سكة حديد

Quote: الوحش قطارات البخار كانت تجسيداً للقوة المحضة Brute Force، في حين كان قطار الديزل يبدو لنا ـ وما زال ـ وكأنه ينزلق بارتياح وانسياب ناعم على القضبان الحديدية: القاطرة البخارية كائن حي؛ تراها عياناً بياناً أمامك وهي "تتنفس" و"تشهق" و"تزفر" و"تلهث" و"تكد" و"تجهد" و"تتصبب" لتغز سيرها. كانت الانطلاقة غالباً ما تستهوينا كأطفال تمحورت حيواتهم حول محطات السكة حديد في الدامر وعطبرة وبربر. تبدأ قاطرة البخار مسيرتها بداية متعثرة .. تتفلت العجلات الحديدية الضخمة وتنزلق على القضبان اللزجة في دوران سريع متلاحق محدثة ضجيجاَ عالياً ثم ما تلبث وأن تعود لتحكم من قبضتها على القضبان. عمود الكرنك يُدفع ويَدفع العجلات أمام ناظريك بعناء ومشقة واضحين ثم تتزايد سرعته قليلاً قليلاً فتبدأ القاطرة التحرك بتثاقل ساحبة العربات من خلفها وتبتعد. . في إحدى الرحلات لبورتسودان كان السائق إبن عمتي ـ "الزين عبدالله" ـ ودعاني لمصاحبته لبعض الوقت في "قمرة القيادة"؛ ولك أن تتصور أثر تلك التجربة على طالب صغير بالمرحلة الوسطى كان مبتغى حلمه أن يصبح سائق قاطرة في مستقبل أيامه ـ أو بالعدم سائق لوري. كانت القاطرة البخارية من طراز NBL 4-8-2 وكانت تعرف "بالخمسمية" نسبة لسلسلة الأرقام المميزة لها .. اشتهرت كذلك بمسمى "زروق" بحكم أنه تم استيرادها حينما كان المرحوم مبارك زروق وزيراً للمواصلات كما أن لونها كان يميل للأزرق الداكن. تميزت "زروق" عن القاطرات البخارية الأخرى العاملة في ذلك الحين بحجمها الأضخم وبأربعة عجلات كبيرة ثم العديد من العجلات الصغيرة الأخرى على كل جانب منها، وكانت رمزاً للقوة والجبروت في وقتها، وعملت على خطي الخرطوم ـ عطبرة لكثافة وسرعة الحركة فيه ثم عطبرة ـ بورتسودان نظراً لمتطلباته القاسية: غادرت القاطرة الجبارة عطبرة مع مغيب الشمس ساحبة خلفها عربتي "الزوادة" ـ الفحم والمياه ـ الملحقتان بها، ثم صالون السائقين فعربات الركاب المتدرجة من النوم ـ بعرسانها الذاهبين لأركويت ـ فعربة البوفيه فالدرجات الأولى للرابعة وبعض من عربات البضائع ثم عربة الفرملة؛ لتنعطف مباشرة وتيمم شطر الشرق وتسارع موغلة عبر السهل الممتد من وراء عطبرة ثم تشرع لاحقاً مُصٌعِدة نحو جبال البحر الأحمر. في "قمرة القيادة" جلست أنا على مقعد في الخلف، ووسط الضوء المنبعث من المصباح الشاحب المهتز والوهج الذي يتخلل ثنايا غطاء الفرن بدا لي "الزين" والعطشجي المصاحب له كأبطال الأساطير وهما يقومان على أمر الوحش ـ يلقمان جوفه المضطرم ناراً بعلف الفحم المحمول على ظهره وهو يزداد شراهة وينادي بأن هل من مزيد .. بالمقابل كانا يطوعانه ويتحكمان فيه، يسحبان على مقابض ويدفعان بمخانق ليستحثانه المسير، والمارد الفولاذي يهدر ويرتج وينفث وينهب، ساحباً بقوته الجبارة رتل العربات المرصوصة خلفه ... "دمدمة" المحرك، "زمزمة" اللهب، أزيز المراجل، ثم "هسيس" تنفيس البخار؛ .. صرير الحلقات والسلاسل المعدنية الرابطة بين القاطرة وعربة الفحم والعربات المقطورة إلى الوراء وهي تصطدم وتصطك ببعضها .. صليل العجلات الحديدية في جدلها الأبدي الصاخب مع القضبان وطَرِقاتها الرتيبة فوق الفجوات "وطرقعاتها" المدوية على الجسور والقناطر الحديدية المقامة عبر الأودية والشعاب ... تآلفت لتمزق هدأة الصحراء ويطغى رجعها كالهزيم في ذلك الليل البهيم. رائحة الدخان والفحم والزيوت والبخار والعرق تغمر الحيز الضيق الذي تواجدنا عليه؛ .. انعكاس الضوء الكاشف المرمي أماماً على القضبان، ووميض أضواء "القمرة" المعتمة على "الفلنكات" وهي تمر مسرعة من تحت الفجوة الفاصلة بين القاطرة وعربة الفحم .. كلها تكاتفت لتعطي عبقاً وصورة لا تنسي للحظة المكان والزمان تلك. أسرتني التجربة تماماً ـ القوة الفجة والأصوات والروائح ـ فعدت للحاق بهما صباحاً والوحش يستجمع أنفاسه مستكيناً في "صَـمِتْ" بعد أن بلغ القمة وهما يعدان "كفتيرة" الشاي من مرجله، وبقيت معهما وهو يكر منحدراً من بين الجبال، ماراً بسنكات ثم "أستربة" ـ كجلمود صخر حطه السيل من علٍ، وهما يكبحان جماحه ـ عبثاً ـ ويلجمانه بين الفينة والأخرى "بقرصة" الفرامل وتنفيس "الباكم"؛ وقطعان السوائم من الإبل والأغنام تتقافز يمنة ويسرة جافلةً فزعاً من مسار المارد المنقض، ثم يستوي أخيراً على الشريط الفاصل بين الجبال والبحر معلناً عن وصوله بصافراته المتحشرجة المبحوحة. . الآن ... "زروق" في مقبرة الديناصورات بعطبرة: .

(عدل بواسطة عبدالمحمود محمد عبدالرحمن on 02-24-2008, 12:42 PM)