواة التي يدعو إليها الإسلام ويُنادي بها أهله. وبعد أن سقنا أدلة عدم تحريم الاسترقاق، وأتبعناه بأدلة عدم مساواة الحر بالعبد في الإسلام يتبقى فقط أن نضع وطء الإماء جنباً إلى جنب مع مسألة تعدد الزوجات لنرى إلى أيّ حدّ يمعن الإسلام وأهله في انتهاك كرامة الإنسان (لاسيما المرأة)، وهذا ما سوف أتناوله بالتفصيل في الرسالة التالية.
.::نواصل::.
|
|
|
|
|
|
|
|
|