الفاتح جبرا .. في ذمة الله
نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب د. الفاتح يوسف جبرا فى رحمه الله
|
صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية )
|
تقديم :
الغربة...
هذه الطاحونة ، حباتها ( المدقوقة و المدروشة بين رحاها هم المغتربين و ضجيجها يصيب أسرهم هنا و هناك فتجعلهم يعيشون في حالة من إنعدام الوزن ). أهلنا في الشمال ، مارسوا الإغتراب منذ عهد الملكية في مصر ، و أيام الملك فؤاد و الدون جوان الأرناؤوطي فاروق ، أو قيل قبل ذلك. سألوا أحد جهابذة الإغتراب ( و هو من عندينا ) : ما رأيك في الإغتراب ؟ فقال : العشرة سنوات الأولى صعبة. معنى هذا أن سنوات الغربة عندنا تقاس بالحزمة ( كالسنة الضوئية )، كل حزمة تساوي عشرة سنوات. يعني أربعين سنة غربة تساوي أربعة حزم و كل حزمة إغترابية تكون حبلى بالبحث عن كفيل أو عمل أو تأشيرة للذهاب و العودة بها أو طلبات لا تنتهي إن لم تنتهي كل الحزم بمرض السكر أو الضغط أجاركم الله و إيانا. تسأل واحدة عن زوجها : متى يأتي ؟ فتقول لك : بعد نص حزمة. لأنه لو قالت بعد خمسة سنوات ، الواحد بيشوفها كتيرة ، بالضبط زى فرق السعر بين الجنيه و الدينار السوداني. نحن أحسن شعب نختزل الزمن بصبر عجيب ، حتى أن أحد الظرفاء قال ، إن المدفون في ذلك الميدان ( ليس أبو جنزير ) بل هو سيدنا أيوب عليه السلام ، جد كل السودانيين الصابرين، فرضعنا منه هذا الصبر الجميل و لم نفطم منه إلى يومنا هذا ، و تسرب إلى جيناتنا الوراثية ، فإنساب إلى شراييننا و تحكم في فصائل دماءنا. كل واحد فينا شايل همو ، و هم ناس تانين ، و شايل قصص في راسه ، منها المضحك و منها المبكي و منها المضحك المبكي .
( الصفحة الأولى ) :
زولنا حمد ، زول سوداني ، فنجري الطباع ، فارع الطول كأجداده من سلالة تهراقا ، وسامته لا تخطؤها العين ، مشلخ شلوخا غائرة كخطوط المحراث في أرض بكر.
عندما إلتحق في الرياض بعمل لأول مرة قبل كم حزمة إغترابية ، سأله بدوي : ما هذه الشرطات على خديك؟
فقال له حمد مازحا و بهمس : أنا حأقول ليك بس ما تقول لي زول. في بلدنا الواحد لو ما قتل ليهو أسد أو نمر يعتبر ما راجل و ما بيعرسوا ليهو ، أها أنا صارعت نمر و قتلته ، و لكنو عمل فيني الشرطات دي.
البدوي تراجع مصدقا و هو يفتح فمه مندهشا و متوجسا خيفة. و لكنه لم يجهد تفكيره و يسأل نفسه : ما هذا النمر الذي يختار الجضيمات فقط و يقوم بتشريطها بهذا الإتقان الهندسي ؟
أوقف القدر في طريق حمد فتاة إسمها ( ريتا ) .. فتاة جنسيتها ( خاتفة بلدين .. كلون بشرتها خاتف اللونين ) .. فالوالد من قلب أثينا و الأم سليلة أمهرا ( بت عماً لي مادلينا ) فكانت للناظر متعة للعين و قلبه و الكمال لله ، كل شيء فيها بديع و جميل ، حبشية ... أبوها إغريقي سليل هوميروس و أمها سليلة الأمهرا ، ولدت في أثينا ، و ترعرت في أديس ، و إغتربت في السعودية.
تتابعها بعيونك و أذنك عندما تتحدث و هي تحاول تقليد لهجتنا الحبيبة ، فكأنها تتكلم و فمها مليء بحلاوة هريسة ،
و خاصة عندما تأتي بكلمة بها حرف العين ، فيخرج الحرف و هو شبعان من ريقها ، من جوة جوة الحلق. فتتمنى لو قالت أمامك طوال اليوم ( يا علوية عيونك عسلية ).
أحب حمد ريتا ، حبا ملك عليه فؤاده و لبه و جعلت مجاري شلوخه تتوهج كلمبة النيون و تمتليء بدماء العشق التي تغلى في عروقه. و بادلته ريتا حبا بحب. و ( الساعة الـ يقولو ليها حمد ، الكلام يكْمل و يقيف.)
قلنا له و نحن نظهر الشفقة و نضمر الحسد : دي ما معروفة مسلمة ولا مسيحية ، يعني أهلك ما حيرضو .. لم يجعلنا نكمل تعليقنا الغتيت ، فقد قال و الشرر يتطاير من عينيه : و الله لو بقت راهبة ولا من السيخ ما بخليها... تزوجها حمد ، مازحه أحدنا بغيظ مكتوم و حسد بائن بينونة كبرى: أولادكم حيطلعوا مشلخين جاهزين و إنت عامل لي شلوخك الغريقة دي. المثل يقول ( البيحبك بيبلع ليك الظلط ) ، و لكن كان حمد بيبلع ليها الدراب و ( الكُرْكُتي ) و كتل الإسمنت المرورية.
فعندما دعانا لأول مرة لوجبة غداء ، قال لنا : ريتا عملت لينا أكلة سودانية بإيديها. و حضرنا في الموعد المضروب ، و نحن نشحذ أسنانا لإلتهام وجبة سودانية بأيدي أجنبية.
و حمد يدخل و يمرق ( كأم العروس ) تارة يستحث ريتا و تارة يمدح في ريتا و عمايلها السودانية،
ثم أتت الصينية مغطاة بطبق سوداني ، و عروق من الجرجير تتدلى معلنة أن المائدة ستكون عامرة ، و إنكشف الطبق عن صحن ( ماكن ) يمكن أن يسبح فيه طفل عمره ستة شهور بحرية تامة ،
و داخله شيء أشبه باللحاف المطبق أو شملة الدخان قبل أن تصير قديمة ، أطلق عليه حمد إسم القراصة ، كان لونه داكنا يميل للون الكاكي الغامق ، فقلنا ربما من نوعية الدقيق ، و عندما سكب حمد ( الملاح ) و الذي من المفترض أن يكون ملاح الويكة ، إندلق سائل هلامي يمكن أن تحسب من خلال شفافيته عدد حبات الفلفل الأسود و حبات الويكة الناشفة و أجزاء من الماجي التي لم تذب في الحلة. و إندلق السائل بعد عدة محاولات من حمد و كأنه يضع لك مرهم بنسلين في العين ، و الذي غاظني و جعل الدم يصعد إلى نافوخي هو أن حمد ما إنقطع عن شكر هذا الهلام و هذا اللحاف القابع في طشت الغسيل الذي أمامنا : قال و هو يبلع بنهم و تلذذ : بالله ما شاطرة إنو الواحدة تتعلم تعمل الحاجات دي و بالسرعة دي ؟ فقلت له متهكما : الكلام على الأستاذ يا شيف الهيلتون. لم يفهم مغزى تهكمي و واصل إبتلاع الكتل العجينية و نحن نتسلى بالسلطة المليئة بالشطة الحبشية. عند خروجنا ، قالت ريتا : الأكل عجبكم ؟ قلت لها و أنا أفكر في أقرب مطعم : و دي عاوزة كلام ؟ تسلم الأيادي يا مدام ريتا. لكزني صديقي : تسلم الأيادي و تبوظ المصارين ، مش كدة ؟ معذور حمد ، فقد كان يرى فيها كل شيء حلو. ثم إختفى عنا حمد ، و لفترة طويلة ضاعت أخباره عنا وسط زحام الحياة و حزمنا الإغترابية تأكل لحظاتنا ، ثانية تلو الثانية.
( يُسْتتْبع )
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-19-07, 11:57 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | سلمى الشيخ سلامة | 11-19-07, 02:06 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-19-07, 04:41 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | almulaomar | 11-19-07, 02:31 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-20-07, 07:35 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ismeil abbas | 11-19-07, 07:14 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-20-07, 08:47 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | almulaomar | 11-20-07, 12:14 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-21-07, 07:19 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | د.محمد حسن | 11-21-07, 12:25 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-21-07, 08:08 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | اسعد الريفى | 11-21-07, 01:01 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-22-07, 07:10 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | almulaomar | 11-24-07, 11:01 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | حاتم تاج السر المبارك | 11-24-07, 12:44 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | هاشم أحمد خلف الله | 11-24-07, 12:57 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-26-07, 11:32 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-26-07, 09:57 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-25-07, 07:36 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | خالدة البدوي | 11-24-07, 08:26 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-26-07, 12:39 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | عبدالله داش | 11-24-07, 11:37 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-26-07, 12:48 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | almulaomar | 11-26-07, 09:17 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | sama7 | 11-26-07, 01:22 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-26-07, 08:43 PM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-27-07, 08:39 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | سيد محمد احمد سيدنا | 11-27-07, 09:21 AM |
Re: صفحة من كتاب الغربة ... ( ريتا الحبشية ) | ابو جهينة | 11-28-07, 09:45 AM |
|
|
|