التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية بقلم الشيخ محمد الشيخ

التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية بقلم الشيخ محمد الشيخ


07-07-2017, 08:14 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1499454851&rn=6


Post: #1
Title: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية بقلم الشيخ محمد الشيخ
Author: الشيخ محمد الشيخ
Date: 07-07-2017, 08:14 PM
Parent: #0

07:14 PM July, 07 2017

سودانيز اون لاين
الشيخ محمد الشيخ-Sudan
مكتبتى
رابط مختصر




ما هو التحليل الفاعلي؟
من ناحية التنظير التحليل الفاعلي نظرية في طبيعة الإنسان بوصفها فاعلية. يقصد بالفاعلية الإنتاج والإثراء الشامل للحياة، تعني الفاعلية على وجه التحديد الإبداع والإيثار. من الناحية المنهجية التحليل الفاعلي منهج يعنى بفاعلية الأفراد والمجتمعات والنصوص، وذلك بالكشف عن ديناميات نمو وتفاعل بنيات العقل من خلال الاستجابة لتحديات الوجود الاجتماعي والحضاري. يقصد ببنية العقل النسق أو النواة التوليدية للوعي التي تحدد فكرة الإنسان عن نفسه ومنحى استجابته وتفاعله مع العالم. يقصد بالوعي المحتوى المعرفي السلوكي للإنسان.
الطبيعة الإنسانيّة:
الإنسان ذو طبيعة تتميميّة: داروينيّة عند تدنّي الفاعليّة طابعها الأنانية والعنف والاستبداد، وإنسانيّة عند ارتقاء الفاعليّة طابعها الحب والإبداع والعطاء الشامل. هذه الرؤية للطبيعة الإنسانية تتجاوز الدارونية التي حصرتها في الأنانية والعنف، ولم تستكنه التتميمية والفاعلية، كما تتجاوز المدارس الاجتماعية التي تلغي الخصال الدارونية.
تركيب العقل:
أدّى تطوّر معماريّة الدماغ البشري إلى أن تتنزّل زيادة الفاعليّة من خاصيّة تتعلّق بتطوّر الشعبة إلى خاصيّة تتعلّق بتطوّر النوع البشري، ومن خاصية تتعلق بتطور الجماعة إلى خاصية تتعلق بتطور الفرد البشري. عليه تخضع الطبيعة الإنسانية لمبدأ الكفاءة التناسلية مثلما تخضع لمبدأ الفاعلية. عندئذ أصبح الإنسان ناتج فاعلية ومنتج فاعلية، الأمر الذي يفسر زيادة معدلات التطور الاجتماعي الثقافي بالقياس للتطور الجيني. كما أدّى تطوّر معماريّة الدماغ إلى أن تتجسّد الفاعليّة من خلال بنيات للعقل تدعم الغرائز والاحتياجات الأساسيّة للبقاء. فأصبح العقل البشري يتركّب من ثلاث بنيات: أ ـ بنية العقل التناسلي (القاعدي) التي تعطي الأهميّة والأولويّة للبقاء عبر التناسل، فيعي الإنسان ذاته كائنا وظيفته التناسل. ب ـ بنية العقل المادّي (البرجوازي) التي تعطي الأولويّة لإنتاج واستحواذ الخيرات الماديّة، ومن ثمّ يعي الإنسان ذاته كائنا ماديّا واقتصاديّا. ج ـ بنية العقل الخلاّق والتي يعي الإنسان من خلالها ذاته كائنا خلاقاً وظيفته الإنتاج والإثراء الشامل للحياة. تسود البنية التناسلية حينما تكون الوسيلة الوحيدة المتاحة بغية التغلب على ارتفاع معدلات الوفيات هي زيادة معدلات المواليد، وحينما تكون القوة العضلية للرجال والنساء هي مصدر الأمن الاجتماعي والغذائي. تسود البنية المادية حينما توفر البنية التناسلية البشر كمياً فينتج تحدي وهاجس جديد هو توفير المأكل والمأوى لملايين الأفواه الفاغرة، وحينما تتضامن البنية المادية والخلاقة في التصدي للتحدي. تعتبر كلاًّ من البنية التناسليّة (القاعديّة) والبنية الماديّة (البرجوازيّة) متدنّية الفاعليّة، لأنّ برامجها للعطاء مغلقة، تحصر الحب والعطاء في إطار الفرد وأسرته وربما عشيرته أو طائفته، بينما البنية المفتوحة مرتقية الفاعليّة هي بنية العقل الخلاّق. كل فرد من أفراد المجتمع يحتاز البنيات الثلاث. لكل بنية عقل مرجعيتها المعرفية والقيمية ومفهومها للذات التي تحفز لأجل تحقيق مشروع البنية. تجدر الإشارة إلىً أن أهم ما يميز بنيات العقل هو حراكها، كان ذلك على صعيد الفرد أم المجتمع. لذا فإن سيادة البنية لا تكون كلية، كما لا تكون مطلقة غير قابلة للتحول.

سوسيلوجيا النهضة
البناء الاجتماعي هو نسق تراكب بنيات العقل من خلال سيادة إحداهن. ينجم عن ذلك بناء اجتماعي تناسلي أو برجوازي أو خلاق. عندئذ يكون التغيّر الاجتماعي هو الانتقال من بنية سائدة إلى أخرى وفقاً لآلية نمو الفاعلية، وحينما تتوفّر القوى الاجتماعيّة الجديدة الحاملة للوعي البديل. هكذا يتحقق حراك وتاريخا نية البناء الاجتماعي.
يتطلب تطبيق منهج التحليل الفاعلي على الظواهر السياسية، تعريف نظام الحكم وظيفيا بأنه آلية لتحقيق مهام وأغراض بنية العقل السائدة، أي آلية لتحقيق مشروع البنية السائدة. عندئذ ينشأ نظام الحكم عندما تنشأ السلطة، وتنشأ السلطة نتيجة لحاجة المجتمع للأمن بكافة مستوياته، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. عليه إذا سادت بنية العقل التناسلي استمد نظام الحكم سلطته وشرعيته وخصائصه النوعية من البنية التناسلية السائدة التي غدت تشكل عصب نسيج البناء الاجتماعي. فيصبح نظام الحكم تناسلياً يرعى النسل والتناسل، وتصبح صلة القرابة مصدراً للقانون والنفوذ عوضاً عن الدستور ( أو المواطنة)، كما هو الحال في النظام الملكي أو ما شابهه. عليه لا يملك النظام إلّا أن يكون إثنياً استبدادياً. ينشأ الصراع في البناء التناسلي، في البلدان النامية، نتيجة الاحتكار الإثني أو الطائفي للسلطة والثروة والحقيقة دون مراعاة لحقوق الآخرين. مع ملاحظة أن تحالف البرجوازية الطفيلية والقوى التقليدية في المجتمع ( القبلية والطائفية) يعزز ولا ينفي آليات البنية التناسلية، لأن البرجوازية الطفيلية غير منتجة على الصعيدين المادي والمعرفي، من ثم فهي توظف الأيدلوجيا السائدة لتحقيق مآربها. أما إذا سادت بنية العقل المادي(البرجوازي)، فإن البناء الاجتماعي ينتج سلطة اقتصادية تسود من خلالها سطوة رأس المال وديكتاتورية السوق. في حين إذا سادت بنية عقل خلاق فأن طبيعة السلطة نفسها سوف تتغير من السيطرة إلى المشاركة بناء على انفتاح بنية العقل وما يترتب عليه من تساوق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. نخلص إلى أن البناء الاجتماعي هو الذي يحدد طبيعة نظام الحكم وليس الفرد الحاكم، الأمر الذي يفسر التشابه في أنظمة الحكم حينما تتشابه البناءات الاجتماعية، كما هو الحال في الدول العربية أو كما هو الحال في الدول الغربية.
من أهم خصائص البناء الاجتماعي الصراع الثقافي أو الصراع من أجل السلطة للقوى الاجتماعية التي تنتمي لنفس بنية العقل السائدة لا ينجم عنه تغير في البناء الاجتماعي. هذا يفسر لماذا ظلت أنظمة الحكم في السودان تعيد انتاج نفسها، حيث تتجلى سطوة القبلية والطائفية. ولماذا لم يؤدي الصراع الثقافي والصراع من أجل السلطة بين المركز والهامش إلى تعزيز قيم الحداثة (قيم السودان الجديد) بقدر ما يؤدي إلى إعادة أنتاج الصراع وتكريس التخلف. . يدل هذا على أن القوى الاجتماعية المؤهلة لصياغة السودان الجديد ما زالت مبعثرة ولم تتبلور بعد وهي بكل تأكيد لن تقتصر على قوى الهامش.
ما هو المطلوب كي يتجاوز السودان محنته؟ لا توجد نهضة دون مشروع للنهضة يحقق الهوية الحضارية للأمة فتتحقق الوحدة من خلال التنوع الإثني والثقافي، كما يتطلب القوى الاجتماعية الحاملة للمشروع. وهي قوى بالضرورة ديموقراطية تنشد دولة علمانية لا يستغل فيها الدين اثنياً لإحتكار السلطة والثروة والحقيقة. تتمثل السمات الأساسية للوعي البديل بوصفه رافعة لمشروع النهضة في :
1- المرجعية المعرفية: تجسيد الفاعلية كرؤية كونية.(*)
2- مفهوم الذات : تجسيد وعي الإنسان لذاته ككائن خلاق نشط، وما يترتب على ذلك من اتساع أو انفتاح الأنا.
3- المرجعية القيمية: تقديس العمل والانتاج والإثراء الشامل للحياة.
مع ملاحظة أن المرجعية القيمية تظل شعاراً فضفاضاً وخاوياً في غياب وعي الذات الخلاقة، وإن وعي الذات الخلاقة بدوره لا يتحقق في غياب الفاعلية.

(*) الفاعلية نحو كونية جديدة :

Post: #2
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: محمد حيدر المشرف
Date: 07-11-2017, 02:06 AM
Parent: #1

*

للعودة وبرسم القراءة المتأنية ..

Post: #3
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: يا زول وقف عندك !!!!!
Date: 07-11-2017, 06:31 AM
Parent: #1

الأخ الفاضل / الشيخ محمد الشيخ
التحيات لكم وللقراء الكرام
لقد تبقت للناس صامولة واحدة لزوم ضروريات الحياة ،، وذلك بعد أن خلجت معظم صواميل العقول ،، وهي الناس التي تعيش حالياً اضطرابات المعيشة القاسية ،، وتواجه أقسى أنواع الحياة اليومية ،، وأنت هنا تتناول موضوعا غريبا في الاسم والمعنى والشكل والمضمون ، وذلك تحت عنوان ( التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ) .. خزعبلات من الحروف والتعريفات المبهمة الغامضة ,, وذلك النوع من التعريفات قد تفقد الناس تلك الصامولة الباقية .. ومن الأمثلة قولكم : ( يقصد بالوعي المحتوى المعرفي السلوكي للإنسان ) .. كلام لا تستوعبه عقول العصر ولا يتماشى مع مفاهيم البساطة ،، وعلى ذلك فأنت سوف تتحمل العواقب الناجمة إذا فقدت الناس عقولها بفقدان تلك الصامولة الأخيرة الهامة المتبقية !! .، فإذا رأيت الناس تخاطب نفسها وتتراقص في الطرقات فلا تلوم إلا نفسك ،، وقد يوقفكم ِأحد في الشارع العام ويقول لكم : ( إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظن أن الليث يبتسم !! ) .

حروفكم هنا تذكرني بجولات الصبا وأيام الدراسة برفقة الأستاذ ( مصطفى عبد القادر ) الذي كان يدرس العلوم الدينية والعربية في معهد أم درمان الثانوي .. ولمدة أربعة سنوات بالتمام والكمال كان يسأله الطلاب أن يفسر لهم الشيخ معنى ( الفكر الإسلامي ) ،، فكان يقول : ( الفكر الإسلامي هو انجاز تحركه المواقف الجياشة الرقاصة الملهمة الفاعلة البليغة ، والتي تختلس في أعماق النفوس والأفئدة والسرائر بفعل الرميات الزمانية والمكانية والعقلانية ،، وبفعل التحديات والمواقف العدائية والتهكمية والهجمات البربرية ،، تلك الهجمات التي يواجهها الإسلام من خارج الأسوار العدائية ، ثم الفكر هو محور تدور حوله تنبيهات المفكرين والباحثين الحادبين على سلامة الرسالة السماوية ، بالقدر الذي يجمع الناس في بوتقة الخصائص الإنسانية ,, ثم هو ذلك الفكر الذي يواجه التجديدات والبدع في مسارات وسلوك البشر ،، ثم هو ذلك الفكر الذي يبادر الآخرين بالمحاسن ثم يواجه التحديات من قبل الكفار والملحدين !! .، وإذا سألنا الشيخ مصطفى نفس السؤال في الحصة المقبلة : كان يأتي بتعريف مغاير جداً من المترادفات اللغوية المبهمة الطوية .. ودامت تلك الحالة طوال سنوات الدراسة ،، والأعجب في الأمر أن الطلاب بالفطرة وبكثرة معاشرة أسلوب الشيخ تعودوا أن يجاروا الشيخ الجليل في استخدام الخزعبلات اللغوية بنفس نمط الشيخ .. فكانوا يعرفون ( الفكر الإسلامي ) في ورقة الامتحان بكلمات وجمل من واقع التأليف والابتكارات اللفظية المنمقة الطويلة .. الغير مترابطة والغير مفهومة والغير منطقية .. ويا حبذا لو كانت كلمات تواكب السجع في التركيب ,, وهي ابتكارات ومؤلفات بمجرد حروف وجمل وكلمات ليست لها علاقة بالفكر الإسلامي لا من بعيد ولا من قريب إ ،، ومع ذلك كانوا ينالون درجات الامتياز في مادة الفكر الإسلامي من قبل الشيخ!! .، ثم رحلت سنوات العمر وتفرق شمل الطلاب كما رحل الشيخ يرحمه الله إلى الرفيق الأعلى ،، ومع ذلك فإن الغموض ما زال يكتنف تعريف مادة ( الفكر الإسلامي ) !!! ، وإذا سألتني عن تعريف مصطلح ( الفكر الإسلامي ) فسوف ألجأ كالعادة إلى التأليف والابتكار والحشو من المترادفات !! ,,

Post: #4
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 07-13-2017, 12:00 PM
Parent: #3

عزيزي الأستاذ "يا زول وقف عندك" السلام عليكم.
شكراً على المساهمة. ارجو المعذرة إذا لم تكن آرائي بالبساطة والوضوح الكافي بالنسة لك

Post: #5
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 07-15-2017, 08:08 AM
Parent: #4

تقسيم السودان إلى مركز وهامش

تقسيم السودان إلى مركز وهامش وإن الهامش ينطوي على قوى السودان الجديد بينما ينطوي المركزعلى قوى السودان القديم تقسيم غير دقيق، ليس لعدم وجود مركز وهامش وإنما لأن المركز ينطوي على هامش والهامش ينطوي على مركز. تكمن المشكلة في أن كلا مما سمي بالمركز والهامش يقع تحت هيمنة البناء الاجتماعي التناسلي الذي يحدد طبيعة نظام الحكم ومآل الصراعات حول السلطة التي تخضع لخاصية إنغلاق البنية – البنية منظومة من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحولات- حيث تؤدي الصراعات حول السلطة إلى إعادة انتاج البنية لنفسها فلا ينتج عن ذلك تغير في البناء الاجتماعي التناسلي. حدث هذا في المركز طوال ال 60 سنة الماضية، وحدث في الحركة الشعبية شمال كما حدث في جنوب السودان. أس المشكلة إذن ليس في ياسر عرمان أو عقار أوالحلو - رغم أن هذا لا يبرئهم من المسئولية- وإنما طبيعة البناء الاجتماعي السائد الذي يحدد طبيعة نظام الحكم وليس الحاكم أو القائد، ولنذكر أيضاً تجربة القذافي - هي مليئة بالعبر- فقد بدأ ثائراً على الملكية وأنشأ الجماهيرية العظمى، بيد أن البنية السائدة تمكنت من اختراق الجماهيرية ليعلن القذافي في نهاية المطاف نفسة ملك ملوك إفريقيا. إذا أردت أن تغير الحاكم ما عليك إلى أن تجيش عدداً كافيا من المهمشين الذين يشعرون بالظلم نتيجة للحرمان. أما إذا أردت تغيير نظام الحكم فانت في حاجة إلى أكثر من ذلك، أنت في حاجة إلى قوى اجتماعية تحمل مشروعا بديلا، أي وعي بديل للوعي السائد.، لا تكفي الشعارات : ديموقراطية، عدالة، شفافية ومساواة ، هذه الشعارات تحتاج إلى رافعة فكرية تنزلها إلى أرض الواقع ، أي تسمح للفاعل الاجتماعي بتجسيدها في ممارسته اليومية. أيضاً من المهم أن تكون الرافعة قادرة على احتواء التنوع العرقي والثقافي ومعبرة عن طموحات الأمة أو الكل في صناعة التاريخ. لا تنهض الأمم باستهلاكها ما هو كائن وانما بابداع وانتاج ما هو ممكن. خاصة لا تخلو بيئة ثقافية أياً كانت من الزخم التطوري الخلاق لظاهرة الحياة ، وما نحتاجه نحن كسودانيين بغية النهوض الحضاري وتحقيق السودان الجديد هو على وجه التحديد وعي الفاعلية، وعي الإنسان لذاته ككائن خلاق نشط قادر على الإنتاج والإثراء الشامل للحياة..

Post: #6
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 07-17-2017, 08:52 AM
Parent: #5

عرض أساسيات الفاعلية

تحدتت في المقال أعلاه عن الفاعلية وعن وعي الفاعلية بوصفه أحد روافد النهضة السودانية وبوصفه مساهمة سودانية لإثراء المعرفة الإنسانية. الأمم، كما ذكرت، تنهض من خلال قدرتها على الإبداع والعطاء وليس من خلال قدرتها على النقل والاجترار. لذا ساقدم للقراء في بوستات متتابعة ملخصاً لأساسيات الفاعلية : نظرية الوجود، نظرية المعرفة، الطبيعة الإنسانية، تركيب العقل، آلية نمو الفاعلية، سوسيلوجيا الفاعلية وحركة التاريخ، ومشروع الإنسان الخلاق. ربما وجد البعض صعوبة في التعامل مع النصوص . في الواقع ليس لأنها عصية على الفهم وإنما لأنها تعمل على ربط علوم مختلفة، فيزياء، أحياء، علوم إنسانية وفلسفة . هذا بالطبع أمر ضروري إذا كنا نتحدث عن الإنسان، أي من الضروري أن يستقطب الوعي بالإنسان المعارف الأساسية التي أنتجها الإنسان. الإنسان جملة معارفه، أو كما قال الإمام علي بن طالب:
وتحسب أنك جرم صغير.... وفيك إنطوى العالم الأكبر
بيد أن هذه البديهية تتناقض ومسار التعليم العام الذي يقوم على التخصص، ومع اعترافنا بأهمية التخصص، تكون التنيجة أن يجد المتخصص صعوبة في التعامل مع ماهو خارج تخصصه من الوهلة الأولى. لذا أهدي لكل من استعصت عليه بعض المفاهيم أو النصوص مقولة الفيلسوف الألماني الشهير هيجل" إن جراح المعرفة لا تندمل إلَا بالزيد من المعرفة" .
المسالة الثانية الفاعلية نظرية فلسفية علمية، هذا يعني أنها عطاء إنساني، قابل للخطأ، وليس نصاً مقدساً. من ثم قابل للنقد والتطوير والتجاوز وهو الحراك الذي يسمح بتطور الوعي والمساهمة الاجتماعية في تطوير المعرفة. التركيز على العلم ناجم من أنه لا نهضة وتنمية البتة دون العلم، ومن يدعي خلاف ذلك إما جاهل أو مغرض. تحققت النهضة الأوربية لأن القوى البرجوازية الناشئة كانت منتجة. ترتب على هذا شيئان، أولاً وعي مادية الكون ومن ثم تقديم فروض يمكن محاكمتها بالتجربة مادياً فنشأ العلم. الأمر الثاني حاجة البرجوازية الناشئة للإنتاج جعلها في حاجة للعلم والإبداع فكان لزاماً عليها أن تتحالف مع القوى المبدعة والخلاقة في المجتمع، كان لزاماً عليها أن تتحالف مع بنية العقل الخلاق، فحدثت النهضة الأوربية. هذا على نقيض ما حدث عندنا في السودان، البرجوازية السودانية الناشئة طفيلية أي غير منتجة، من ثم هي ليست في حاجة للتحاف مع بنية العقل الخلاق. ترتب على هذا شيئان :

أولاً :التحالف مع القوى التقليدية في المجتمع ،القبلية والطائفية ، ومناهضة العلم والعلماء والمبدعين، أي تشريد العقل المبدع للأمة السودانية، هذا ما فعلته الإنقاذ وبشراسة.

ثانياً: الانحطاط الأخلاقي، كانت الغالبية العظمى من السودانيين (قبل أن يأكلوا الهط دق) منتجين إما رعاة أو مزارعين، وكانت فئة الوسطاء والسماسرة من برجوازية طفيلية شبه معدومة، أو لنقل نسبتها ضئيلة في المجتمع. المنتج يتعامل مع الطبيعة ولا يستطيع أن يخدعها، ليس من سبيل لتحسين إنتاجية المزرعة أو الماشية دون تحسين شروط الإنتاج الطبيعية، على سبيل المثال لزاماً على المزارع أن يتخير البذرة الصالحة وأن يحرث الأرض ويوفر الري ويكافح الآفات ...، بخلاف ذلك هو يعلم أن زراعته فاشلة. هذا التعامل الصادق مع الطبية ينعكس على اخلاقيات الناس من صدق وأمانة، هم يعلمون أن الخداع عواقبه وخيمة ، يفسد الزرع والنسل. ويفسر أيضا سيادة اخلاقيات الصدق والأمانة والشفافية في المجتمعات الأوربية (الكافرة) لأن القوى المنتجة في تلك المجتمعات هي الغالبة.

ما حدث في السودان خلال نصف القرن الماضي، كان على النقيض، ازدادت وتضخمت البرجوازية الطفيلية من وسطاء وخلافه بدعم من الحكومات العسكرية التي كانت تنهب المال العام وتركزه في فئة المحاسيب، وبفعل سطوة الرأسماية العالمية التي ساهمت في تنمية البرجوازية الطفيلية في بلدان العالم الثالث كصمام أمان لتظل هذه المجتمعات مصدراً للمواد الخام. يؤدي ازدهار البرجوازية الطفيلية تلقائياً إلى انحطاط الأخلاق في المجتمع، نسبة للإختلاف البين بين سلوكيات المنتج وسلوكيات الوسيط.. الوسيط يتحايل على المنتج ليشتري منه يأقل سعر ممكن، ثم يتحايل على المستهلك ليبيع له باعلى سعر ممكن. لذا بقدر ما استشرت البرجوازية الطفيلية في مجتمع كان ذلك خصماً على أخلاق المنتجين وتعزيزا لأخلاق الوسطاء من كذب واحتيال وسرقة للمال العام. هذا يعني أن الأخلاق وثيقة الإرتبط بشروط الحياة المادية وبالوجود الفاعل للإنسان. لهذا من الممكن أن نجد (كافراً) يتحلى بمكارم الأخلاق بينما نجد مسلماً ( أو مدعيا الاسلام) بلا أخلاق بل يستغل الدين من أجل الثراء الحرام. هنا تكمن قيمة التجربة التي عاشها السودانيون مع الإسلاميين: الأخلاق تنبع من الروح (الفاعلية) وليس من النصوص.

Post: #7
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: أحمد فضل
Date: 07-17-2017, 08:15 PM




الأستاذ الكريم الشيخ تحية واحترام ، أرجو شاكرا ، أن توضح لنا لاي المجالات أو الحقول المعرفية - العلمية تنتمي نظريتك ، فهي في رأيي المتواضع تنتمي إلى عدة مجالات "" Domains "" مثل البيولوجيا ، الكمياء ، علم الأجتماع ، المخ والأعصاب ، نظرية الأنظمة المعقدة " complex systems theory " ألخ ألخ ...... ، وان كان الأمر كذلك ، فلا بد من وجود درجة عالية من الوضوح النظري ، وذلك ليس بالمهمة اليسيرة في ظل عدم وجود نماذج افتراضية ، تجعلنا نصل "" plugin"" نظريتك بالواقع

Post: #8
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 07-18-2017, 07:46 AM
Parent: #7

عزيزي الفاضل الأستاذ أحمد فضل سرني اهتمامك بالموضوع. الإسم العلمي للنظرية : نظرية المجال البيولوجي المعلوماتي الكموميQuantum bio-information field theory . النظرية تعنى بالقوانين الفيزيائية الناظمة لظاهرة الحياة، وهي من ثم نظرية فيزيائية بيولجية، أي أنها تجسر الهوة بين البيولوجيا والفزياء، فنتحصل على ما اسميه فيزياء معممة. الفيزياء المعممة تشتمل على قوانين فيزياء الجماد (ميكانيكا الكم) كحالة خاصة متدنية. الفيزياء المعممة تصف نمو وتطور الكائنات الحية وتكشف عن إتجاه التطور الذي يتمثل في زيادة الذكاء البيولوجي، بمعنى أن تطور الكائنات الحية ليس عملية عمياء. الفيزياء المعممة تجسر الهوة بين البيولجيا والعلو الإنسانية من خلال توسيع مفهوم البقاء الدارويني، بمعنى أن معيار الصلاحية للبقاء لا يقتصر على معدل التكاثر وانما أيضاً يشمل الإيثار والإبداع (الفاعلية). لذا تجسد الفاعلية المحتوى العلمي الفلسفي للنظرية الكمومية البيولوجية المعلوماتية. لتأخذ فكرة أوضح الرجاء الاطلاع على هذا الرابط،، الفاعلية نحو كونية جديدة :


http://www.sudanile.com/index.php؟option=com_contentandview=articleandid=96603:%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%86%D8%...Eandcatid=34andItemid=55

Post: #9
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 07-21-2017, 11:03 AM
Parent: #8

الفاعليّة: نحو كونية جديدة
الشيخ محمد الشيخ

المحتويات:
1- تمهيد
2- نظرية الوجود
3- نظرية المعرفة
4- الطبيعة الإنسانية
5- تركيب العقل
6- آلية نمو الفاعلية
7- سوسيلوجيا الفاعلية وحركة التاريخ
8- مشروع الإنسان الخلاق




1- تمهيد
يعنى هذا المقال بالمحتوى الفلسفي العلمي لظاهرة الإنسان المنبثق عن النظرية البيولوجية المعلوماتية(Quantum bio-information field theory) التي اقترحها الكاتب. تتعلق الأفكار الأساسية بالآتي:
أ‌- جسر الهوة بين الفيزياء والبيولوجيا من خلال توسيع مفهوم المادة، يتم ذلك بوساطة الكشف عن التتميمية (Complementarity)الأساسية في الطبيعة حيث لا يتيسر وصف المنظومة المادية آنياً بموجات المادة وذبذبات المعلومات البيولوجية.

ب‌- جسر الهوة بين البيولوجيا والعلوم الإنسانية من خلال توسيع مفهوم البقاء الدارويني. يتم ذلك بوساطة الكشف عن أن المعلومات البيولوجية الكاملة للجينوم تولد مستويين للبقاء: مستوى الكفاءة التناسلية الدارويني ومستوى الذكاء البيولوجي (الفاعلية).

ت‌- جسر الهوة بين البنية والتاريخ (Dynamization of social structure)، يتم ذلك بوساطة توسيع مفهوم العقل بالكشف عن تعدد بنياته.

ث‌- مشروع الإنسان الخلاق، أي كيفية تجاوز الطور الدارويني للبشرية.

2- نظرية الوجود

الواقع النهائي ذو طبيعة مادية، لكنها ليست مادية الفيزياء المعاصرة أو الفلسفات المادية الكلاسيكية مثل مادية ماركس أو فيورباخ. للمادية في اطارها الفلسفي أو الفيزيائي حيث تعرف بالكتلة أو مجال الطاقة ثلاثة عيوب أساسية:

أولاً : إنها اختزالية بمعنى انها ترجع وتفسر البنى الفوقية بالبنى التحتية. إذ ينجح هذا الإجراء على مستوى الذرات والجزيئات يعطي نتائج مغلوطة على مستوى ظاهرة الحياة لاختلاف الخصائص البنيوية وعلاقات السببية لكل من المجال الفيزيائي ومجال الجينوم الكمومي المعلوماتي.

ثانياً: إنها اقصائية وشمولية خاصة في سياقها الفلسفي. حينما انهارت الثنائية الديكارتية انشطر الفكر الفلسفي الاوربي إلى فلسفات احادية مادية وفلسفات احادية مثالية، علاوة على فلسفات الشك والارتياب. الفكر الفلسفي الأحادي كان مادياً أو مثالياً يكون شمولياً واقصائياً: المادية تقصي المثالية والمثالية تقصي المادية. السبب هو قيام الفكر الأحادي على مبدأ الهوية حيث القضية إما صادقة أو كاذبة.

ثالثاً: ليس في مقدور مفهوم المادة الذي تعتمده الفيزياء المعاصرة استكناه ظاهرة الحياة. لأن ظاهرة الحياة تشتمل على خواص وقوانين فيزيائية تميزها عن الجماد ولا يمكن اختزالها لنطاق الفيزياء المعاصرة لذا لزم توسيع هذا النطاق.

بناء عليه، في اطار النظرية البيولوجية الكمومية المعلوماتية التي عمل على تطويرها المؤلف، الواقع النهائي ذو طبيعة مادية تتميمية. بمعنى أنه تم تعميم وتطوير مفهوم التتام complementarity في ميكانيكا الكم ليصبح خاصية للواقع النهائي. في ميكانيكا الكم تتحدد هوية الالكترون من خلال تتام الخاصية الموجية والجسيمية، لكن ليس آنياً. عليه، في ضوء التعميم الجديد، تختص المادة بخاصّتين تتميميّتين: موجات المادّة عند الكثافة الهائلة للكتلة (ميكروسكوبياً) وذبذبات المعلومات البيولوجية عند الكثافة الهائلة للمعلومات. تسمح هذه الفرضيّة بتوسيع الأساس الأنطولوجي للفيزياء المعاصرة، فنحصل على ما أسمّيه فيزياء معمّمة. في إطار الفيزياء المعمّمة يستدمج نظام شرودنجر موجات المادّة عند الكثافة الهائلة للكتلة ليصف ظاهرات الجماد (وهو موضوع الفيزياء المعاصرة). أو يستدمج نظام شرودنجر ذبذبات المعلومات البيولوجية عند الكثافة الهائلة للمعلومات ليصف ظاهرة الحياة. عندئذ تنبثق ظاهرة الحياة وما تختص به من فاعليّة عند الكثافة الهائلة للمعلومات. ويكمن سر انبثاقها وتطورها في اشتراع مسار للحتمية في فضاء العشوائية، فضاء الأحداث شبه المستحيلة، وفقاً لمبدأ الفعل الأعظم. يتمثل الفرق بين المادية التتميمية و المادية الواحدية في أن هوية الواقع النهائي ومن ثم الظاهرة تتأسس انطلاقاً من تكامل الأضداد بالنسبة للمادية التتميمية، ولكن ليس آنياً. على سبيل المثال لا يمكن وصف المنظومة المادية آنياً بموجات المادة وذبذبات المعلومات البيولوجية، لأن ذبذبات المعلومات البيولجية تكون صفراً بالنسبة للجماد، كما تكون موجات المادة صفراً بالتقريب للكائن الحي. لذا فإن هوية المادة تتحقق من خلال تتام أو تكامل الخاصيتين المتنابذتين. هكذا، باعتمادنا مبدأ التتام عوضاً عن مبدأ الهوية، تفتح المادية التتميمية المجال أمام فلسفة للتنوع والاختلاف.

Post: #10
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 07-26-2017, 06:19 AM
Parent: #9


3- نظريّة المعرفة التتميميّة :

تتأسس نظرية المعرفة التتميمية بناءً على المادية التتنيمية. هذا يعني ارتباط الواقع الموضوعي بالوعي أو العقل من ناحية واستقلاله عن العقل من ناحية أخرى. تكشف البيولوجيا الكمومية المعلوماتية عن أن طبيعة العقل من عقلانية الطبيعة، وأن القوانين التي تحكم ظاهرة الحياة (العقل) اشمل وتحتوي قوانين الجماد كحالة خاصة. هذا يعني أن العقل ناتج طبيعة ومنتج طبيعة، أي قادر على اعادة صياغة الطبيعة. عندئذ يمكن تعريف المعرفة بأنها ناتج علاقة تركيب العقل بالوجود. تحت شروط معينة (تدني الفاعلية) يكون الوعي انعكاساً لمعطى وتحت شروط أخرى (ارتقاء الفاعلية) يكون الوعي استباقاً لممكن. هذا يعني أن ثنائية المادية-المثالية انبثقت لأن كلاً منهما عالجت العقل (الوعي) على نحو مطلق مستقلاً عن الفاعلية، رأت فيه المادية انعكاساً للوجود، ورأت فيه المثالية مصدراً للوجود. هكذا تشكل التتميمية الأساس لتجاوز ثنائية المادية - المثالية التي استعصت على نسق التحولات المعرفية في فضاء الثقافة الغربية.

4- الطبيعة الإنسانيّة التتميمية:
الكشف عن الطبيعة الإنسانية يتطلب جسر الهوة بين البيولوجيا والعلوم الإنسانية. تعاني الدارونية الجديدة من ثلاث معضلات جعلت من العسير جسر الهوة بين البيولوجيا ووالعلوم الإنسانية فنشب النزاع بين من يناصر الفطرة الدارونية وبين من ينفي وجود طبيعة إنسانية. المعضلات هي أ- التطور الدارويني يقوم على الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي لذا فهو تطور أعمى بلا إتجاه وبلا معنى. ب: تحصر الدارونية مفهوم البقاء في اطار الكفاءة التناسلية فيتحقق الانتخاب الطبيعي على مستوى الفرد ، وتصبح الأنانية والعنف والاستبداد من أهم مقومات معيار الصلاحية للبقاء. ج: بناء على (أ) و(ب) لا تنطوي الدارونية على أساس للأخلاق وقيم الخير والمحبة. تجاوزاً لهذه الصعاب كشفت البيولوجيا الكمومية المعلوماتية عن أن:
i – الطفرات المنتجة للتطور ليست عشوائية، علاوة على ذلك للتطور اتجاه يتمثل في زيادة الذكاء البيولوجي (العقل)، أي تعظيم الفاعلية بمعنى الإيثار والإبداع عبر الشعبة. وبتطور الدماغ البشري تنزلت الفاعلية من خاصية لتطور الشعبة لتصبح خاصية لتطور الإنسان الفرد، فاصبح الإنسان ناتج فاعلية ومنتج فاعلية.
ii – تولد المعلومات البيولجية الكاملة للجينوم مكونين للبقاء، مكون الكفاءة التناسلية الدارويني ومكون الفاعلية. عندئذ ينشأ مستويان للإنتخاب الطبيعي، مستوى الكفاءة التناسليىة على صعيد الفرد ومستوى الفاعلية على صعيد الجماعة. بمعنى أنه داخل الجماعة يكون للإناني حظوظ أفضل للبقاء خصماً على الإيثاري. بينما تكون لجماعة الإيثاريين حظوظ افضل للبقاء خصماً على مجموعة الأنانيين.
iii- أدت حاجة الجماعة للفاعلية لنشوء الأخلاق، كما أدت الحاجة للأخلاق لنشوء الاديان.
بناء عليه للإنسان طبيعة تتميميّة: داروينيّة عند تدنّي الفاعليّة طابعها الأنانية والعنف والاستبداد، وإنسانيّة عند ارتقاء الفاعليّة طابعها الإبداع والعطاء الشامل. هذه الرؤية للطبيعة الإنسانية تتجاوز الدارونية التي حصرتها في الأنانية والعنف، ولم تستكنه التتميمية والفاعلية، كما تتجاوز المدارس الاجتماعية التي تلغي الخصال الدارونية.

Post: #11
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 07-30-2017, 05:37 AM
Parent: #10

5- تركيب العقل:

كما اسلفت أدّى تطوّر معماريّة الدماغ البشري إلى أن تتنزّل زيادة الفاعليّة من خاصيّة تتعلّق بتطوّر الشعبة إلى خاصيّة تتعلّق بتطوّر النوع البشري، كما أدّى إلى أن تتجسّد الفاعليّة من خلال بنيات للعقل تدعم الغرائز والاحتياجات الأساسيّة للبقاء. فأصبح العقل البشري يتركّب من ثلاث بنيات: أ ـ بنية العقل التناسلي (القاعدي) التي تعطي الأهميّة والأولويّة للبقاء عبر التناسل، فيعي الإنسان ذاته كائنا وظيفته التناسل. ب ـ بنية العقل المادّي والتي تعطي الأولويّة لإنتاج واستحواذ الخيرات الماديّة، ومن ثمّ يعي الإنسان ذاته كائنا ماديّا واقتصاديّا. ج ـ بنية العقل الخلاّق والتي يعي الإنسان من خلالها ذاته كائنا وظيفته الإبداع والعطاء الشامل. يقصد ببنية العقل النسق أو النواة التوليدية للوعي التي تحدد فكرة الإنسان عن نفسه ومنحى استجابته وتفاعله مع العالم. ويقصد بالوعي المحتوى المعرفي السلوكي للإنسان. تسود البنية التناسلية حينما تكون الوسيلة الوحيدة المتاحة بغية التغلب على ارتفاع معدلات الوفيات هي زيادة معدلات المواليد، وحينما تكون القوة العضلية للرجال والنساء هي مصدر الأمن الاجتماعي والغذائي. تسود البنية المادية حينما توفر البنية التناسلية البشر كمياً فينتج تحدي وهاجس جديد هو توفير المأكل والمأوى لملايين الأفواه الفاغرة، وحينما تتضامن البنية المادية والخلاقة في التصدي للتحدي. تعتبر كلاًّ من البنية التناسليّة (القاعديّة) والبنية الماديّة (البرجوازيّة) متدنّية الفاعليّة، لأنّ برامجها للعطاء مغلقة، تحصر الحب والعطاء في إطار الفرد وأسرته وربما عشيرته أو طائفته، بينما البنية المفتوحة مرتقية الفاعليّة هي بنية العقل الخلاّق. كل فرد من أفراد المجتمع يحتاز البنيات الثلاث. لكل بنية عقل مرجعيتها المعرفية والقيمية ومفهومها للذات التي تحفز لأجل تحقيق مشروع البنية. تجدر الإشارة إلىً أن أهم ما يميز بنيات العقل هو حراكها، كان ذلك على صعيد الفرد أم المجتمع. لذا فإن سيادة البنية لا تكون كلية، كما لا تكون مطلقة غير قابلة للتحول.

6 - آلية نمو الفاعلية:

يقصد بنمو أو تنمية الفاعلية تجاوز مهام وأغراض بنيتي العقل التناسلي والبرجوازي وتبني مهام بنية العقل الخلاق، وفقاً للآلية التالية:

أ‌- التحدي، وجود ضغوط وجودية، اجتماعية، نفسية، اقتصادية، إلخ.

ب‌- تصدع بنية العقل السائدة. يوجد نوعان لفشل أو تصدع بنية العقل السائدة: تصدع موضعي أو جزئي على نطاق الفرد أو الأسرة يمهد لنمو فاعلية الفرد. تصدع شبه كلي لبنية العقل السائدة يمهد لنمو فاعلية المجتمع، حينما تتحقق الاستجابة في حالة الفرد أو المجتمع.

ت‌- الاستجابة، يقصد بها الانفلات من بنية العقل السائدة بمشروع للفاعلية (مشروع للعطاء الشامل) والدفاع عن المشروع.

عندئذ ليس من إبداع على صعيد الفرد أو نهضة على صعيد المجتمع دون مشروع للفاعلية وتنميتة. تجدر الاشارة إلى أن التجاوز لا يعني إلغاء البنيتين الأخريين بقدر ما يعني أن يكون وجودهما داعماً وليس معيقاً للنشاط الخلاق.

Post: #12
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 08-04-2017, 04:38 AM
Parent: #11

7- سوسيلوجيا الفاعلية وحركة التاريخ:

البناء الاجتماعي هو نسق تراكب بنيات العقل من خلال سيادة إحداهن. ينجم عن ذلك بناء اجتماعي تناسلي أو برجوازي أو خلاق. عندئذ يكون التغيّر الاجتماعي هو الانتقال من بنية سائدة إلى أخرى وفقاً لآلية نمو الفاعلية، وحينما تتوفّر القوى الاجتماعيّة الجديدة الحاملة للوعي البديل. هكذا يتحقق حراك وتاريخا نية البناء الاجتماعي.
عليه يتولد المسار العام لحركة التاريخ البشري من خلال العلاقات الديناميكية للبني الاجتماعية، وهو من ثم ليس مساراً لاطراد الحتمية بقدر ما هو مسار لتواكب الفاعلية والقصور في فضاء الاحتمال. فتنشأ عن ذلك احتمالات مختلفة لحركة المجتمع: الاستقرار والتوازن، النهضة والتطور أو الانحطاط والاضمحلال. هناك نوعان من التحولات الاجتماعية : يحدث النوع الأول حينما تفشل بنية العقل السائدة - التناسلية مثلاًـ في التصدي لبعض التحديات الأساسية فتتصدع، وكنتيجة لذلك تنبري بنية العقل الخلاق لإزالة الخطر، فتحدث النهضة الحضارية من خلال تجاوز بنية العقل الخلاق للمعوقات الاجتماعية الكائنة. وبما أن حل المشكلات قد تم في فضاء تناسلي وأن البنية السائدة لم تستكمل مهامها الحضارية بعد، فإنها تستعيد تدريجياً زمام المبادرة التاريخية. وعادة ما ينجم عن هذه العملية الانحطاط الحضاري لأن البنية التناسلية العائدة على درجة من الفاعلية أقل من بنية العقل الخلاق.

الصيغة الثانية للتحولات الاجتماعية تنشأ حينما تستنفد بنية العقل السائدة مهامها الحضارية، وكنتيجة لذلك تنشأ تحديات جديدة تستوجب سيادة بنية بديلة وفقاً لجاهزيتها. في هذه الحالة ينتقل المجتمع من فضاء جزئي محدد إلى فضاء آخر، وهو ما حدث للمجتمعات الأوربية بانتقالها من الفضاء الجزئي التناسلي إلى الفضاء البرجوازي. في هذه الحالة تأخذ الحضارة في الصعود والازدهار حتى تتمكن البنية الصاعدة من السيادة وفرض سلطانها. وبفرض سطوتها يعم الاستقرار، وتكف عن التطور، و تنجح في توظيف بنيتي العقل الخلاق والتناسلي لمهامها وأغراضها. كما تنجح في تهميش المنظومة القيمية لبنية العقل الخلاق. لذا فإن نقد ما بعد الحداثة للحداثة تم في غياب الوعي بديناميكية بنيات العقل، حينما اختزلت ما بعد الحداثة مفهوم العقل في عقلانية بنية العقل البرجوازي. يلاحظ أن النموذج الفاعلي لحركة التاريخ يستوعب في داخله النماذج الأساسية لحركة التاريخ: النموذج الدوري والنموذج الخطى ونموذج الاستقرار والتوازن.

Post: #13
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 08-08-2017, 06:47 AM
Parent: #12

- مشروع الإنسان الخلاق

يتشكّل فضاء الفاعليّة من الفضاءات الجزئيّة لكلّ من البنية التناسليّة والبرجوازيّة والخلاّقة. يحتوي الفضاء الجزئي على جملة تشكيلات البنية المعنية في تنوعها وتمايزها. يشكّل الفضاءان الجزئيّان للبنية التناسليّة والبرجوازيّة بحكم تدنّي فاعليّتهما ما نسمّيه بالفضاء الدارويني الذي تتجلى فيه خصال الأنانية والعنف والاستبداد، ونقصر تسمية فضاء الفاعليّة على الفضاء الجزئي الذي تسوده البنية الخلاّقة. بناء على آلية نمو الفاعلية لا يخلو الفضاء الدارويني من حملة الوعي الخلاق، فقد أسهمت جهودهم في النهضات الحضارية وتقدم البشرية، وظلوا مصدراً لإشاعة الأمن والسلم والجمال والمعنى في الحياة الإنسانية. إن أكبر تحدي يواجه البشرية في عصرنا الحاضر يتمثل في كيفية تجاوز الطور الدارويني تحقيقاً لمجتمع الإنسان الخلاق، مجتمع الحرية والعدالة والمساواة. يتطلب هذا الانتقال:

(أ) دال مركزي مفتوح : يقصد بالدال المركزي المرجعية المعرفية التي ينبغي أن تكون مفتوحة، أي نظام معرفي مفتوح يرعى التنوع والاختلاف، ويمنح الفاعل الاجتماعي وعي الفاعلية والتجاوز.

(ب) وجدان كوني: يعني الوجدان الكوني انفتاح الأنا بحيث يكون الإنسان قادرا على العطاء والمحبة لكل البشرية صرف النظر عن العرق والدين والجغرافيا. يتأتى ذلك بتنمية الفاعلية واحتياز بنية العقل الخلاق.

(ج) مشروع حضاري بديل: يتعلق المشروع الحضاري البديل بتجاوز الطور الدارويني للبشرية، طور الأنانية والعنف والاستبداد، لتحقيق مجتمع الحرية والعدالة والمساواة. وهو مشروع يتخلق وينمو ويترعرع داخل الفضاء الدارويني من خلال تقديم النموذج في التضامن والبذل والعطاء والاشتراكية.

(د) القوى الاجتماعيّة الحاملة للمشروع. لا يمكن لقوى اجتماعية تناسلية أو برجوازية أن تحقق الانتقال لمجتمع الفاعلية دون تنمية الفاعلية ويتطلب ذلك تغيير فكرة التناسلي أو البرجوازي عن نفسه كما يتطلب تجاوزه لمرجعيته المعرفية والقيمية، لأن الهوية الذاتية في الأصل هي ناتج برمجة اجتماعية.

(ه) هو انتقال- بالضرورة- سلمي، ديمقراطي وإنساني يعكس فاعلية الفاعلين الاجتماعيين.



بعض المراجع:
1- - الشيخ محمد الشيخ، 1989. الإنسان والتحليل الفاعلي- تحليل الشخصية السودانية من خلال موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين. مطبعة الوعد. الخرطوم، السودان.
2--- 2001، التحليل الفاعلي- نحو نظرية حول الإنسان, دائرة الإعلام والثقافة، الشارقة.
3 - 2002 . نحو نظرية جديدة للنقد الأدبي. لم ينشر.
4 – 2011. التحليل الفاعلي وتحديات النهضة. دار مدارات، الخرطوم.

(5) Elsheikh, M. 1988. Evolution of Unicellular Organisms in Terms of Vitality Function. Trilogia (Chile), Numero especial, Junio. Santiago, Chile.
(6) Elsheikh, M. 1999. Evolution: A nonlinear irreversible quantum model. Altahadi University. Scientific Journal
(7)- Elsheikh, M. E. 2005. Towards a Science of Faeeliya. Consequentiality, Vol.,1, Human All Too Human. Dena Hurst(ed.), Expanding Human Consciousness, Inc., Tallahassee, Florida, U.S.A. pp.129-152
(8)- Elsheikh, M., 2010. Towards a new physical theory of biotic evolution and development. Ecological Modelling 221 pp. 1108-1118.
(9)- Elsheikh, M., 2014. Discovery of the Life-Organizing Principle. iUniverse Publisher, Bloomington, USA.
(10)- Elsheilh, M. In Search of Quantum Information Biology. Advances in Biosystems. USA. http://researchpub.org/journal/asb/archives.htmlhttp://researchpub.org/journal/asb/archives.html
(11)- Elsheikh, M. Evolution physical intelligent guiding principle
http://link.springer.com/search؟query=andsearch-within=Journalandfacet-journal-id=40974andpackage=openaccessarticles
(12)- Website: http://http://www.lifeprinciple.comwww.lifeprinciple.com

Post: #14
Title: Re: التحليل الفاعلي ومأزق النهضة السودانية ب�
Author: الشيخمحمد
Date: 08-22-2017, 06:42 AM
Parent: #13


كيف تيسر لي تطوير نظرية الفاعلية والنظرية الفيزيائية المعممة؟ بالطبع يوجد نسيج من الأسباب المترابطة ذات الصبغة الوجودية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية. لكن بما أن الفاعلية تعني فيما تعني وعي المبادأة والتجاوز من خلال مواجهة الواقع، فان وعي الفاعلية يتجذر بصفة أساسية في الخبرة الذاتية، أي أن يخبر المرء منذ الطفولة والصبا الباكر تجارب تفصح عن مواجهته للواقع وتجاوز سلبيات المألوف على نحو ايجابي. لقد حفلت طفولتي وصبايا الباكر ببعض هذه التجارب، تجارب فحواها أن الفاعلية تأتي من الفاعلية. وهنا ينبغي أن نميز بين المعرفة والوعي، الوعي ينطوي على معرفة، لكنه ليس مجرد معرفة، لأن الوعي هو اتحاد المعرفة والسلوك الخلاق، أي اتحاد المعرفة والعمل الصالح. عليه كل من يمتلك وعياً يمتلك معرفة، لكن ليس بالضرورة أن يكون العكس صحيحاً. لذا أود أن أذكر أحد هذه التجارب التي كان لها أثر في نمو شخصيتي وتشكل وتطور وعيي.

أعظم قرار اتخذته في حياتي ( قصة واقعية )


كنت في الثانية عشر من العمر، الساعة السادسة مساء ، الشمس تتهادى للمغيب محمرة الوجنتين كفتاة تزف إلى زوجها. أذنت لي أمي بالذهاب إلى ( السينما )، حملت عصاي وانطلقت لا ألوي على شئ. كانت ( النهود ) نبع الحنان بأهلها الطيبين ، وهي مدينة صغيرة في غرب إقليم كردفان بالسودان، حديثة عهد ب ( السينما )، ولعلها كانت ( سينما) متجولة، كان ذلك منذ قرابة نصف قرن من الزمان. لا أذكر الآن العرض الذي حضرته ، وعما كانت تدور أحداثه، لأن الرعب الذي عايشته من بعده كفيل أن يمحو من الذاكرة كل تسجيلاتها السابقة فتصبح بلا ( أرشيف ). يقول علماء طبقات الأرض ( الجلوجيون ) أن النهود كانت في سالف العصور بحيرة ، ثم جفت البحيرة، ثم غرقت تحت أكمة من الأشجار، لدرجة أنك حينما تقترب إلى النهود من جميع الاتجاهات لا تراها، فهي مغطاة تماماَ ب ( ستيان ) من الأشجار.

انتهى العرض حوالي التاسعة، وتفرق السمار، وكان علي أن أجد من استأنس برفقته إلى الحي الذي اقطنه. ذهب الجميع في كل الاتجاهات إلّا صوب حيّنا، صرت رهينة للوحشة والسكون، فانطلقت متوتراَ نحو منزلنا. لم تكن هناك سيارات أو كهرباء ، نذاكر دروسنا بمصباح الغاز ( الجاز ). الناس يصلون العشاء, فيتعشون وينامون مبكراَ، فتنطلق من أحلامهم كل الأرواح الشريرة من عفاريت وجان وغيلان لتعبث بالمدينة، والويل كل الويل لمن يخرق حظر التجوال. بعد معاناة قطعت خلالها قرابة كيلومترين متحسساَ طريقي في بحر ( الظلمات)، مستعيناَ بكل السور القرآنية التي أحفظها عن ظهر قلب، لم يقابلني إنس أو جان، كنت الكائن الوحيد. هاأنذا أقف أمام الزقاق الذي يؤدي إلى منزلنا، ظلام دامس وسكون مهيب، جميع الناس نيام ، حتى الآباء والأمهات فرغوا من غرس الأجيال القادمة واستغرقوا في سبات عميق. الأشجار الكثيفة تحيط بالزقاق الضيق من كل جانب، يخيل إليك أنك تدخل نفقاَ مظلماَ بلا قرار، على الرغم من أن المنزل كان على بعد أقل من 400 مترا. حينما قطعت ثلث النفق تبين لي أنني أرى شبحاَ ما على مسافة أربعين متراَ. تسمرت في مكاني ، شعرت بقشعريرة ، انتصبت كل شعرة في جسدي و صارت متأهبة للفرار، تمعنت النظر، فاستيقنت أنني أرى عفريتاَ ضخماَ يحمل حزمة ما على رأسه. صارت فرائصي ترتعد من الرعب، أعضائي تهرب مني وأتبعثر أشلاءَ في هذا الليل البهيم. ما زلت مسمراَ في مكاني أتصبب عرقاَ ، ولكنه لم يصل بعد إلى قدمي. فكرت أن أرجع وآخذ طريقاَ آخر، بيد أنه لا يوجد سوى طريق واحد، يمر خلف الحي موازيا الخلاء ( الغابة )، حيث لا يوجد سكان. و الأدهى أن الطريق يمر بمزبلة أو قمامة الحي، وبالطبع المشكلة ليست في القاذورات، بل في أن الكل يعتقد في أن المزبلة هي بيت العفاريت وموطن جبروتها وبأسها ومسقط رأسها. إذن لم يكن من خيار سوى التقدم، لم يخطر على بالي أن أوقظ الجيران واستعين بهم، كان عليّ أن أواجه قدري وحيداَ. قررت أن أتقدم، وكان هذا – كما سيتضح- أعظم قرار اتخذه في حياتي. تزودت بالمزيد من الجرعات الإيمانية القرآنية: آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، وتحركت صوب العفريت ، صوب منزلنا، صوب الهدف، وأنا أرتعد من الخوف. أخذت أقصى يسار النفق حتى كدت احتك بالسور، لأن العفريت كان على اليمين . عيناي وجميع حواسي مركزة على العفريت ، حتى إذا جاء بأي حركة أطلقت ساقي إلى الريح. كنت مشهوراَ بين أقراني بالعدو ( وصرت بالفعل في المستقبل عداءَ)، وخيل لي عقلي الصغير أنني سوف أسبق العفريت، إنه الوهم. بيد أن مسرح الأحداث في جملته آنئذ كان نسيجاَ من الخرافة والأساطير والأوهام. هاأنذا أقترب رويداَ رويدا من العفريت ، تتشكل ملامحه، ترتسم إحداثياته، ويعاد إنتاجه في مخيلتي حيث يعتمل الصراع بين الخرافة والواقع وبين الخوف والشجاعة والإقدام. أنا الآن على بعد 10 أمتار يبدو أن ما أراه ليس كائنا محدد المعالم. ربما ليس عفريتاَ. شعرت بشيء من الارتياح وقل خفقان القلب. لكن لا بد من التأكد حتى لا أصبح فريسة سهلة ولقمة سائغة للعفريت. وحين اقتربت أكثر تبين لي أن ما حسبته عفريتاَ كان قطعة من القماش ملقاة على قمة غصن جاف من شجرة سدر ( نبق ) بفعل فاعل أو فعل الريح. كانت أسوار المنازل تصنع من القصب مما يجعلها طعاماَ شهياَ للأغنام والأبقار والحمير، لذا درج المواطنون على تغطية السور بأغصان السدرة الشوكية حماية له.

لا أستطيع أن أصف كم كانت فرحتي، وكم كنت مزهواَ بنفسي، كانت أول مرة تتعرى فيها ذاتي فأتحسس تضاريسها، أتعرف عليها وانتشي بانتصارها على نفسها. اقتربت من قطعة القماش وضربتها بعصاي، وواصلت سيري صوب المنزل أتغنى بصوت مسموع. ربما يرى البعض أن ما حدث كان عادياَ، أما على صعيدي الشخصي فقد كان مفعول التجربة مذهلاَ. لقد شكلت الأساس لصياغة وعيي بالحياة وتطور شخصيتي :

أولاَ، لم أعد أعتقد في العفاريت والغيلان وما شابه ذلك من الخرافات والأساطير. وحينما كان يأتي أحدهم ليتحدث عن أنه رأى العفريت أو الشيطان، أقول لنفسي أنه دخل النفق ثم تراجع.

ثانياَ، تشكل وعيي بالنهج العلمي في التفكير في مرحلة مبكرة. يتطلب التفكير العلمي ألّا تفترض وتسلم بما افترضت، ينبغي التحقق من صحة الفرضية. لقد تهيأ لي أنني أرى عفريتاَ، وفي تلك اللحظة كان اعتقادي جازماَ وراسخاَ. ولو أنني تراجعت تلك الليلة لظللت بقية حياتي أحكي بفخر وثقة أنني رأيت عفريتاَ. لكن تجمعت أسباب ذاتية وموضوعية فرضت علي التقدم والتحقق من خطأ اعتقادي، أنها فرصة نادرة بعيدة المنال بالنسبة للكثيرين.

ثالثاَ، علمتني هذه التجربة معنى الشجاعة، ليست الشجاعة ألا تخاف، فالخوف غريزة، الشجاعة أن تتقدم وأنت خائف. ليست الشجاعة ألّا تيئس، الشجاعة أن تتقدم رغم اليأس وحيداَ في الظلام. لأن من طبيعة الأشياء أن يكون الأمل في نهاية النفق.

الشيخ محمد الشيخ
رئيس قسم الرياضيات، جامعة التحدي

ملحوظة: نشرت هذه القصة في جريدة جامعة التحدي، ليبيا، 2006