|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
_________
2. الصورة الذهنية:
إذا كنا في المستوى السابق قد حاولنا تلمس مفهوم الحسية في الصورة الشعرية من خلال تحليل عينة من الصور الممثلة لها في شعر أمل دنقل, ووفقنا - في تلمسنا ذاك - بين التحليل البلاغي والدلالي, فإننا سنعمل في هذا المستوى على مقاربة الصورة الذهنية; أي التجريدية, وذلك بتطبيق معطيات التحليل على مجموعة من الصور التي افترضنا تجريديتها مسبقا اعتمادا على مؤشرات محمولاتها المعنوية, موضوعية كانت أو شعورية, بالنظر إلى الانتقال إلى المستفاد من مفردات الصورة وتركيبها. ذلك أن الانتقال المقصود هو الذي يتم من المفهوم الحسي إلى المفهوم التجريدي أو من التجريدي إلى تجريدي آخر. وتلعب الاستعارة المكنية دورا لافتا في بلورة هذا النمط من الصور, وخاصة الاستعارة الإسمية التي ترد في تركيب نحوي مكون من مضاف ومضاف إليه. وتشتد حدة التجريد حينما يضاف المحسوس إلى المجرد أو يعاد تشكيل أشياء الطبيعة والواقع, وجعلها تتبادل الأدوار فيما بينها, وتعير خصائصها لتستقبل خصائص غيرها, يقول الشاعر أمل دنقل:
على محطات القرى.. ترسو قطارات السهاد فتنطوي أجنحة الغبار في استرخاءة الدنو والنسوة المتشحات بالسواد تحت المصابيح, على أرصفة الرسو ذابت عيونهن في التحديق والرنو عل وجوه الغائبين منذ أعوام الحداد تشرق من دائرة الأحزان والسلو
تجتمع كل الانزياحات الواردة في هذا المقطع على خرق نظام اللغة, مرة باستعارة محسوس لمجرد, ومرة أخرى باستعارة محسوس لمحسوس مع وجود شبه معنوي. وبالنظر إلى علاقة الانزياحات بالدلالة المستهدفة, نلاحظ أنها لا تكتفي بالعمل على تغيير المعنى والحد من مباشريته, وإنما تتعدى ذلك إلى تعميق الانفعال بهول مشهد انتظار الغائبين. وهنا تكمن أهمية الانزياح المؤسس على الاستعارة الناجحة; تلك الاستعارة التي يقول عنها جان كوهين Jean COHEN: <<إن الاستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى, إنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى, انتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي, ولهذا لم تكن كل استعارة كيفما كانت شعرية.>>(19)
وهناك الصورة الذهنية التي تنبني بواسطة رص المعطيات المرجعية المتناقضة في تركيبة واحدة, فتذوب خلالها حدة المفارقة, لأن هذه المعطيات المتناقضة عندما تدخل إلى حيز المتخيل, تجد المناخ الفني الذي يجعلها تأنس إلى بعضها البعض, وتعمل على تشكيل صورة مرئية على أنقاض المعاني الممعنة في التجريد:
يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين منحدرين في نهاية المساء في شارع الإسكندر الأكبر: لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إلي لأنكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر فلترفعوا عيونكم إلي لربما: إذا التقت عيونكم بالموت في عيني: يبتسم الفناء داخلي.. لأنكم رفعتم رأسكم.. مرة !
لا شك أن المتخيل في هذه الصورة يوجد في موضعين: <<إذا التقت عيونكم بالموت في عيني>> و<<يبتسم الفناء داخلي>> ويكون الأساس البلاغي المؤدي إلى الوظيفة الشعرية مجازا مرسلا في الموضع الأول, واستعارة مكنية في الموضع الثاني. ذلك أن الشاعر يستدعي الموت بوصفه سببا لإفادة الأثر المسبب, وهذا هو المجاز المرسل, لكن فاعليته الفنية لا تبرز إلا عند دخوله في سياق تركيبي, يجعل شحنته المجازية تسري عبر الكلمات المجاورة, وربما امتدت إلى أقصى نهاية المقطع. أما الاستعارة المكنية في <<يبتسم الفناء داخلي>> فتلغي الحدود بين الحسي والمجرد, وتخلق حالة من التفاعل المتبادل بينهما, ليتولد عن ذلك مشهد غرائبي ي ري ما لا ي رى ويؤسس لموقف نادر يتبدى الإنسان فيه منسجما مع فنائه.
وعلاوة على ذلك, فإن معنى المقطع لا يمكن أن يصار إلى تأويله إلا بالمرور على الدلالة المركبة في <<يبتسم الفناء داخلي>>. فإذا كان مضمون الخطاب الموجه إلى <<الأنتم>> -- من قبل مرس ل يفترض أنه ميت بدلالة عبارة <<الموت في عيني>> عليه -- يتمثل في طلب رفع العيون, فلأن الغاية المستهدفة هي <<ابتسام الفناء>> وهي نتيجة, إذا اقتصر على الأخذ بملفوظيتها قد توقع الفهم المنطقي في تناقض مؤكد. ولكن بسبر الأبعاد المجازية المرمي إليها في <<ابتسام الفناء>> يتضح أن المقصود بالابتسام ليس الفناء, وإنما الطرف المجاور له, وهو روح المرسل.
لقد عرف الشاعر أمل دنقل بميله الكبير إلى أسلوب المفارقة في تصوير مختلف الحالات الخاصة والعامة ربما لأن علاقته بنواميس الوجود ومعطياته تتجسد في ذلك الموقف المتشكك في التوازن والعدالة, يقول من ديوان <<أقوال جديدة عن حرب البسوس>>:
قلبي صغير كفستقة الحزن.. لكنه في الموازين أثقل من كفة الموت هل عرف الموت فقد أبيه هل اغترف الماء من جدول الدمع هل لبس الموت ثوب الحداد الذي حاكه.. ورماه
يتحدد الموقف هنا في تحجيم الموت ثم تشخيصه من أجل مواجهته, لأنه يستحيل مواجهة الشيء المجرد. فالتحجيم يتمثل في تحويل الموت إلى مادة قابلة للوزن <<كفة الموت>>. والتشخيص ينتج عن إعارته مجموعة من الأفعال والسلوكات البشرية <<عرف>> و<<اغترف>> و<<لبس>> و<<حاك>>. أما المواجهة فتبرز في القيام بالحد الأدنى الذي يستطيعه الإنسان العاجز أمام جبروت الموت, وهو الاستنكار الذي يستفاد من حرف الاستفهام <<هل>>.
إن ذهنية هذه الصورة تتجاوز معاداة الموت إلى مخاصمة المتسبب فيها, وفي لغة أقرب إلى العتاب الكسير منه إلى التنديد القوي.. مما يجعل لغة هذا العتاب تشي بمسحة صوفية تساهم في تخصيب البعد التخييلي للصورة.
وقد تتجسد ذهنية الصورة في الانتقال من اليأس كمرجع إلى المستحيل كمتخيل, يقول الشاعر:
سيقولون: ها نحن أبناء عم قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك واغرس السيف في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم
تشتمل هذه الصورة المحورية, المتضمنة في المقطع, على صورتين جزئيتين, تدل على الأولى عبارة <<واغرس السيف في جبهة الصحراء>> والثانية تدل عليها عبارة <<يجيب العدم>>. وكلتاهما تستندان إلى مرجع معنوي تعمل الأوجه البلاغية على تسييجه بالغموض الفني المطلوب. وتتمثل هذه الأوجه في الاستعارة المكنية الدالة على التجسيد والتشخيص. فالتجسيد تحققه استعارة الجبهة للصحراء. أما التشخيص فتحققه استعارة <<يجيب>> للعدم. وبالرغم من الحسية التي تستشف من الصورة الأولى, فإن سمة التجريد تبدو غالبة عليها إذا ما أوردناها في السياق التركيبي: <<واغرس السيف في جبهة الصحراء>> فتخرج الدلالة من مفهوم خاص معلوم إلى مفهوم عام مجهول. وينشأ عن ذلك بعد رمزي توحي به كلمة <<الصحراء>> كدال. أما الصورة الثانية فتبقى مفتوحة على المزيد من التجريد في انتظار <<أن يجيب العدم>>!. ذلك أن شرط المشاهدة ينتفي هنا, مما يتطلب المرور بعدة مراحل إدراكية قبل أن يتمثل <<العدم>> في صورة شخص يهم بالإجابة:
العدم (تجريد) يجيب (صورة سمعية) شخص مشاهد (صورة بصرية)
إذ لابد من قطع مرحلتين على الأقل للوصول إلى الصورة البصرية, تتجلى الأولى في ما توحي به كلمة <<يجيب>> من تشخيص, ونستعين هنا بحاسة السمع. وتتجلى الثانية في ما نتوصل إليه من تأويل وتخييل, لنعطي للصورة السمعية هيئة مشاهدة.
__________ http://www.nizwa.com/volume38/p119_128.html
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-29-06, 03:35 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-29-06, 03:46 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-29-06, 03:54 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-29-06, 04:03 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-29-06, 04:12 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-31-06, 10:39 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-31-06, 11:00 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-31-06, 01:43 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | Alia awadelkareem | 05-31-06, 02:34 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 05-31-06, 04:53 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | محجوب البيلي | 06-01-06, 08:31 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-01-06, 08:53 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | غادة عبدالعزيز خالد | 06-01-06, 11:19 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | Muna Khugali | 06-01-06, 11:35 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | سيد أحمد خليفة | 06-02-06, 06:35 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | nashaat elemam | 06-03-06, 02:13 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 11:30 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-03-06, 02:16 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-03-06, 12:02 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-03-06, 10:21 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-03-06, 12:53 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-03-06, 12:55 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | Aisha Hommaida | 06-03-06, 01:13 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 12:08 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 12:12 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 12:18 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 12:25 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 12:39 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 12:43 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-04-06, 12:54 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-05-06, 04:06 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-05-06, 04:10 PM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-06-06, 04:07 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-06-06, 04:36 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-06-06, 04:55 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-06-06, 05:10 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | إدريس محمد إبراهيم | 06-06-06, 05:33 AM |
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) | هشام آدم | 06-06-06, 08:30 AM |
|
|
|