|
Re: المواسم - قصة (Re: Ehab Eltayeb)
|
موسم النقاهة :
كالطيف , وومضـة ا لبرق، تجيئنا الأيام حينا حبلى بالخيـر... ياضيفي ، أهل قريتنا في مثل هذه الفترة بالذات ، والتي تشارف انتهاء موسم الحصاد، وحلول فترة النقاهة ، و بدء فصل الخريف ...تراهم زاخرين بالحياة ,رافلين في الصفاء ، أما قلوبهم النقية , فتكاد تنبض بفيض من الغبطة... ومن هول ما تسمع أذناك , وترى عيناك ، يتملكك العجب ...وربما حسبتهم , سـلالة من البشر الأصفياء ، الذين أنعم الله عليهم بالثراء ، والرضا ، والحياة الرحبة ..وما أن تـقـبل لمجالستهم ، يستقبلونك من أول وهـلة بصدر منشرح , ووجوه نيرة طلقة ... تفيض بالغبطة والفرح، وتلهج بالحمد والثناء ..ولا يكادون يفسحون لك مجلسا بينهم ، حتى ينسل من وسطهـم هاشا باشا كبير القوم السيمت عبد الرضي، وفي الحال يزف لك البشرى قائلا: ـ((يا سـلام و يا سـلاااااام ...ياأيها الضيف ،هـذا العام ، كأنما بالمعجزة قـد حـدثت, وكأنما بأبواب السماء قــد فتحت لنا فتحا ، و بسطت الأرض بالخير والرزق .. وإذا بالقوم بعد أن أدركهم البؤس واليأس ، يفيقون بغتة فإذا بهم بين أحضان ليلة القدر، وفي طرفة عين ، تحقـقـت كل أمانيهم وأحلامهم ...هل تدري أيها الضيف ما الذي حدث ؟؟ لـقـد أجزلت لنا الأرض بالعطاء ، تـكاثـر المحصول وفاض, وعم الرخاء كل الأرجاء ، فردا فردا ، و جماعة جماعة ، كأنه الفـيضاااااان )).... لا يكاد هـذا الرجـل ، يفرغ من إبلاغك بتلك البشارة ، والأنباء السارة ..في الحال يقبل نحوك حاج البشـير , هاهـو ذا وكما تراه ، يقف ماثلا أمام ناظريك، بقامته السامقة ، ولحـيـتـه الكـثة الـبـيـضاء والتي لا تـفـتـأ تزيـد وجهه الصـبـوح وقـارا وهـيـبـة ... يـبـادرك وقـد تهـلل وجهـه وامتلأ بـالـفال والبـشـرى ،أمـا يـداه فـقـد طـفـقـتـا تـداعـبـان حـبـيـبـات السـبحة ، وشــفـتـاه تـلهجان بـالحـمـد والـثـنـاء ، قـائـلا : ـ ((يا ضيفنا الكريم ، الحمد لله ,,الحـمد لله ,, الحـمد لله على هـذه النعـمة ..فمنذ أن وجـدنا في هـذه القريـة ، تا لله لم نحزن لـشـيء مفقود ، و لم نـفرح لـشـيء موجود بمثـل فـرحنا هذا , كأنما بالدنيا قد أتتنا راغمة ...ولقد نجحـت زراعتنا في هذا العام الخير نجاحا خرق الـعادة ، حتى أصبح خيرنا راقد ، ومحصولنا وافر، وانبسطنا غايـة الـبـسط ، وعشنا في رغد وسعة ...ولقـد نويـت فـي هـذا العام الخـيـر، أن أحجّ الحجة السابعة ، فالمنادى قـد نادى.. وسوف نـشـدّ الرحال فـي أول قـافلة ذاهبـة...وسوف يكون بـرفـقـتي ، حاج الـزبير ود عطيه ، والطاهر ود حسيب تـاجر المحاصيل الشهيـر الـملقب بالتمساح الكبيـر، وجدك عبدالتـواب ود الأرباب ، و حبو بتك عائشة بـت طه، وعمك حيدوب صاحب جنينة الموز , وشيخ العرب كرار ود أب شـنــب ، وشله مـن أهـل القـريـة .. وما أن يـرى الدهـشة قــد ارتسمت عـلى قـسمـات وجهـك ، يربت على كتفيك في حنو ثم يواصل حديثه قائلا : ـ((هوّن ,, هوّن,,, ياأيها الضيف ، وما عليك من عوارض هذا الزمن ,, فـلـقـد حجينا أنا وحاج الزبير أول عهدنا معا ، وسوف نخـتتـم حجاتنا هـذا العام بحجة الوداع معا ,,, وكما ترى فالشيـب قـد اعتلي الرؤوس واللحى ، والأيام بنا قـد تـوغلت , وُمْركبُنا في اللّجة قـد أبحرت، والمرء منا لا ينفك ألا أن يجـد نفسه منجذبا بقوة إلى تلك البقاع الطاهرة انجذابا لا فكاك منه,, و شوقي شديد لرؤية البيت الحرام ، و تقـبيل الحجر الأسود, ثمّ الطواف حول الكعبة، وزيارة المسجد النبوي بالمدينة المنورة ، والصلاة في رحاب الروضة الشريفة )) يصمت برهة ، ويرنو ببصره في الأفق البعيد ، ثم فجأة وكأبرة البوصلة ، يستدير بجسمه ، ميمما وجهه شطر القبلة ..وحينئذ يُمْلل عليك وصيته ، ويداعبك قائلا : ـ(( ياضيفنا الكريم لاشك أنك من ابناء المدرسة ، اسمع وصيتي ، وإياك إياك أن تنسى ، حين نرجع بالسلامة، ألقاك مسحت ليا باب الحوش بالجير الأبيض ، وكتبت ليا عند مدخله بالخط العريض، يا داخل هـذا الدار صلي وسلم على النبي المختار.. وما تنسى الدعاء بالحج المبرور,والسعي المـشكور، والذنب المغفور..وألقاك كلمت ليا أهـل((النوبة )),الأمين ود الزيـن ، وعبد الحي , وحاج عوض الكريم ..وما تنسـى شلة المداحـيـن , ودالمكي , وود الـعشـاري , عشان يجوا يحيوا لينا ليلة أو ليـلتين .. وألقاك اشتريت ليا خروف الكرامة ، ولازم يكون بالحيل سمين .. ويوم الوقوف بعرفة، أدعو لك بالصلاح والفلاح , والتوفيق والنجاح ..وبجيب لك معاي من الأرض الطاهرة ، تمر المدينة ، وماء زمزم ، وطاقيـة وسبحة ، وهدايا كثيرة تـسرك بلحيييييل))..
●●●●●●●●●●● وتارة أخرى أيها الضيف ، في مثل هذه المواسم الخيرة ، تكثر الأعراس وتتوالى المناسبات .. وحينئذ وحيثما يحل بركات(( أبو البنات)) , ضيف شـرف على مجالس أهل القرية , ويـشرع في الحديث .. فورا ينكسر حاجز الصمت بين القوم , و يزول العبوس، و تصفـو النفـوس ، وتصغـي آذانهم لحديثه الظريف .. ياضيفي هـذا الرجـل النحيل الجسم , ذو الشارب الكـث , والقصير القامة كأنه القزم ، من أعجـب وأظـرف أهـل القريـة، أقـسـم أنك لن تجد له بيننا مثيلا قط ... انظر أليه , هاهو ذا جالسا وسط جماعة من القوم وهو يبدو في كامل هـيئـته ، وقد شـنق طاقيته الحمراء ، وتوشح بصديريه الأسود، وتسربل بـسرواله((قدم الحمام)) ، وانتعـل مركوبه الفاخر المصـنوع من جلد النمر, وتـأبـط سـوطا من((العنج)) .. ثمّ أخـذ يـرغـي ويزبد ، وتارة أخرى يزف البـشرى بعد أن ضاق ذرعا بكـنيته((أبو البنات))..هـذا الرجل ياضيفي ,دعني أوجز لك قصته ، ولن أطيل عليك في الحديث .. لقـد أنجبت له زوجتـه (سـت الـنـسـاء) خلال عـشـريـن عـاما مـن زواجهما سبـع بـنات ,الواحدة تلو الأخرى , في تسلسل أنـثـوي مـتـواصل لم ينقطع أبـدا , رغم أنه في كل مرة, كان يمـني نـفـسه بمولود ذكر، كـي تـقـر به عـيـنه , و يخـرس ألسـنة أقرانه ..ألا أن الأقـدار كـانت له بالمرصاد ، ومنذ يـومها لقب((أبو البنات)) والتصق هذا اللقب باسمه و اشتهر به, وأصبح أهل القرية في كل الأوقات , ينادونه((بركات أبو البنات).. وحينما ريـش في هذا الموسم الخيـر، هجـس هاجـس في قلبه ، فملأ المجالـس ضجة , و تحريما وطلاقا , من أنه حقا قد اعتزم الزواج مثنى فوق امرأته المسنوحة( ست النساء) ، عـسى ولعل أن يرزق بالـبـنـيـن عوضا عـن الـبـنـات...ويومئذ أسر إلى جلسائه من أهل القرية بهذا الحديث قـائـلا : ـ((أنتـو عارفيـن ،يا الطيب ود الحـسن ، و يا جاد كريـم وياسـنـاد ، ويا ود دقاش0 الـسنة دى إياها سنة البركة ، والخيـر والنعـمة ...وعليّ الطلاق بالثلاثة، يا ما تـشوفوني معرس فوق مرتي المسنوحة دي أحـسن عرس)... وكمن لا يبالي بشيء , أردف قـائـلا: ـ((هـسع دحن يا الطيب ود الحسن ، كان جيتك عديل بي خشم الدرب بتديني بنيتك دى؟؟)) ولما كان(( بركات أبو البنات)) ,يدرك سلفا أن الطيب ود الحسن، قـد قضى مع امرأته زينب بت حاج محمد أحمد , أعواما كثيرة، ولكنها بعد مشقة وعناء ، لم تنجب له سوى بنت واحدة ، ترعرعت في حضنه وكبرت ، ثم صارت فتاة جميلة تهفو لها قلوب الشباب ..وكان أبوها الطيب ود الحسن يحبها حبا بالغ الرقة ، وكانت عنده أعزّ ما يملك في هذه الدنيا ..وفي تلك اللحظة ، تذكر((بركات أبو البنات)) يوم مولدها ، ذلك الحدث الذي أصبح مدونا في ذاكرة أهل القرية ... وكشاهد عيان دعني أروي لك قصة ما حدث ... فما أن بلغ الطيب ود الحسن النبأ السعيد ، من فرط ما أحس من سعادة غامرة تفجرت كأنها حمم البركان,هاجت دواخله وماجت ... وفي نشوة من الفرح الهمجي وكثور هائج ,غافل القوم وهم يتقاطرون صوب داره فرحين ومهنئين , ثم اندفع في جنون بالغ صوب زريبة بهائمه.. وما أن دخلها،أسـتل سكين ذراعه ، وهلل وكبر , ثم شرع في خرفانه ذبحا,الواحد تلو الآخر، وذلك كرامة وسلامة , واحتفاء باليوم الذي شهد مولد ابنته آمنة... ولولا أن القوم تنبهوا ، وأدركوه في اللحظات الحاسمة , لقضى على كل شيء فيها .. ولما بلغ مولدها أسبوعا ، وجاء يوم السماية , حدث ما لم يحدث لمولد أنثى في هذه القرية من قبل ... لقد أقام لها عقيقة فخمة , دعا لها أهل القرية قاطبة , وقد حفل ذلك اليوم المشهود , بالغناء وأهازيج الفرح , والزغاريد والدلاليك , حتى شروق الشمس ...ومما لاشك فيه ياأيها الضيف , كلمح البصر ، تداعت أشتات تلك الصور الألكترونية في ذاكرة((بركات أبو البنات)) ، كأنها شريط سينمائي يتراءى أمام ناظريه ، وحينما فطن بأن الطيب ود الحسن قـد تماطل عليه في الرد، بادره قائلا : ـ(( يا راجل أها قلت شنو ؟؟ كلامي ده ما فات اضانك ، يعني معقول تكون ما سمعته ؟؟ ))... ألا أن الطيب ود الحسن لم يحرك ساكنا ، بل ظل على حاله تلك جالسا في صمت كأنه الصنم 0 ومن هول المفاجأة الصاعقة, لبث يحدق في الأرض كالمذهول.... وكشيء حُنِط , ثم ظل محفورا ومطمورا في داخله زمانا طويلا ، عاد الطيب بذاكرته إلى الوراء ، إلى جوف تلك السنين البائسة ، حينما كان يشمر عن ساعده, وينحني فوق معوله ، يكد جاهدا في إصلاح حقله0ألا أن الناس ياأيها الضيف لايتركون أحدا في حاله .. ولما كان الطيب ود الحسن ، قد تزوج من زينب بت حاج محمد أحمد منذ أعوام خلت ...ومرت على زواجهما السنين تلو السنين ، ولم تنجب له البنات أو ا لبنين ، فقد ظنوه رجلا عقيما , ولهذا السبب كان(( بركات أبو البنات)) , ما أن يراه في الغيط على تلك الحال من الكـدّ والتعب , ينكأ له الجراح ويناديه قائلا : ـ ((يا زول الزراعة دي طايرة , مالك ومال التعب و الشقاوة ,أحْمِد ربك لا عندك ((مُحُمّد)) ولا((فاطمة )) , و أنا عليّ الحرام كان منا محمول ، و ظهري مقصوص ,اشبع راحة وانطلاقه، وأكان أموت من الفاقة ,الزراعة دي تاني تب ما بقبل عليها ,ملعون أبوها في ستين داهية ، وزي ما عملوا ناس السر ود البتول، وحمدان المسطول ، و أولاد فرجون ، أسيب البلد المسنوحة دي وأقول للبندر جااااااكم زول)) . يا ضيفي ، ورغم مضي زمان تلك السنين الحالكة ...ألا أن الطيب ود الحسن يومئذ شعر بالحزن والغبن ، ثم ما لبث و كضوء انبثق فجأة ليزيح ستارة تلك العتمة ،أن ارتسم في مخيلته طيف ابنته آمنة ، وهي غادئة و رائحة ، تبعث الحياة وتنفثها في ظل ذلك البيت الذي خيّم الصمت والسكون في داخله زمانا طويلا ..كان حينما يأتي من الغيط مرهقا مكدودا ، تركض نحوه زاخرة بالحياة ، و في الحال تملأ له الإبريق بالماء ، ثم تفرش له سجادة الصلاة على الأرض .. وكان حينما ينتهي لتوه من الصلاة ، تجلس جواره في ألفة ، كأنها تنشد الأمن والدفء... وكان يتأملها في فرح وغبطة ، و يحمد الله ، ثم يرفع كفيه صوب السماء في خشوع ، وضراعة ورجاء ، ويهمهم بالدعاء قائلا : ـ((اللهمّ ارزقها بالزوج الحسن ، والذرية الصالحة... اللهمّ اجعلها آمـنة في بيتها ودينها ودنياها ...آمــين يا رب العالمين)) ... وكان يمسح بيديه على وجهه وصدره ، ثم يربت على كتفيها في حنو بالغ قائلا : ـ(( بُكْره يا السمحة يا ما تكبري ، وتتزوجي ، وتملئ دارنا بالأطفال أولاد و بنات ، و نصير ليهم جدود وحبو بات)) ... شيء عجيب كالحلم سـرى في حنايا داخله في تلك اللحظات , وجذبه بقوة خفية إلى ملكوته .. ومن هول ما سمع قبيل لحظات ، فاق دهشا ، وانتفضت كل خلية من خلايا جسده ، ووقفت متحفزة كأنها تود بكل ما تملك من قوة الانقضاض على شيء ما .. وبعد لحظات شدّ وجذب , ومد وجزر، خرج الطيب ود الحسن عن صمته ، وقد تقافزت عيناه من محجريهما ، وأضحتا كبؤرتين تموجان بالشرر.. وصاح في غيظ مخاطبا((بركات أبوالبنات)) قائلا : ـ((دي عليّّ الطلاق المو زي طلاقك ده ، كان هسع جاني ليها صبي يتلْتِل .. يجر التمساح العشاري من قيف النهر ما بديها ليهو ، دي ست أبوها والرمدانين اللزيك ما بيعرسوها))... ثم مضى مخاطبا القوم قائلا : ـ((يا جماعة ، زمان قالوا في المثل ((أبو الدرداق خطب القمره )) والله حكاية ، يا ما نحيا و بكره نشوف أعجب من العجب)) ... في تلك اللحظات ، تشاغل ((بركات أبو البنات)) بتبريم رأسي شاربه ، كأنه بذلك كان يود أن يظهر للطيب ود الحسن تحديه ، ولا مبالاته بما يقول .. وفي تأن وثقة, صوب بصره جهة الطيب ود الحسن , ونظر أليه نظرة ماكرة ، كأنما أيقن بأن الطيب ود الحسن سوف يهدأ من ثورته , ويذعن لأمره إذا ساومه ، وقال بكل طمأنينة وثقة : ـ((يا راجل بكل بساطه الحكاية وما فيها ، أنا أعقد عليها بكتاب الله وسنة رسوله، وأنت كمان نعقد لك على أحسن واحده من مراحي ده ، ـ يقصد بناته ـ و أكان الشرط ده ما عجبك ، أنا علي الحرام ، قدام الرجال ديل البيملوا العين ، مستعد أسجل لك عشرة أفدنه ، أرض قرير حُرّه ، وأنت بعينيك ديل شفت حدودها، قايمه من قيف النهر، و ممتده محازيه لساقية ود الفحل ، وسادره إلى أن تنتهي عند الجدول الضكرـ جدول الخواجه كركورـ ، بس أنت كيف ترضى وتقول لينا خير.. ولو كلامي ده مو عاجبك ، كمان بالدغري العديل وريني ردك ، وكل شيء قسمه ونصيب))... لم يكد((بركات أبو البنات)) يفرغ من هذا الحديث، حتى كان الطيب ود الحسن قد هب غاضبا وفد أثقله ذلك ، وملأ صدره ، فخاطبه قائلا : ـ (( يا راجل سيب الجعجعة ، و بطل المسخرة و الكلام الفارغ ده ، وشوف لك شغيلة تشغلها غير حكاية العرس ده .. الزمن ده مو زمن رهان أو نخاسة ، وأرضك العاجباك دي ، ذاتها أرض سباخ و مطاقة ، ومرمّده بالبودا , وبكره ساعة الجدْ ، بيجوك أصحابها ، ويتقسموها الورثة ، وتصبح أيدك فاضية ..وزي ما قالوا في المثل((الدين النصيحة))، دحن يا أخوي ، أخير لك تعيش مستور وما في داعي للبلبلة ...و كمن يئس، وقد أغضبه ذلك ، صاح(( بركات أبو البنات)) ساخرا : ـ((يا راجل ، بنيتك المثل بيضة الديك دى ، أنت مالك عامل ليها قومه وقعده ، أنت فاكرها مريم العذراء ،أم بلقيس ملكة سبأ ..والله أمكن يا جماعة فاكرها كمان ملكة جمال بريطانيا ..دي عليّ الحرام تقعد تماطل كده , بكره تبور وقطارها يفوت ويعدي ، وتصبح عز باء . وزي ما قالوا في المثل((خير البر عاجله)) وكمان السترة واجبه ، دحن يا راجل , أخير لك ترضى , ولا تضيع عليها الفرصة))... ياضيفي الكريم , ورغم أن الطيب ود الحسن كان اسما على مسمى , وفد اشتهر بين أهل القرية بدماثة الخلق , وطيب المعشر ، وحسن السيرة و السريرة ..ألا أن الإنسان, كماء النهر ، تارة يصفو مزاجه ، وأخرى يتعكر ...ويومها وعلى غير العادة , خرج الطيب ود الحسن عن طوره ، وطار صوابه، وفلتت أعصابه ... لقد خيل أليه من شدّة الغضب ، أن ينهض قائما ليمسك بتلابيب(( بركات أبو البنات)) ثم يخنقه حتى يكتم أنفاسه .. وسرعان ما نهض واقفا ، ولوح بسبابته في وجه ((بركات أبو البنات)) محذرا : ـ(( يا راجل ، أخير لك تحفظ مقامك ، وتثوب من عوازب أحلامك ، و ألا قسما بالله سوف تندم طول زمانك)) .. حينئذ ياضيفي سرعان ما تدخل بينهما القوم ، وهدؤا من ثورتهما ، ولم تمض لحظات حتى عاد بينهما الصفاء والوئام ، وانقشعت سحابة الصيف ... و عاد الطيب إلى سابق جلسته نادما ، تارة كان يتوب ويستغفر ، و أخرى يلعن إبليس الذي أغواه حتى بلغ به الغضب ما بلغ ... أما((بركات أبو البنات)) لم يكن في غرار نفسه يأبه لأحد، فلا التهديد و لا الوعيد ، و لا حتى تلك المساعي الحميدة التي بذلها القوم لرأب ذلك الصدع ، كل ذلك لم يكن كفيلا بإطفاء نيران تلك الرغبة الدفينة ، المتأججة في صدره ... و في ظنه لا شيء مطلقا يثني عزيمته من المضي قدما في تحقيق تلك الرغبة مهما كان الثمن ...وسرعان ما انتهز حالة الصمت التي خيمت على وجوه القوم وقال : ـ(( يا جماعة ، و الله زمان البلد دي تلفها من حدها إلى حدها ، ما تلقى لك فيها امرأة عزبه ،أو فتاة مي معرسه، كان البنت من يوم ما لحقت وثمارها أينعت، كثروا خطابها وعلى طول زُوجت )) يهب واقفا و يقفز في الهواء ، ثم يهبط ضاربا رجله اليمنى بالأرض ، ويلوح بسوط العنج ، قائلا في تحد وزهو وعنجهية : ـ(( ابشروا بالخير ,,, ابشروا بالخير,,,, ابشروا بالخير ، يا ناس الحلة كلكم , السنة دي علي الطلاق بالثلاثة ، يا ما تشوفوني معرس بنت أجعص راجل في البلد ده ، عرسا ألف ليلة وليلة , دلاليكه يدقن , وحسانه يرقصن , وزغاريده أيوووي..أيووو..وووي .. يولولن , وأنا في وسط الدائرة ، فارس حوبه يصول ويجول بالعرض والطول , ابشروا بالخير ,,, ابشروا بالخير ,,, ابشروا بالخير .. ياناس الحلة كلكم))
●●●●●●●●●
وآخرون ياضيفي ، أبان موسم النقاهة قد اكتفوا بختان أنجالهم .. فهاهو الياس ود الخضر , بعد أن عكف حولا كاملا يعتني بتسمين عجله الدعول، ويمدّه بالبرسيم ، و سيقان القصب ، وأطيب أنواع العلف ... سارع واشترى من زرايب البهائم المنتشرة بالغيط ، خروفين سمينين , ثم سافر إلى أسواق البندر، وجهز ما جهز من لوازم الفرح , من العطور والروائح , وسائر صنوف الطعام , وأعـدّ العُدّة لمأدبة ضخمة ..يأتيك عند غروب الشمس قادما من أقصى أطراف القرية , و ما أن ينتهي به الطواف عند عقر الدار ,يتـنحنح , ويصفق , ثم ينادي بأعلى صوته قائلا : ـ(( السلام عليكم يا أهل البيت .. السلام عليكم يا ناس الدار .. جاأأأأكم الضيف)).. وحين لا يجد من يرد عليه التحية ، أو يسمع نداء صوته , حينئذ يطرق على باب الحوش بعصا السلم ، ثلاث طرقات متتاليات 0 و ما أن يبلغ الطرق مسامعك , وتقبل نحو باب الدار مهرولا ، قائلا للطارق دون أن تراه: ـ (( يا مرحبا بالضيف ,, حبابك عشرة ,, تفضل )).. عندئذ يبدأ في الحال يسرد عليك حكايته قائلا : ـ(( و الله يا ولدي من زمن بعيد بالحيل , وليداتي ديل ـ التيمان حسن و حسين ـ كنت ناوي اطهرن، وأفرح بيهم فرحا يعم البلد من حدها إلى حدها ، من بيوت أولاد ود خير، وحتى عرب الحفير ــ ناس بخيت ود كرفين ــ أها كلما أنوي نية خالصة ، واحده من أثـنـين تحصل وتفشل علينا الحكاية ، يا مات زول في البلد وتكاثرت المناحات , والدنيا كلها صبحت حزن و حداد ، يا مسْرتنا بطلت و العيشة علينا انمحقت ، وهكذا ظللنا على هذا الحال لامن الوليدات كبروا ، وقرب يفوت فيهم الفوات .. لكن السنة دي خلاص انفرجت علينا من باب واسع بالحيل ، و الحمد لله صرنا مريشين ، وزي ما قلت لك الوليدات خلاص نويت اطهرن ، دحن بُكْره لازم تجيء تحْضرُن , و بالمرة تفطر وتتغدى , وأن ربنا هون تتعشى معانا ، ترى كل شيء جاهز و منتهي.. وأنا من دريبي ده ، ماشي أكلم طهار القرية ،عمك محمد ود دفع الله ، عشان يجيء ء يطهرن في الصباح الباكر قبل أن يشـتـدّ الحر)) ... و هـكـذا ياضيفي ،لا يكاد هذا الرجل يبرحك بخطوات ، و شبح خياله ذاك ما يزال يقف ماثلا أمام ناظريك ، وصدى دعوته الكريمة تلك ، ما برح يطن و يرن عالقا بأذنيك .. حينئذ يقتفي أثره في الحال أولاد العجمي ود كرار، يأتونك قادمين من جهة عرب الخور السيال ، لاهثين من طول المشوار و كثرة التجوال ، بعد أن لفوا القرية مهرولين من دار إلى دار .. وفي الحال يعلنوا لك أن والدهم يدعوك ومن معك لتشريف دارهم في مناسبة أخرى ، تضاهي تلك المناسبة في كرمها ، وسخائها وأريحيتها ... و ربما تخرج عن دارك هنيهة ، لتقضي حاجة من حوائجك ، فما أن تعود أليها ، تجد الفال ينتظرك بها ، أن الباقر ود الطاهر, قـد أتاك النعـل حذو النعـل , ليعلمك بخبر عقد قران ابنه البكر الأستاذ تاج السر, وقـد ألح عليك في وصيته ,لآبـد أن تأتي غدا إلى دارهم ، عقب صلاة المغرب ، لحضور مراسم العـقـد .. وهكذا أيها الضيف، طيلة هذا الموسم بالذات ,لا تكاد تمضي اللحظة تلو اللحظة ، حتى يأتيك بين الفنية والأخرى , الرسل تلو الرسل ، حاملين لك الفال والبشرى ، وفي كل حين ولحظة ، يزداد عدد المراسيل ، وينتشر فيض هذه لدعوات المتكررة ، وربما تبلغ في اليوم الواحد دعوات عدة ، تعج بها كافة أرجاء القرية 0فتحطم جدارا لصمت الذي خيّم عليها منذ أمد طال ، و لتعلن انبثاق الفرح في رحاب الكل ، رجالا، وأطفالا ، ونساء .. وتغـدو بيوت القرية ، تفور بالنشاط والحركة كخلية النحل0وحينها تـغـدق الساحات ، بالكرم والسخاء ،والترحاب والضياء .. وتعبق سماء القرية ، بأريج الفرح والخُمْرة والدلكـة، وبالعديل والزين ..و تصدح الحناجر بالغناء .. وأهازيج الفرح ، وتهلل النساء بالزغاريد الضحوكة المبتهجة ..وما عليك ألا أن تغادر دارك في حالة من الطوارئ، ، ولن تعود أليها ألا بعد أن يكون الليل قـد أضناه طول السهر ...وهـكذا، كقافلة راحلة ، تتوالى كرنفالات البهجة والأفراح ، وليالي السمر والملاح، وتجوب بأرجاء القرية شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا ، لا يستقر بها مقام , و لا تحل بدار ألا ريثما ترتحل لأخرى ، لتعُـمّ كل أحياء القرية ، ولابـد أن تـغـدق الكل تشريفا ومجاملة..
|
|
|
|
|
|