|
Re: أيـــــامي (Re: هشام آدم)
|
____________________
في مطار أرتكاتا المسقوف بالزجاج العازل للحرارة والصوت، والأرضيات الرخامية المغرية للتزحلق. كانت أمي تحاول جاهدة تجفيف ما تبقى من دموعها التي ذرفتها في توديع الأهل بتوليدو. كنت أنا وجوانيتا منشغلين بمتابعة النافورة الموسيقية الموضوعة بدقة في منتصف صالة الانتظار، بينما كانت أمي تقف جوار الناقل المتحرك في انتظار الحقائب. وبطريقة متحفظة جداً استقبلنا والدي خلف السياج المصنوع من معدن الكروم والمخصص لانتظار المستقبلين. كان يرتدي قبعته المافياوية والتي كانت موضة ذلك الوقت، بينما كان لا يزال يدخن السيجار الكوبي كثيف الدخان كمظهر أرستقراطي عديم الجدوى. قبّل أمي في جبينها بدون عاطفة جادة، واكتفى بالمسح على شعورنا، كأننا أشابين، وهو يمسك بالعربة المتحركة - التي كانت تحمل الحقائب - من يد أمي.
في البيت، وبينما كانت أمي تعيد ترتيب الأشياء. اكتشفت أنني أحن بطريقةٍ ما إلى كوينكا. ربما لأن رطوبة الجدران الأسمنتية كانت تحول دون أن نتنفس هواء نقياً كذلك الذي كان يمنحه لنا الرب في كوينكا. تلك النسمات الدافئة القادمة من أحراش أوسيكبو ووادي غوادا لاخارى ولاس توركاس الآهلة بالأيول والغزلان البرية. كما أنني لم أعثر في البيت على أيٍ من القطط التي كنت أربيها تحت سقيفة الدرج المؤدي إلى الخارج. ولم أجرؤ على سؤال أبي عن مصير القطط.
ما زاد إحساسي بخيبة الأمل هو أنه كان يتوجب علينا الإعداد للمدرسة مباشرة، الأمر الذي جعلني لا أطمئن لكوني سأعود للمقاعد الدراسية بعد ثلاثين يوماً من الحرية. لم أكن كبقية أطفال كوينكا الذين يعشقون الجو المدرسي لما يجدون فيه من متعة الالتقاء بالأصدقاء والشغب الطلابي البريء. كنت على يقين بأن المدرسة أمر ضد الرب وضد البشرية، وهي – بطريقة ما – إصلاحية في شكل أكاديمي تقريباً. فكان مجرد فكرة الاستيقاظ من النوم في الصباح الباكر في شهر أيلول يبدو كالتعذيب الذي يتلقاه السجناء السياسيون في سجن باتورن باي ذو الأسوار العالية الصماء. وما كان يزيد الأمر سوءً هو ربط والدي الدراسة بالإيمان! فلم يكن والدي يحرص على تذكري بشيء بقدر إنهاء الواجبات المدرسية والذهاب إلى الكنيسة بانتظام وحفظ التراتيل التي كانت تدرس لنا فعلاً في المدرسة. هذه المرة، كان إحساسي بوالدي مغايراً بعد معرفتي لتاريخه المراهق الذي لم يكن ناصع البياض كما كان يحاول أن يقنعنا به.
كانت الرغبة الجامحة لوالدي هو أن يمحي تاريخه القديم من ذاكرة الآخرين، وأن يبدؤوا بمناداته باسم "الأب" ورغم أنه تحصّل فعلاً على اللقب بمباركة باباوية في إحدى احتفالات التنصيب بالكنيسة إلا أنني لم أكن على قناعة بهذا التنصيب، فقد كان والدي ديماغوجياً[3] من الدرجة الأولى، لاسيما بعد أن أثبت قدرة عالية على حفظ أعداد لا بأس بها من التراتيل والآيات والأدعية الأنجيلية. وكان والدي يحتفظ في غرفته في المنزل بعدة نسخ من الأنجيل من العهدين القديم والجديد. وليس لدي أدنى شك بمدى صدقه في أن يكون رجلاً متديناً، ولكن ما كان يثير حنقي عليه، هو أنه لم يدخل غرفة الاعتراف قط. وكان يعتبر أن تاريخه المشين، تاريخ لشخص آخر غيره. وربما عقد صفقة ما مع الرب ليمحي عنه تاريخه مقابل أن يقيم أسرة ذات نهج كاثوليكي محافظ. وربما أوصاه بابنه كاسبرو تحديداً لسببٍ ما. هذا ما كان يخطر لي عندما أجده متشدداً حيال جعلي كاثوليكياً مأدلجاً منذ وقتٍ مبكر.
ثمة أسماء ووجوه أتذكرها كلما مررت بشريط ذكرياتي بالصدفة على مرحلة عمرية ما من حياتي: إخيليو نوريس وماريو كانسيليو هذا بالإضافة إلى العم سلفادور أورفل والجد مانويل إميليو الذي ارتبط اسمه لدي بشوكولاته جوز الهند، إذ كان يعمل في مصنع يعمل في صناعة هذا النوع من الشوكولاته. ولم يكن يأتي منزلنا إلاّ وهو يحمل علبة كبيرة تحتوي على 24 إصبعاً من الشوكولاته المغلفة بطبقة من جوز الهند الفاخر. مانويل إميليو أحد المئات الذين هاجروا كوينكا مبكراً، واختلفت الروايات حول سبب هجرته. فبينما تقول أمي أن والدها هاجر بسبب الطاعون الذي عصف بكوينكا أواخر الخمسينيات. تقول إحدى الروايات التي يتناقلها الرجال الذين عاصروا جدي أيام شبابه، أنه عندما غادر كوينكا إلى مالقة أولاً قبل وصوله إلى أرتكاتا، كان قد ذهب بحثاً عن فاتنة برتغالية كانت بائعة أقمشة متجولة مرّت بكوينكا تبيع الحرير والكتان المطرّز. اشتعل في صدره حبها عندما رآها ذات يوم عند حافة النهر بينما كانت تغسل قدميها مستعينة بصخرة ملساء لهذا الغرض. مالقة هذه المدينة البحرية التي كانت تسميها بعض كتب التاريخ بالمالكة أو الملكة على حد تعبير إحدى كتب التاريخ المعاصر لأسبانيا، هي أول مدينة يدخلها صناعة تجفيف الأسماك وتمليحها. وتقول إحدى المصادر أن اسم مالقة ربما اشتقت من "مالحة" لهذا السبب. وكانت الآثار الفينيقية ما تزال موجودة بها عندما غزتها الجيوش العربية قديماً.
____________________
[1] الديماغوجية: هي القدرة على كسب ثقة الآخرين عبر التأثير عليهم بالخطاب العاطفي.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
أيـــــامي | هشام آدم | 11-17-06, 01:58 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-17-06, 02:01 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-17-06, 02:05 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-17-06, 02:08 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-17-06, 02:12 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-17-06, 02:59 PM |
Re: أيـــــامي | خضر حسين خليل | 11-18-06, 05:28 AM |
Re: أيـــــامي | yaser mostafa | 11-18-06, 05:47 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-18-06, 10:55 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-18-06, 10:20 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-18-06, 11:05 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-18-06, 12:30 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-19-06, 03:30 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-19-06, 05:41 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-19-06, 11:12 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-20-06, 03:15 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-20-06, 04:48 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-20-06, 09:21 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-21-06, 10:20 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-21-06, 12:23 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-21-06, 12:26 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-22-06, 06:24 AM |
Re: أيـــــامي | معتصم الطاهر | 11-22-06, 06:54 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-22-06, 10:52 AM |
Re: أيـــــامي | فدوى الشريف | 11-22-06, 07:16 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-22-06, 11:25 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-22-06, 02:52 PM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-23-06, 03:06 AM |
Re: أيـــــامي | معتصم الطاهر | 11-23-06, 08:00 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-25-06, 01:59 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-25-06, 02:08 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-25-06, 08:53 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-26-06, 02:48 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-26-06, 05:01 AM |
Re: أيـــــامي | معاذ حسن | 11-26-06, 05:26 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-26-06, 07:33 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-26-06, 08:52 AM |
Re: أيـــــامي | هشام آدم | 11-26-06, 10:14 AM |
|
|
|