ومشـى لباحات الـخلود

Quote: مولد الحزن القديم فى مطلع العام 1978 م ، اذكر وقتها كنا نستعد للجلوس لامتحان الشهادة السودانية وكان ما تبقى من الايام على الامتحان ربما لا يتجاوز الشهرين لذلك كانت حمى المذاكرة فى اشدها ، طاولة المذاكرة فى غرفتى تعج بالاوراق المبعثرة و الكتب المفتوحة فى صفحات معلمة.. اوراق امتحانات قديمة..ثيرموس شاى منهك و شباك مفتوح .. غير اننى و قتها كنت مشدودا لشئ واحد قابع امامى ..لا دخل له بامتحانات او مذاكرة او شهادة سودانية: المذياع هذا اليوم بل قل هذا المساء...هو للحزن القديم. نعم انه اليوم الذى يغنى فيه الفنان الكبير رائعته الجديدة الحزن القديم لأول مرة .. هكذا قالت الصحف و كان ذلك الحدث بقاعة الصداقة على ما اذكر. ربما لا يتخيل البعض من شباب اليوم اهمية ذلك الحدث الذى كان كبيرا لدى ولدى كثير من المهتمين بالموسيقى و الغناء بل لدى عموم الشعب السودانى الذى كان محبا للغناء و مولعا بالاخص بفنانه الكبير محمد وردى وما يقدمه من جديد مدهش . لابد انه وقبل البداية كان الصمت مهيبا داخل القاعة فتوقع الجمهور وشوقه كانا كبيرين نتيجة لأن بعض من الجواسيس المهووسين بالموسيقى و الغناء حضروا بروفات الاغنية فانبهروا بها وعكسوا ذلك على صفحات الجرائد. لم يخيب المطرب الكبير توقعات جمهوره فعندما صدح المذياع بالمقدمة الموسيقية للاغنية اعترنتى قشعريرة فانا قطعا امام شئ جديد وعميق. وعندما اتى الصوت الدافئ و القوى فى آن واحد: ولا الحزن القديم انت ولا لون الفرح كنت ولا الشوق المشيت بيهو غلبنى اقيف وما بنت ولا التذكار ولا كنت عندما اتى هذا الصوت غلبنى ان اجلس فوقفت وظللت واقفا مستمتعا باندياح النغم و توهج الصوت و المعنى و مبتهجا برمزيته العالية و عندما انتهى الكوبليه الاول صفقت طويلا مع المصفقين داخل القاعة و كاننى كنت معهم احس بما يحسون من توحد الوجدان و طغيان المشاعر الجارفة. وعندما مضى المغنى واثقا فاتحا دروب الطرب الاصيل اخذا الناس معه مكان ما كان الشاعر يريد لهم ان يكونون: بتطلعى انت من غابات ومن وديان ومنى انا ومن صحية جروف النيل مع الموجة الصباحية ومن شهقة زهور عطشانة فوق احزانها متكية بتطلعى انت من صوت طفلة وسط اللمة منسية عندها طفرت دمعتان من عينيى و اختلطت مشاعر الفرح بالحزن والغضب ما اروعك شاعرنا عمر الطيب الدوش ..انه يبث فينا روح التمرد ، انه يحرضنا على الثورة .. ثم تاتى : تجيني واجيني معاك زمن امتع نفسي بالدهشة طبول بتدق وساحات لي فرح نور وجمل للحزن ممشى وتمشي معاي خطانا الالفة والوحشة وتمشي معاي وتروحي وتمشي معاى وسط روحي ولا البلقاهو بعرفني ولا بعرف معاك روحي وما بنتي ولا التذكار ولا كنتى نعم لقد امتعنا الدوش ووردى بالدهشة ..وقتها لم اكن قد سمعت القصيدة بعد وكان تعبير : امتع نفسى بالدهشة جديدا تمام الجدة اخذ به الشاعر المعنى الى غاياته. تعبير سار به الركبان بعدها و اصبح بعدها من متداول الحديث فيما بيننا كاصدقاء. انتهت الاغنية وعمت موجة من التصفيق المجنون المبتهج القاعة و المنزل و سمعت صوت امى صائحا : هشام فى شنو؟ مساء ذلك اليوم نمت نوما هانئا مستمتعا بمحاولة هدهة نفسى بترديد مقاطع حفظتها من الاغنية البديعة نظما و لحنا واداء..نعم الابداع لا يتوقف لكن هل ممكن ان تتكرر مثل هذه اللحظات الساحرة.. اشك فى ذلك. شكرا وردى. شكرا عمر الطيب الدوش.