اهتراء وجدان الذاكرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-07-2024, 07:54 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-20-2007, 08:33 PM

أمير بابكر

تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
اهتراء وجدان الذاكرة

    وإهتراء وجدان الذاكـرة

    إلى روح جدتي آمنة العوض ضوالبيت
    حتى لا يضيع وجدان الذاكرة المسكون بالحكي
    (1)
    تراءت لي جدتي وأنا في غمرة انشغالي بالحياة وشياطين تفاصيلها، تراءت لي وفي عينيها عتاب ولوم شديدين، وكأني بها تنبهني إلى أنها لا تزال تسكن وجداني، ومن واجبي أن أواصل ري شجرة الوجود هذه حتى لا تجف جذورها فتموت، كما تموت كل الأشياء وتسقط من الذاكرة. وكانت جدتي قد ماتت قبل سنوات، كما هي خاتمة سيرة كل الناس الذاتية التي تنتهي بهذا الحدث.
    يقال أن طبيباً في العصور الوسطى كان يتحدث إلى الأعشاب، وكانت كل عشبة تكشف له سرها وقدرتها على المرض الذي تستطيع شفاءه. وذات مرة وجد عشبة جبلية غريبة عليه وراح يحدثها لتكشف له أن فيها سر الحياة الأبدية وانها تشفي من الموت. حملها طبيبنا مهرولاً في اتجاه المدينة التي يمارس فيها طبه، إلاَّ أن طائراً ضخماً اختطفها منه ليتعثر ساقطاً أثناء هبوطه من الجبل ويفارق الحياة. رغم ذلك مات وهو يحمل الحياة بين يديه.
    وتطلق جدتي مقولتها بأن الإنسان لا يبلغ ذروة حكمته ولا ينكشف له سر الحياة ومعاني الكون والوجود ولا يقبض على جوهر الأشياء إلاَّ لحظة الاحتضار، بل اللحظات الأخيرة من مرحلة الاحتضار، ليموت بذلك السر الذي نسعى كل حياتنا للبحث عنه واكتشافه لنستريح. ماتت مثل الآخرين تحمل السر معها، وقد بلغت ذروة راحتها.
    لا يتبدى لنا أن في الموت راحة إلاَّ عندما تصبح الحياة مجرد معاناة سريرية طويلة الأمد. عندما عالجها بعض الأطباء الأوربيون بحقن المريض بمادة تريحه (من تلك المعاناة) وتعجل بموته، ذهبنا إلى الجانب الأخلاقي والديني بأن ذلك احتجاجاً على إرادة الله. وهذا حق. ولكننا وعندما يعاني مريضنا الأمرين من جراء داء يلزمه السرير لفترات طويلة ولا أمل لشفائه، يعاني معه الجميع (جميع من حوله)، ويخيم الحزن في دواخلهم رثاءاً لحاله ولحالهم.. يتمنون له الراحة (الموت) من هذه المعاناة.. وكذلك راحتهم، ولكنهم يمسكون الفكرة من تلابيبها خوفاً من التصريح بها حتى لأنفسهم. وبمجرد أن تفارق روحه الحياة يتنفس الجميع الصعداء سراً وفي بعض الأحيان يصرحون علناً "إرتاح"!!! وتقام سرادق العزاء وبعضهم ينهيها بانتهاء مراسم الدفن.
    أو كما ينشد شاعرنا الفيتوري:
    صدقني يا ياقوت العرش
    إن الموتى ليسو هم .. هاتيك الموتى
    والراحة ليست .. هاتيك الراحة
    لست بصدد الحديث عن فلسفة الموت ولا قدسيته، ولكنها جدتي الخارجة من رماد حياتي الآن وشياطين تفاصيلها ترغمني على تلك الوقفة.. الوقفة لتجاوز موت آخر .. ليس ذاك الموت، وهي تحاول بعث سطوة الوجدان .. وجدان ذاكرتي.
    أعادتني جدتي إلى سطوة الوجدان.. وجدان الذاكرة. صدئة أقفالها.. هكذا وجدتها، وانا أصيح بأعلى صوتي " فاطنة القصب الأحمر...." وأعتصر تلك الصور المبعثرة داخل ذلك الوجدان. هي التي شكلته، أو جزءاً كبير منه، أثناء تلك الليالي القمرية وحتى عندما يسهر القمر ويأتي بعض منه في وقت متأخر، كما امرأة أدمن زوجها السهر فنزعت عن جسدها وروحها فيوزات التفخيخ ولم تعد تكترث كثيراً لكل أو بعض حضوره، ننتظره أو تنتهي حكاويها ونستغرق في نومنا، لا يهم.
    هي فاطنة القصب الأحمر التي علمتني العشق، وأصيح مرة أخرى " فاطنة القصب الأحمر....."، وأحاول صب بعض مزيج من الليونة على ذاك الصدأ، (يقول أصحاب الخبرة إن بعض من زيت الفرامل يجدي مع الصدأ، ولكنه صدأ الذاكرة ووجدانها!!).
    لماذا القصب الأحمر؟ لم أسأل نفسي حينها وأنا في حضرة جدتي، هذا السؤال، لذلك لم أجد إجابة عليه، ولم يسعفني خيالي وقتها إلى ربط جمالها وحلاوتها بطعم قصب السكر الأحمر إلا بعد زمن طويل. لكنها فتاة جميلة، كما تقول جدتي، وتخيلت طفولتي صورة وجهها وشعرها الناعم الطويل، ورسمتها بإحتراف مصور بارع، فعندما تقول جدتي فتاة جميلة عليك أن تتخيلها كما يجب. وهي مع جمالها وحيدة أمها وليس لها سوى أخ شقيق، فهي إذاً جميلة ومدللة.
    تقول جدتي إن فاطنة القصب الأحمر خرجت عصر ذات يوم مع فتيات القرية إلى طرف الوادي ليجمعن (النبق). وعندما وصلن تآمرت الفتيات على فاطنة القصب الأحمر، وأوكلن إليها مهمة رمي شجرة السدر بالحجارة أو هزها ليتساقط نبقاً جنيا، على ان يجمعن هن النبق ويجمعن لها نصيبها من الغنيمة.
    تلك الصور المبعثرة، وأخشى أن اطرافها صارت مهترئة، لا سبيل لتماسكها لتبدو صورة واحدة واضحة معالمها. حتى الاحتيال ليس بذي جدوى في ممارسة تلك اللعبة الذهنية المعتمدة على دقة الملاحظة أثناء محاولة تجميع تلك القطع المبعثرة.
    رحلة طويلة استغرقتني أثناء محاولتي إحياء وجدان الذاكرة، ولكن رحلة الحياة المتراكمة وشياطين تفاصيلها أغرقتني أنا، وقبرته (هو) حياً لا زال (يفرفر). جربت مدخلاً آخر أتجاوز به خيبتي في سقيا شجرة الوجدان حتى لا تموت جدتي مرتين. إنه نبش مقبرة لروح لا زالت تفرفر.
    تقيأت القراءات؛ عسيرة الهضم هي على معدة الذاكرة. ربما أعمدة جدرانها إعتورتها أطراف من شيخوخة مبكرة.. ولكن طفلتي تقيأتها امتعاضاً وأنا أتلو عليها تلك الحكاوي من كتاب. قرأت لها "فاطنة السمحة" وجدت وجهها شاحباً وعينيها زائغتين وهي تقول لي في امتعاض: "نادي جدتي".. (أمي)، حاولت أن تحكي لها القصة بطريقتها وقد زال عن وجه الطفلة الشحوب وعن نظراتها ذلك الامتعاض، ولكنها تركتها لتدير قناة التلفزيون إلى (SPACE TOON). أقول حاولت لأنها لا ترويها كما جدتي أنا.
    فرق كبير بين جدتي وجدتها، لا أقول أن أمي من الحداثيات ولكنه فرق أجدنة. فجدتي ارتوى وجدانها من رحيق غابر، ليس فيه من عطر سوى ما أنتجته الطبيعة، وبعضه تعتق وهو يمخر عباب البحر في سفن خشبية لا تبلغ المرافئ في موعدها، هذا إذا سلمت من النوَّة. يتأخر الصندل الهندي، فيأتي مبللاً بطعم الملح اللاذع الذي لا يفارق المخيلة، ملح يحتفظ بنضارة الرائحة وعبقها. لم يتدخل في عطرها عبق برائحة الماكينات قط (هل تعرفون الفرق بين زيت السمسم الذي تنتجه عصارة الجمل والذي تنتجه المصانع؟ هو تلك الرائحة .. رائحة الماكينات)، مثلما حدث لأمي التي ربما تخلط قليل من عطور باريسية لتصنع عطرها الخاص.
    هو بالضبط الفرق بين التلقائية والصنعة، الطبيعة والافتعال. ربما هو الفرق بين التأثر والتأثير، إذ أن محيط جدتي الاجتماعي الذي ارتوت منه قدرة الحكي وذاك الخيال ليس هو ذات محيط أمي، فأمي رغم أنها بنت قرية إلا أنها تمدينت وتنقلت بين كثير من المدن.
    عندما تحكي جدتي، عذراً لا تحكي هي بل روحها وجسدها وكل أجزائه تحكي. ذاك الصوت العميق الآتي من عالم آخر يتقمصها. لاحظت ذلك أثناء حديثها مع الكبار، ليس في صوتها تلك النبرة وذاك العمق، بل يبدو عادياً جداً. حتى نظراتها برغم سطوة الليل تأخذ بعداً آخر وهي تحكي عن ود النمير أو فاطنة السمحة أو تنادي سارين الليل وهي تلعن الغول. نظرة لا ألمح أبعادها إلا وهي ترمي بحبل سناراتها من على الشاطئ بعيداً في عمق النيل قبل أن تعلن الشمس انسحابها التدريجي.
    جدتي عاشفة لصيد الأسماك، وتبدو وكأنها في مثل عمرى فرحاً وهي تحكم قبضتها على بياضة من الوزن الثقيل لتسل السنارة من فمها، وقد خدعها الطعم الحاذقة صنعته. لا تطعم سناراتها إلاَّ (صارقيل) وتقول حكمتها في ذلك، إنها لا تصيد (بغاث) السمك لذلك لابد من طعم لائق لما تصطاده.
    الصوت والنظرة الساهمة يميزان الحكي ويضفيان عليه عمق الأسطورة، لينسرب إلى خيالات جامحة لا يكبح إنطلاقها غير النعاس، وهذا أيضاً ربما لا يكبحها إذا ما سكنتك –كأحلام- طلاسمها، وحركة يديها المتناغمة مع تطور الحكاية وانفعالاتها، أشبه بحركتها قابضة على مقبض منجلها الخشبي تقطع أوصال القصب الأخضر في اتقان قبل أن تضعه على ظهر حمارها وهي تغادر الجروف.
    ويأتيني صوتها من تجويف عميق خارج من ظلام النسيان، شيء هو أشبه بسفينة فضائية سابحة في ذلك الفراغ الدامس ظلامه، يأتيني الصوت الآن عبر أنابيب متعرجة، الذاكرة تحاول أن تفعل فعلها، وأعرف شيئاً عن ما حدث لفاطنة القصب الأحمر، حيث خدعنها رفيقاتها؛ فوجدت سلتها مليئة بالنبق الأخضر في حين استأثرن بالأحمر الناضج. وكانت الشمس قد شارفت على الغروب. لكن غضبتها كانت أقوى من أي حرص على عودتها مع رفيقاتها إلى القرية قبل حلول الظلام، قذفت بمحتويات السلة بعيداً وبدأت تجمع النبق الأحمر.
    إنها عصية، تلك الحكاية المترعة بتفاصيلها، عصية على ذاكرة تآكلت أطرافها. ولكن صوت الفتاة الباكي وهي تقاوم الغول الذي عزم على اختطافها، عندما رآها وحيدة وبعيدة عن القرية، وتمكن منها، جعلني صوتها الباكي أتوسل جدتي لإسعافي، فتمد لسانها ساخرة من حالي، ذاكرة أخرى اسعفتني ولكن ليس بما فيه الكفاية.
    ثم ماذا بعد؟؟
    (2)
    دخلت إحدى مقاهي الانترنت لتصفح بريدي الالكتروني، فإذا بطفل لا يكاد يتجاوز التاسعة من عمره يجلس على الجهاز جواري. راقبته في فضول، متذكرا حديث لصديقي يلعن فيه الزمن الذي جعله يتعلم الكمبيوتر مع إبنه ذو الخمس سنوات، قالها مفتخراً بإبنه ونادباً الزمن الذي ولد فيه ولم تكن فيه التكنولوجيا بهذا التطور أو لم يكن هناك ما يدعى الكمبيوتر ولا شبكة عنكبوتية ولا شيء مما نراه ونتابعه الآن. ضغط الطفل على يسار ال(ماوس) ليفتح ال(INTERNET EXPLORER) ثم ماذا يا صبي؟
    دخل على محرك البحث (GOOGLE) وطبع كلمة ألعاب ثم ضغط على مفتاح الدخول، لتظهر أمامه قائمة طويلة من الألعاب التي لا أعرف معظمها، وبدأ في ممارسة هواية يبدو أنه أتقنها جداً. فهو يحرك طرزان بين أغصان أشجار الغابة الكثيفة بمهارة تفوق كبار المخرجين السينمائيين. وبانفعاله بلعبته يكاد يخترق الشاشة، مثلما كنت أكاد أخترق فضاء حكايات جدتي وأنا مشدود إلى تلك التفاصيل الحميمة.
    وكاد الغول الذي اختطف فاطمة القصب الأحمر أن يخرج لي من شاشة الكمبيوتر الذي يلعب فيه الصبي حين سرحت بخيالي عبر عجلة الزمن. اختطف الغول الفتاة الجميلة، وعادت صويحباتها إلى القرية بدونها لينتظرهم السؤال عنها. قالت مجموعة منهن:
    - شالا الغول!!!!
    جلس أخوها، الذي أصر على مواجهة الغول لتخليص أخته والعودة بها، جلس إلى حكماء القرية الذين يعرفون الغول جيداً ولكن أحدهم لم يجرؤ على مواجهته، لأنه كان عادة ما يعتدي على أغنامهم ويعتبرونها قرابين. وأمام إصراره أسدوا إليه بعض النصح في كيفية التعامل معه. وقالوا له إن من عادة الغول أن ينام وهو مفتوح العينين، فإذا دخلت عليه ووجدته مغمض العينين فتأكد أنه مستيقظ. ثم منحه أكبر الحكماء (شوكة) وقطعة (طين) وشرح له طريقة استخدامها ضد الغول إذا ما اضطر إلى ذلك. امتشق أخوها حسامه وامتطى صهوة فرسه واتجه ناحية سكن الغول عند أطراف الجبل المطل على الوادي. ويا له من فارس عندما تصفه جدتي.
    كثيراً ما أعود إلى البيت لأجد الأطفال ملتفين حول التلفزيون خاصة أثناء العطلات الصيفية، لا يهتمون لشخص أو شيء وهم يشاهدون قناة (SPACE TOON)، لوقت طويل أشبه بلحظات الغرق الصوفي. فيما تحتل الأمهات وحتى (الحبوبات) مجلس التلفزيون في المساء لمتابعة طائفة من المسلسلات، ويلتف حولهن ذات الأطفال. تحول التلفزيون إلى جدة كبرى تجذب بحكيها الكبار والصغار، وفي ذلك شيء من أيام جدتي وحكيها حين كان الكبار يسترقون السمع (يرخوا أضانم) لذلك الحكي وأحياناً يعلقون عندما بلوغ الذروة. وربما سمعوا كل تلك الحكايات مرات ومرات.
    أتذكر في تلك اللحظات التلفزيونية جدتي التي عادة ما كنت أتبعها كظلها وفي نفسي رغبة ألاَّ تنتهي الإجازة الصيفية لأعود إلى المدينة والمدرسة وتلك الملاحقات اليومية للتأكد من أداء الواجب.
    وأتذكر شقيق فاطنة القصب الأحمر الذي ذهب إلى حيث الغول لتخليصها منه. دخل في حذر إلى الكهف الذي يسكنه ووجده مفتوح العينين مما جعله يطمئن فالغول ينوم لأسابيع قد تصل إلى شهر، ولكنه يتوسد شعر فاطنة الطويل الناعم مما اضطره للعودة إلى كبير حكماء القرية الذي نصحه بأن يخلي الكهف تماماً من إي شيء مهما كان صغيراً ثم يقص شعرها ليخلصها. وهو ما فعله الفارس عند عودته مرة أخرى إلى كهف الغول. وحمل فاطنة القصب الأحمر على الحصان خلف ظهره وانطلق في اتجاه القرية.
    لكنه نسي المنقار وهو قطعة حديد صغيرة لم ينتبه لها. طار المنقار إلى أعلى وصار يضرب الغول بشدة وهو يصيح:
    يا اب نوماً شهر
    وحسيساً دهر
    نوارة البيت شالوها.
    ثم يطير إلى أعلى ويضربه على رأسه ويردد ذات الكلام (وتردده جدتي كذلك عدة مرات بمؤثرات صوتية عالية التقنية، تقنية تخص الحكي)، إلى أن استيقظ الغول ليكتشف أن نوارة البيت شالوها. وتبدأ رحلة مطاردة تنقطع لها الانفاس، وانتبهت فاطنة القصب الأحمر للغول الذي يطاردهما لتحذر أخاها من اقترابه. تذكر الفارس أنه يحمل الشوكة وقطعة الطين.
    وما بين المسافة الفاصلة بين الغول والفرس المنطلق بأقصى سرعته، تحسست ذلك الوجدان المهترئ. قلت إن أمي لا تجيد الحكي مثل جدتي، وهي جدة أيضاً لها أحفادها الكثر، لكنها مشغولة مع أمهاتهم بحكي آخر والأطفال مشغولون بفضاءات تخصهم ويشارون الكبار في فضاءاتهم. إنها حكاوي فضائية تفتقد لتلك اللحظات الحميمة، والحوش المتمدد براحته في أرض القرية وتلك الليالي بقمرها أو حتى بدونه، والعناقريب المنسوجة ببراعة، ونهيق حمار جدتي الذي يغازل حمارة الجيران، وذلك الديك الذي لم يغلبه النعاس بعد، رغم مغيب الشمس ليصيح مقلقاً مضاجع إخوته الذين يردون عليه في تكاسل، ثم يأتي دور جدتي بصوتها وحركات جسدها الموحية لتكتمل عناصر المسرح. إنه حقيقة مسرح حي له خشبته وديكوره وسيناريو محبوك بالفطرة ليكتمل بالحكي ونحن جمهوره.
    الآن أرى جدتي سعيدة وأنا التقط ملامح الصورة التي ذابت أطرافها وكادت ان تضيع في غمرة أحداث الحياة المتعاظمة وبين ثنايا تفاصيلها المملة. وكأني بها تقول لي من بين شبح ابتسامتها "إياك واهتراء وجدان الذاكرة، فهو ما سيبعث في الحياة إن بقي حياً داخلك".
    وتطاردني صورة الغول الآن، والذي كاد أن يقترب من الفرس، ليرمي شقيق فاطنة القصب الأحمر الشوكة التي وهبها له كبير الحكماء، واستحالت الشوكة غابة ضخمة ممتدة لتغطي مساحة كبيرة تفصل بين الفرس المنطلق والغول الذي يحاول اللحاق به.
    على الغول أن يقطع كل تلك الغابة لكيما يستطيع مواصلة مطاردتهما، وهو ما فعله تماماً. وتمكن مرة أخرى من الاقتراب من الفرس الذي يحمل فاطنة القصب الأحمر وشقيقها. وتنبه فاطنة اخاها مرة أخرى ليرمي بآخر أسلحته في وجه الغول، وهو قطعة الطين التي استحالت بحراً عريضاً من المياه.
    يقف الغول قليلاً وتبدأ ذروة أخرى من ذروات الحكي في الهبوط لتهدأ الأنفاس المتسارعة مع سرعة المطاردة، حتى يكمل الغول شرب كل مياه البحر الذي أمامه، فهو برغم جبروته لا يمتلك عصا موسى لتعينه. ولأنه غول فقد تمكن من شربه.
    في تلك الأثناء لاحت مشارف القرية من بعيد لتطمئن فاطنة القصب الأحمر وأخوها، ويفشل الغول في اللحاق بهما ليعيد نوارة البيت إليه.
    لكن جدتى لن يكتمل رضاها إذا وقفت عند هذا الحد، فهي تقول إن الغول ملعون وإذا قصد أمراً بلغه ولو بالحيلة. فعندما علم بأن القوم في القرية يرتبون لذبيحة كرامة لعودة فاطنة القصب الأحمر وسلامتها، تمثل في هيئة كبش ضخم يغري أي شخص، فاشتراه أخوها ليكون قرباناً وفداءاً لها.
    توجست الفتاة الجميلة خيفة وهي ترى الكبش يعبر الباب الخارجي وتشتم الرائحة التي ما فارقت حاستها منذ أن توسد الغول شعرها حتى لا تهرب. قالت لأخيها إن ما أتيت به هو الغول. ضحك أخوها فيما قالته ولكنه ليطمئنها ربط الكبش بسبع (جنازير) حديدية ثم خرج. وصار الكبش (الغول) يصارع الجنازير وهو يصيح وفاطنة تصيح، إلى أن قطع ستة منها، وقبل أن يتمكن من قطع الأخير لحق به أخوها وبعض فتيان القرية ليذبحوه ويحرقوه إلاَّ قطرة من دمه طارت في بعيداً وتحولت إلى خرزة حمراء لامعة.
    وبدات فاطنة في نظافة آثار الذبح والحرق لتجد الخرزة الحمراء وتعجب بها لتضعها في فمها ريثما تنتهي من النظافة لترى ما ستفعله بها. ولكنها لم تمهلها كثيراً إذ طارت الخرزة (الغول) داخل حلقها لتسده حتى ماتت.
    وماتت فاطنة القصب الأحمر ونحن نلعن الغول (وعمايلو)، مثلما ماتت جدتى وسنموت أنا وأنت. لكن هل سيبقى وجدان الذاكرة حياً مترعاً بتلك الحكاوي الحميمة؟ لا يبدو ذلك هذا ما تقوله الأشياء من حولي، بعد أن شغفت الجدة بالمسلسل اليومي مثل الأم في زمن الحكي وقت أن يحتاج الصغار لذلك وينامون لتستيقظ أخيلتهم، وما عاد المسرح هو ذات المسرح ولا الديكور هو ذاته ولا السيناريو.
    إنه زمن اهتراء وجدان الذاكرة، ولكني قاومت بعض الشيء عل جدتي ترضى بما زرعته يوماً، ليهمل الزمن سقايته.
                  

العنوان الكاتب Date
اهتراء وجدان الذاكرة أمير بابكر07-20-07, 08:33 PM
  Re: اهتراء وجدان الذاكرة غادة عبدالعزيز خالد07-20-07, 08:43 PM
    Re: اهتراء وجدان الذاكرة Emad Abdulla07-20-07, 09:57 PM
      Re: اهتراء وجدان الذاكرة أمير بابكر07-21-07, 01:47 PM
        Re: اهتراء وجدان الذاكرة غادة عبدالعزيز خالد07-22-07, 06:30 PM
          Re: اهتراء وجدان الذاكرة أمير بابكر07-23-07, 01:09 PM
            Re: اهتراء وجدان الذاكرة Emad Abdulla07-23-07, 02:03 PM
  Re: اهتراء وجدان الذاكرة معتصم دفع الله07-23-07, 04:39 PM
    Re: اهتراء وجدان الذاكرة أمير بابكر07-23-07, 07:40 PM
  Re: اهتراء وجدان الذاكرة معتصم دفع الله07-25-07, 04:49 PM
    Re: اهتراء وجدان الذاكرة غادة عبدالعزيز خالد07-25-07, 10:01 PM
  Re: اهتراء وجدان الذاكرة منتصر الامين07-26-07, 00:07 AM
    Re: اهتراء وجدان الذاكرة غادة عبدالعزيز خالد07-26-07, 00:53 AM
      Re: اهتراء وجدان الذاكرة أمير بابكر07-26-07, 09:24 PM
        Re: اهتراء وجدان الذاكرة منتصر الامين07-27-07, 10:26 PM
          Re: اهتراء وجدان الذاكرة Emad Abdulla07-27-07, 11:26 PM
            Re: اهتراء وجدان الذاكرة أمير بابكر07-28-07, 07:51 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de