الســــارة وموسيقي "الطرب"

Quote: بالتأكيد لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية ، وريصفاتها من دول المهجر بأكثر حظاً من حظها في زماننا هذا ؛ حيث وُلد ونشأ وترعرع بين جنباتها عدد مقدر من السودانيين والسودانيات نتيجة الوتيرة العالية لهجرة مواطنينا المبدعين إلى تلك البلاد وهم من الذين رفدوا تيار الثقافة في تلك المهاجر بمساهمات شديدة التنوع والرسوخ. ”الساره ” بنت من البنات اللائى تفتح وعيهن الإبداعي في المهجر ؛ لكن بوعي وقدرة على التأمل عادت ساره بروحها الذكية إلى أدراجها الوطنية ، طارحة مشروعها الفني بقوة وهدوء في سنوات الهجرة . عمر ساره لا يزيد عن الثلاثين ، لكنه عمر فتاة إختزن في ذاكرته ومخيلته تاريخ الحياة والصراع في السودان الكبير ؛ فبصوتها المنطلق وشجاعتها وإحساسها العميق بالتراث السوداني ، ساهمت البنت في ترجمة قضايا العنصرية ومناهضة العنف ضد المرأة بأشكال مختلفة عبر الكتابة والغناء والمشاركة المتسعة في مجموعة من الفعاليات المدنية في المسارح والجامعات والإحتفاليات بأمريكا .. فقبل أعوام ، سنحت لي الدنيا بمشاهدة سارة ضمن فرقة ” عرايس النيل ” في النمسا ، وشاهدت عبر العرض الذي قدمنه ، أنماطاً من الرقص والتعبير الجسدي على إيقاع مزازيك محلية ، الشيء الذي ربما لم يسمح لأبناء جيلي بمشاهدته بما فيه من حيوية وطلاقة وصدق .. كذلك طرحت ساره مجموعة من الأغنيات على مدى السنوات الماضية ، وصورت بعضها بطريقة فيها ملمس طاعم وإنزلاق أخاذ بين المشاهد التي يتجول فيها البصر بين وجهها ومراتع أمدرمانية وملامح لمناطق مختلفة من العالم على خلفية موسيقية وصوتية شديدة التمكن في الإيصال بإخراج وتصوير شبه عفوي ، وهندسة صوت متمكنة وشبه محترفة شاركها فيها مجموعة من أصدقائها الشباب من جنسيات مختلفة .. بالنسبة لي ، فإنني أنظر إلى سارة كتجسيد لعدة قيم إيجابية من ضمنها ، الشجاعة في التعبير بصدق عن قضايا وجودية ، بالإضافة إلى الرغبة الأصيلة في التجريب ، بجانب الموهبة الشديدة ، وقبل هذا وبعده ، القدرة على التوازن بين روح حضارتين ، والتجسير بينهما والخروج منهما بروابط إنسانية حقيقية تعين على الحياة .. كما أنني ، الآن ، حين أنظر لتجربة الساره محمد القاضي ، فإنني أتذكر مقولة الأستاذ حسين شريف بأن الغربة ليست غربة جسد أو مكان ، إنما الغربة مساحة داخل العقل ) ، ويبدو لي أن هذه الفتاة الفنانة قد نجحت في العبور إلى الضفة الأخرى بنجاح ، حيث عرفت بذهنها أن تجعل من هذا العالم المتسع ، مترامي الأطراف موطناً لها ، إذ تسير ساره ، الآن – بين مناكبه وناسه - مليئة بالفهم العميق لملمس الحياة وطعمها الملون الآخاذ.