الموسيقار الموصلي ............. ومشروع الفرح القادم للدناقله

Quote: الدعوة لتطوير الفن النوبي ليست دعوة عنصرية أو جهوية بل هي رسالة لإثراء الأغنية السودانية بإضافة روافد جديدة وضخ دماء حارة في شرايينها/سيف الدين عيسى/جدة عرفت منطقة دنقلا في شمال السودان بأنها كانت دار علم وقرآن، وأهلها كانوا علماء عمروا الخلاوي ونشروا العلم، ولا عجب في ذلك فدنقلا شهدت قيام أول مركز إسلامي في السودان، وقد وفد إليها علماء أجلاء أدخلوا علوم القراءات والتصوف لأول مرة في السودان وتتلمذ على أيديهم العديد من المشاهير من شتى مناطق السودان المختلفة، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت أيضا موطنا للعديد من الفنون، فالبيئة بما تحتويه من خضرة وجمال واستواء النيل كانت بيئة موحية بالعديد من الألحان العذبة، وارتباط الإنسان القوي بهذه البيئة ولد الإحساس الدفين بذلك الحنين الطاغي للأرض مما انعكس في الفن ، وكان النوبة أول من اكتشف جماليات الصوت البشري وإمكانية تشكيله في قالب فني آسر فأبدعوا ما يسمى بالكريد (صوت الحلق) هذا المصطلح المستخدم في علم الموسيقى الآن أصله نوبي من مقطعين (كو) بمعنى أسد و (اري) بمعنى زئير ومن ذلك يصبح ترجمة الكريد (زئير الأسد) وهو ينطبق تماما مع أنغام الكرير أو (الحمبه)، وهذا النمط كان هو السائد مع إيقاعات أخرى كالدليب والجابودي والعرضة، وإيقاع الدليب هو ايقاع نوبي قديم ارتبط بالطمبور ، وقد أضاف إليه العرب مثل الكبابيش والقراريش والهواوير والمناصير والحوازمة وغيرهم الكلمة العربية، أما الشايقية الذين آل إليهم هذا الإيقاع فان إضافتهم تجلت في أمرين : الأول تسريع ايقاع الدليب والتفنن في العزف على الطمبور بإضافة أوزان جديدة عليه والأداء الحركي المنظم المصاحب للأغنية وإضافة مضامين جديدة في أغنية الطمبور برزت بشكل واضح بعد دخول مجموعة من الشعراء المثقفين أمثال السر عثمان الطيب، ومحمد سعيد دفع الله ، وعبد الله محمد خير ، ومحمد الحسن سالم حميد وغيرهم، ومن قبلهم كان الرواويس هم همزة الوصل في نقل إيقاعات الطمبور إلي مناطق مختلفة من شمال السودان ولعلنا نذكر هنا مساهمات الشاعر الكبير أحمدون من حوض لتي ، ومحمد اسماعيل من حوض السليم، فالجابودي ايقاع نوبي وكذلك الدليب. وقد نتج من هذه الإيقاعات المتنوعة فن متفرد وتراث غنائي ضخم في منطقة دنقلا ، ما يزال بكرا لم يقدم حتى الآن بالشكل المطلوب. من هنا نشأت فكرة تأصيل هذا التراث. وهي دعوة تهدف إلى تفعيل الدور النوبي في توثيق التراث الفني للنوبة في شمال السودان وفق رؤية تعتمد العلمية والمنهجية في طرحها، وتستفيد من التقنيات الحديثة في عالم الموسيقي. إن ما ذكرناه من ضرورة اضطلاع المتخصصين أمثال الأستاذ الموصلي بمسئولية تقديم هذا التراث لم يكن ناتجا عن نظرة محلية ضيقة تهدف إلى التقوقع في الذات وتحجيم إسهامات المبدعين الذين اتخذوا طابعا قوميا في طرحهم كما قد يتبادر إلى البعض، بل هدفنا إلى إيجاد صيغة تضبط هذا الفن وفق قواعده المقررة ومن ثم تقديمه في قالب فني ولغوي يمكن أن يكون مفهوما ومستساغا لدى كافة المتلقين سواء المتحدثين بالعربية أو النوبية. لم نطالب في مشروعنا هذا بابتداع نمط جديد من الغناء أو احتكار هذا التراث السوداني لفئة بعينها، بل كنا نقصد تشذيب ما هو قائم الآن والذي يدور في محيط معين ويسبح في فضاء محدود ويتقدم بالخطاب الفني لفئة بعينها، دون أن يستشعر أهمية أن يعمم الخطاب ليشمل نطاقا غير محدد ، وفئات غير محدودة . مثل هذه التجارب غير المستوفية للمتطلبات سرعان ما تنكفئ على نفسها بعد أن تفقد عامل الدهشة المصاحب دائما للبدايات وتتحول من ثم إلى أعمال خاصة وتجارب تشوه أكثر مما تخدم التراث، وما أكثر الأعمال المشوهة (بكسر الهاء) للتراث النوبي. ما الذي أفقد تلك الأعمال الاستمرارية؟ لعل من أهم أسباب ذلك أنها توجهت في خطابها إلى فئة معينة محاولة تلمس مشكلات تلكم الفئة فكان التعبير قاصرا والوسائل التي اتخذتها بدائية ، فلا هي ابتدعت نماذج جديدة تعبر عن احتياجات المرحلة وتسجل بذلك حالة إنسانية عامة، ولا هي وسعت نطاق جمهورها ليشمل السودان كله ، ولا هي ارتكزت على تراث عريق يتشكل منه الوجدان الجمعي. إن دعوتنا تتلخص ببساطة في بعث ذلك التراث النوبي بكل قوالبه الفنية في أعمال تستوعب كافة أنماط الإلحان والإيقاعات التي يزخر بها هذا التراث العريق ، وأن تعكس هذه الأعمال طبيعة المنطقة بصدق باعتبارها البوتقة التي انصهرت فيها العديد من الحضارات والثقافات إلى الدرجة التي جعلت الناس يطلقون على سكانها (دناقلة) دون سائر المناطق التي يسمى سكانها حسب القبائل والأعراق التي تقطنها. لقد خطا الأخوة في الشق الآخر من النوبة (المحس ، السكوت ، الحلفاويين) خطوات رائدة نحو تأصيل فنهم النوبي، وقد أسهم فنانون كبار في هذه العملية أمثال الفنان الكبير محمد وردي الذي جعل من كلمة (مسونكيل) عبارة مفهومة ومقبولة لدى كافة المتلقين، والفنان مكي على إدريس، ومحمد منير في مصر، كما استطاع الأخوة في جنوب الولاية الشايقية والبديرية تأصيل فن الطمبور واعتماده كعنصر أساسي في أغنية الوسط .أما في بقية ولايات السودان فقد نشط مبدعون أمثال عبد القادر سالم وعبد الرحمن عبد الله وعمر إحساس وإبراهيم موسى أبا ومحمد ألبدري و سبت عثمان وعيرهم في تقديم إيقاعاتهم والجانهم كإضافة حقيقية لأغنية الوسط. أبناء الدناقلة هم الوحيدون الذين لم يأبهوا لتقديم نماذج فنهم أو تراثهم الغنائي العريق ، حتى ساد مفهوم مغلوط من أن الدناقلة لا يغنون، وهو اتهام قد يربطه البعض بتبلد الأحاسيس، كما يجد تبريرا عند بعض أبناء المنطقة من أن الدناقلة ملوك والملوك لا يغنون بل يوجه إليهم الغناء ( أول من ذكر هذا هو الشيخ عبد الله حاج محمد عليه رحمة الله) وهذا التبرير إن كان مقبولا على سبيل الطرفة أو المزاح فانه غير صحيح لأن الاتهام باطل من أساسه، فالدناقلة أكثر الشعوب غناء، ويشكل الغناء لديهم أحد أساسيات الحياة ، كل ما في الأمر إن المبدعين من أبناء هذه المنطقة كانوا مغرمين بهذا السودان الكبير فصاروا أبناء للمناطق التي وجدوا أنفسهم فيها وشبوا على ترابها، فقد لا يعلم الكثيرون بأن عبد العزيز العميري عليه رحمة الله من دنقلا، وان الراحل المقيم محمد أحمد عوض من القولد، وان يوسف الموصلى من مراوارتي، وعادل المسلم من دمبو وعصام محمد نور من كودي، والعديد من المبدعين من أبناء هذه المنطقة الذين أصبحوا دعامات أساسية في أغنية الوسط في السودان. الدعوة مقدمة إذن لهؤلاء المبدعين من أبناء المنطقة لخدمة هذا التراث النوبي العريق، وقد تفضل الفنان يوسف الموصلى مشكورا بتبني مشروع بهدف إلى تقديم الأغنيات الدنقلاوية بشكل جديد، وهو خبر سيفرح أهل هذه المنطقة كثيرا والذين طالما اشتاقوا إلى انجاز مثل هذا العمل خاصة وان الموصلى يعتبر من أكثر كوادرنا الفنية المؤهلة، ثم ها هو المهندس عمر بوب وبعض الأخوة الكرام في الدوحة يقدمون الدعم اللوجستي لانجاز هذا المشروع مستفيدين من المعرفة التامة للغة النوبية والتراث النوبي لدى البعض، والمشروع في مجملة قائم على تسجيل بعض أغنيات التراث وقراءات شعرية لبعض نماذج الشعر النوبي ، ولئن كانت الفكرة قد انطلقت من الدوحة فان الدعوة مفتوحة لكافة أبناء المنطقة المنتشرين في بلاد العالم الواسعة للمساهمة في انجازها بالشكل المطلوب. وليس في هذه الدعوة عنصرية أو جهوية بل هي رسالة لإثراء الأغنية السودانية بإضافة روافد جديدة وضخ دماء حارة في شرايينها العديدة حتى تكون معبرة عن كافة ثقافات المليون ميل، فهي إذن انفتاح على بقية الثقافات السودانية وتواصل فني مطلوب في هذه المرحلة الحرجة باعتبار أن الأغنية الدنقلاوية هي الحلقة المفقودة في سلسلة الفن السوداني. إن دعوتنا هذه تهدف إلى إيقاف تلك الأعمال الهزيلة التي تبثها الفضائية عن الفن الدنقلاوي من آونة الأخرى واستبدالها بأعمال فنية راقية تستفيد من الأطر الفنية المثقفة، وتؤسس على قواعد علمية رصينة ، وتنطلق من تراث فني نوبي عريق ، وتهدف في خطابها العام الوصول إلى كافة المتلقين في السودان عبر أداء يساعد على إيصالها بشكل سليم. إنها دعوة ترتكز أول ما ترتكز على تقدير الجهود الكبيرة التي بذلتها جمعيات التراث النوبي المختلفة في السودان ومصر والسعودية والخليج وهولندا وسائر أنحاء العالم ويكفي هذه الجمعيات فخرا إنها استطاعت إحياء الأبجدية النوبية من جديد وتعليمها لعدد مقدر من المنتسبين إليها، وقد كتبت بها بعض القصائد النوبية، ثم أولئك الشعراء الأوائل وعلى رأسهم نور الدين سيد على ، وجلال ومحمد صالح وغيرهم، والفنان زكي عبد الكريم وإدريس إبراهيم وعثمان حميدة والعديد العديد من المبدعين الذين يجب استصحاب تجاربهم الناجحة والارتكاز عليها في هذا المشروع. تلك إذن هي الأهداف التي إن تحققت بالشكل الذي نصبو إليه ستكون إضافة حقيقية، وبعثا جديدا لهذا التراث العريق ، ولئن كان الموسيقار يوسف الموصلى أول من استجاب لهذه الدعوة فانه يعتبر الحلقة الأولى والخطوة الأهم في مشوار هذا العمل والذي لن يكتمل إلا بتضافر الجهود الأخرى من شعراء وفنانين ومترجمين وباحثين في التراث النوبي وإعلاميين ، فهي دعوة توجه للمهتمين من أبناء منطقة دنقلا للمساهمة بأفكارهم وخبراتهم وعلمهم لإنجاح هذا المشروع الفني الكبير، ولا أخالهم إلا ملبين ومستجيبين لهذا النداء، والشكر أجزله للمهندس عمر بوب الذي أشعل جذوة هذه الفكرة وأضاف إليها من حماسه ومجهوده وقودا سيمكنها من الاشتعال حتى تضيء بوهجها كافة أبناء المنطقة والسودان. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل سيف الدين عيسى مختار [email protected]