|
Re: كلما اقتربت الشيوعية من الواقع.. ابتعدت عن الماركســية! (Re: عدلان أحمد عبدالعزيز)
|
الأخ عدلان ... كيفك
صحيح بقدر نسبي أن الماركسية تكونت إثر تلاقح مصادر متعددة , فيما يشي وكأنها متصالحة و فكرة التعددية , لكن هذا الإستنتاج غير صحيح , إذ أن كارل ماركس إعتقد بأنه إختار أفضل مكونات الفكر البشري فى الفلسفة والإقتصاد والإجتماع , وأدغمها فى حامل فكري واحد , وأضاف إليها إسهامه الخاص و ثقاته من رواد الفكرة الشيوعية آنها , وإلى هنا فالأمر يلقى قبولا بإعتباره إجتهاد , وغير أن لكل مجتهد نصيب , فطبيعة تراكم الفكر الإنساني تتساوق والإضافات الكمية والنوعية للأفراد وللمجاميع , إن لم تكن تقتضيها وفق قانون التطور نفسه , والذي يحكم مسار التجربة الإنسانية فى عمومها , وكما تقر بذلك الماركسية نفسها .
لكن الماركسية , وإن تآلفت على مصادر متعددة , فهذا ينطوي على قدر من العمومية جدير بالتبيان , خذ مثلا الفلسفة الألمانية كإحدى مكونات الماركسية الثلاث , فكارل ماركس لم يختر كل الفلسفة الألمانية آنها , وإن كانت هذه فرضية مثالية من الصعوبة بمكان تطبيقها عمليا , لكنها وعلى أية حال حقيقة لا يمكن إنكارها , فما أرمي إليه هنا يتصل بالشكل أكثر من المحتوى , فكارل ماركس إختار ( جزئيا ) الفلسفة الألمانية , تحديدا ذلك ا لجزء الذي ينسجم مع تفكيره , والذي هو الشق المادي من مناهج التحليل التاريخي والطبيعي , بناء عليه فالدقة تستدعي أولا توقيع الشأن كما حدث , ويمكن القول من ثم وبكل أريحية , أن ( جزءا ) من الفلسفة الألمانية أضحى مكونا من مكونات الماركسية .
وإن شئت الإنتقال لمصدر ثاني من مصادر الماركسية , وهو الإقتصاد الإنجليزي , فهذه فرضية أكثر قتامة من الفلسفة الألمانية , فالإقتصاد الإنجليزي آنها كانت تحكمه مسارات الرأسمالية , وهي متأبطة حزمة منجزاتها الإقتصادية على صعيد عصر النهضة , وحيث توالت الرأسمالية مع حركية المجتمع الصناعي الجديد , وشكلت فى الإثر وعلى نحو غير مسبوق , آليات السوق وإمتداداتها الجغرافية المستحدثة , وحيث توفرت البنية الفكرية لإعادة تأهيل الرأسمالية وفق منظور عالمي , أظنه كان المدخل لفكرة الإستعمار وهو يقترن عضويا بمفهوم الإستثمار كفاعل إقتصادي , وبالحداثة كنمط لإدارة الدولة والمجتمع . هذا التساوق فى مفهوميته الإقتصادية لا يجمعه جامع والإشتراكية , خاصة على الزعم الماركسي , وعليه لا يمكن أن يكون الإقتصاد الإنجليزي مكونا ماركسيا كما يشاع , لكن من الممكن أن يكون ( نقد ) ماركس لهذا الإقتصاد وعلى أساس من مفاهيمه الجديدة , هو كل الأمر , خاصة وقد توفر بنفسه لهذا الغرض , وحيث مكنته ظروف إقامته هناك , أن يتناول وعن قرب إحداثيات التضاد بين هيئة المجتمع الإنجليزي الإقتصادية حينها , وبين فرضياته الإشتراكية المستوحاه من سياق التجربة ومن ردة فعلها فى نفسه , وأخال أن هذه هي الفترة التي أنجز فيها مخطوطته المتميزة عن رأس المال , بل وربما جل إسهامته ذات الطبيعة الإقتصادية . فالأمر لا يتعلق بالإقتصاد الإنجليزي إلا من الزاوية التى أبنت , ... وليتني أصبت .
لا أظن أن الأمر هنا يتعلق بإشتراكية روبرت أوين , وقد تجاوزها كارل ماركس بحكم فظ حينما وصفها بأنها طوباوية , وقد كان الرجل جزميا فى حكمه هذا حتى جرى عادة سهلة الإسترجاع فى ظنية من تبعوه , بل أن مصطلح الإشتراكية الطوباوية قد تألق شيوعيا بسبب من إرتباطه بأوين أكثر من مدينة إفلاطون الفاضلة , وهو بالطبع يتألق من باب الذم أكثر من عداه . أوجز هنا بإستبعاد فرضية التحلق الماركسي على جنة أوين الوهمية , وبالتالي إستبعاد الآصر الأضعف فى إعتبارية الإقتصاد الإنجليزي مصدرا من مصادر الماركسية .
أما المصدر الثالث والأخير للماركسية فيوكله أولي الأمر الشيوعي لمأثرة الثورة الفرنسية , خاصة وأن تلك الثورة قد نفحت بمدد من ماء حياتها أنموذجا غير مطروق فى التجربة الإنسانية السالفة , فكانت كميونة باريس معلما للفلاح الطبقي المتآذر والضعاف و الكادحين , وكانت عنوان التداعي الماركسي فى مساراته الإجتماعية , وكانت أسا لإلتئآم الطبقة العاملة بمسحوق تطلعاتها , وكانت من ثم الرافد الإجتماعي فى التعبير عن ضرورات ومآلات الصراع الطبقي , وحيث إحتل هذا الكشف موقعه المتقدم فى الإطروحة الماركسية . لا أبحث هنا عن نفي جزافي للواقعة ولا لتداعياتها , لكني أستغرق لإستنكاه تبجيل الفكرة بل وتعميدها مصدر من مصادر الماركسية , فما وجدت غير جديلة الثورة وجدليتها , وهي تتقد فى ذهن ماركس وتبحث عن مسوق فى التجربة , فكانت باريس حاضرة الفكرة وكانت ساحة عرسها الثوري , مع هذا فقد كان الرهان الماركسي أقل قدرة من مغالبة التاريخ وهو يحتضن ترياق الثورة , إذ لم تعد الكميونة غير برهة ثورية عابرة , مع هذا فقد ألهمت ماركس مضامين عالية فى مشروعه الإجتماعي , وجعلته ينظر للإستثناء فى التاريخ أكثر من تياره العريض , لا لسبب غير أن ماركس كان يود إعادة صياغة التاريخ وليس التماهي فى مجراه .
أقصد مما أسلفت أن الشائع تايخيا عن مصادر الماركسية الثلاث , غير دقيق ويتطلب فى تقديري التقويم , فالمصدر الأول جزئي والثاني إفتراضي والثالث إستثنائي , ولعل سفر البحث عن مجافاة الماركسية للواقع يبدأ من هنا , من مصادر التكوين الأولى وحجم المعارف الحقيقية التي أسهمت بها فى المشروع النظري الماركسي , إذ أرى تزيدا غير مشفوع بالتاريخ , كما أرى تعميما لا يتسق والموضوع .
مع ذلك فسوف أواصل فى إتجاه نقد هذه المصادر وكما زعمتها الماركسية , فحتى وإن حملت هذه المصادر أجمل المعارف , فهذا الجمال نسبي بالتقييم الموضوعي , لكن ماركس إختاره مطلقا بالتعليل الحتمي , وإن الواضح أن ليس بالضرورة أن ما يراه ماركس هو مايراه العالم من حوله , وهذا أولا . كما أن تلك المصادر تعبر عن وعي مرحلي هو الذي أفرز الدافع وهو الذي شكل الإستنتاج , لكن كارل ماركس وبأثر من جموحه الفكري , إستعاض عن المرحلية بالنهائية وكأنه آخر الأنبياء , وهذا ثانيا , كما أن هذه المصادر كانت تعبر عن وعي يمكن تنميطه جغرافيا , فهو حالة أوربية بحتة وكأوسع تعميم ممكن , وإن كانت أوربا آنها تقود زمام المبادرة , لكن هذا لا يعني إلغاء بقية العالم , خاصة عندما تروم فكرا هو لكل العالم , , ويبدو أن قصور ماركس عن إدراك هذا الأمر , حرمه من دراسة وقائع مجتمعات أخرى , ذات تاريخ وحضارات وأديان وثقافات وأنماط إنتاج وحياة مختلفة ومتنوعة , وبالطبع فقد أرخى هذا القصور بإنعكاساته السالبة على الفكر الماركسي وعلى مسارات تجربته , وهذا ثالثا .
كما أن هذه المصادر وإن إختارها ماركس بعناية , يستوحى من خلالها شمول وصحة الماركسية , إلا أن الناظر للمحصلة الفكرية النهائية , يرى أن الماركسية قد إجثت الكثير من الأدب والتراث والهموم , وهي بهذا تقلص المعرفة الإنسانية وليس العكس , فهي تلغي الدين لصالح الطبيعة , وتخفض الروح لصالح المادة , وتقزم المشاعر لصالح الإقتصاد , وتجفف الشعوبية لصالح الطبقة , والقومية لصالح الأممية ... وهكذا , ومع كل إلغاء وتهميش تتقلص معارف وموجودات إنسانية , فهل وعلى هذا النحو أضافت الماركسية للتراث الإنساني ... أم العكس صحيح ؟
الفرق بين مصادر الماركسية قبل الماركسية وبعدها جدير بالتأمل , فهي من قبل لذاتها وهي متفرعة وهي محدودة بدواعيها , وهي مؤقتة وفق ظرفيتها , وهي تنتسب لصانعيها من الأفراد والملل, وهي فى نهاية المطاف كما هي . أما بعد الماركسية , فهي تفقد بعض خصائصها الذاتية لصالح التلاقح الجمعي , و تصبح جزءا من كل , وهي تتعرض للتعديل شكلا أو محتوى كما فعل ماركس بفلسفة هيغل , مع هذا تظل قيمتها التاريخية صالحة للتداول بمعزل عن الماركسية كإطار جامع , لكن هل من الممكن أن تظل الماركسية ماركسية فى غياب أي من مصادرها تلك ؟ خاصة وقد تبلورت تلك المصادر فى شكل مكونات فكرية , هي المادية الدياليكتيكية والأخرى التاريخية و الإقتصاد السياسي ... لا أعتقد , لكن الحوار يفيد ... وكثيرا .
|
|
|
|
|
|