الديكتاتور محمد طاهـر آيـلا .. البحر الاحمر .. المعاناة والقبضة الحديــدية

Quote: ماذا يدور في البحر الأحمر؟(الحلقة الأولى) عثمان ميرغني * لفتت نظري كثرة الشوارع المسفلتة والمُنارة والمرصوفة من الجانبين في معظم أحياء بورتسودان.. (من أين لكم هذه الأموال؟؟).. سألت الوالي في مقابلتي الأولى له. * قابلته في مدينة سواكن.. قال لي.. لماذا لا تزور ولاية كسلا وتسأل أين تذهب أموال الدعم المركزي الذي يبلغ ضعف ما تحصل عيه البحر الأحمر؟. في مطار الخرطوم.. صالة السفريات الداخلية.. ضج المسافرون بالشكوى والتأوه بعد أن مر الموعد (الثاني) الذي حدد لإقلاع طائرة خطوط (نوفا).. ولم تبدأ ترتيبات الدخول.. كما لم يظهر مندوبوها لطمأنة المسافرين.. الذين كانوا في شك من تكرار ما حدث في رحلة الأمس التي قيل إنها غادرت بعد أكثر من ثماني ساعات من التأخير. لكن الطائرة أقلعت بعد تأخير لم يزد عن ساعتين.. قلت مازحا لبعض المسافرين.. "أحمدوا الله.. أن أصبحت ساعتين.. تعني تأخيرا.." ففي الماضي تعود المسافرون في خطوطنا الوطنية تأخيرا قد يصبح أياما.. (ومن غير ليه) بدون أي اعتذار. من سلم الطائرة!! في مطار بورتسودان.. أول ما لفت نظري وبأعجل ما تيسر.. لفحة الطقس العليل.. وكأني خرجت من جغرافية السودان.. سماء محجوبة بالغيوم المبشرة بالمطر.. وصفاء.. على بعد خطوتين من سلم الطائرة.. كان ينتظرني المهندس محمد عبد الكريم أوشي.. من وزارة التخطيط العمراني.. والأستاذ خالد سعداني من وزارة السياحة.. ولاية البحر الأحمر تنفرد بوزارة للسياحة. أسلوب عملي (جدا).. يعجبني وأرتاح له.. بادرني به المهندس (أوشي) بعد أقل من دقيقة من المصافحة والتعريف.. بدأ يسرد وقائع ما يجري في ولاية البحر الأحمر.. معشر المهندسين دائما ليس لديهم وقت للمقدمات.. ومن هنا بدأنا.. من على بعد ثلاثة أمتار فقط من سلم الطائرة. لن أضيع وقتكم في أرقام المهندس (أوشي).. 234 كيلومترا من الطرق المسفلتة.. (17) مدرسة ثانوية بأفضل معمار.. (50) مدرسة أساس حديثة (يسمونها في الخرطوم نموذجية).. (35) من المستوطنات السكنية الجديدة.. منطقة صناعية على مساحة (4) كيلومترات مربعة.. (5) مستشفيات على أحدث طراز.. كرانيش (جمع كورنيش) تمتد في شواطيء البحر الأحمر.. لا تتعبوا أنفسكم بقراءة الأرقام.. الأرقام ليست مهمة.. المهم منسوب هذه الأرقام في عمق إنسان البحر الأحمر.. "نحن في كل مكان.. ليست بورتسودان وحدها.. التنمية وزعناها بالتساوي على سنكات وطوكر وسواكن و هيا". هذا ما قاله المهنس أوشي، ويكاد يكون بالحرف سمعته أيضا من السيد محمد الطاهر إيلا والي ولاية البحر الأحمر. "حتى في المدينة.. نعمل في الأطراف قبل القلب.. نشق الطرق في ديم عرب قبل وسط المدينة".. "نفس شارع الأسفلت.. بأعمدة الإنارة.. بالرصيف الإسمنتي المعبد.. في وسط المدينة.. وفي أطرافها.. وفي عاصمة الولاية.. وأطرافها.. على ذات المستوى".. حديث متفق عليه سمعته من جميع المسؤولين.. من أين لكم هذا؟؟ نكتة رواها لي أحد المواطنين.. قال " ألف رجل كتابا سماه (الطريق الى الجنة).. فنصحه الآخرون أن لا يراه الوالي.. فيأمر بـ(سفلتته)".. صحيح.. لفتت نظري كثرة الشوارع المسفلتة والمنارة والمرصوفة من الجانبين في معظم أحياء بورتسودان.. "من أين لكم هذه الأموال؟؟".. سألت الوالي في مقابلتي الأولى له.. كررت السؤال على السيد محمد الطاهر حسين.. نائب رئيس المجلس التشريعي.. دعني أبدأ بإجابة الأخير.. قال لي بالحرف "ترشيد الصرف.. وترتيب الأولويات". الوالي قال لي "ترشيد الصرف.. ترشيد الصرف.. ترشيد الصرف". في ميزانية العام الماضي بلغت –حسب الوالي– نسبة الصرف على التنمية (60%).. في موازنة العام الحالي 2008م رصد للتنمية (80%).. بصراحة، النسبة كبيرة للغاية.. أراد محمد الطاهر حسين تقريب الصورة فقال لي.. "في ولاية مجاورة بلغت ميزانية التنمية (10%).. فقط لا غير".. ميزانيات بعض الولايات الأخرى تبتلعها بالكامل المرتبات والمخصصات والحوافز والنثريات.. ويبقى للمواطن شرف (ويجوز استبدال الشين بالقاف) المواطنة المجردة من الحقوق.. ولاية البحر الأحمر تحصل من مفوضية (تخصيص ومراقبة الإيرادات القومية) على حوالى (4) مليارات جنيه شهريا (العملة السارية –صحفياً- حتى الآن هي الجنيه القديم.. لتقريب الأرقام من ذهن القاريء).. في أسفل جدول الدعم المركزي للولايات.. بينما تحصل ولاية كسلا المجاورة على (9) مليارات جنيه شهريا.. أكثر من ضعف ما تحصل عليه البحر الأحمر. سيد محمد محمد الأمين ترك، ناظر الهدندوة، المقيم في مدينة كسلا.. قابلته في مدينة سواكن.. قال لي.. "لماذا لا تزور ولاية كسلا وتسأل أين تذهب أموال الدعم المركزي الذي يبلغ ضعف ما تحصل عيه البحر الأحمر؟". (ثغر).. أم (ثغرة)؟!! سأرجع لأراجع معكم أموال ولاية البحر الأحمر.. لكن دعوني أتيقن من أنكم تدركون المعني الجغرافي لهذه الولاية.. مساحتها حوالى (219) ألف كيلو مترا مربعا.. حوالى (10%) من مساحة السودان.. سكانها تقريباً (740) ألف نسمة.. أكثر من نصفهم (حوالى 450 ألف) في مدينة بورتسودان وحدها.. فيها عدة مدن بجانب بورتسودان (سواكن.. سكنات.. طوكر.. هيا.. جبيت.. درديب).. وطبعا مثلث حلايب المتنازع عليه.. السكان الأصليون هم قبائل البجا.. عزة النفس والارتباط القوي بالقبيلة أهم سماتهم.. ويتوزع البجا في نظارات الأمرأر – الهدندوة –البشاريون- الحباب – البني عامر.. تشاركهم في المنطقة قبيلة الرشايدة المعروفة. وطبعا.. السمة الأولى في جغرافية الولاية.. ساحل طوله (740) كيلومترا.. تحده اريتريا جنوبا.. ومصر (يا أخت بلادي) شمالا.. في الماضي كانت مدينة بورتسودان تسمى (الثغر).. ابتسامة السودان التي تقابل العالم.. لكن لما (افتر ثغر الربا عن عاطر سكبا..) تغير الزمان.. وصارت بورتسودان (ثغرة) السودان.. مدينة الظلام والعطش.. وضربة الشمس.. والمرض.. وتقلصت.. الى ميناء.. نصفه في (سوبا).. وبدا كما لو ان (بورتسودان تحتضر) على وزن قصيدة د.محمد الواثق الشهيرة.. فهجرها أهلوها الى الخرطوم وبقية المدن.. هجرة حضر الى الحضر.. هجرة الأغنياء القادرين قبل الفقراء المعوزين.. بعد ان جفت الخدمات.. وتيبس الحال. كهرباء تكاد لا تبين.. مقطوعة في أغلب الأحوال.. ماء يكتسب من خور (أربعات).. بأقل ما تيسر.. ذباب وبيئة تفتقر لأدنى مقومات العيش الكريم. وتوالى الولاة.. المتعافي في شبابه.. أبو علي المجذوب.. حاتم الوسيلة السماني.. وأخيرا محمد الطاهر إيلا، منذ العام 2005.. من الهدندوة.. وكلمة (إيلا) تعني (الأبيض) حسب ما شرح لي سائق السيارة (محجوب) الهدندوي أيضا.. وأبيض لا يقصد بها اللون المنظور بل المعنى المجازي. (حكومة شوارع).. أم (حكومة الشارع)؟! أي حديث عن تنمية لا يحس بطمعها الإنسان.. يعني (تعليب الإنسان) و(سفلتة وجدانه) في مبانٍ تخنق المعاني.. لكن اذا كان هدف التنمية الإنسان اولا وعاشرا وأخيرا.. فإن أي قرش يرن يصنع أملا.. الفرق شعرة واحدة بين (حكومة شوارع).. تبني الشوارع فوق أطلال مواطنيها.. و(حكومة شارع) تستلهم القرار والهدف من (الشارع).. من الإنسان لصالحه اولا وأخيرا.. منهج التفكير (التنموي) الذي يفترض أن تراصّ الطوب يصنع وطنا متراصّ الوجدان.. ينبت دائما أوطانا بلا إنسان.. انظر حولك في جوارنا الأفريقي جنوبا.. دول تحتفي فيها عواصم بسمعة عالمية تزدهي بالأعمال والزوار الأجانب.. مترفة بالمباني الراقية.. وفي القاع الحضيض إنسان منزوع القيم.. يسرق ويخطف في وضح النهار.. ويبيع ذاته بأبخس الأثمان.. بشر لم يبق لهم من أسمال إنسانيتهم إلا صورة البشر. التعليم مقابل الغذاء!! قبائل البجا.. صاحبة (شهادة البحث) في تلك البقعة.. تمتهن في الغالب (الرعي).. وتتفرق في السهول والجبال.. في مساحات متباعدة بمجموعات صغيرة.. يصعب تقديم الخدمات الأساسية اليها.. فصار الفاقد التعليمي عالياً.. مما يضعف القدرة على المنافسة مع الآخرين. حكومة ولاية البحر الأحمر ابتكرت نظاما أطلقت عليه (التعليم مقابل الغذاء).. الأسرة التي تأخذ ابنها أو بنتها الى المدرسة تتلقى (كوتة) شهرية من الغذاءات.. في مرحلة الأساس.. اما في المرحلة الثانوية.. فكل طالب يتلقى عونا شهريا قدره (40) الف جنيه.. الدولة –هنا- تدفع للطالب.. لا الطالب الذي يدفع للدولة كما هو الواقع في أنحاء السودان الأخرى.. النتيجة كانت تدفقا كبيرا على المدارس.. ارتفع عدد طلاب في مرحلتي الأساس والثانوي المستفيدين من هذا النظام الى حوالى (42) ألف طالب وطالبة.. لا يمكن حساب عائدهم الا بحساب المستقبل الذي سيبزغ من بين ثنايا عقولهم حينما تنضج بالعلم وتعود لمجتمعهم في البحر الأحمر. إحدى حسنات هذا المشروع أن أثره يمتد الى أسر هؤلاء الطلاب.. فاستفاد منه بطريق غير مباشر (209) ألف فرد.. نرجع لموضوع المال.. من أين لك هذا؟؟ أرجع مرة أخرى لموضوع المال.. وإفادة محمد الطاهر إيلا، والي الولاية، ومحمد الطاهر حسين، نائب رئيس المجلس التشريعي.. "لا أدري علاقة البجا باسم الطاهر.. فهو شائع بدرجة كاسحة.. وبالتحديد متلازمة (محمد الطاهر)". الرجلان اشتركا في الإشارة الى (ترشيد الصرف)، سألت الوالى ما هو الصرف الذي ترشد؟؟ رد قائلا.. "في الفصل الأول.. أوقفنا نظام المشاهرة.. وألغينا نظام العمالة المؤقتة وجمدنا الوظائف الشاغرة". "أما في الفصل الثاني.. وهنا التحدي.. فتم إلغاء ميزانيات الدفاع الشعبي والخدمة الوطنية والشرطة الشعبية والطلاب الوافدين والاتحاد العام لطلاب البحر الأحمر وصندوق رعاية الطلاب.. وأوقفنا الصرف على الحوافز.. وخفضنا التسيير بنسبة (35%) باستثناء الصحة". لكن الأهم من كل ذلك التخلص من العربات الحكومية. يقول الوالي "كانت العربة الواحدة تكلفنا حوالى مليون جنيه شهريا لتشغيلها بما في ذلك أجر السائق.. العائد من توفير الإنفاق عليها يعادل حوالى (4) مليارات جنيه شهريا".. المبلغ يساوى ما تحصل عليه ولاية البحر الأحمر من الدعم المركزي..!! ــ "ألم يخلق هذا الترشيد حالة عداء مع الذين كانوا مستفيدين من هذه البنود؟؟"، سألت الوالي.. ــ أجاب "طبعاً.. لكن لا مناص".. وما زال السؤال قائما: من أين لحكومة الولاية بالمال الذي يتدفق في الشوارع المسفلتة والإنارة والأرصفة و(الكرانيش)؟؟. في الحلقة القادمة (الثانية) * هل تحتاج الحكومة قبل الآليات التي تفتح مسارات التنمية.. إلى بنادق تفتح رؤوس المواطنين لتعمل الآليات؟؟