|
فلمّا جاء البشير فألقاها على وجهى .. فأرتديتُ بصيرا !
|
لم أكن أعلم بماهية تلك الرساله القيمه , وما تنطوى عليه من مفآجأه مذهله ! يحملها( مرسال ) من الشوق الرهيب ... على جناحي أخى ( صلاح ) , العائد لتوه من إجازه قصيره بالسودان . حقاً إنها لم تكن لتخطر على البال , ولا على مخيلتى الخرِبه التى أكل عليها الدهر وشرب , ثم نام ! وماكان لدي أى شعور , ولا حتى مجرد خيط صغير , أو بصيص من ضؤ لتخيُلها ! إذ أنها لم تك فى البال , ولا على الخاطر .. ولا حتى فى الحسبان ! ولقد فشلت كل محاولاتى لإستدراج أخى ( صلاح ) حتى يكشف لي عن مكنون ما يُخبئه مابين يديه المعكوفتين خلف ظهره ! .... ثم بادرنى مازحاً: ( والله أصلو ماحتقدر تعرف أو تتخيل , الجماعه مرسلين ليك شنو من السودان !!! )
بعد غياب 30 سنه فى هذه الغربه الموحشه .. التى أكلت الأخضر واليابس , وتلاشت معها كل المشاهد والحكاوى ... والذكريات القديمه التى ما فتئت أن تسربت بفعل الزمن .. وعوامل التعريه القاسيه , التى ضربت هذه المخيله المُعتمه, والمُتعبَه . فشوهت معالمها, وأفسدت رؤاها.. ثم جردتها من كل أطيافها وظلالها , وأطلال أشيائها... ولم تذر منها شيئاً , حتى تركتها أرضاً صلده, جرداء, صفصفا , وهى خاوية على عروشها!( وما خلّت فيها نفاخ النار!)
فى هذه الغربه التى لا يعلم مداها إلا ألله ! ولا نعلم نحن عنها شيئاً , سوى أنها كانت قدراً محتوماً , محسوماً .... بينما هى تتلظى وتستعر فى كل حين ! ليشتد أوارها ويتأجج غليانها ثم تكشف فى كل يومٍ عن وجه جديد ! ... بعيداً عن ذلك الماضى التليد , وعن تلك الرُبا البعيده المرتسمه فوق هاتيك النواحى الفريده ....التى كانت ولا زالت تستلقى بين حنايا الضلوع ! ... كبستان أخضرٍ وريف , مورق ٍ ويانع ! وهو يتوسد سويداء القلب , ويتوهط تلك الجنه الباسقه العريضه , المنبسطه على ضفاف أهلنا الطيبين , وعشيرتنا السمحه, وسمائنا الظليله , وأرضنا السمراء !
أدخل ( صلاح ) يده فى جيبه , وهو يبتسم ... ثم عاد ليُخرجها فى حركةٍ سريعه تنم على نية الإخفاء ! واضعاً كلتا يديه خلف ظهره , وممسكاً بذلك الشىء المبهم ! ثم قال مازحاً: ( ماقلت ليك دى حاجه أصلو ما ممكن تتخيلها هى شنو ! ) .... ( غمِّض عيونك ) هكذا قالها وهو يضحك ! ... ولكم أن تتخيلوا كيف يُمكن لشخص فى مثل سنى , وقد بلغ من العمر عتياً , أن يكون حاله, بينما هو يُغمِّض عينيه كطفلٍ صغير , ينتظر هديته فى يوم عيد ! فأغمضتُ عيني لبرهةٍ صغيره , ما برحت أن تحولت إلى حلمٍ عريضٍ ,حالمٍ وجميل! سرعان ماإمتد إلى سنواتٍ عراضٍ طوال . مرت فيها خواطرى مروراً سريعاً على شتى الأحداث والحكايات والصور والمواقف . وطاف فيها عقلى وهو يُقلِّب فى تلك الصفحات والدفاتر القديمه .... لعله يرشف من معينها الفياض ,أو من معانيها, رشفة تروى ظمأ هذا الفؤاد المهدهد بالأسى والسُهاد , وبجوع النوى , وعطش البُعاد .
وجالت خواطرى سريعاً , وهى تبحث عن خيط من ضؤ ......أو شىءٍ يُمكن أن يُشكِّل تلك المفاجأه الرهيبه المُنتظره ! .... فماذا ياتُرى يمكن أن يكون ؟! لعله دفتراً من تلك الدفاتر القديمه المُكتظه بالأفكار الساذجه الفطيره , وبتلك الأسئله الوجوديه الحائره ! وكثير من الحِكم والأمثال والفلسفات التى لا تخلو من حقائق ومن قيم كانت مركوزه فى عقل قديم ! لكنه أصبح الآن مدفون بأتربة الأوهام والأباطيل , وأوحال تلك المخاوف الأزليه ! أو لعلها قصيده من تلك القصائد الركيكه البدائيه , التى كانت تعج بها أدراج الدواليب العتيقه ؟! أم لعلها تلك( الفنيله الكحليه )الشهيره التى طافت كل أرجاء المدينه وأحيائهاالعريقه من بانت ومروراً بالمورده , حى الضباط , أبكدوك , أبعنجه, العباسيه , العرضه ,البوسطه فريق السوق , المسالمه , حى العرب , وددرو , الدومه , الهجره , ودنوباوى , بيت المال أبوروف .. وكل أطراف المدينه القديمه من الفتيحاب إلى أمبده والمهديه . أم أنها فردة ( حذاء باتا ) من أحذية ( الدافورى ) الباليه المهترئه القديمه المرميه فى قعر الزقاق ؟!
وما أن أوشكت أن أفتح عينى , حتى أحسست بطقطقة ذلك الشىء , وخشخشته أمام أنفى, وبصوت أخى ( صلاح ) وهو يقول : ( كدى بإلله شم الريحه دى , وحاول شوف بتذكرك شنو ؟! ) ويالها من رائحه ! تلك التى أنعشت ذاكرة تلك السنين الغابره! حينما ذكمت أنفى بعطرها الفريد, الذى طار به فؤادى , وحلّقت به روحى فى سماوات رحبه من ذلك الماضى البهيج ! ثم إنطلقت بي وسرحت عبر تلك الدنياالمخمليه , الهانئه , الحالمه النديه . على ذلك العهد الجميل , وذاك الزمان البديع المجيد ! .. فما كان إلا أن إرتعدت فرائص عقلى , وإرتبكت خواطرى , وتلخبط كيانى ..... ثم ( جاطت ) كل حواسى من فرط رائحتها الخرافيه , وفوحان عبقها المعتق بروعة ذاك الزمان !
لم أستفيق من غمرة نشوتى تلك , إلا بصوت ( صلاح ) وهو يُفصح عن ذلك السر المفاجىء : ( دى سبحة حبوبتك حليمه , الله يرحمها ! ) ...... ويالها من مفآجأه مذهله ! جعلتنى أفتح عينى متشوقاً متلهفاً ومنبهراً ! ولم أعى بنفسى إلا وأنا أحتضن تلك المسبحه الفريده التاريخيه , بفصوصها الأبنوسيه اللامعه المتلألئه , وألوانها اليانعه المُشعه ... حتى سرت بجسدى قشعريره ونشوى عارمه .. فعُدتُ على إثرها مُغمّض العينين , وأرتديتُ بصيرا ! وأناأرى بأم عين فؤادى , وأنوار قلبي الولهان بفيض عشقها الخرافى !
هاهى نفسها , ( حبوبتى حليمه ) وهى متربعة على عرش ( بنبرها ) الوثير! وهى حيه مفرهده بحيويتها المُثيره .. وبشحمها ولحمها ! وطلعتها البهيه , ورونقها المُهيب ! ومن ورائها ذلك العالم الملائكي الوريف .. وتلك الدنيا المُسالمه الثريه !
قالت لي , وهى تهبهب النار على ( كانون ) منقدها المتقد : ( أكُبَ ليك الشاي يا عشاي ! ) ..... فسمعت صوتها الرحيم , وأنا فى غمرة حلمى وفى أوج سمعي البصير! وشممتُ رائحة ذلك السمن البلدي الأصلى ,التى كانت تفوح من زجاجةٍ بجانبها وتختلط بعبير ذلك الحليب ( المقنن ) . وحُبيباتٍ من لُقيمات مغمورةٍ بالزيت , وهى تصطلى على النار , وتُداعب أنفى برائحتها المُشبِعه ! .. وثمة ديكٍ أبيضٍ مُدللٍ وبدين, وهو يصيح مزهواً بنفسه , وبصوته الواثق المُترع الرخيم ! ... ودجاجاتٍ مُترفات يتباهين بألوانهن البهيه الناصعه المزركشه .. ويمرحن فى فرحٍ وهناءٍ وحبور , مابين بيضهن المنثور ..... وكتاكيتهن الفرحةِ السعيده .
سكبت حليمه حبوبتى الشاي .. فجلسنا نحتسى خمر عشقها الأذلى ونحن نرقب فى فى ركن حوش تلك الدار الرحبه , معزة جميلة , رشيقة , ومُعافيه , وهى تُناطح أختها فى فرحٍ ووداعةٍ وسلام !
وحينما جن ليلُ ذاك اليوم .... أبصرت فيما أبصرت تلك المسبحه المُضيئه , وهى تلمع فى البعيد , وتبرق ما بين أنامل أمي الحبيبه حليمه ! كنُجيمات تكاد تهطل من بحر السماء!
(عدل بواسطة مامون أحمد إبراهيم on 09-27-2007, 00:39 AM)
|
|
|
|
|
|