|
ياسر عرمان وتسنامي العودة
|
ياسر عرمان وتسنامي العودة بقلم محمد المعتصم حاكم
بغير أنه يعتبر واحدا من قوي التغيير المدني الذين سيذكرهم التاريخ، فإن الصديق ياسر عرمان شخصية جدلية في أروقة السياسة السودانية.. إن كان متحدثا أو صامتا، غائبا مسافرا أو حاضرا موجوداً في أرض الوطن، فالرجل في داخله شخصيات متعددة المواهب ولا تخلو سماتها من الذكاء والفطنة والبساطة والمرح، بجانب ذلك فهو إنسان ظل في تفاعل مستمر مع واقع السياسة بتأنٍ وكياسة، وهو من بعد الأبعد عن الانفعال وردود الأفعال المتعجلة حتى في المسائل التي قد تمسه شخصيا. عرفت عرمان منذ سنوات طوال منذ مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا عام 1995م، حينما التقينا لاول مرة، ورتب لنا ذلك اللقاء الرائع مع الراحل المقيم الدكتور جون قرنق بصفتنا مجموعة صحافيين وإعلاميين منتمين للتجمع الوطني الديمقراطي، لقد كان لقاء مطولا بالامتاع، واستطعنا عبره أن نقترب من تلك الشخصية الفذة لاول مرة. وظلت الصلة بعرمان مستمرة عبر مهمتنا المشتركة في كتابة قرارات وتوصيات اجتماعات التجمع الوطني، حيث نتراوح ما بين أسمرا والقاهرة وكمبالا قرابة العشر سنوات. وللحقيقة، كان عرمان أول وجه أشاهده حينما حطت بي الطائرة الأثيوبية في أرض الوطن بعد غياب دام ستة عشر عاما، حيث كان في استقبالي مع الصديق عبد الرحمن سعيد، وهذا دليل قوى على الوفاء للصلة النضالية التي ربطتني بالصديق عرمان. منذ شهور مضت وصل عرمان إلى الولايات المتحدة الاميركية في مهمة سياسية، موكلا من قبل قيادة الحركة الشعبية بالسودان. ويوم أن حطت به الطائرة في المطار الاميركي، انطلقت الخرطوم ضده في محاولة متعمدة لايقاف مسيرته السياسية، واغتيال تلك الشخصية ذات المواهب المتعددة والمثيرة للجدل. فالرجل قد صال وجال داخل السودان، وإستطاع أن يشكل رأيا عاما داخل المجلس الوطني «البرلمان» ما جعل بعضا من خصوم الحركة الشعبية مؤيدين لها في كثير من القرارات المطروحة للاقتراع داخل المجلس، كما أن «الشريك» في الحكم ظل في حالة انزعاج وارتباك لنشاطات قطاع الشمال في الحركة الشعبية الذي يقوده عرمان بنفسه في كافة أقاليم السودان، حيث استطاع أن يستقطب حتى رجالات الطرق الصوفية للحركة الشعبية ومشروع السودان الجديد. وكان رد عرمان تجاه تلك الحملة الشرسة التي استهدفت شخصه، هو الرد عمليا بمنأى عن البيانات والتصريحات الصحافية والاحاديث الاذاعية. وبالرغم من أنه قادر ومتمكن من فعل ذلك، إلا أنه آثر الرد بالعمل، حيث قام بجولات إقليمية خاطب فيها السودانيين في معظم الولايات المتحدة الاميركية، مبشرا بالسودان الجديد أيضا، والتحول الديمقراطي، كما خاطب تجمعات السودانيين بواشنطن لثلاث مرات، وتخللت ذلك لقاءات اجتماعية في الكونغرس والخارجية الاميركية، وتمحور الحديث فيها حول نيفاشا وملف دارفور والعقبات التي تواجه التحول الديمقراطي ومساحات الحرية في النشر. والواقع أنه بعد أن تدافعت خطوات الحملة الإعلامية تجاه عرمان، انتقلت المؤامرة إلى أروقة المجلس الوطني، حيث تم عزله من العضوية ورئاسة اللجنة الاعلامية بالمجلس، عبر مسرحية كوميدية ذات فصل واحد، تجاوزت كافة القوانين واللوائح وحتى الدستور، لتصبح مهزلة لم تجد لها نصيرا سوى اصحاب المخطط والنوايا المبيتة. وفجأة هبت رياح العودة العرمانية للخرطوم، بعد ان انجز الرجل المهام الموكلة اليه في الولايات المتحدة الاميركية بحنكة واقتدار. ومن بين تلك المهام الرسمية اضاف الينا «عرمان السياسي» ما كنا نجهله تماما عن «عرمان الكاتب» حيث أتحفنا بمقال في الذكرى الثانية عن رحيل القائد الدكتور جون قرنق، وطاف بنا عبر شخصيته الفذة، ولم يتوانَ عرمان من الاشارة إلى صراع الحضارات، وعلاقة ذاك بواقع الأزمة السودانية منذ مؤتمر الخريجين وحتى اليوم. وتناول التشابه لحالات في التاريخ عبر قيادات ورموز سطعت في سماء الاحداث، مثل المهاتما غاندي محرر الهند من العبودية والاستعمار، وموحد المسلمين والهندوس في نسيج اجتماعي متناسق، مناهضا للتفرقة الدينية والإثنية. ولقد أدهشنا عرمان بصمود البروفيسور أنتا ديوب «العالم السنغالي العصامي» الذي نقب في أصول وجذور الانسان الافريقي، ولم يكن القس مارتن لوثر كنج على مبعدة عن مخيلة الكاتب عرمان، وذلك لدوره المميز في الدفاع عن الحقوق المدنية للسود بالولايات المتحدة، بجانب مالكوم أكس الملهم والمفكر الذي اتخذ من إسلامه وسيلة لمناهضة الفصل العنصري الذي استهدف السود. وفي مدينة جورج تاون شخَّص لنا عرمان نشأة المفكر والفيلسوف والتر رودني نصير المهمشين والمضطهدين في العالم، خاصة القارة السوداء، وعلى وجه الخصوص تنزانيا التي قضى فيها رودني سنوات من عمره. ولم ينسَ صديقي عرمان عبر ذلك السرد التاريخي الجميل، عشقه لمغني البيتلز جون لينون باعتباره ناشطا في مناهضة التفرقة العنصرية والثقافية بين الشعوب، وحقا فقد أمتعنا عرمان بمقاله الرائع وندواته الشيقة، ولا زلنا في انتظار المزيد. عموما، عرمان في طريقه إلى الخرطوم ليلعب دوره السياسي المناط به. وقناعتي أنه أينما حل فإنه سيضيف لموقعه الكثير والكثير. ولكن الموقع في حد ذاته لن يضيف لعرمان شيئا، فهو كما ذكرت رجل متعدد المواهب ومخلص ومتفانٍ في عمله، وصانع استراتيجي للاحداث، ورقم صعب في معادلات السياسة السودانية.
نقلا عن الصحافة عدد الثلاثاء28 اغسطس 2007
|
|
|
|
|
|
|
|
|