د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-السبت

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-10-2024, 02:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-01-2007, 04:08 AM

عبدالعزيز حسن على

تاريخ التسجيل: 05-02-2005
مجموع المشاركات: 1078

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: Kostawi)

    Quote: يا جماعة مافي زول عندو المقالات (4) للدكتور

    عن:

    أخواننا في اليسار




    يا كستاوي أعتقد ان صديقناعلي عمر علي ركز على المقالات التى لها علاقة بموضوع الندوة وهو تجربة الحركة الاسلامية لكن ولا يهمك يا خردة طلباتك أوامر هاك المقالات عن أخواننا في اليسار يالمناسبة ما عندك مقالات أخواننا الصغار لتجانى يرضه


    إخواننا فى اليسار** والثورة الاجتماعية الشاملة (1/4)
    د التجاني عبدالقادر

    الشروع فى إعادة قراءة تجاربنا السياسية بغرض الخروج من حالة الإنهيار وانسداد الآفاق التى يمر بها الوطن لا ينبغي أن يتوقف عند تجربة الإسلاميين وحدها، وإنما ينبغي أن يمتد إلى المجموعات السياسية الأخرى؛ ليس على سبيل المكايدة الحمقاء، أو التراشق بالاتهامات، ولكن على سبيل إسقاط ?الأقنعة? عن هذه التجارب، وفتحها لحوار عقلي مستنير يدفع في اتجاه المواطنة الرشيدة والتعايش السلمي بين أبناء الوطن، باعتبار أن التجارب السياسية، سواء فى ذلك تجارب الإسلاميين واليساريين، لا تسقط فجأة من السحاب، وإنما هي بنات ?رؤى? يمسك بعضها برقاب بعض، وقد تولدت جميعها في إطار حراك إجتماعي/سياسي مشترك، وتحديات موضوعية متشابهة.ولذلك فنود فى هذه المقالات أن ?نفصح? عن رؤيتنا لتجربة التيار اليساري، وأن نكشف عن ?فهمنا? لما نعتبره خطوطا عريضة فى رؤيته لأصول الإشكالية السياسية في السودان وسبل الخروج منها. ونحسب أن هذه الطريقة ستكون مفيدة من ناحيتين: الأولى أنها تمكن الكاتب ?والقارئ? من النظر فى تجربته وفحصها من خلال التأمل فى تقاطعاتها وتداخلاتها مع رؤى وتجارب الآخرين، أما الفائدة الثانية فهي إفساح المجال للآخر ليتعرف على ?قراءتنا? له، فيهرع للإفصاح عن رؤيته الخاصة بغرض تصويب ما يعتقده خطأ من جانبنا، فتتوفر المعلومات، وتتراكم التجارب، ويتعمق الوعي. هذا، وقد لا نجد حدثا تأسيسيا تشكلت فى ضوئه تجارب الإسلاميين واليساريين معا أبلغ أثرا من ثورة 21 أكتوبر 1964، اذ كانت تلك المرة الأولى التي يقف فيها المثقفون اليساريون والإسلاميون موقفا متقاربا ليحركوا قطاعات واسعة من الجمهور في ثورة شعبية عارمة ضد النخبة العسكرية الحاكمة التي أنهكتها حرب الجنوب الأولى.وأقول أن ثورة أكتوبر تعتبر حدثاً تأسيسياً، ليس فقط لأنها حركت الشباب والمرأة ودفعتهم للمشاركة في الحياة السياسية، وإنماً لأنها علاوة على ذلك قد فتحت عيون بعض المثقفين إلي حقائق جديدة في الحياة السياسية، وجعلتهم يدركون الفرق الهائل بين ?الثورة السياسية? العابرة والثورة ?الاجتماعية? الأكثر عمقا، إذ أن الثورة السياسية تطيح بالقيادات العسكرية من قمة هرم الدولة ولكنها لا تمسّ الأبنية الثقافية والاجتماعية التحتية الراسخة التي يمكن أن يتولد عنها النمط القيادي نفسه الذي أسقطته الثورة. أدرك الإسلاميون واليساريون هذه الحقيقة، وصار كل منهم يمد عينيه الى المؤسسة العسكرية، ويحدث نفسه ?بالانقلاب?، إلا أن اليساريين كانوا أسرع خطوا فى ذلك الإتجاه بعدما تأكد لهم أن إزاحة حكومة الفريق عبود أو استبدالها بحكومة انتقالية تمهد الطريق لحكومة السيدين ?المهدي والميرغني? لا تمثل ?ثورة? طالما أن النظام السياسي والنخبة الحاكمة فيه ما يزالان على ما كانا عليه. وحينما تضامن المثقفون الإسلاميون مع حكومة السيدين لمحاصرة الحزب الشيوعي، وطرد نوابه من البرلمان بعد أربعة أعوام من الثورة الديموقراطية التي شارك فيها الشيوعيون، تأكد للمثقفين اليساريين مرة ثانية أن مشكلتهم، أو قل تصورهم للمشكلة الوطنية، لا تنحصر في الحكومة أو النظام السياسي، وإنما تتعدى ذلك لتتصل بالنظام ?الاجتماعي? السوداني التقليدي الذي ترتكز عليه طائفتا الختمية والأنصار ومن خلفهم تنظيمات الإسلاميين الجدد؛ وهو النظام الذي يرتكز بدوره على معتقدات دينية وموروثات ثقافية تصطدم، في المحصلة النهائية، مع منظومة المفاهيم الماركسية، ومع بعض مفاهيم الحداثة التي يؤمن بها العلمانيون جميعاً ليبراليوهم وماركسيوهم. وقد عبر عن هذه "الأزمة الثورية" لاحقا 1971عبد الخالق محجوب السكرتير السابق للحزب الشيوعى السودانى بقوله أن ?التناقض الإستراتيجي الأساسي لثورتنا الوطنية هو الإستعمار الحديث والحلف البرجوازي شبه الإقطاعي فى الداخل?، ?حول البرنامج،2002، ص10 ولعل المقصود بالحلف البرجوازى شبه الإقطاعى هو القيادات التقليدية لطائفتى الأنصار والختمية ومن يرتبط بهما من شريحة التجار ورجال الأعمال، والتى يشير اليها فى مكان آخر من الوثيقة ذاتها بالطبقات الإجتماعية المستغلة، ويدعو الى تصفيتها، ص14 وكان الخيار بين يدي هذه ?الأزمة الثورية? يقع بين تعديل النظرية الماركسية لتتلاءم مع هذا المكون الثقافي المحلى، أو القيام بتحطيم هذا المكون ليفسح المجال للتطور الإشتراكي المأمول. ولكن، وكيفما كان الأمر فقد عثر اليسار الماركسي على ?التناقض الرئيسي? الذي كان يبحث عنه، فأخذ ينشط في إعداد استراتيجية جديدة منذ أواخر الستينات تمثلت في تكوين جبهة تقدمية عريضة تضم السياسيين والمثقفين والعمال ثم تلوذ بالخلايا اليسارية في المؤسسة العسكرية لتطيح بحكومة السيدين في انقلاب عسكري مايو 1969 أطلق عليه ?ثورة? مايو. وقد قصد ?بالثورة? هذه المرة أن تكون أعمق أثراً من ثورة أكتوبر السابقة، أي أن لا تكتفي بإزاحة الحكومة وإنما تذهب إلي إزاحة النّخبة الحاكمة بأكملها من كافة الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحركة مايو وإن بدت انقلابا عسكرياً محدوداً إلا انه قد قصد بها أن تشعل ثورة سياسية، تقود بدورها لثورة اجتماعية شاملة، وهذه الأخيرة تعني في الأدبيات الماركسية عملية تحطيم متعمد للطبقة الحاكمة بأكملها، وتفكيك ارتباطاتها بالأبنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمدها بالحياة. ولقد تم في ضوء هذه الرؤية الثورية الجديدة وضع وتنفيذ ثلاث سياسات كادت في المحصلة النهائية أن تصل بالبلاد إلي مرحلة الثورة الاجتماعية الشاملة التي ترجاها المثقفون اليساريون وتلك السياسات هي: 1 سياسة تصفية الإدارة الأهلية في السودان 2 سياسة تأميم ومصادرة أموال وشركات القطاع الخاص 3 سياسة التصفية العسكرية والسياسية لجماعة الأنصار وحلفائهم ?الإخوان المسلمين? باعتبار أنها تشكل ?عبئا? على حركة التطور الوطني الديموقراطي. فهذه السياسات والإجراءات لم تكن بالضرورة قد نوقشت وأجيزت في داخل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ولكنها قد تمت تحت بصره وسمعه، وفى إبان مشاركته وتأييده للنظام المايوي، وفى إطار المناخ الفكرى العام الذى شارك مع الفصائل اليسارية الأخرى ?الناصريين والبعثيين? فى صناعته والترويج له منذ أواسط الستينيات، ولم تفعل البرجوازية الصغيرة ?مجموعة النميرى? غير تطبيقة بحزم وشدة.غير أن ما يهمنا هنا هو أن هذه السياسات والإجراءات ?الراديكالية? يمكن نظمها جميعاً في خط إستراتيجي واحد: تحطيم وتصفية النخب ?الحضرية والريفية? التي كان يرتكز عليها النظام الاجتماعي التقليدي في السودان، بحسبان أنه إذا حطمت هذه الّنخب إقتصادياً ?كما هدفت قرارات التأميم والمصادرة?، ثم حطمت نفسياً وأدبياً ?كما هدفت سياسات تصفية الإدارة الأهلية?، ثم حطمت سياسياً وعسكرياً ?كما وقع في الجزيرة أبا وودنوبادي? فإن ذلك التحطيم سيؤدي بصورة طبيعية الي إنهيار النظام الاجتماعي القديم ?والذى يشار اليه فى أدبيات الشيوعيين السودانيين بعبارة:الطبقات البرجوازية شبه الإقطاعية?، والي فتح المجال لتنظيمات إجتماعية حديثة تتولى السلطة فيها قيادات حديثة، فتقوم تلك القيادات والتنظيمات الجديدة، ومن خلفها الدولة، ?بإختراق? البنية الإجتماعية التقليدية، وإعادة تشكيلها في أطر إقتصادية جديدة، بحيث تتكامل الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما وقع في روسيا والصين وبعض دول أوربا الشرقية واللاتينية فى القرن الماضى. وهذه بالطبع رؤية في التغيير الاجتماعي يلتقي فيه دعاة الحداثة مع الماركسيين، إذ يعتقد كلاهما أن تبديل بنية السلطة في المجتمعات الإسلامية التقليدية هي الخطوة الأساسية الأولى في طريق التنمية والتطور الديموقراطى. غير أن التطورات السياسية اللاحقة أثبتت أن النخب التقليدية فى السودان لا يمكن أماتتها أو إزاحتها بضربة واحدة مهما بلغت من العنف، وذلك لأن الجاه والمكانة اللتين تتمتع بهما لا ينبعان فقط من القوة الاقتصادية أو مؤسسة الدولة، ولكنهما يتجذران في النسيج الاجتماعي وفي المكون الثقافي الذي يسنده. وهذا يعني، ضمن أشياء أخرى- أن النخب التقليدية ?سواء في القرى أو في المدن? تستطيع أن تمتص الضربات السياسية من خلال الالتفاف حول التنظيمات والقيادات الجديدة المصنوعة، وأن تطوقها شيئاً فشيئاً لتنفذ من خلالها إلى مواقع القوة، ومن ثم لإستعادة مواقعها الاقتصادية والسياسية، وإعادة تعزيز مكانتها الاجتماعية السابقة. أي أنه بدلاً من أن تقوم تنظيمات الحداثة بإختراق المجتمع التقليدي وإعادة تشكيله، فان النخب التقليدية هى التى ستقوم بمحاصرة تنظيمات الحداثة وإجبارها على التراجع، وإعادة التاقلم مع التكوينات الاجتماعية التقليدية. تتبدى هذه الحالة في أظهر صورها في التراجع الكبير الذي قام به الرئيس النميرى فيما عرف ?بالمصالحة الوطنية? في عام 1977م، حيث أبرم إتفاقية مع القيادات الحزبية التقليدية ?الأمة والاتحادي والإخوان المسلمين?، ثم قادته تلك الاتفاقية بدورها الى محاولات تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية التي أراد من خلالها أن يسحب بساط السيادة الدينية من تحت أقدام النخبة التقليدية فيجردها بذلك من أهم مصادر مشروعيتها، فانتهى به الأمر لاجئاً سياسياً خارج الوطن، بينما استطاعت النخب التقليدية أن تستعيد مواقعها، وتشكل ?حكومتها?، كأن شيئاً لم يكن طيلة عقد ونصف من ?ثورة? مايو. إن رصد هذه الظاهرة وإدراك مغزاها هو الذي جعل بعض المثقفين اليساريين وحلفاءهم من الأكاديميين الحداثيين يقومون مرة أخرى بإجراء تعديلات جوهرية على رؤية اليسار السوداني، كما سنوضح فى المقال التالي.


    أخواننا فى اليسار والثورة الاجتماعية الشاملة «2-4»

    «لقد سقطت بغير قصد أجزاء كبيرة من هذا المقال حينما نشر فى الأسبوع الماضى، وهذه اعادة له فى صورته الكاملة مع الاعتذار».
    انتهينا فى المقال السابق الى القول بأن النخب التقليدية فى السودان تستطيع أن تمتص الصدمات السياسية، وتستطيع أن تلتف حول التنظيمات الحديثة، وتجبرها على العودة إليها، وقلنا إن رصد هذه الظاهرة وإدراك مغزاها جعل بعض المثقفين اليساريين «وحلفاءهم من الأكاديميين الحداثيين» يقومون مرة أخرى بإجراء تعديلات جوهرية فى رؤيتهم للثورة والسلطة وللمؤسسة العسكرية. ونقول هنا، مواصلة لما سبق، إن أول تعديل فى تلك الرؤية ربما كان يتمحور حول استبعاد فكرة الانقلاب العسكري، اى استبعاد فكرة التغلغل في القوات المسلحة واتخاذها أداة ثورية لتحطيم النخب التقليدية «كما كان يفكر بعض قادة الحزب الشيوعي «القديم» ونظراؤهم من القوميين العرب والبعثيين»، واستبدالها بفكرة «حرب الغوريلا المتطاولة»، وما يتبع ذلك من «استغناء» عن القوات المسلحة، بحسبانها مؤسسة تقليدية تابعة للنظام التقليدي ينبغي أن يحطما معاً، وذلك لأن القوات المسلحة، بحسب هذه الرؤية، لا تستطيع، برغم حداثتها الشكلية، أن تنفك بحال من الأحوال عن النخب التقليدية وعن المجتمع التقليدي، إذ أنها وليد شرعي له، تدافع عن مصالحه وتّرسخ قيمه.«وينبغى أن نلاحظ هنا أنه بينما كان «اليساريون» ينصرفون عن المؤسسة العسكرية، ويتسللون لواذا إلى الغابة، لينسجوا الخيوط الدقيقة للثورة الاجتماعية الشاملة، كان «الإسلاميون» فى الجانب الآخر يتسللون إلى القوات المسلحة، لينسجوا كذلك خيوطهم الدقيقة لانقلابهم العسكري. والغريب فى الأمر أن كلا من الطرفين كان يضمر خوفا من الآخر، ويرسم تحركاته بحسب قراءته له، ولم يمّر زمن طويل على ذلك حتى التقت «الغابة المسلّحة» مع «القوات المسلحة» فى قتال شرس لم يتوقف الا بتدخل دولة كثيف عند نيفاشا».
    هذا، ومما أغرى اليساريين بالاندفاع فى اتجاه حرب الغوريللا المتطاولة وجود نطاق «جغرافي» موائم لها في جنوب البلاد وشرقها وغربها، ووجود إرث «تأريخي» سابق من النزاعات والحروب القبلية، ووجود مظالم اجتماعية وسياسية لا تحصى بين مجموعات الهامش ودولة المركز، هذا علاوة على ظهور عوامل خارجية مساعدة، كظهور دولة شيوعية صديقة «إثيوبيا» على مقربة الإقليم الجنوبي، يمكن أن توفر ملاذا آمنا، وعتادا حربيا، وغطاء سياسيا ودبلوماسيا. تلك إذن هى المعطيات «الميدانية» الصّلبة التي جعلت اليساريين يطمئنون لرؤيتهم الاستراتيجية الجديدة، ويرمون بثقلهم «ولكن فى سرية تامة» خلف الحركة الشعبية بقادة العقيد قرنق، وتلك هى المعطيات التى جعلت العقيد قرنق يرفض فى تعنت ظاهر مبدأ الانخراط في العملية السياسية بعد سقوط نظام مايو فى ابريل 1985م، معتبرا الحكومة الانتقالية بقيادة المشير سوار الذهب «مايو الثانية» وذلك لأنه كان يرجح «استنادا على رؤية اليسار آنفة الذكر» أن الحركة الاحتجاجية التى أطاحت بنظام مايو، «والتي عرفت بانتفاضة ابريل»، لم تكن في أحسن التقديرات سوى «ثورة سياسية» محدودة، مثلها فى ذلك مثل «ثورة أكتوبر 1964م»؛ أي أنها انتفاضة «فوقية» لم يكن فى مقدورها أن تتجاوز السطح السياسي لتتغلغل في البنية التحتية «الثقافية/الاجتماعية/الاقتصادية» التى يقوم عليها المجتمع، وبالتالي فإن من ينخرط فيها من قوى اليسار فسيكون كمن ينخرط في فقاعة كبرى لا تلبث أن تنفقع به في الهواء. ولقد تعززت هذه الرؤية لدى العقيد قرنق عندما رأى كيف أن «المؤسسة العسكرية» قد خرجت سالمة من تحت الأنقاض المايوية، وأن موقفها الوطني ازداد بريقا تحت القيادة «المعتدلة» للمجلس العسكري الانتقالي، مما جعل العقيد قرنق يجيب «فى تصوري» على أصدقائه المتعاطفين معه فى الشمال ممن ليست لديهم دراية بآفاقه الاستراتيجية: أيّ «انتفاضة» تريدونني أن انخرط فيها، وأحد أهم أعمدة النظام الاجتماعي القديم «القوات المسلحة» لم يزل راسخا، وأحد أهم عناصر الثورة الاجتماعية الشاملة «المهمّشون» لم ينضج بعد؟
    وقد أثبتت الحوادث اللاحقة أن قراءة العقيد قرنق لاتجاه الأحداث السياسية لم يكن بعيدا عن الصواب، إذ ما انقضت الفترة الانتقالية، وأجريت الانتخابات العامة، الا أن استعاد الحزبان الكبيران مواقعهما القديمة، وشكلا «حكومتها الائتلافية» بالطريقة المألوفة، كما ألمحنا الى ذلك آنفا، بل وقد زاد الأمر سوءا «بحسب هذه القراءة» ببروز «الجبهة القومية الإسلامية» ككتلة برلمانية ثالثة الى جانب الحزبين الكبيرين، وذلك فى الوقت الذى تراجع فيه الحزب الشيوعي والتنظيمات الحديثة المتوالية معه. ولذلك فقد قوي العزم لدى قرنق على مواصلة الثورة، وصار يمد عينيه فى اتجاهين: أولهما تكتيكي ويتعلق بمحاولة مد الجّسور مع النخب القيادية فى أحد الحزبين الكبيرين «الاتحادي الديمقراطي»، وإقامة «تحالف مرحلي» معه تحت أى شعار من الشعارات «وذلك فى مقابل التحالف المضاد الذى شكله حزب الأمة مع الجبهة الإسلامية»، وهذا تكتيك لم يقصد به بالطبع ابرام حالف حقيقي مع الحزب الاتحادي الديمقراطى، بقدر ما قصد به «اختراقه» بغرض تعزيز مواقع العناصر التقدمية فى داخله، وتحويل التناقض بينه وبين الحزبين الآخرين «الأمة والجبهة الإسلامية» من تناقض ثانوي سلمى إلى تناقض أساسي/عدائي يستحيل معه أي عمل استراتيجي مشترك فى المستقبل. أما الاتجاه الثانى الذى كان ينظر إليه العقيد قرنق فهو استراتيجي، ويتمثل فى السعي لإشعال نيران الثورة الاجتماعية الشاملة فى أوساط المهمشين فى الأقاليم النائية «دار فور وجبال النوبة وشرق السودان»، الثورة التى يمكن أن تقود إلى تحطيم وتصفية النظام الاجتماعي القديم، وهى ثورة تستند كما أسلفنا القول على نظرية حرب الغوريلا المتطاولة. وهى حرب لا يراد من ورائها اسقاط الحكومة المركزية بصورة مباشرة وسريعة «والا لصارت انقلابا عسكريا»، وانما يراد بها «تفكيك» النظام الاجتماعي التقليدي فى الريف، وضعضعة المؤسسة العسكرية، وتحويل الموارد الاقتصادية على ضآلتها لشراء المعدات الحربية، وذلك من خلال إحداث «تناقض واشتباك» بين المجتمع الريفي التقليدي والمؤسسة العسكرية التقليدية في حرب استنزاف متبادلة توصلهما معا إلى حافة الانهيار. وتجري العملية على النحو التالي:
    1/ أن تقوم مجموعة صغيرة من مليشيات مسلحة «ذات انتماء عرقي، وكفاءة قتالية، وغطاء آيديولوجي مناسب» بشن هجوم مفاجئ على واحدة من القرى، فتنهب الممتلكات وتحرق المنازل وتأسر بعض النساء والشباب وتقتل شيخ القبيلة أو إمام المسجد، ثم تهرب إلي قرية مجاورة وتذوب في المواطنين أو فى الغابة.
    2/ أن تهرع المؤسسة العسكرية النظامية لملاحقة المتمردين، ولكنها لا تصيب إلا المواطنين الأبرياء، فيندفع بعضهم لمناصرة المتمردين، ويندفع بعضهم إلى معسكرات النازحين التي تنشئها المنظمات الدولية وتجلب إليها الأطعمة والأدوية، فتكون المناوشات العسكرية قد نجحت في خلخلة الهرم القيادى التقليدى فى الهامش، كما نجحت فى أن تولد فيه «أزمة سياسية وإنسانية» تجذب نظر الإعلام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان، هذا علاوة على الأزمة السياسية والاقتصادية التى سيتعرض لها «المركز» والتى يتوقع لها أن تحدث «توترا» لا يهدأ بين الدولة والمجتمع.
    3/ أن يبدأ سكان هذه المعسكرات تحت وطأة الأزمة وانفراط النظام الأمني والاجتماعي رحلة البحث عن السلاح والاستعداد للقتال، أو مواصلة الهجرة نحو الأماكن الآمنة، وفي كلتا الحالتين فإن نمط الحياة التقليدية السابق يكون قد بدأ في الانهيار، خاصة فى مستوياته الاجتماعية والاقتصادية، اذ تتعذر الزراعة والرعي بسبب الاضطراب الأمني والمناوشات المستمرة، ويتولد تبعا لذلك «فى إبان الفوضى الخلاقة» مناخ جديد وأفكار جديدة، وقيادات بديلة تكون بداية الانطلاقة نحو «السودان الجديد» الذى تترقبه الزعامات اليسارية. و«السودان الجديد» هنا ليس مجرد إشارة الى «هيكل دولة» يمكن تعديله ليستوعب التنوع العرقي والثقافي، كما يبدو في الظاهر، وإنما هو إشارة إلى «بنية» ثقافية/اجتماعية مستحدثة يرتكز عليها الهيكل القانوني والإداري للدولة، أي أن السودان الجديد هو مولود جديد يخرج من رحم الثورة الاجتماعية الشاملة وليس «توليفة» ناجمة عن عملية إصلاح سياسي محدود.
    هذا، وقد جربت هذه الاستراتيجية في جنوب السودان لعدّة سنوات، حتى لم تبق قرية في الجنوب إلا وقد انقسم سكانها بين نازح إلى الشمال أو مقيم في معسكرات اللاجئين أو حاملاً السلاح «مما يعنى أن خلخلة النظام التقليدي جزء من عملية ثورية مقصودة، سواء في الجنوب أو الشمال»، ثم جربت بعد سنوات قلائل في منطقة جبال النوبة وقادت إلى النتيجة نفسها، ثم ها هي الآن تطبق بحذافيرها في إقليم دارفور، وستقود «أو لعلها قد قادت بالفعل» إلى مثل تلك النتائج أو ربما إلى ما هو أسوأ. إنّ التنبّه لهذه الظاهرة والتوقف عند مغزاها قد يكون خلفية مناسبة تفهم من خلالها معظم استراتيجيات التغيير التي تزعمها المثقفون اليساريون في التاريخ المعاصر للسودان «ثم لحقهم بعض إسلاميي دارفور أخيرا». ولقد قرر اليساريون، وفقاً لهذه الرؤية، أن يتحول عملهم «الثوري» من شمال السودان الى جنوبه «وغربه وشرقه إن أمكن» حيث تتوفر عوامل إضافية، داخلية وخارجية، تساعد في عملية إزاحة القيادات المحلية وتفكيك المجتمع التقليدي ودفعه في اتجاه الثورة الاجتماعية الكاملة التي إذا اندلعت في الجنوب فستجر معها الشمال لا محالة، خاصة أقاليم جبال النوبة وشرق السودان وإقليم دارفور ذوات الثقل الإثنى الإفريقي، كما يقولون.
    وعلى هذا الوجه من النظر يمكن القول بأن حركة التمرد التي أعلن عنها في أوائل الثمانينيات بقيادة العقيد جون قرنق، الضابط السابق في القوات المسلحة السودانية، والناشط المعروف في الأوساط اليسارية الشرق- أفريقية، لا تحمل رؤية منعزلة قادته إليها تداعي الظروف العسكرية والسياسية «كما قد يتوهم البعض»، وإنما هي امتداد ومواصلة للرؤية نفسها التى بدأها الحزب الشيوعي في أوائل السبعينيات إبان تحالفه مع الرئيس النميري، ثم انشغل عنها حينما وقعت المواجهة الدموية بينهما في عام 1971م، على أن هذا لا يعنى بالضرورة وجود تطابق عضوي بين الحزب الشيوعي والحركة الشعبية بقدر يشير الى توافق فى الرؤية الاستراتيجية العامة والتزام بها.
    كما أن التقارب الذي وقع بين حركة تحرير السودان والدول الغربية «خاصة في مرحلة ما بعد سقوط المعسكر الشيوعي» لا يمثل تخلياً عن الاستراتيجية الأولى، بقدر ما يمثل تعزيزاً لتضامن وليد بين تياري الليبرالية الجديدة واليسار الجديد في داخل حركة التمرد، حيث تجرى عملية تشذيب للآيديولوجية الماركسية القحة بغية إدراجها في نسق النموذج الحداثي الذي يرتكز على مفاهيم الفردانية والرشادة والعلمانية، والتي صارت مفردات أساسية في الخطاب الجديد للحركة الشعبية. وليس هذا بالأمر الغريب، فقد شوهد العديد من الزعماء اليساريين في دول أميركا اللآتينية وهم «يعدلون» أفكارهم وسياساتهم لتنسجم مع الواقع الدولي الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة، فتخلوا تماما عن إحراق الأعلام الأميركية، كما تخلوا عن إجراءات التأميم والمصادرة، وصاروا يتصالحون بصورة من الصور مع فلسفة السوق الحر والإصلاح الاقتصادي، وذلك اتقاءً للامبريالية الباطشة، واستئناسا لشركاتها عابرة القارات.
    فإذا صح ما ذكرناه، وهو صحيح في تقديرنا، فسوف لن يكون في الحسابات الاستراتيجية للحركة الشعبية أن «تتصالح» أو «تتحالف» في أية صورة من صور المصالحة أو التحالف مع النخب التقليدية في الريف والحضر التي يعتمد عليها النظام الاجتماعي القديم، بل إنه لمن المتوقع أن تسعى الحركة الشعبية بكل الطرق لإضعاف هذه النخب وإزاحتها «ولو اضطرت أحياناً للعمل التكتيكي معها»، ولعل هذا ما يُفسر «استغناء» الحركة الشعبية وانسلالها السريع من «التحالف» الذي كان يجمعها مع حزبي الاتحادى الديمقراطي والأمة «ثم المؤتمر الشعبى أخيرا»، اذ أن الأفق الاستراتيجي الذي تسعى نحوه الحركة الشعبية لا يتضمن تحالفا بين «أحزاب» سياسية مكتملة القوام، بقدر ما يتضمن تحالفا بين «قوى اجتماعية هشة التكوين»، يوجد معظمها في داخل تلك الأحزاب القديمة، ولعل هذا هو المقصود بمصطلح «الجبهة الوطنية الديموقراطية»، أي التحالف الطبقى الجديد الذى يضم المهمشين «البروليتاريا فى العهد الماركسي القديم» بقطع النظر عن أصولهم العرقية ومناطقهم الجغرافية وأحزابهم السياسية، لا يشدهم سوى الانتماء للحركة الثورية التى قد يكون الحزب الشيوعي مركز إشعاع فيها إن فاته أن يكون مصدر قيادة فعلية لها. كما يعني من ناحية أخرى أن الحركة الشعبية لن تترد في إضعاف المؤسسة العسكرية التقليدية أو العمل على إعادة تشكيلها بصورة جذرية، حتى لا تجد النخب التقليدية منصة خلفية تعاود منها الانطلاق. وسوف لن تكون مفاجئة لأحد أن يرى بعض قادة الحزب الشيوعى السودانى القديم خارجين من حالة «البيات الشتوى» الطويل، أو عائدين للحياة السياسة فى أعطاف الحركة الشعبية، متحدثين بلسانها العربي في قطاع الشمال. وهذا أمر سيقودنا للنظر في اتفاقية السلام التي أبرمت أخيرا بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ، ما هي طبيعة هذه الاتفاقية، وما هو موقعها في إطار استراتيجية اليسار الجديد التي ذكرناها؟ وهل هناك إطار نظري عام ترتكز عليه هذه الاتفاقات؟ أم هي وليدة خطرات تفتقت عنها عقول المتفاوضين في منتجع نيفاشا الكيني، وتراضوا عليها خوفا أو طمعا دون رؤية نظرية شاملة تربط القريب بالبعيد وتصل المشهود بالمغيب؟

    إخواننا فى اليسار.. والثورة الإجتماعية الشاملة«3-4»


    أوضح ايرنستو جيفارا،المنّظر الميّز لحركات التحرر فى أمريكا اللاتينية والمقاتل فى صفوفها، أن الثورة الكوبية قد أسهمت بثلاثة دروس أساسية لإدارة الحركات الثورية، هي:
    أنه ليس من الضروري الإنتظار لحين توفر كل الشروط التى تصنع الثورة، اذ أن «التمرد» يمكن أن يوفر تلك الشروط؛ وفى حالة دول أمريكا اللاتينية المتخلفة فان «الرّيف» هو المنطقة الأساسية لانطلاق النضال المسّلح؛ وأن القوى الشعبية يمكنها أن تكسب الحرب ضد الجيش النظامي، غير أن النصر لا يمكن أن يكون نهائيا حتى يكتمل تحطيم الجيش الذي كان يدعم النظام القديم، تحطيما نهائيا وبصورة منظمة.
    ويبدو للمتأمل فى سيرة الحركة الشعبية لتحرير السودان«والتي من الراجح أنها قد تأثرت بالتجارب الثورية فى أمريكا اللاتينية، وبالتجربة الكوبية خصوصا» أنها قد استوعبت الدرسين الأوليين فى النموذج الجيفاري/الكوبي:التمرد المتطاول والإنطلاق من الريف، ولكنها لم تأبه كثيرا بالدرس الثالث والأخير المتعلق بضرورة تحطيم الجيش النظامي تحطيما نهائيا. السؤال هنا:لماذا اختارت الحركة الشعبية إذن إيقاف حرب الغوريللا والدخول فى اتفاقية سياسية وذلك قبل أن تستكمل تصفية المؤسسة العسكرية للعدو الاستراتيجي، وقبل أن تنضج عوامل الثورة الاجتماعية الشاملة؟ ولماذا رفضت مثلا خيار السلام قبل عشر سنوات، حينما كانت تواجه أسوأ انشقاق داخلي في تاريخها، وأكبر تراجع فى الميدان العسكري، ثم قبلته أخيرا ولكن فى وقت تحسن فيه وضعها السياسي والعسكري، بينما وصلت حكومة الإنقاذ «العدو الإستراتيجي»إلى أضعف حالاتها، وذلك فى أعقاب الانقسام الذى وقع فى داخلها، وما تبعه من بلبلة فى منظومتها الفكرية، وخلخلة فى صفها القيادى، وإحباط نفسى فى قوتها القاعدية؟ أو إذا وضعنا السؤال بصيغة أخرى: هل يشير دخول الحركة الشعبية فى عملية السلام الى «تغيير إستراتيجي»، «أو ربما إيديولوجي» فى مسارها أملته ضغوط وإملاءات الواقع السياسي والعسكري، أم هو مجرد «استراحة محارب» يعاد فيها رسم الأدوار وترتيب القوى؟ وإذا قلنا أن الحركة الشعبية لم تغير إيديولوجيتها واستراتيجيتها،فهل يعنى ذلك أن اتفاقية السلام تحمل فى طياتها المضامين الاستراتيجية السابقة ذاتها ولكن بأشكال وأساليب جديدة؟
    قد يقال هنا أن «الدّروس» التى استخلصها جيفارا من الثورة الكوبية هى دروس خاصة بتلك الثورة، وليست هناك ضرورة تحتم سريانها على الحالة السودانية، ثم يقفل النقاش؛ ولكن قد يقال أيضا أن «التصفية» التي يتحدث عنها جيفارا آخذة في التحقق ، ولكن على نار هادئة، إذ ليس من اللازم أن تقفز حرب الغوريللا بالمجتمع دفعة واحدة من مرحلة السكون إلي مرحلة الثورة الكاملة، اذ يكفى أن تصل به الى ما يسمى فى أدبيات اليسار «بالوضع الثوري" «revolutionary situation»، وهو حال تواجه فيه الدولة المركزية تحديا من داخل أروقتها أو من داخل المجتمع يتعذّر معه حفظ الأمن والإستقرار،«ناهيك عن تخفيف المعاناة الاقتصادية»، وهو الوضع المثالي الذي سيوفر المناخ المطلوب للثورة الاجتماعية الفعلية، حيث تتاح للمجموعات الثورية الاستيلاء على السلطة وإحداث التغيير الجذري الذى ترجوه. على أن ذلك لا يتم الا فى وجود «حزب طليعى» يناط به تسريع الوضع الثورى وقطف ثماره،«وفى هذه الحالة لا ندرى ما اذا كانت الحركة الشعبية ستكون هي ذاتها «الطليعة» التى يناط بها إكمال تصنيع الوضع الثوري وتعميمه فى غرب البلاد وشرقها،أم أن ذلك الدّور سيترك للحزب الشيوعي القديم،أم للحركات الثورية الناشئة فى مناطق التهميش؟» ، ولكن وكيفما كان الأمر فاتفاقية السلام وان بدت للبعض كأنها مناقضة فى ظاهرها لمشروع «الثورة الاجتماعية» الا أنها تجئ «بحسب هذه الرؤية» متزامنة مع مرحلة نضج فيها الوضع الثوري؛ مرحلة تتوارى فيها «الغابة المسلحة» فاتحة المجال لمرحلة«المدينة المناضلة»،إذ أن حرب الغوريللا مهما تطاولت لا بد أن تعقبها فترة تتشكل فيها صيغة تكاملية بين القوى المسلحة التى كانت تقود النضال العسكرى فى الغابة، والقوى المدنية التى كانت تقود النضال السياسي فى المدينة، بحيث يعمل مقاتلو الحركة الشعبية على «تثوير» قطاعات المهمشين فى المدن، ويعمل أولئك على «تسييس» المقاتلين.ومن خلال هذا التثوير والتسييس المتبادل يتم تفكيك ما تبقى من النظام القديم، فينفتح المجال للثورة الاجتماعية الشاملة.
    أما أن دخول الحركة الشعبية فى عملية السلام يمثل استكمالا لفكرة الثورة الاجتماعية الشاملة وليس خروجا عليها أو تعديلا فيها فيتأكد من خلال ثلاثة محاور «تفكيكية» ثابتة «على الأقل» يمكن ملاحظتها فى فكر الحركة وممارستها: عزل حكومة الإنقاذ«إبان المفاوضات وبعدها» عن محيطها الحيوي وعمقها الاستراتيجي؛ إفراغ مؤسسات الدولة المركزية«الجهاز التشريعى/القضائى/المؤسسة العسكرية/البنك المركزى..الخ» وعزلها عن مركز«أو مراكز صناعة القرار»؛ الإيحاء «وربما الدّفع» للحركات الثورية الأخرى بمواصلة حرب الغوريللا فى مناطق أخرى من البلاد.
    أما عزل «العدو» عن عمقه الاستراتيجي فيبدو فى موقف الحركة الشعبية الرامى لاجراء مفاوضات منفردة مع المؤتمر الوطنى على غرار اتفاقية كامب ديفيد بين المصريين واسرائيل. وعلينا هنا أن نتذكر أن أهم مبدأ في التفاوض المصرى الإسرائيلى «والذى جرى في السبعينيات من القرن الماضى تحت رعاية الرئيس الأمريكى كارتر ووزير خارجيته سايروس فانس» هو ضرورة ابرام «صلح منفرد» بين مصر واسرائيل عن طريق «عزل» مصر عن الدول العربية الأخرى«سوريا والاردن» التى تشاركها في القضية وتشكل مجالها الحيوى، ثم عزل قضية المستوطنات الاسرائيلية في سيناء عن الاستيطان الاسرائيلى في غزة والضفة الغربية والجولان. فالسمة الغالبة في تلك الاستراتيجية التفاوضية «التفكيكية» هى التركيز على مبدأ التجزئة والفصل، تجزئة موضوعات النزاع وفصل الاطراف المعنية بالنزاع عن بعضها، أى أن تفصل الأطراف المفاوضة فصلا تاما عن الأطراف الأخري التى تشاركها في القضية، وتمثل عمقها الإستراتيجي، ولكنها قد تختلف معها في أسلوب النضال، أو في أسلوب التفاوض، أو في بعض تفاصيل التسوية، أو نحو ذلك من الأمور الثانوية.
    فاذا تأملنا في هذه الاستراتيجية وحاولنا أن ننظر من خلالها الى مفاوضات السلام بين الحركة الشعبية وحكومة الانقاذ فسنجد كثيرا من العناصر المتشابهة؛ ابتداء بفكرة منتجع نيفاشا الكينى التى تكاد تكون تكرارا لفكرة منتجع كامب ديفيد، ومرورا بتحول الولايات المتحدة من دور الوسيط الى دور «الشريك» في عملية السلام وانتهاء بالاصرار على «عزل» حكومة الانقاذ « ربما بموافقة منها ولكن تحت التهديدات والضغوط الأمريكية» عن محيطها الحيوى الداخلى «المتمثل في القوى السياسية الشمالية» وعن محيطها الحيوى الاقليمى«المتمثل في الدول العربية والاسلامية». وقد يقال هنا كيف تمثل الأحزب الشمالية «عمقا حيويا» لحكومة الإنقاذ وهى،أى تلك الأحزاب، تندرج مع الحركة الشعبية في تنظيم سياسى/عسكرى واحد ظل يقاتل حكومة الإنقاذ منذ نشأتها؟ وهذا صحيح، ولكن ينبغى أن نفرق بين النخب الفوقية والقوى الاجتماعية القاعدية التى تتابعها حينا وتنفصل عنها أحيانا، كما ينبغى ألا تخدعنا صيغة «التحالف التكتيكي» الذى جمع بين تلك النخب والحركة الشعبية. فالتفرقة الأولى بين النخب القيادية فى تلك الأحزاب وقواعدها تفرقة هامة، لأن قواعد الأحزاب فى الشمال هى قواعد اجتماعية مشتركة بين حكومة لإنقاذ وغيرها من النخب، هذا الإشتراك « القاعدى/الثقافى» كان ينبغى أن يوضع من قبل حكومة الإنقاذ في خانة الثوابت الإستراتيجية، وأن يرتب عليه موقف سياسى تصالحى مع الأحزاب الشمالية المعارضة، فيعترف بها طرفا ثالثا في المفاوضات كما كانت طرفا في النزاع، ويتنازل لها في بعض الأمور كما فعل مع الحركة الشعبية، خاصة وان الحرب لم تستعر أصلا بين الحركة الشعبية والانقاذ الا بسبب تلك القاعدة الاجتماعية/الثقافية. ولكن لارتباك في الرؤية الإستراتيجية، أو لأمر آخر لا نعلمه، فضلت حكومة الإنقاذ أن تترك مجالا واسعا للخلافات الثانوية بينها وبين الأحزاب الشمالية أن تتحول لتناقضات أساسية، فوقعت فى الفخ الذى نصبته لها الحركة الشعبية من حيث لا تدرى، ووفرت لها بذلك ذخيرة كبيرة صارت تراهن من خلالها على هشاشة النظام الإنقاذي وحتمية تفككه وتلاشيه.
    ثم يضاف الى هذا أن الرؤية «التفكيكية» للحركة الشعبية كانت تتناغم مع الرؤية الأمريكية التى تتركز على أمرين اثنين لا ثالث لهما: المد الإسلامي والنفط. أما المد الإسلامي فيمكن «بحسب الرؤية الأمريكية» تحجيمه واحتواؤه من خلال إتفاقية السلام، وذلك بعزل الفصيل الإسلامي«ما بعد الترابي» ثم إدراجه في شبكة من الالتزامات الجديدة والمؤسسات المعقدة، يفقد عن طريقها القبضة السياسية القوية التى كان يتمتع بها من قبل، ولكن دون تجريده بصفة كاملة من كل إمتيازاته السياسية فيضطر للتقارب مرة أخرى مع فصيل الترابى المناوىء له، فتظل الحرب بينهما مشتعلة،مما يسهّل عملية التفكيك. أما من ناحية أخرى فقد يعتقد بعض مهندسى السياسة الأمريكية أن خير أداة لتحجيم ما تبقى من الحركة الإسلامية واحتوائه هو وجود نظام سياسي مخلّط تشارك فيه «أو تهيمن عليه» الحركة الشعبية وحلفاؤها من اليساريين «المعدلين» والعلمانيين والمجموعات الثورية المنحدرة من إثنيات غير عربية. وهو خيار وان كان غير مضمون العواقب «اذ قد يؤدى أيضا الى تزايد النزعة الأصولية الإسلامية»، الا أنه أفضل من وضع ينفصل فيه الجنوب تماما عن الشمال، فتتحرر الأصولية الإسلامية عندئذ من حرب الإستنزاف، وتستفرد بالشمال السودانى، فتصبح مصدر خطر أكبر في المنطقة. أما فيما يتعلق بالإمدادت النفطية فان بعضا من المحللين يعتقد أن الولايات المتحدة تراهن على إنشاء شبكة نفطية بديلة في القارة الأفريقية، يجمع فيها نفط السودان و تشاد ثم انجولا ونيجريا والكميرون لينتهى في الولايات المتحدة عبر خليج غينيا فالمحيط الأطلسي، وتكون الولايات المتحدة قد انفكت بذلك من استراتيجيتها النفطية الراهنة المعتمدة على الشرق الوسط وحده. ولأن نجاح مثل هذه الاستراتيجية يقتضى استقرارا في المنطقة فقد لا تميل الولايات المتحدة للدفع باتجاه انفصال فى الجنوب تتولد عنه بالضرورة سلسلة من الكيانات الانفصالية المتناحرة.
    أما أن الحركة الشعبية قد أصرت على اثبات حق تقرير المصير في الاتفاقات فان ذلك لا يعنى فى المحصلة النهائية أنها ستجعل الإنفصال خيارها الأول، ذلك لأسباب عديدة، منها أولا: الرؤية الاستراتيجية التى أشرنا اليها آنفا، إذ أن الحركة باتت تعتقد أكثر من أى وقت مضى أن الوضع الثورى يتحرك لصالحها، مما يمكنها أن تنال أغلبية برلمانية مريحة في أى انتخابات قومية قادمة، فيكون الإنفصال بالجنوب غير ذى معنى طالما أنه بات فى مقدور الحركة أن تسيطر على الشمال والجنوب معا؛ ومنها ثانيا أن النخب اليسارية والعلمانية في الشمال يمكنها اذا وجدت السند القانونى والدعم المادى «وهو ما تستطيع الحركة الشعبية أن توفره» أن تمثل مضادا أيديولوجيا وسياسيا قويا يحجم الحركة الإسلامية ويضعف نفوذها في المدن، ويجعل التشريعات الإسلامية التى أقرتها الإتفاقية غير ذات بال من الناحية العملية؛ ومنها ثالثا أن النخب السياسية التقليدية «الإتحادى والأمة» والتى تم تطوير التناقض الثانوي بينها وبين الحركة الإسلامية ليصير تناقضا أساسيا وعدائيا، لن يكون فى مقدورها أن تطرح رؤية متماسكة للبناء الوطني، ولن يكون من الصعب عندئذ أن تتواصل عملية إفراغها من محتواها الإسلامي/التاريخي، واستيعابها وتوظيفها في مشروع «السودان الجديد» الذي تدعو له الحركة الشعبية وحلفاؤها في الداخل والخارج.

    اخواننا فى اليسار والثورة الإجتماعية الشاملة(4-4)


    انتهينا فى المقال السابق الى القول بأن دخول الحركة الشعبية في اتفاقية السلام قد لا يعنى أنها أحدثت تغييرا أساسيا فى آيديولوجيتها أو إستراتيجيتها،ولكنه قد يعنى أنها تحاول من خلال عملية السلام الإنتقال إلى شوط جديد من أشواط الاستراتيجية القديمة ذاتها، استراتيجية التحضير للثورة الاجتماعية الشاملة والتعجيل بها.ثم أشرنا إلى بعض الموجهات "التفكيكية" التى قد ترتكز عليها فى مسيرتها القادمة، وفصلنا القول فى واحدة منها(عملية التفاوض ثم الإتفاق المنفرد مع المؤتمر الوطني)، ونواصل الحديث هنا عن بقية تلك الموجهات، والتي يأتي على رأسها عزل مؤسسات الدولة القومية، وإفراغها من أى قدرة حقيقية على صناعة القرار.ولكن هذا قول لا يتضح الا بمزيد من التدقيق، لأنه يتعلق فى تقديرنا بجوهر الإتفاقية وبالفلسفة الأساسية التى تستند عليها.
    لقد صار من شائع القول بين نقلة الأخبار أن اتفاقية مشاكوس هى "الإطار المرجعى" لما تلاها من اتفاقات بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ، ولكن لم نر أحدا يسأل عن الإطار المرجعي الذى تستند عليه اتفاقية ماشوكس ذاتها، وما أن حاولنا ذلك حتى بدأنا نشتم فيها رائحة النظرية الوظيفية. وأول ما يفوح من الوظيفية هو توجهها الفلسفي المعادى للدولة(anti-statist)، إذ أن الدولة القومية في نظر الوظيفيين هي "عائق" يقف أمام المصالح والحاجات المشتركة، ويصّد عن تحقيقها بالكفاءة المطلوبة، ولذلك فهمم ينادون بتجاوز مفهوم الدولة القومية ذات السيادة، مع ما يتبع ذلك من تجاوز لمفهوم حكم الأغلبية، وما يتصل به من مفهوم التسلسل الهرمي للسلطة، وكل ذلك يقود بالطبع إلى الإنصراف عن مؤسسات الدولة القائمة، وإنشاء شبكة من المؤسسات البديلة تكون "وظيفتها" الأساسية خدمة وتحقيق بعض المصالح والإهتمامات المشتركة التى يقع عليها إختيار الفاعلين (أو اللاعبين؟)الأساسيين في الساحة السياسية. ويدّعى "الوظيفيون" علاوة على ذلك أن "الكفاءة"، والكفاءة وحدها، في أداء تلك "الوظائف" هي التي ينبغي أن تحدد "ولاء" الأفراد والمجموعات لتلك المؤسسات. فكأننا نستطيع (وفقا لهذه النظرية) أن نتفادى صراع المجموعات حول الدولة بالنأي عن الدولة ذاتها، وإدراج تلك المجموعات في شبكة أخرى من المؤسسات الإدارية على المستوى الأمني والاقتصادي، تخطيطا وتنفيذا، ودفعها نحو التوازن والإستقرار من خلال ترتيبات إقتصادية مشتركة تستند على مواثيق ذت ثقل دولى يفوق قدرة الدولة القومية، بحيث ترغم الحكومة المركزية على التخلي عن عدد من الوظائف والاختصاصات "القومية" ليتم "تخصيصها" ثم إدراجها في عدد من الوحدات الإدارية/السياسية الجديدة، أو قل المفوضيات المشتركة، التى يراد لها أن تتطور تدريجيا نحو المزيد من التشابك والتكامل المؤسسي، فيتمهّد الطريق بذلك لبروز نخب بيروقراطية وسياسية جديدة، تتمتع بقدرات إدارية وميول "نفعية" ملائمة لمثل هذه العمليات، كما تتمتع بعقلية براجماتية مخالفة لعقلية السياسيين والعسكريين القدامى الذين شاركوا في الحرب.
    فالتكامل المؤسسي وفقا لهذه النظرية سيؤدى لانسياب المعلومات، و تعزيز الثقة، و بروز قيم مشتركة، وبلورة مصالح اقتصادية مشتركة، وذلك كله تحت مظلة الرقابة الدولية الصارمة على مصادر التسلح وموارد الاقتصاد(الجيش والنفط) التي يشتد النزاع بسببها بين الأطراف المتحاربة. ويزعم "الوظيفيون" أنه متى ما وضعت مثل هذه اللبنات المؤسسية الابتدائية، فان عملية التكامل ستنطلق وستستمر عن طريق التعزيز الذاتي، وعن طريق التغذية الراجعة المتدرجة. فاذا علم هذا فلا غرو اذن أن يكمن جوهر الاتفاق في الالتزام المسبق بمبادىء وسياسات وإجراءات لا تعرف نتائجها، اذ المقصود هو أن تترك هذه النتائج لما يسمى (بديناميكية الظروف.( فى مذكرات له ذكر محمد ابراهيم كامل وزير خارجية مصر فى عهد الرئيس السادات أن بريجنسكي، مستشار الرئيس الامريكى للأمن القومي، كان يعيد على مسامعه باستمرار أن التسوية لا يمكن أن تتحقق دفعة واحدة، ثم أخذ يشرح نظريته، هكذا يقول محمد ابراهيم كامل، عن ديناميكية الظروف(dynamics of situations)، أي أن الظروف السياسية لها قوة دفع ذاتية، وكل ظرف يهيئ المناخ لظرف جديد يتولد عنه.هذا، وليس بمستغرب أن تظل هذه النظرية التى اهتدى بها الأمريكيون في إدارتهم لمفاوضات كامب ديفيد، هي ذاتها دليلهم فى منتجع نيفاشا، فهناك دائما "مآلات" ينبغى أن تترك "مجهولة" (هل تتذكرون نظرية رولز عن حجاب الجهالة؟)، فالجهالة هى التى ستعزز الاندفاع والاستمرار في عملية السلام، إذ أن أية خطوة يتم تحقيقها،مهما صغرت، فإنها ستؤدى إلي خطوة أخرى أهم منها، أى أن حلحلة النزاع المسلح تبدأ بدفع الأطراف المتحاربة بالانسياق في شبكة جديدة من العلاقات والمؤسسات، والتى ستفرز بدورها نفسيات جديدة ومناخا مغايرا، ومصالح متجددة، قد تؤدى في المحصلة النهائية الى تعديل في الرؤى وتليين في المواقف، وذلك هو معنى القول إن التحول من النزاع الى السلام يمكن أن يتم عن طريق التكامل المؤسسي. ولكن "المؤسسة" هنا لا تعنى مؤسسات الدولة القومية القديمة، وانما يقصد بها "تمييز" أحد المجموعات ووضع موارد مادية معلومة تحت اختصاصها، بحيث تتمكن من "تأسيس" بعض القيم والرؤى التي كانت تقاتل من أجلها، مع تحصين كامل لهذه العمليات التمييزية والتأسيسية من أي محاولة لاحقة للنقض أو المراجعة قد تهم بها مستقبلا إحدى الجهات المتعاقدة، أو إحدى الجهات المناوئة لها(سواء جاءت عن طريق انتخابات شعبية عامة، أو حتى انقلاب عسكري). الإفترض هنا أنه كلما تعددت وتشابكت أجهزة وأنظمة اقتسام السلطة، كلما تضاءلت فرص العودة الى السلاح، أو الى الأغلبية العددية(الديموقراطية) لحسم الخلاف. ولقد عبر العقيد قرنق عن ذلك صراحة في خطاب له بنيروبى بمناسبة التوقيع على تلك الإتفاقية في الخامس من يونيو 2004، قائلا: "ان الاتفاقات الستة تعكس-بالنسبة الى أولئك الذين وجدوا فرصة للاطلاع عليها- "شبكة معقدة من المؤسسات الحكومية، ومن الحسابات المبلبلة للعقول فيما يتعلق بقسمة السلطة والثروة والترتيبات الإمنية". وهذا كما ترى ترتيب "تفكيكى/اشتباكى" يختلف تماما عن مفهوم وتراتيب النظام الفيدرالي، الذي تتخلى فيه الحكومة المركزية عن الوظائف والاختصاصات لإدارات سياسية أخرى منفصلة ومستقلة عنها. هذا الترتيب الوظيفى، والذى لم ينتبه له المحللون، يعتبر في تقديرنا من أهم وربما أخطر سمات اتفاقية السلام الأخيرة، ليس لأنه ينصرف عن مؤسسات الدولة القومية ويتركها لشأنها، وإنما لأنه يتعمد "إفراغ" تلك المؤسسات من معظم الصلاحيات التشريعية والإقتصادية والتخطيطية والرقابية. واذا سارت هذه الإتفاقية وفقا لمضامينها الفلسفية المشار اليها فانه سرعان ما يكتشف المجتمع السياسي السوداني أن الدولة المركزية وأجهزتها المختلفة، كالقوات المسلحة والبنك المركزى والجهاز التشريعي، ليست بذات أهمية، وأن القابض عليها لا يقبض سوى الريح. ولعل هذا هو ما كان يقصده العقيد قرنق وهو يتحدث(24 مارس 2002) الى جمع من السودانيين في واشنطن عن "تفكيك" نظام الإنقاذ عن طريق المفاوضات.
    لقد حاولنا آنفا أن نقرأ اتفاقيات السلام بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية في ضوء النظرية الوظيفية، وقد ساعدتنا تلك النظرية في الكشف عن سر الإصرار المتعمد على الشبكات الإدارية المعقدة، والحسابات "المبلبلة للعقول" ، كما جاء في تعبير العقيد جون قرنق. ولكن النظرية الوظيفية ذاتها لم تخلو من العيوب، وقد تعرضت لكثير من الإنتقادات والتعديلات حتى تحول بعض أصحابها الى ما سمى "الوظيفية الجديدة". أول تلك الإنتقادات هو أن الأطر المؤسسية الجديدة مهما تكثفت لا تكون وحدها كافية لتعزيز الثقة، بل أنها ستقود، أول ما توضع موضع التنفيذ، الى خلافات جديدة تتبلور في اتجاه النزاع، أما الإنتقاد الثانى فهو أن المجموعات التى سترفّع الى قيادة هذه المؤسسات ستسعى للإستحواز على "الموارد الحرجة" (critical resources) التى تعتمد عليها بقية فئات المجتمع، وستسعى لسن قوانين تكرس من خلالها رؤيتها ومصالحها، فتستثير بذلك حفيظة وغيرة مجموعات سياسية واجتماعية أخرى ممن لم تشملهم الإتفاقات، فتكون تلك بداية لصراع آخر، أما الإنتقاد الثالث فيتوجه الى فكرة "تمييز" أحد أطراف النزاع و"تأسيس" وضع جديد خاص بها، اذ أن مثل هذا التمييز لا يكون ممكنا الا "بسحب" الموارد من قطاعات أخرى في المجتمع، فتندفع هى الأخرى للدفاع عن مصالحها و"لتأسيس" رؤيتها، مما يعنى أن هذه الفكرة تحمل بذور النزاع في داخلها، إذ أن نجاحها فى منطقة ما سيكون هو ذاته بداية لاندلاع الحرب فى منطقة أخرى.
    وهكذا، وبعد أن ساعدتنا النظرية الوظيفية في الكشف عن الرؤية التحتية التى بنيت عليها اتفاقات السلام بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية، وأبدت لنا جانبا متفائلا للأمور، أطلت "الوظيفية الجديدة" برأسها لتكشف عن النزاعات الأخرى التى يمكن أن تتولد عن اتفاقات نيفاشا، ولتبدى لنا صفحة أقل تفاؤلا. وبالفعل، وقبل أن تدخل اتفاقات نيفاشا حيز التنفيذ، اندلعت مشكلة أخرى في أقليم دار فور، ثم تفاقمت في فترة وجيزة لتصبح أكثر خطورة على الوطن من مشكلة الجنوب التى تم التوصل الى اتفاق حولها.
    لقد حاولنا فى هذه المقالات أن نكشف عن "فهمنا" لما نتصوره من رؤى استراتيجية للحركة الشعبية، وقد نكون فى هذا مخطئين، ولكن لئن نضع آراءنا المخطئة على طاولة البحث، فيراها من هو أعلم منا، ويقوم بتصويبها، خير وأنفع من التكتم عليها، والتعامل مع الآخرين على أساسها.وحتى يكتمل النفع، فنود أن نطرح عددا من الأسئلة التى لم يترجح لنا فيها شي، والأسئلة كثيرة ولا تنقطع، منها مثلا: كيف تنظر الحركة الشعبية لحركات التمرد فى دار فور وغيرها؟ هل ترى فيها "حليفا استراتيجيا" يجب دعمه حتى يحصل على مثل ما حصلت عليه الجبهة الشعبية فى نيفاشا،أم ترى فيها "منافسا" يقوّض ما تحقق فى تلك الاتفاقية؟ وهل ستسعى الحركة بصورة جادة نحو "تحول ديموقراطي" فى البلاد؟ وماذا تقصد "بالديموقراطية"؟ هل تقصد أنها ستقبل مثلا بحكم الأغلبية إذا جاء لغير صالحها؟ أم أنه "كلما انحسر نفوذها شمالا عادت لخيار الإنفصال بالجنوب"؟ وهل ستسعى لاكتساب أغلبية حقيقية فى شمال السودان من خلال تحالفات مع ممثلي القوى "التقليدية"(قيادات الطرق الصوفية وزعماء القبائل والعشائر)، أم أنها ستغض الطرف عن هؤلاء وتحصر نفسها فى فصائل اليسار؟وكيف ستكون علاقتها مع الحزب الشيوعي؟ هل ستعتبره أحد الفصائل الثورية التى ينبغى أن تندرج فى استراتيجية السودان الجديد تحت قيادتها، أم ستعتبره الحزب الطليعي الذى سيقود هذه المسيرة؟وما هى رؤيتها للتنمية الاقتصادية التى ظلت تمنى بها قطاع المهمشين فى الشمال والجنوب؟ متى تبدأ هذه التنمية ومن أين؟ وهل يبنى "السودان الجديد" فى اتجاه اشتراكي معدّل أم رأسمالي ملطّف؟ وماذا ستفعل بجيشها الشعبي في الجنوب؟ هل سيكون هو نواة الحزب أم أنه سيحتفظ به بعيدا عن السياسة؟وهل سيفسح لرجال الأعمال والعمال ورجال الدين وزعماء القبائل موقع في داخل الصّف القيادي للحركة على حساب الجنرالات وأصحاب الرؤى الآيديولوجية والنزعات الراديكالية؟ أم أن الحركة تخشى من حدوث "ثورة فى داخل الثورة" كما وقع لغيرها من الحركات الثورية؟ وكما وقع لنا نحن فى الحركة الإسلامية؟






                  

العنوان الكاتب Date
د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-السبت على عمر على07-29-07, 03:41 PM
  Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-29-07, 03:43 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-29-07, 03:47 PM
      Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 02:30 AM
        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 01:46 PM
  Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا عز الدين بيلو07-30-07, 01:53 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 02:20 PM
      Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 02:23 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-04-07, 02:13 PM
  Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 02:30 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 04:47 PM
      Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 07:55 PM
        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 07:58 PM
          Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 08:01 PM
            Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 08:03 PM
              Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 08:06 PM
                Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-30-07, 08:08 PM
                  Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 00:56 AM
                    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 00:58 AM
                      Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 01:01 AM
                        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 01:05 AM
                          Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 01:07 AM
                            Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 01:09 AM
                        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا Mohamed Algzly07-31-07, 01:13 AM
                          Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا عبدالعزيز حسن على07-31-07, 12:13 PM
  Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 02:09 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 04:31 PM
      Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 04:35 PM
        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على07-31-07, 08:23 PM
          Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا Kostawi07-31-07, 09:11 PM
  Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا عمر ادريس محمد07-31-07, 10:18 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا Kostawi07-31-07, 11:05 PM
      Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا عبدالعزيز حسن على08-01-07, 04:08 AM
        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-01-07, 12:02 PM
          Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-01-07, 02:21 PM
            Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-02-07, 02:43 PM
        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-04-07, 02:21 PM
  Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا Anwar Elhaj08-02-07, 03:33 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا Kostawi08-02-07, 03:46 PM
      Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-02-07, 06:13 PM
        Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-02-07, 11:38 PM
          Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا Osman Musa08-03-07, 03:24 AM
            Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا Kostawi08-03-07, 04:35 PM
    Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا على عمر على08-04-07, 02:27 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de