إدريس محمد جماع .. العاشق العبقرى النبيل .. من حلفاية الملوك إلى الدوحه !!

Quote: ندوة عن شاعر السودان الكبير بنادي الجسرة ... إدريس جماع «لحظات باقية» في ذاكرة الأجيال الربيع: خطابه الشعري يدور بين جماليات الاحتفال بالذات والطبيعة والتفاصيل الإنسانية عبدالعال: جماع تميز عن غيره بعمق الإيقاع وحرارة الأنفاس الدوحة - الشرق : أقامت الجالية السودانية بالدوحة ندوة عن شاعر السودان الكبير إدريس جماع، واستضاف هذه الندوة نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، وتناولت حياة الشاعر ونشأته وشعره، تحدث فيها الكاتب مصطفى عبدالعال صديق الشاعر ورفيق طفولته والزميل الإعلامي محمد الربيع محمد صالح والكاتب صديق محيسي وأدارها معاوية الطيب. ويعتبر الشاعر إدريس محمد جماع 1922- 1980 من المبدعين السودانيين المتميزين. وقال محمد الربيع في هذه الندوة: لقد اختار جماع الشعر وسيلة وأداة للتعبير عن نفسه وعن أحلامه وهواجسه، وللإسهام في عمارة الجمال السوداني، بإضافة مداميك أخرى إلى عطايا البناة الكبار من شعرائه الرواد. إن إدارة حوار حول تجربة جماع الشاعر والإنسان، مهمة صعبة وسهلة في ان، الجانب الصعب منها يكمن في اتساع وتعدد وغنى هذه التجربة، مما يتعذر اختزاله في وقت محدود ومبحث محدود، مما يجعلنا نكتفي بالإشارة والإيماء والالماح. أما الجانب السهل فيها فهو التكامل والانسجام بين شخصية شاعرنا وإنجازه الإبداعي، مما جعل منه علامة شعرية كبيرة في الماضي والراهن يتجلى مدى قرب جماع من الروح والوجدان في السودان، ومدى نفاذ خطابه الشعري، الذي يدور بين جماليات الاحتفال بالذات والطبيعة والإعلاء من شأن التفاصيل الإنسانية الصغيرة والحميمة، لتخلد في الشعر وبالشعر وتستحيل إلى «لحظات باقية» واضاف الربيع: إن حوارنا اليوم يدور بين جمال إبداع جماع وجمال وبريق حضوره الشخصي والإنساني فهو شخصية إنسانية فريدة، هذا الانسجام والاتساق بين جمال شخصية الكاتب وجمال الكتابة، يجعل من مسائنا هذا مساء يبحث في المعرفة بين أقواس الامتاع والمؤانسة. ويكفي فقط هنا أن أشير إلى أن إدريس جماع اختار لديوان شعره عنوانا يمثل تعريفا مختزلاً وذكياً وموحياً للشعر في كل زمان وكل مكان: هو «لحظات باقية» وهل الشعر إلا ما يبقى من كنوز الوجدان، بعد أن يذهب زبد التفاصيل والتكرار والتشابه جفاءً! لقد أجاب جماع في متون ديوانه الوحيد عن سؤال طالما أرق الباحثين: ما هو الشعر؟! ولم يكتف جماع بذلك فقط بل قدم نسخته العملية من مانفستو الشعر والتجربة الشعرية حين قال في قصيدته التي حملت عنوان الشاعر: ماله أيقظ الشجون فقاسى وحشة الليل واستثار الخيالا ماله في مواكب الليل يمشي ويناجي خميلة وظلالا حاسر الرأس عند كل جمال مستشفٌ من كل شيء جمالاً لقد اختزل جماع في هذه القصيدة، وقدّم صورة كثيفة وعميقة للشاعر في كل زمان وكل مكان.. من خلال ما اسماه تي. إس. اليوت. ايجاد «المعادل الموضوعي»، بالتعبير النافذ بالعلامات التي تلمح إلى المعنى، وتقوله ببراعة وجمال. من جهته قدم مصطفى عبدالعال صورة متكاملة عن حياة الشاعر جماع تناول فيها مفاصل مهمة من حياته بما فيها شعر الحب فقال: خاض جماع تجربة الحب مرة واحدة في حياته، عاشها بكل احساسه وجوارحه ووجدانه، وكانت تجربة قاسية مرة، استمع إليه حين يقول: ابن عشك ياقماري قشة قشة وعليمنا ياقماري سر المحنة وكيف تبني ياقماري من قشة جنة وهذه القصيدة الحلوة المعبرة يغنيها الفنان الراحل سيد خليفة بطريقة وبأسلوب حلو يجعلك تعيش معه، وهو ينزع دائما للصوت الحنون الباكي، مما يجعلك تتأثر حتى تكاد ان تبكي معه. هذه كانت بداية لعواطفه الجياشة، ثم انتقل بعد ذلك للخوض في العمق فجاءت قصيدة «أنت السماء». وهذه القصيدة بعيدة الغور. وما اظن عاشقا من قبل جماع وصف بعد الحبيبة بهذا البون الشاسع، دعوني اتلو على مسامعكم ايها الجمع الكريم بعضا من أبياتها المسكرة: أعلى الجمال تغار منا ماذا عليك إذا نظرنا هي نظرة تنسى الوقار وتسعد الروح المعنى دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤاد اذا تمنى وأضاف ما اعجبك ياجماع، وما أحلى هذه الكلمات، وما أحلى الموسيقى والجرس، هي نظرة تنسى الوقار، وتسعد الروح المعنى، تخيل انسانا عاقلا نسى وقاره، فهو إلى الهبل أقرب يومئذ، جاء في أغاني الحقيبة للقاك يتهبل. وإذا وصل الإنسان إلى درجة الهبل فإنه ينسى نفسه ويفعل ما يشاء، دون أن يحس بمن حوله، وهذا تصوير في غاية الدقة ونهاية الغرام. وانظر معي إلى البيت الخالد: أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا عندما يصف المحب المحبوبة بالسماء، فهذا يعنى ان الوصول إليها مستحيل. وهذا وصف يبدو ان جماع قد تميز به عن غيره من سائر الشعراء والعشاق في عمق الايقاع وحرارة الانفاس. وقد لمس في محبوبته قداسة ولمس فيها اشراقا وفنا. والقداسة هنا قداسة الحب وليست قداسة العبادة والفرق بينهما واضح وكبير. إذ ان في قداسة العبادة التجلى والتبتل. صدقني ايها المستمع الكريم ان كل بيت من هذه القصيدة يحتاج إلى وقفة وتأمل. وبعد ذلك عقب الأستاذ صديق محيسي على الندوة فقال: لا أريد أن ازيد في المعلومات والرؤى بأكثر مما قدمه أستاذنا المحاضر مصطفى عبدالعال حول ومضة عابرة مثل الشاعر إدريس جماع، وهنا ان اردت ان اقول شيئاً عن جماع فلا يسعني إلا أن اذكر جماعاً وهو تائه بشعره الاشعث متجولاً في سوق الخرطوم لا يحدث أحداً، متسارعا في خطاه كأنما كان يبحث عن شيء ضائع، في ذلك الزمن في سنوات الستينيات كتب العديد من الأدباء والشعراء مطالبين حكومة الرئيس إبراهيم عبود التي اهتمت يومذاك بالفن والشعر بأن ترسل جماع للعلاج في الخارج، واظن ان لم تخني الذاكرة ان وزير الاستعلامات يومذاك طلعت فريد أمر بإرساله إلى بيروت ليتلقى العلاج هناك، وبالفعل وان لم تخني الذاكرة ايضا فإن ذلك قد حدث وارسل جماع إلى لبنان، وعاد مرة أخرى إلى السودان، ولكن لم تتحسن حالته الصحية إلى ان توفاه الله في الثمانينيات. كان جماع شاعراً لا يشبه أحد، فهو والتجاني يوسف بشير كانا نجمين أفلا في سماء السودان قبل ان يكملا ضوء الشعر، وبعد هذه الكلمات المختصرة لا يسعني إلا أن أقول إن جماع عشق الشعر، وعاش بالشعر، وفي النهاية قتله الشعر، واقترح في نهاية حديثه تشكيل لجنة لإعادة طباعة ديوان جماع طباعة تستحق إبداعه وما قدمه للسودان.