سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-01-2024, 11:33 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عمر ادريس محمد(عمر ادريس محمد & فجراوى)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-10-2006, 09:33 PM

عمر ادريس محمد
<aعمر ادريس محمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2005
مجموع المشاركات: 6787

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة



    سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة

    صلاح الزين

    يتحدد المكان، كإنبناء فيزيقي، بمكان آخر يمكث على مقربة منه في تحديدات حيزية تتيح للمكانين حيز زمني يذهب بالزمن فيه من إنسياب وقتي إلى تاريخ بصيرورات ماكرة. بمعنى آخر، ينوجد المكان كسلالة حيزية بتاريخ، هو لازم له، في حرب المكان على بداهات الجغرافيا وجغرافيا الخيال. مكان بتاريخ وتاريخ منغرس في المكان وما بينهما من تصادٍ هو هو ترجيع فحيح الذات في إنشمالهما بالمكان أو إنفكاكها عنه: ترف وجودي حده الأول الذاكرة؛ الذاكرة المسنود طرفها بدهان المكان وعطره، وحده الثاني الذات بذاكرة تشفف المكان نصاً يرمم ثقوب ذات المكان ويذهب به إلى إلفةٍ بعادات وأمزجة تجعل من المكان ذات أخرى بعين وعقل ونزوع قلق.

    مكان بذوات، ذوات بمكان وتاريخ لهما. بكرم بنائي يعد التاريخ روافعه للمكان ومحمولاته بأشكال وهيئات تسد قراءة سيرورة التاريخ في انفصاله عن ذاته وتماهياته مع حيز هو هو تاريخه اللازم. استطرادا، يبدو المكان وتاريخه والتاريخ ومكانه إنوجاد ميتافيزيقي، هيولي فلسفي يصعب معه سلخ الحيز من تاريخه والتاريخ من حيزه مما يؤسس لإستصحابات نفسية وفكرية تسهل الإقامة في غوايات التماثل وترى في الاختلاف والتخالف استثناءات باهتة تعوزها دربة الإقامة في السيروري المتدافع، بل تذهب طرائق العقل الرائي تلك إلى نهاية نسقها المفهومي ذاك. تقوم بتطقيس المكان حد إنسرابه خارج تاريخه. بمعنى آخر: استحالة الفصل بين المكان وطقسه والطقس ومكانه والنظر إليهما في تماثل جوهري لا يعترف بطقس آخر لمكان آخر، بمعنى عولمة المكان وطقسه وذرهما لريح لاهوتي تشققه اندباغ العادات بأمكنة لاتعرف حتى بداهة خروج العادات من تاريخها والتاريخ من عاداته.

    شرفة للرؤية، شرفة مبذورة هكذا، لا يرى الرائي إليها إلا بما تسمح به الشرفة ومشمولاتها لا تعدد زوايا الرؤيا وانتلاف المكان بعباد ولغات، أمزجة ونزق لا ترى في الشرفة غير ما تراه ريح مغموسة في مياه بلونين.

    لوحة سمترية، فضاء مبقع بدهان ميتافيزيقي، زمكانية تستنقع في إنعطابات الذوات المقدودة من استطالات الذات جغرافياً والجغرافيا ذاتاً، متاهة غروتسكية مضمخة، حد الإرتعاش والشبق، بسراب يوهم التاريخ باستحالة حرثه واستنباته غرساً يهب أكله في مواسم مغايرة بتغاير دورة الأرض والفصول. هكذا لوحة، ذوات بطول المكان، ومكان بطول الذوات، اندلاق ماء في ماءٍ آخر، بزي لا يرى في الزي إلا ستر العورة وإخفاء جدلية الخفاء والتجلي في إرتهانات تُسمكُ استحالة العيش في المختلف إلا بدبقه بما قبله حتى يكون مختلف متماثل مع ما قبله، إذ لا وجود له أصلاً، أو قُـل، إن وجد، فهو وجود رغبوي، متخيل، لا تاريخي، يستنبطه في ذاته المختلفة إلا برده لتماثله بالما قبل الموجود منذ الأبد وإلى الأبد.

    استطراداً، يصير زمان البنية هنا زمان إلحاقي، ذاكري لا سيروري مختلف. بمعنى أنه زمان منحتف، أوله هو هو آخره، يشيخ في ولادته ويولد في شيخوخته، زمان متجوهر في كينونته و كائن في جوهر يتعالى على الرماد والصرير. وفي تساميه ذاك يعولم الزمان الشرطي، الزمان الموسوم بالجغرافيا والتباسات الثقافة، طعم الرغيف وطبوغرافيا الليل والنهار. يصبح الزمان هنا وقت مائع، سائل، أو قُـل زمان مزاجي لا تاريخ يتساند فوق روافع منطربة بتغايرات روائح الطعام، لون العيون، شكل الأنف، واختلاف الهتاف والشعار. زمكانية من غير سلالة وآباء، تناصات وترديف، خلواً من استرابات القرابة وشراكها. ومن ثم، زمكانية يصير فيها المكان استطالة للزمان والزمان امتداد للمكان، بالضبط كنار المجوس المنفوخ شراعها بهواء السرمد والأزل.

    أنقفلت ثمانينيات القرن الماضي بدولة تؤسس لخطاب سياسي أهم تجلياته هي إفراغ الزمكانية من حمولاتها بالتأسيس لأخرى ترجع بالتاريخ لطفولته الشائهة. الخطاب القادم من تلافيف المكان والزمان ذاته كان يرى إلى بنيتهما، أي زمكانيتهما، في إنوجادها الأنطولوجي المفرّغ من ذوات لا تكون البنية إلا بها، بمعنى آخر، تأثيث البنية وتزويق بهاءها بسياسة "الإفراغ الوجودي" مما يمهد الطريق لشحنها ب "وجود" مختلف يلحق الاختلاف بالبنية ذاتها ليستعلن نهوض التاريخ من ركامه والآلهة من سقطتها لتحمل التاريخ وبشاراته لمشروع حضاري ذرفته، برويةٍ، حدقتا إله ذات فجر حزيراني يتشمم أقدام قرن يفضح خريف عمره صرير صباحات قرن جديد. خطت طرقات أقدام القرن المنصرم ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ السوداني الحديث: انفراط البنية وتعاقداتها وخروج حمولاتها/ ذواتها، بكم وكيفـ، انسدت معه احتمالات نهضة مؤملة لحين رغم ركض المشروع الإسلاموي عل أرجل من هواء.

    ثمة سمة تُفصّـد، حد التلف، جسد الخروج الميثولوجي ذاك: شخوص مقدودين من المكان وعاداته، ومكان مطلي بأمزجة الشخوص وأهوائهم حد إبدال ذاك بهؤلاء، وهؤلاء بذاك، من غير اقتراف بدعة الخروج على سيرورات التاريخ وتبدياته. شعب يحسن الإقامة في المكان ويمكّن الجغرافيا من ذاته، الذهاب من المكان هو مجيء آخر إلى المكان، سليل ثقافة يأخذ المكان بشراشفها، حد المحو والإنسهاك، وتوصيفها بثقافة مكانية المكان فيها يستوجب، ككل شعوب الأرض، ثقافةً، ولكن بإفراط. الانقطاع عن المكان في ذاك الفضاء، حتى بسبب من عنف المكان ذاته، ينظر له كفعل السحر (فلان مكتوب) وكأن لا شيء غير السحر بقادر على خلع المكان ودبقه عن كتف الذات. يناظر هذا مؤسسات يستنجد بها لرد ضلع المكان المخلوع!!! وكان أن تميز قدر كبير من بنية النص الغنائي السوداني بالتغزل في المكان وموجوداته، حد قول شاعرهم: كيف ذاتا ترتاح النفوس ما دام قرايةً في سفر.. إلى الجحيم بالصين وعلومها.

    شمل الخروج "Exodus" الميثولوجي، من ضمن ما شمل، شريحة كبيرة من دعاة التغيير وحوامله، إن لم نقل، سداه وقرنه. من السجون خرجوا، خرجوا من بيوت الأشباح، والقرى المصوّحة والجامعات، من المكاتب المعطوبة برائحة الفساد خرجوا، وخرجوا من المستشفيات والمشافي التي تتقن صناعة الموت، من اتحادات ونقابات تعيد تنسيق الصباحات والشهوات المطفأة خرجوا، وخرجوا من كل ما كان يرتق فتوقات النسيج ويعد المشهد لجنون الغواية والنشيد. خرجوا بأعمارهم وأحلامهم مشدودين برنين جرس يستسر المعلن ويستعلن السري، سيان لون الشفاه، حلمة الأذن، استدارة الربلة، فقه العِـرق وحبائل العَـرق. خرجوا، كلهم خرجوا من سهومات الأم، تقطيبات الجباه وقفا الأب المديد المسنود بأعمارهم الصغيرة. ولكنهم، قبل ذلك، خرجوا من أمكنة تحت بشراتهم، بعادات وأهـواء تحايث السري فيهم والجيني في ثقافاتهم، والثقافي في جيناتهم. هو خروج البشرة من أهابها نحو فضاءٍ وأمكنة، بإهاب وبشرات مغايرة، خروج المتماثل مع مألوفه، ككل شعوب الأرض، نحو فضاءآت التماثل فيها خروج على سلطة المكان وشعريته.

    ولأنهم في دياسبورتهم ونزوحهم المهيب، وككل شعوب الله، يأتون إلى المكان الجديد بعاداته من مكان بعادات، يتسللون خلل المكان وتاريخه من مكان بتاريخ، ينهض مشهد ينتظمه تقابل مكان بتاريخ قبالة مكان بتاريخ آخر، تناظر أنطولوجي وجودي له ما له من كل سفالات التقابل وخيباته، نجاحه وارتطامه. مثل الموت، ينتصب سؤال أبوكالبسي: كيفية الشروع في رفد مشهد يعد العدة بدِربة وحِنكة لص فقير، لحوارات الأمكنة ومشمولاتها، الروائح وعادات اللسان؟ ولأنه تناظر مدجج بأسنان الانطولوجيا ومعنى الوجود يصبح وعي تاريخ المكان فيه شرط يزف سؤال الانطولوجيا وذاتها، المزنرة بأسئلة التغاير والتخالف، إلى ما يجعل التاريخ تاريخٌ بجغرافيات وفصول يبلل نسغها قمط ثقافي يأسره تغاير لون الأقماط وثقافاتها. إنه سؤال المعنى ومعنى السؤال: كيف، ياترى، يمكن استئناس المكان، ثلم زوائده الحادة، رقرقة جنباته الصاخبة، تناضده العنيف، وحمله في أن يكون مكاناً لجسد بروائح وأهواء معطونة في جغرافيا أخرى؟؟؟

    اللغة، كإفصاح سيميائي، تسمي الأشياء، تقولها، ترتقي بها من وجودها الفيتشي إلى ضرورات وجودها التاريخي فتكون –أي اللغة- ليست بنية علامات مهمدة ومطفأة، إنما بنية علامات اجتماعية تسمي وتوصف تلك العلاقة الغامضة الواضحة بين الخبز والمخيلة.

    ولأن لا شيء يوجد خارج التاريخ واللغة، تنهض تسميات لسانية توصف ذلك "الخروج الميثولوجي" "Exodus" لضرورة ضبطه تاريخياً وصياغته في سياقات تقذف به من إقصائه في المكان إلى إنشماله في التاريخ، تاريخاً لخروج من مكان بتاريخ ودخولاً في مكان بتاريخ آخر. تفعل اللغة فعلها، وتسمي الأشياء بسفور عنيد: الهجرة، المهاجرين، إعادة التوطين، اللجوء السياسي، المجتمعات المضيفة، Cultural Adjustment، إلخ. إفصاحات وتسميات يصطدم بها وعي الذوات الخارجة مما يقتضي إعادة تعريف وتسمية الذات، لغوياً، بذاتها، بمعنى آخر إعادة ترصيص وتخارجات لغوية تعيد تسمية "Re-naming" الظاهرة بغرض إكسابها وجود اجتماعي في الوجود، شيء أقرب إلى إعادة الخلق ورتق الهواء. تصبح البداهات ملتبسة وتسوح في غموض عاتم ويتزوق المشهد، في مشهديته الجديدة، بإعادة صياغة سؤال الحياة البدهي. بكلام آخر، تجريد اليومي وبداهاته والذهاب به إلى مدرجات الأبستيمي ومزالق الفلسفة والتاريخ، وتكرّ الأسئلة وإعادة مساءلة السؤال والبداهة:

    - علاقة الذات بذاتها في مكان وتاريخ ليس لها

    - علاقة الذات بذوات أخرى في مكان وتاريخ لها

    ثنائية تقرِّح جسد المتعة والشهوة، أفصح عنها درويش، ذات شعر ما:

    لم نولد لنسأل كيف تم

    الانتقال الفذ مما ليس عضوياً

    إلى العضوي

    قد ولدنا كيفما أتفق

    وانتشرنا كالنمال على الحصير

    ويصبح، منطقاً، أن يساءل "المهاجر" المكان بمباضع عقل تكوّن في مكان آخر، يستمزج المكان بمزاج له دربات أمكنة أخرى.. إلخ، بكلمة: يطفح إلى سطح الإنبهام ذاك، كيفية إعادة صياغة السؤال وتفليحه ليساءل ويحاور سياقات سؤال الجديد وبداهاته المقيتة.

    الانتقال من سياق إلى سياق، من جغرافيا إلى أخرى، هو، في وجه منه، انتقال عبر فلسفي ومفاهيمي، بالضبط كالانتقال من حالة فرجة باذخة إلى حقل قبور صاهد. يسقط بعض من جماليات وعادات المكان المبارح ليرتفق المُنتقِل بجماليات وعادات المكان الجديد. هو خطوٌ خارج درج تاريخٍ نحو تاريخٍ آخر في تكونن التاريخين: اشتهاء الخبز هو هو وإن اختلفت الفصول ورائحة المطر. ولأن كائننا (المهاجر، في تعريفة الجديد) يحسن الإقامة، ككل كائنات الله، في المكان، مكانه، يُستنهض فيه متاعاً يعوزه، لتصفيف المكان، مكانه الجديد، بما يجعل النافذة مُشرعاً لما هو بالخارج لا بداخل أقرب إليه من أظافر يده. ومن ثم، تترى سلسلة من حيل وتدابير تقتنص المخفي في المكان وتسلس اقتياده إلى ما يجعله خلٍ وفي لمسامرات المساءآت الباردة وطعم قهوة الصباحات العجولة، ولأن تبديل المكان لعنة بفكين (وهذا مبحث يدخل في نطاق ورقة أخرى) يصيب المهاجرين الجدد ما أصاب المهاجرين القدامى: الانعطاب الروحي وتبديل المعيش بالعيش في الذاكرة وانصرافها إلى ذكريات كأنها لا أخرى تسعى أن تكون: لا وجود للذاكرة خارج الذكريات، بها تكون وتنعدم بعدمها وهي حالة بايو-تاريخية، اجتماعية وثقافية، وكأن لا وجود للجغرافيا بغير ذاكرة تجعل منها جغرافيا –ذاكرة الفصول أو ذاكرة الكائن، سيان- أولئك الذين اصطادتهم صنارات الزنازين وغياهب السجون، من الزملاء والديمقراطيين، خرجوا ضمن من خرجوا في ذلك الخروج الميثولوجي المفتوح نهاياته على خطأ صياغات السؤال، أقول، كغيرهم من الخارجين، تنكوى جباههم بانعدام دربة العيش في المختلف، المختلف مكانياً، العادي في تاريخية مفاهيمه واضطرابها وسفورها. ولأن المكان لا يوجد في الجغرافيا والذبول وإنما هو بالضرورة مكان اجتماعي، له شروط الاتساق معه كفضاء يهب الفرد حرية أن يكون فرد المكان أو الخروج من التاريخ، والمكوث قرب تخوم الميثولوجيا وفخاخها.

    ضمن شروط المكان الجديد، وفي النظر إليه كمكان "رأسمالي" تكوّن وتبدى بفعل تحولات ونطاحات تاريخية مديدة، أقول ضمن شروط هذا المكان، وكأي مكان آخر، الاندراج في نسقيته و أواليات صيروراته المحكومة بمكنيزمات معلومة جعلت منه ما هو عليه: فضاء لاقتناص الشهيات وشهينة الاقتناص، حدوده المعدن وشبق لربح ينشبق بذاته Buckle up, it is a law we can live with!!

    من مكان الظلم فيه مبذور في الطرقات والصلوات، إلى مكان العسف فيه هيئات فرجةٍ مؤتمتة، مساحة تغري السائرين فيها بمسك الظلمة وركل الريح. وما بين المكانين هو هو ما بين اختلاف شعارين: حق الإنسان في العيش وحق الإنسان في النزهة. منطقاً، يستدعي ذلك فحص الأولويات والمكرور ويستعلن ضرورة إعادة ترتيب فصاحات الشعار مما يجعل منه شعاراً يهبه المكان الجديد سارية للتحليق والتغريد. ويبدأ الاتساق مع بنية المكان الجديد، وحتى يظل الشعار فوق سارية تطعن جوف السماء والجلاد في المكان الهناك جلاداً وإن أصابه عشق عنيف، أقول، يبدأ الاتساق بإعادة تسمية الأشياء ومسمياتها، مثلاً: كأن يكون اسم.. التحالف الديمقراطي. حقل إعادة تسمية الأشياء ذاك هو صدارة إستراتيجية (؟؟؟) التماس مع المكان الجديد ليكون مكان به تندرج في تاريخ لا يخرجك عن التاريخ في كونيته –أعني تاريخ الهناك وضروراته- إنه عنف المكان بامتياز، عنفه المبذور فيه كمكان مصمت، أخرس وصامت ولكنه، وفي الآن ذاته، المرفوع بتاريخ ذات المكان إلى ما يجعل منه بنيةً صائتة بفعل ضجيج المعيش وقناصيه. هكذا يتمكن المكان من ذاكرة "المهاجر" ومخيلته باستحداث ذاكرة جديدة تناضد تلك القديمة من غير كسرها حتى يصير لها هي، الجديدة تلك، معنى في الوجود لا يكون إلا بإعداد الحامل (حامل الذاكرة) لأن يكون كائن بذاكرتين. يتصادى مع ذكريات الذاكرة الأولى التي، وبسبب انخلاعها عن المكان، تصبح ذاكرة لذكريات بعيدة في المكان ودانية في بايولوجيا الجسد، وذاكرة أخرى يجهدها تحويل المكان إلى مكان بذكريات تذبح فوق صليب ذكريات الذاكرة الأولى بمكانها المبثوث في عفش الروح.

    بالذاكرتين، أعلاه، تصبح المسافة بينهما المتعالقة في سديم المكان، سديم آخر مترع بكل احتمالات التغضن وانحسار الذات عن دائرة الفعل أو الجنوح إلى ثارات تبدأ بالذات نفسها ولا توفر المحيط. هنا ينحسر الكائن الدياسبوري إلى مجرد كائن نوستالجي مضلل بذاكرة تتناسل ذكرياتاً، ذكريات في المكان والزمان على نحو يصير فيه الزمان والمكان وحدات ذاكرية فقط، ترفل وجودها بفتوة الذاكرة وينبهت الوجود ذاك بانبهات الذاكرة المساطة بصفير الحنين بجرسه المسلول من النقاء ومرايا الماء. في هكذا وضعية، يتضاءل الكائن الدياسبوري، المعطون في ماء الحنين، إلى مجرد كائن ذاكري، يتضاءل إلى مجرد ذاكرة، ذاكرة تتذكر، وبالذكرى تكون، ومن غيرها تنعدم. يستقيم هذا القول بالنظر إلى النوستالجيا كقداسة الفرد، في بهاء وجوده النوستالجي، وانسحابه من موجودات المحيط/ الآخرين والتضخم الأنيمي للذات في صوفية ذكرياتها وشبق الانمحاق. يصبح المشهد، مشهد الكائن النوستالجي، الكائن الذاكرة، فضاء بطمي خصب فيه يتم تعاطي المنفى كحالة مرضية. بمعنى آخر، تطغى ثقافة "أمرضة" المكان والتي ترى إلى المكان لا كجغرافيا، ككل جغرافيات الله، بناس ونزوع مجتمعي إنساني يقايض المستقبل بخيبات الماضي، وإنما كمكان مريض ترشح أرضه سموم الموت والإعياء ويسعى ساكنوه لطلاء المكان بالتخثر والصديد. سيرورة انسداد بنيوي ينعطب فيه المكان وكائناته وصولاً إلى البحث عن مكان لا يوجد في المكان الهنا، المكان التحت الأقدام ومرمى البصر، وإنما مكان آخر، المكان الهناك المنحوتة جغرافيته، وحتى تهبه معنى المكان، من ذاكرة تتناسل وتناسل، ومرايا تكبر وتتناضد لينشحن جوفها، على الضد من قوانين الفيزيقيا، بمرايا أخرى تتمرأى فيها، فقط، ذاتها. كائنان منعطبان، المكان والكائن النوستالجي، مما يعد المشهد لأمراض يمكن تسميتها مؤقتاً: اختلالات الذات المعطوبة بالمكان.

    مثل كرة الخيط، ينعقد هذا الاختلال وينبني حول ما يمكن تسميته بشخصنة الحدث. تتمفصل شخصنة الحدث تلك مع اختلالات أخرى ترفد الشخصنة وتنرفد بها، أي لا وجود للأخيرة بغير الأولى وكأنها إنبناء درامي تكون فيه للشخصيات الدرامية لوحات عاكسة تعكس وترجع صدى دراما الشخصية المحورية، استطالات تستطيل بتمدد المركز، تتقاصر وتنخسف بخسوفه وتقاصره. ظاهرة الشخصنة تلك تتأتى، وكما أسلفت المقاربة، من تضخم أنيميا المكان عند الكائن الدياسبوري، أو، قل إنشباح المكان عند الذات الدياسبورية لكونها ذات بذاكرتين، انخلعت من جغرافيا الذاكرة الأولى ولما ترسو بعد عند ضفاف جغرافيا الذاكرة الثانية إذ، بداهة، أن الذات، أية ذات، تتعضد وتغتني بالمكان، مثلما التاريخ يزهو بجغرافيته ويستقيم –ذاكرة، في الآن ذاته، لم تتعلم شيئاً ولم تنس شيئاً.

    وإذا ما قيض لكرة الخيط تلك قدر من اندياح، هو ضرورة بنيوية فيها، ينسقف المشهد، بما يمكن تسميته بحالة التهجس "Obsession" كرافد وداعم ثاني لظاهرة شخصنة الحدث. تنامي وصعود الإحساس بمؤامرات مضادة، تنسج في مكان ما، تضخم الذات، حد إقصاء الآخرين ومن ثم، منطقاً، تنحو تلك الذات بتلك الضخامة إلى الوحدانية، والانعزال، يتناظر ويتراكز مع تضخم الذات ذاك شبق لرسولية لا تتوفر على شرط وجود لها ولا حتى تاريخ يهدهدها بنعاس وقيلولة. يصطف، من على بعد قريب، من مشهد الإعياء أعلاه، نزوع شخصي عليل يرى، بعين العقل العليلة تلك، أن هذا الفضاء المتروك للأعداء والنسيان يفتقر، حد الإنمساخ، إلى قيادة ريادية تذهب بالفضاء واحتمالاته إلى معارك وسجالات تسوق العلة والمعتلين نحو مصحات ومشافي تعيد للروح ترفها وللعقل نزوعه.

    وتكرُ كرة الخيط وتنداح، ويمكن للمتداخلين والمتداخلات أن يذكروا خيوطاً أخرى غابت عن المقاربة.

    ينغلق المشهد أعلاه، المشهد المزوّق بإنعطاب المكان، المشحون بكائنات إسفيرية معطوبة، وككل بنية انعطبت، أقول ينغلق المشهد على انعطابه: كائنات منكفئة تنكفئ على ذاتها، لا الداخل مشروع خطو للخروج و لا الخارج احتمال خطو للدخول.

    يفضي بؤس المشهد ذاك إلى خروجات أخرى، خروجات يحاول الخارجون فيها، بوعي ومن غير وعي، إلى استدبار المشهد نحو مشهد آخر فيه تنصلح علاقة الكائن بالمكان بمعنى استعادة المكان من جغرافيته الذاكرية، إنوجاده الذاكري، وإلباسه لبوس المكان الجغرافي الموجود في الآن والهنا لا الهناك المستحدث بسياط الحنين. ومن ثم تنشأ ظاهرة "المغادرة" المغادرة من التنظيم (الحزب) وتنظيماته نحو إعادة الالتصاق والاندغام في ما كان، وهذا يؤسس لإنوجاد كائن ذاكري بجغرافيا ومزاج آخر، أو الخروج نحو عدم منعدم وجوده بتسويغ الخروج كخروج على عطالة الإنعطاب في الكائن والمكان. وما بينهما خروج آخر نحو مالا نعرف. وما بين قطبي المغادرين والباقين احتمالات شتى تشعل ريح الخسارات والخيبة وتفرش الفضاء بأثاث يغري كلا القطبين بقيلولة تسلم روادها إلى ظهيرة ثارات متوهمة ونميمة أندهن قوامها بتخثر المخيلة وخيال الحكي والتكوين.

    هذه حالة مشهدية يمكن العثور على معادلها الميتا واقعي في بعض كتابات ماركيز الروائية ومعظم روايات ميلان كونديرا، حيث الشخوص الكتابية يمشطون شعر المنفى والمكان وصولاً لمعنى يبثه، كصلوات نافقة، جانب التاريخ المتعفن في سيرورته تاريخاً أقل تعفناً وعطن.

    لا تدعي مقاربتنا شمولية كارثية المشهد ولا حتم انزلاقه نحو فناء بلا معنى ولكن تشير إلى احتمالات كارثية يسمع وقع أقدامها خلل هسيس صباحات ليست بالبعيدة.

    ولا تقترح المقاربة وصفات وحلول، فقد عصف بالرسل زمنهم وانعصفوا به، وبقى فضاء التاريخ بشهيات وغوايات تدوِّر الحكمة المقدودة من ضرورات المعيش وضرورة الذهاب بالنص إلى واقع، هو واقعه، ليصير نصاً طروب.

    فرجينيا، 25 أغسطس 2006

    * قدمت هذه الورقة فى مؤتمر التحالف الديمقراطي المنعقد فى 2-3 سبتمبر 2006 بولاية فرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية
                  

العنوان الكاتب Date
سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-10-06, 09:33 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-10-06, 09:46 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-11-06, 00:15 AM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة أبو ساندرا10-11-06, 01:16 AM
    Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة ABU QUSAI10-11-06, 03:53 AM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة أبو ساندرا10-11-06, 04:17 AM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة esam gabralla10-11-06, 04:45 AM
    Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-11-06, 07:29 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-11-06, 02:32 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة : فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-11-06, 03:09 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-11-06, 06:44 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة هاشم الحسن10-11-06, 08:06 PM
    Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عبد المنعم ابراهيم الحاج10-11-06, 08:54 PM
      Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-12-06, 08:56 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-11-06, 11:39 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة أبو ساندرا10-12-06, 06:04 AM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة أبو ساندرا10-12-06, 06:09 AM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة هاشم الحسن10-12-06, 11:34 PM
    Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عبد المنعم ابراهيم الحاج10-13-06, 00:42 AM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-15-06, 03:32 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-15-06, 03:38 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-15-06, 04:00 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة ناصر محمد خليل10-15-06, 06:12 PM
    Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عبده عبدا لحميد جاد الله10-15-06, 06:31 PM
      Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-15-06, 06:42 PM
        Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عبده عبدا لحميد جاد الله10-15-06, 06:51 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-15-06, 06:29 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عمر ادريس محمد10-15-06, 08:02 PM
    Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة Tragie Mustafa10-15-06, 09:19 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة Elmoiz Abunura10-16-06, 04:32 PM
  Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة هاشم الحسن10-17-06, 00:14 AM
    Re: سيكولوجية الأمكنة وزمكانية الذات: فواصل في مقاربة الذات الظاعنة عبد المنعم ابراهيم الحاج10-17-06, 01:22 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de