التقرير السياسى العام المقدم للموتمر الخامس للحزب الشيوعى السودانى

Quote: انتهينا في المقال السابق إلى النظرية التخطيطية في الحقيقة configurative theory of truth كبديل لنظرية التطابق في الحقيقة correspondence theory of truth التي وسمت الماركسية بالدوغمائية، ورأينا فيها المعضلة الرئيسة في الماركسية. النظرية التخطيطية في الحقيقة تؤدي إلى نظرية في المعرفة تقوم على التعددية وتقبل الاختلاف، ولكنها، وفي إطار العقلانية التواصلية، لا تنتهي إلى نسبية مطلقة كما لا تستقر على حقيقة مطلقة. وإمعاناً في تعقيد موقفها وتركيبيته فهي لا ترفض الحقيقة المطلقة مطلقاً، فهناك معارف بسيطة تقوم على حقائق بسيطة، ولذلك تكون حقائق مطلقة، مثل إن المصباح الماثل أمامي الآن مضاء، فمثل هذه الحقيقة لا تقبل غير أن تكون إما صواب أو خطأ، موضوعية أو ذاتية، كلية أو نسبية، فإذا صحت كانت صائبة وموضوعية وكلية وإذا أخطأت كانت نقيض ذلك. ولكن، ومع الأسف، فإن غالب المعرفة الإنسانية ليست من هذا النوع البسيط، فهي معرفة غاية في التعقيد والتركيب. هذا الأمر فطنت له الفلسفة الحديثة (أي التي تنتمي لمشروع الحداثة) منذ بدايات تأسيسها مع ديكارت، إلاّ أنها بدلاً من الإقرار بهذا التعقيد والتركيب وقبوله ومن ثم محاولة التأسيس النظري له تبنت بشكل أو بآخر نظرية المعرفة الناتجة من نظرية التطابق في الحقيقة وتبنت الحقائق المطلقة وذهبت إلى أن تجعل من المعرفة البسيطة، وهي معرفة تتمتع باليقين والدقة والبداهة، نموذجاً للمعرفة، وجعلت من الوضوح والتميّز معياران يدلان عليها. وسعت لإضفاء طابعها على كل المعرفة، بحيث صارت الدقة والبداهة واليقين والوضوح والتميّز، وهو أمر لا يتوفر إلاّ في الحقائق البسيطة، غاية لمعظم التيارات الفلسفية الكبيرة، مثل الديكارتية والفينومينولوجيا والماركسية والوضعية المنطقية وغيرها من التيارات التي سادت فيما قبل نموذج فلسفة اللغة. ولكي تحقق غاية الدقة والبداهة واليقين والوضوح والتميّز احتالت (وهو التعبير الذي استخدمه ديكارت لوصف ما قام به) هذه التيارات بحيل شتى لتحويل المعقد والمركب إلى بسيط ومن ثم بديهي، بحيث يصبح أمر إدراكه شبيه بالحدس المباشر، وهو أمر توسلت إليه بالتحليل والتركيب مرة أخرى ومن ثم الإحصاء والمراجعة (كما ذهب ديكارت في تحديد قواعد منهجه) لكي نتأكد من أننا لم نفلت شيئاً ولكي يحول التكرار والإعادة إدراك المركب والمعقد إلى إدراك شبيه بالحدس المباشر. ومن الحيل التي تم استخدامها أيضاً حيل تحويل الخواص النوعية إلى مقادير كمية ومن ثم تحويلها إلى أعداد وحل الإشكال موضع البحث بابتداع صيغة رياضية وحسابية، وهو ما توافرت عليه العلوم الطبيعية ببراعة مشهودة، ولكن ثمنها كان باهظاً دفعه النوع الإنساني، بسيادة العقلانية الأداتية، سيطرة ومركزية وذكورية وإقصاء واستبعاد واستغلال وحروب واستعمار وبيروقراطية ونازية وفاشية وشمولية ورأسمالية...الخ. أما نظرية المعرفة التي تقوم على النظرية التخطيطية في الحقيقة في إطار من العقلانية التواصلية فهي وإن كانت لا تنكر الحقائق المطلقة إلاّ أنها ترى فيها معارف بسيطة لا تتكون منها غالب المعرفة الإنسانية. وهي بذلك تطرح تعدداً في الحقيقة ولكنها لا تصل أيضاً إلى النسبية المطلقة وإنما تجعل الحجج مناطاً للحقيقة، فالحقيقة تصير كذلك لأن هناك حججاً تقنع المنخرطين في الخطاب بصحتها. هذه الحجج ليست ثابتة ولا متعالية، بل تعتمد على سياقها التاريخي. ولذلك تتغير وبتغيرها تتغير الحقائق. وعلى هذا المنوال تطور العلم وتغير وانتقل من نظرية علمية إلى أخرى. إن العلم ينتقل من نظرية علمية إلى أخرى ليس بسبب اقترابه المستمر من الحقائق المطلقة، كما تدعي الماركسية، فهذه لا سبيل لإدراكها طالما أن الواقع لا ينعكس على الذهن الإنساني كانعكاس الصورة على المرآة، إذ لو كان الأمر كذلك لأدركنا الواقع بكل تعقيدات علاقاته بمجرد إبصاره أو إدراكه بأي من الحواس الخمس ولما احتجنا إلى التجريد وتكوين المفاهيم وصياغة القوانين، ولما احتجنا للغة نفسها لتخزين معارفنا أو حتى للتواصل لأننا نعرف كل شئ بما في ذلك الآخرين. ولا أحد يستطيع الزعم بأن الماركسية ينطبق عليها ما نستهجنه ولكن المشكلة تكمن في وضعها للمعرفة والحقيقة المطلقتين كأمر ممكن، ووضعت ذلك كشرط لنظرية المعرفة عندها، وهو ما يعرف بإمكان المعرفة. ولا أحد يدافع عن العقلانية يمكن أن يدعي غير ذلك، ولكن أية معرفة هي الممكنة؟ هل هي المعرفة بالحقائق المطلقة أم المعرفة بالحقائق الملتبسة بسياقها التاريخي وبالتذات intersubjectivity؟ إن الماركسية بادعائها إمكان المعرفة المطلقة تبقى سجينة الفلسفة الكانطية رغم أن الموقفان يبدوان متناقضان أو بالأحرى تبدو الماركسية مقلوب (تعبير مفضل لدى الماركسية في وصف علاقتها بالفلسفة المثالية) الكانطية، فالأخيرة تدعي أن الأشياء في ذاتها (أو بعبارة أخرى الحقائق المطلقة) لا يمكن معرفتها. ويبدو أن الماركسية وبسبب هذا القلب ظلت سجينة الفلسفة الكانطية كما هو شأنها مع الهيجلية. فالفلسفة الكانطية انتهت في نقدها للمعرفة الإنسانية إلى عقل خالص (نقد العقل الخالص عند كانط لم ينته إلى عقل ملتبس بالتاريخ وإنما إلى عقل خالص جديد، عقل ترانسندنتالي أو متعالي، سابق على التجربة) نستطيع تصوره كنظام تضفيه الذات على إدراكها الحسي فتحوله إلى موضوعات، بينما الماركسية في إقرارها بإمكان المعرفة المطلقة تتصورها كنظام أو بالأحرى عقل خالص مع فارق أن الواقع هو الذي يتمتع به، ومن ثم تقع على الذات مهمة إدراكه. الماركسية تظل سجينة الكانطية لأنها تتبنى عقلاً خالصاً، وإن كان الواقع هو الذي يتمتع به، بينما نظرية المعرفة التي نتبناها هنا تنشغل بالعقل الملتبس بالذات وبالسياق التاريخي، أي بالعقل غير الخالص. ولذلك يزداد تعقيد المعرفة وتركيبها في هذه النظرية فبالإضافة إلى التعدد في الحقائق التي لا يفصل بينها سوى الحجج مما ينتج عنه عقلانية تعددية، نجد أن هذا التعدد يزداد ويتراكب حين نضيف إليها تعدد العقلانيات طبقاً لموضوعاتها التي تتحدد بناءً على مزاعم الصحة التي يدعيها كل مجال، فمزاعم الصحة التي تدعيها العلوم الطبيعية هي زعم المطابقة مع العالم الموضوعي، بينما تلك التي تدعيها العلوم الإنسانية والاجتماعية هي زعم التواءم مع القيم، أما زعم العلوم الجمالية فهو التعبير المخلص عن الذات.

(عدل بواسطة طلعت الطيب on 04-08-2008, 04:40 PM)