|
العشـــــــــــــرة الأواخر
|
تجلسه أمه بالقرب منها وهي تصنع شاي الصباح ، يصله دفء النار ، ورائحة اللبن ( المقنن ) ، وتصب له أمه الشاي في كباية ( الشوب ) من وجه البراد ،، يشرب الشاي على عجل ، وكأن لسانه ولهاته مغّلفتين أو محميتين ضد حرارة الشاي . ثم يعقب ذلك بالتهام كسرة بائتة مبللة بملاح بائت تضعها أمه على نفس جمر الشاي لتسخن قليلا ،، ثم يشخص ببصره نحو أبيه الذي يشير إليه بأن يمد يده في جيب العراقي المعلق بمسمار تم تثبيته بإحكام على حائط الغرفة ، فيأخذ منه قرشين ، يسميهما ( حق ّ الفطور ) . ويسلك طه الطريق المتعرج حتى يصل إلى مدخل مدرسته ، ثم يدلف إلى الفصل ، ليضع حقيبته المصنوعة من قماش الدمورية داخل الدرج ، ثم يعود خارجا ليشارك أقرانه اللعب في فناء المدرسة .. يبذل كل جهده ليحافظ على القرشين داخل جيبه ، وأن تظل الجلابية نظيفة بقدر الإمكان . فسندويتشات الفول بالطماطم والبصل الأخضر في مطعم العم طمبل لا يمكن الحصول عليها إلا بهذين القرشين ، وطه لا يستطيع أن يقاوم رائحة السندويتشات دون أن يلتهم واحدا منها ، والأستاذ المشرف على طابور الصباح لا يرحم أصحاب الجلاليب المتسخة .. هاتان المسئوليتان كانتا تؤرقان طه كل صباح ، مسئولية الحفاظ على القرشين حتى يدفعهما للعم طمبل ، ويتناول سندويتش الفول مقابلهما ، ومسئولية الحفاظ على نظافة الجلابية حتى ينصرف الطابور . لكن الواجبات المدرسية والإنتباه للدروس ، واستذكارها لم يكن يشغل بال طه . والد طه – العم فضل المولى - وأمه – الخالة بخيتة – لم يتعلما حرفا واحدا في حياتهما ، وكان العم فضل المولى يعمل عاملا زراعيا بالأجر اليومي وحسب المواسم دون أن يمتلك أرضا زراعية خاصة به . فهو لم يرث مع أعمامه لأن والده توفي قبل أسبوع من وفاة الجد المورّث . كما أنه لم يتسلم حواشة من المشروع لأنه كان مسافرا في الصعيد في فترة تسجيل الحواشات ،، وقد حاولت بخيتة أن تنوب عنه وقابلت المدير الزراعي ، لكن شيخ القرية لم يساندها ، وفضّل أن تسجل الحواشة باسم أحد أحفاده بدلا عن تسجيلها باسم فضل المولى . لا أحد من أسرته يعلم في أي سنة دراسية كان يدرس طه ، فقط كانوا يعرفون أن طه مكث بالمدرسة خمس سنوات ،، لكنهم لا يعلمون أن طه ما يزال بالصف الثالث الابتدائي ،، والعم فضل المولى سعيد بابنه طه الذي لم يعد إليه من المدرسة يوما مظلوما أو شاكيا أو باكيا . لم يكن العم فضل المولى يعرف أن هناك اختبارات ونتائج يتم إعلانها إلا عندما يسمع من الجيران وسكان القرية حين يسأل الناس الأطفال : جيت الكم ؟ فيعيد نفس السؤال لابنه طه : ها زول ، قالوا امتحنوكم ، أها جيت الكم ؟ فيرد طه : طلعت في العشرة يابا .. يتبسم العم فضل المولى ، ويربت على رأس طه ، ويدعو له بالبركة .. فلم يكن العم فضل المولى يعلم أن هناك شهادة ، ولا أحد في البيت يمكن أن يقرأ شهادة طه ، أو يطّلع عليها حتى لو وجدها ملقاة في طريقه ، لكن طه كان أحرص ما يكون على شهادته ، كان يحرص عليها أكثر من حرصه على ( حق الفطور ) ونظافة جلابيته حتى انصراف الطابور . كان يلف شهادته داخل ورقة ، ثم يضعها داخل كتاب الدين ، وهو أكبر كتاب في حقيبة طه ، وطه يعتقد أن مجرد وضعها هنا يجعل بينها وبين عيون الآخرين سدّا ، ثم ينتظر طه فترة على هذا الحال ، حتى إذا نسي الناس الامتحانات وانقطع طاريها يخرج شهادته في الخفاء ويمزقها إربا إربا ، ويذهب بها إلى الطرف القصي من القرية ، ويرميها للرياح . لم يكن لطه عملا يؤديه غير ذهابه إلى المزارع القائمة في طرف القرية ليحضر علفا للمعزة الوحيدة التي تشاركهم بيتهم ، وتمنحهم الحليب في الصبح والمساء ، وكان يقضي بقية يومه بين اللعب داخل البيت أو مع أقرانه ، لكنه لم يكن مطلقا على استعداد لفتح حقيبته لاستذكار بعض دروسه . ولم يكن يأبه بأية عقوبات مدرسية يلاقيها في مقابل أخطائه وتقصيره في أداء واجباته المدرسية . في ديوان شيخ الحلة ، اجتمع الناس عصرذاك اليوم ليكرّموا الطلاب الأوائل . فاجتمع رجال القرية ونساءها وأطفالها ،، واندس طه بين أطفال القرية وانزوى حتى لا يشعر أحد بوجوده فيلتفت إليه أو يسأله عن نتيجته وترتيبه بين طلاب فصله . وقف مدير المدرسة والأساتذة صفا واحدا ، وإلى جوارهم الابن الأكبر لشيخ القرية لينوب عن والده المريض ، ونده المدير عشرة من الطلاب الأوائل في الفصل النهائي ، لكن لم يكن من بينهم اسم طه . تململ العم فضل المولى ، لكنه تريث ، وواصل المدير تسمية الطلاب الأوائل في كل الفصول ، وقدمت لهم الجوائز ،، ولم تذهب إحدى الجوائز لطه ، ولم يذكر المدير اسمه . وقف العم فضل المولى محتجا على تجاهل طه ، خاصة وأن طه قال له أنه من بين العشرة . لكن المدير وبقية المعلمين فوجئوا باحتجاج العم فضل المولى . ونادى المدير على طه ، فخرج إليه من مخبئه الذي اتخذه وسط أطفال القرية . وسأل المدير طه : كم كان ترتيبك يا طه ؟ تلعثم طه ، ثم أرسل ابتسامة طفولية تنم عن شفاوة ، وقال : أنا العاشر يا أستاذ . العاشر ؟ كيف ؟ آي ، أنا العاشر حق العشرة الأواخر . ضحك الجالسون وأعجبوا جميعا بشقاوة طه ، وعاد طه إلى جلسته وسط أطفال القرية وعلى محياه ابتسامة متسعة. أما العم فضل المولى فتقطب جبينه ، وندب حظه ، وخرج مسرعا إلى داره ، وفي الطريق اشترى دفترا وقلما ، ليعيناه على دروس محو الأمية .
|
|
|
|
|
|
|
|
|