المواسم - قصة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-19-2024, 02:57 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-18-2004, 05:34 PM

Ehab Eltayeb
<aEhab Eltayeb
تاريخ التسجيل: 11-25-2003
مجموع المشاركات: 2850

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المواسم - قصة (Re: Ehab Eltayeb)

    موسم النقاهة :

    كالطيف , وومضـة ا لبرق، تجيئنا الأيام حينا حبلى بالخيـر...
    ياضيفي ، أهل قريتنا في مثل هذه الفترة بالذات ، والتي تشارف انتهاء موسم الحصاد، وحلول فترة النقاهة ، و بدء فصل الخريف ...تراهم زاخرين بالحياة ,رافلين في الصفاء ، أما قلوبهم النقية , فتكاد تنبض بفيض من الغبطة... ومن هول ما تسمع أذناك , وترى عيناك ، يتملكك العجب ...وربما حسبتهم , سـلالة من البشر الأصفياء ، الذين أنعم الله عليهم بالثراء ، والرضا ، والحياة الرحبة ..وما أن تـقـبل لمجالستهم ، يستقبلونك من أول وهـلة بصدر منشرح , ووجوه نيرة طلقة ... تفيض بالغبطة والفرح، وتلهج بالحمد والثناء ..ولا يكادون يفسحون لك مجلسا بينهم ، حتى ينسل من وسطهـم هاشا باشا كبير القوم السيمت عبد الرضي، وفي الحال يزف لك البشرى قائلا:
    ـ((يا سـلام و يا سـلاااااام ...ياأيها الضيف ،هـذا العام ، كأنما بالمعجزة قـد حـدثت, وكأنما بأبواب السماء قــد فتحت لنا فتحا ، و بسطت الأرض بالخير والرزق .. وإذا بالقوم بعد أن أدركهم البؤس واليأس ، يفيقون بغتة فإذا بهم بين أحضان ليلة القدر، وفي طرفة عين ، تحقـقـت كل أمانيهم وأحلامهم ...هل تدري أيها الضيف ما الذي حدث ؟؟ لـقـد أجزلت لنا الأرض بالعطاء ، تـكاثـر المحصول وفاض, وعم الرخاء كل الأرجاء ، فردا فردا ، و جماعة جماعة ، كأنه الفـيضاااااان ))....
    لا يكاد هـذا الرجـل ، يفرغ من إبلاغك بتلك البشارة ، والأنباء السارة ..في الحال يقبل نحوك حاج البشـير , هاهـو ذا وكما تراه ، يقف ماثلا أمام ناظريك، بقامته السامقة ، ولحـيـتـه الكـثة الـبـيـضاء والتي لا تـفـتـأ تزيـد وجهه الصـبـوح وقـارا وهـيـبـة ... يـبـادرك وقـد تهـلل وجهـه وامتلأ بـالـفال والبـشـرى ،أمـا يـداه فـقـد طـفـقـتـا تـداعـبـان حـبـيـبـات السـبحة ، وشــفـتـاه تـلهجان بـالحـمـد والـثـنـاء ، قـائـلا :
    ـ ((يا ضيفنا الكريم ، الحمد لله ,,الحـمد لله ,, الحـمد لله على هـذه النعـمة ..فمنذ أن وجـدنا في هـذه القريـة ، تا لله لم نحزن لـشـيء مفقود ، و لم نـفرح لـشـيء موجود بمثـل فـرحنا هذا , كأنما بالدنيا قد أتتنا راغمة ...ولقد نجحـت زراعتنا في هذا العام الخير نجاحا خرق الـعادة ، حتى أصبح خيرنا راقد ، ومحصولنا وافر، وانبسطنا غايـة الـبـسط ، وعشنا في رغد وسعة ...ولقـد نويـت فـي هـذا العام الخـيـر، أن أحجّ الحجة السابعة ، فالمنادى قـد نادى.. وسوف نـشـدّ الرحال فـي أول قـافلة ذاهبـة...وسوف يكون بـرفـقـتي ، حاج الـزبير ود عطيه ، والطاهر ود حسيب تـاجر المحاصيل الشهيـر الـملقب بالتمساح الكبيـر، وجدك عبدالتـواب ود الأرباب ، و حبو بتك عائشة بـت طه، وعمك حيدوب صاحب جنينة الموز , وشيخ العرب كرار ود أب شـنــب ، وشله مـن أهـل القـريـة .. وما أن يـرى الدهـشة قــد ارتسمت عـلى قـسمـات وجهـك ، يربت على كتفيك في حنو ثم يواصل حديثه قائلا :
    ـ((هوّن ,, هوّن,,, ياأيها الضيف ، وما عليك من عوارض هذا الزمن ,, فـلـقـد حجينا أنا وحاج الزبير أول عهدنا معا ، وسوف نخـتتـم حجاتنا هـذا العام بحجة الوداع معا ,,, وكما ترى فالشيـب قـد اعتلي الرؤوس واللحى ، والأيام بنا قـد تـوغلت , وُمْركبُنا في اللّجة قـد أبحرت، والمرء منا لا ينفك ألا أن يجـد نفسه منجذبا بقوة إلى تلك البقاع الطاهرة انجذابا لا فكاك منه,, و شوقي شديد لرؤية البيت الحرام ، و تقـبيل الحجر الأسود, ثمّ الطواف حول الكعبة، وزيارة المسجد النبوي بالمدينة المنورة ، والصلاة في رحاب الروضة الشريفة ))
    يصمت برهة ، ويرنو ببصره في الأفق البعيد ، ثم فجأة وكأبرة البوصلة ، يستدير بجسمه ، ميمما وجهه شطر القبلة ..وحينئذ يُمْلل عليك وصيته ، ويداعبك قائلا :
    ـ(( ياضيفنا الكريم لاشك أنك من ابناء المدرسة ، اسمع وصيتي ، وإياك إياك أن تنسى ، حين نرجع بالسلامة، ألقاك مسحت ليا باب الحوش بالجير الأبيض ، وكتبت ليا عند مدخله بالخط العريض، يا داخل هـذا الدار صلي وسلم على النبي المختار.. وما تنسى الدعاء بالحج المبرور,والسعي المـشكور، والذنب المغفور..وألقاك كلمت ليا أهـل((النوبة )),الأمين ود الزيـن ، وعبد الحي , وحاج عوض الكريم ..وما تنسـى شلة المداحـيـن , ودالمكي , وود الـعشـاري , عشان يجوا يحيوا لينا ليلة أو ليـلتين .. وألقاك اشتريت ليا خروف الكرامة ، ولازم يكون بالحيل سمين .. ويوم الوقوف بعرفة، أدعو لك بالصلاح والفلاح , والتوفيق والنجاح ..وبجيب لك معاي من الأرض الطاهرة ، تمر المدينة ، وماء زمزم ، وطاقيـة وسبحة ، وهدايا كثيرة تـسرك بلحيييييل))..


    ●●●●●●●●●●●
    وتارة أخرى أيها الضيف ، في مثل هذه المواسم الخيرة ، تكثر الأعراس وتتوالى المناسبات .. وحينئذ وحيثما يحل بركات(( أبو البنات)) , ضيف شـرف على مجالس أهل القرية , ويـشرع في الحديث .. فورا ينكسر حاجز الصمت بين القوم , و يزول العبوس، و تصفـو النفـوس ، وتصغـي آذانهم لحديثه الظريف .. ياضيفي هـذا الرجـل النحيل الجسم , ذو الشارب الكـث , والقصير القامة كأنه القزم ، من أعجـب وأظـرف أهـل القريـة، أقـسـم أنك لن تجد له بيننا مثيلا قط ... انظر أليه , هاهو ذا جالسا وسط جماعة من القوم وهو يبدو في كامل هـيئـته ، وقد شـنق طاقيته الحمراء ، وتوشح بصديريه الأسود، وتسربل بـسرواله((قدم الحمام)) ، وانتعـل مركوبه الفاخر المصـنوع من جلد النمر, وتـأبـط سـوطا من((العنج)) .. ثمّ أخـذ يـرغـي ويزبد ، وتارة أخرى يزف البـشرى بعد أن ضاق ذرعا بكـنيته((أبو البنات))..هـذا الرجل ياضيفي ,دعني أوجز لك قصته ، ولن أطيل عليك في الحديث .. لقـد أنجبت له زوجتـه (سـت الـنـسـاء) خلال عـشـريـن عـاما مـن زواجهما سبـع بـنات ,الواحدة تلو الأخرى , في تسلسل أنـثـوي مـتـواصل لم ينقطع أبـدا , رغم أنه في كل مرة, كان يمـني نـفـسه بمولود ذكر، كـي تـقـر به عـيـنه , و يخـرس ألسـنة أقرانه ..ألا أن الأقـدار كـانت له بالمرصاد ، ومنذ يـومها لقب((أبو البنات)) والتصق هذا اللقب باسمه و اشتهر به, وأصبح أهل القرية في كل الأوقات , ينادونه((بركات أبو البنات).. وحينما ريـش في هذا الموسم الخيـر، هجـس هاجـس في قلبه ، فملأ المجالـس ضجة , و تحريما وطلاقا , من أنه حقا قد اعتزم الزواج مثنى فوق امرأته المسنوحة( ست النساء) ، عـسى ولعل أن يرزق بالـبـنـيـن عوضا عـن الـبـنـات...ويومئذ أسر إلى جلسائه من أهل القرية بهذا الحديث قـائـلا :
    ـ((أنتـو عارفيـن ،يا الطيب ود الحـسن ، و يا جاد كريـم وياسـنـاد ، ويا ود دقاش0 الـسنة دى إياها سنة البركة ، والخيـر والنعـمة ...وعليّ الطلاق بالثلاثة، يا ما تـشوفوني معرس فوق مرتي المسنوحة دي أحـسن عرس)...
    وكمن لا يبالي بشيء , أردف قـائـلا:
    ـ((هـسع دحن يا الطيب ود الحسن ، كان جيتك عديل بي خشم الدرب بتديني بنيتك دى؟؟))
    ولما كان(( بركات أبو البنات)) ,يدرك سلفا أن الطيب ود الحسن، قـد قضى مع امرأته زينب بت حاج محمد أحمد , أعواما كثيرة، ولكنها بعد مشقة وعناء ، لم تنجب له سوى بنت واحدة ، ترعرعت في حضنه وكبرت ، ثم صارت فتاة جميلة تهفو لها قلوب الشباب ..وكان أبوها الطيب ود الحسن يحبها حبا بالغ الرقة ، وكانت عنده أعزّ ما يملك في هذه الدنيا ..وفي تلك اللحظة ، تذكر((بركات أبو البنات)) يوم مولدها ، ذلك الحدث الذي أصبح مدونا في ذاكرة أهل القرية ... وكشاهد عيان دعني أروي لك قصة ما حدث ... فما أن بلغ الطيب ود الحسن النبأ السعيد ، من فرط ما أحس من سعادة غامرة تفجرت كأنها حمم البركان,هاجت دواخله وماجت ... وفي نشوة من الفرح الهمجي وكثور هائج ,غافل القوم وهم يتقاطرون صوب داره فرحين ومهنئين , ثم اندفع في جنون بالغ صوب زريبة بهائمه.. وما أن دخلها،أسـتل سكين ذراعه ، وهلل وكبر , ثم شرع في خرفانه ذبحا,الواحد تلو الآخر، وذلك كرامة وسلامة , واحتفاء باليوم الذي شهد مولد ابنته آمنة... ولولا أن القوم تنبهوا ، وأدركوه في اللحظات الحاسمة , لقضى على كل شيء فيها .. ولما بلغ مولدها أسبوعا ، وجاء يوم السماية , حدث ما لم يحدث لمولد أنثى في هذه القرية من قبل ... لقد أقام لها عقيقة فخمة , دعا لها أهل القرية قاطبة , وقد حفل ذلك اليوم المشهود , بالغناء وأهازيج الفرح , والزغاريد والدلاليك , حتى شروق الشمس ...ومما لاشك فيه ياأيها الضيف , كلمح البصر ، تداعت أشتات تلك الصور الألكترونية في ذاكرة((بركات أبو البنات)) ، كأنها شريط سينمائي يتراءى أمام ناظريه ، وحينما فطن بأن الطيب ود الحسن قـد تماطل عليه في الرد، بادره قائلا :
    ـ(( يا راجل أها قلت شنو ؟؟ كلامي ده ما فات اضانك ، يعني معقول تكون ما سمعته ؟؟ ))...
    ألا أن الطيب ود الحسن لم يحرك ساكنا ، بل ظل على حاله تلك جالسا في صمت كأنه الصنم 0 ومن هول المفاجأة الصاعقة, لبث يحدق في الأرض كالمذهول.... وكشيء حُنِط , ثم ظل محفورا ومطمورا في داخله زمانا طويلا ، عاد الطيب بذاكرته إلى الوراء ، إلى جوف تلك السنين البائسة ، حينما كان يشمر عن ساعده, وينحني فوق معوله ، يكد جاهدا في إصلاح حقله0ألا أن الناس ياأيها الضيف لايتركون أحدا في حاله .. ولما كان الطيب ود الحسن ، قد تزوج من زينب بت حاج محمد أحمد منذ أعوام خلت ...ومرت على زواجهما السنين تلو السنين ، ولم تنجب له البنات أو ا لبنين ، فقد ظنوه رجلا عقيما , ولهذا السبب كان(( بركات أبو البنات)) , ما أن يراه في الغيط على تلك الحال من الكـدّ والتعب , ينكأ له الجراح ويناديه قائلا :
    ـ ((يا زول الزراعة دي طايرة , مالك ومال التعب و الشقاوة ,أحْمِد ربك لا عندك ((مُحُمّد)) ولا((فاطمة )) , و أنا عليّ الحرام كان منا محمول ، و ظهري مقصوص ,اشبع راحة وانطلاقه، وأكان أموت من الفاقة ,الزراعة دي تاني تب ما بقبل عليها ,ملعون أبوها في ستين داهية ، وزي ما عملوا ناس السر ود البتول، وحمدان المسطول ، و أولاد فرجون ، أسيب البلد المسنوحة دي وأقول للبندر جااااااكم زول)) .
    يا ضيفي ، ورغم مضي زمان تلك السنين الحالكة ...ألا أن الطيب ود الحسن يومئذ شعر بالحزن والغبن ، ثم ما لبث و كضوء انبثق فجأة ليزيح ستارة تلك العتمة ،أن ارتسم في مخيلته طيف ابنته آمنة ، وهي غادئة و رائحة ، تبعث الحياة وتنفثها في ظل ذلك البيت الذي خيّم الصمت والسكون في داخله زمانا طويلا ..كان حينما يأتي من الغيط مرهقا مكدودا ، تركض نحوه زاخرة بالحياة ، و في الحال تملأ له الإبريق بالماء ، ثم تفرش له سجادة الصلاة على الأرض .. وكان حينما ينتهي لتوه من الصلاة ، تجلس جواره في ألفة ، كأنها تنشد الأمن والدفء... وكان يتأملها في فرح وغبطة ، و يحمد الله ، ثم يرفع كفيه صوب السماء في خشوع ، وضراعة ورجاء ، ويهمهم بالدعاء قائلا :
    ـ((اللهمّ ارزقها بالزوج الحسن ، والذرية الصالحة... اللهمّ اجعلها آمـنة في بيتها ودينها ودنياها ...آمــين يا رب العالمين)) ...
    وكان يمسح بيديه على وجهه وصدره ، ثم يربت على كتفيها في حنو بالغ قائلا :
    ـ(( بُكْره يا السمحة يا ما تكبري ، وتتزوجي ، وتملئ دارنا بالأطفال أولاد و بنات ، و نصير ليهم جدود وحبو بات)) ...
    شيء عجيب كالحلم سـرى في حنايا داخله في تلك اللحظات , وجذبه بقوة خفية إلى ملكوته .. ومن هول ما سمع قبيل لحظات ، فاق دهشا ، وانتفضت كل خلية من خلايا جسده ، ووقفت متحفزة كأنها تود بكل ما تملك من قوة الانقضاض على شيء ما .. وبعد لحظات شدّ وجذب , ومد وجزر، خرج الطيب ود الحسن عن صمته ، وقد تقافزت عيناه من محجريهما ، وأضحتا كبؤرتين تموجان بالشرر.. وصاح في غيظ مخاطبا((بركات أبوالبنات)) قائلا :
    ـ((دي عليّّ الطلاق المو زي طلاقك ده ، كان هسع جاني ليها صبي يتلْتِل .. يجر التمساح العشاري من قيف النهر ما بديها ليهو ، دي ست أبوها والرمدانين اللزيك ما بيعرسوها))...
    ثم مضى مخاطبا القوم قائلا :
    ـ((يا جماعة ، زمان قالوا في المثل ((أبو الدرداق خطب القمره )) والله حكاية ، يا ما نحيا و بكره نشوف أعجب من العجب)) ...
    في تلك اللحظات ، تشاغل ((بركات أبو البنات)) بتبريم رأسي شاربه ، كأنه بذلك كان يود أن يظهر للطيب ود الحسن تحديه ، ولا مبالاته بما يقول .. وفي تأن وثقة, صوب بصره جهة الطيب ود الحسن , ونظر أليه نظرة ماكرة ، كأنما أيقن بأن الطيب ود الحسن سوف يهدأ من ثورته , ويذعن لأمره إذا ساومه ، وقال بكل طمأنينة وثقة :
    ـ((يا راجل بكل بساطه الحكاية وما فيها ، أنا أعقد عليها بكتاب الله وسنة رسوله، وأنت كمان نعقد لك على أحسن واحده من مراحي ده ، ـ يقصد بناته ـ و أكان الشرط ده ما عجبك ، أنا علي الحرام ، قدام الرجال ديل البيملوا العين ، مستعد أسجل لك عشرة أفدنه ، أرض قرير حُرّه ، وأنت بعينيك ديل شفت حدودها، قايمه من قيف النهر، و ممتده محازيه لساقية ود الفحل ، وسادره إلى أن تنتهي عند الجدول الضكرـ جدول الخواجه كركورـ ، بس أنت كيف ترضى وتقول لينا خير.. ولو كلامي ده مو عاجبك ، كمان بالدغري العديل وريني ردك ، وكل شيء قسمه ونصيب))...
    لم يكد((بركات أبو البنات)) يفرغ من هذا الحديث، حتى كان الطيب ود الحسن قد هب غاضبا وفد أثقله ذلك ، وملأ صدره ، فخاطبه قائلا :
    ـ (( يا راجل سيب الجعجعة ، و بطل المسخرة و الكلام الفارغ ده ، وشوف لك شغيلة تشغلها غير حكاية العرس ده .. الزمن ده مو زمن رهان أو نخاسة ، وأرضك العاجباك دي ، ذاتها أرض سباخ و مطاقة ، ومرمّده بالبودا , وبكره ساعة الجدْ ، بيجوك أصحابها ، ويتقسموها الورثة ، وتصبح أيدك فاضية ..وزي ما قالوا في المثل((الدين النصيحة))، دحن يا أخوي ، أخير لك تعيش مستور وما في داعي للبلبلة ...و كمن يئس، وقد أغضبه ذلك ، صاح(( بركات أبو البنات)) ساخرا :
    ـ((يا راجل ، بنيتك المثل بيضة الديك دى ، أنت مالك عامل ليها قومه وقعده ، أنت فاكرها مريم العذراء ،أم بلقيس ملكة سبأ ..والله أمكن يا جماعة فاكرها كمان ملكة جمال بريطانيا ..دي عليّ الحرام تقعد تماطل كده , بكره تبور وقطارها يفوت ويعدي ، وتصبح عز باء . وزي ما قالوا في المثل((خير البر عاجله)) وكمان السترة واجبه ، دحن يا راجل , أخير لك ترضى , ولا تضيع عليها الفرصة))...
    ياضيفي الكريم , ورغم أن الطيب ود الحسن كان اسما على مسمى , وفد اشتهر بين أهل القرية بدماثة الخلق , وطيب المعشر ، وحسن السيرة و السريرة ..ألا أن الإنسان, كماء النهر ، تارة يصفو مزاجه ، وأخرى يتعكر ...ويومها وعلى غير العادة , خرج الطيب ود الحسن عن طوره ، وطار صوابه، وفلتت أعصابه ... لقد خيل أليه من شدّة الغضب ، أن ينهض قائما ليمسك بتلابيب(( بركات أبو البنات)) ثم يخنقه حتى يكتم أنفاسه .. وسرعان ما نهض واقفا ، ولوح بسبابته في وجه ((بركات أبو البنات)) محذرا :
    ـ(( يا راجل ، أخير لك تحفظ مقامك ، وتثوب من عوازب أحلامك ، و ألا قسما بالله سوف تندم طول زمانك)) ..
    حينئذ ياضيفي سرعان ما تدخل بينهما القوم ، وهدؤا من ثورتهما ، ولم تمض لحظات حتى عاد بينهما الصفاء والوئام ، وانقشعت سحابة الصيف ... و عاد الطيب إلى سابق جلسته نادما ، تارة كان يتوب ويستغفر ، و أخرى يلعن إبليس الذي أغواه حتى بلغ به الغضب ما بلغ ... أما((بركات أبو البنات)) لم يكن في غرار نفسه يأبه لأحد، فلا التهديد و لا الوعيد ، و لا حتى تلك المساعي الحميدة التي بذلها القوم لرأب ذلك الصدع ، كل ذلك لم يكن كفيلا بإطفاء نيران تلك الرغبة الدفينة ، المتأججة في صدره ... و في ظنه لا شيء مطلقا يثني عزيمته من المضي قدما في تحقيق تلك الرغبة مهما كان الثمن ...وسرعان ما انتهز حالة الصمت التي خيمت على وجوه القوم وقال :
    ـ(( يا جماعة ، و الله زمان البلد دي تلفها من حدها إلى حدها ، ما تلقى لك فيها امرأة عزبه ،أو فتاة مي معرسه، كان البنت من يوم ما لحقت وثمارها أينعت، كثروا خطابها وعلى طول زُوجت )) يهب واقفا و يقفز في الهواء ، ثم يهبط ضاربا رجله اليمنى بالأرض ، ويلوح بسوط العنج ، قائلا في تحد وزهو وعنجهية :
    ـ(( ابشروا بالخير ,,, ابشروا بالخير,,,, ابشروا بالخير ، يا ناس الحلة كلكم , السنة دي علي الطلاق بالثلاثة ، يا ما تشوفوني معرس بنت أجعص راجل في البلد ده ، عرسا ألف ليلة وليلة , دلاليكه يدقن , وحسانه يرقصن , وزغاريده أيوووي..أيووو..وووي .. يولولن , وأنا في وسط الدائرة ، فارس حوبه يصول ويجول بالعرض والطول , ابشروا بالخير ,,, ابشروا بالخير ,,, ابشروا بالخير .. ياناس الحلة كلكم))

    ●●●●●●●●●

    وآخرون ياضيفي ، أبان موسم النقاهة قد اكتفوا بختان أنجالهم .. فهاهو الياس ود الخضر , بعد أن عكف حولا كاملا يعتني بتسمين عجله الدعول، ويمدّه بالبرسيم ، و سيقان القصب ، وأطيب أنواع العلف ... سارع واشترى من زرايب البهائم المنتشرة بالغيط ، خروفين سمينين , ثم سافر إلى أسواق البندر، وجهز ما جهز من لوازم الفرح , من العطور والروائح , وسائر صنوف الطعام , وأعـدّ العُدّة لمأدبة ضخمة ..يأتيك عند غروب الشمس قادما من أقصى أطراف القرية , و ما أن ينتهي به الطواف عند عقر الدار ,يتـنحنح , ويصفق , ثم ينادي بأعلى صوته قائلا :
    ـ(( السلام عليكم يا أهل البيت .. السلام عليكم يا ناس الدار .. جاأأأأكم الضيف))..
    وحين لا يجد من يرد عليه التحية ، أو يسمع نداء صوته , حينئذ يطرق على باب الحوش بعصا السلم ، ثلاث طرقات متتاليات 0 و ما أن يبلغ الطرق مسامعك , وتقبل نحو باب الدار مهرولا ، قائلا للطارق دون أن تراه:
    ـ (( يا مرحبا بالضيف ,, حبابك عشرة ,, تفضل )).. عندئذ يبدأ في الحال يسرد عليك حكايته قائلا :
    ـ(( و الله يا ولدي من زمن بعيد بالحيل , وليداتي ديل ـ التيمان حسن و حسين ـ كنت ناوي اطهرن، وأفرح بيهم فرحا يعم البلد من حدها إلى حدها ، من بيوت أولاد ود خير، وحتى عرب الحفير ــ ناس بخيت ود كرفين ــ أها كلما أنوي نية خالصة ، واحده من أثـنـين تحصل وتفشل علينا الحكاية ، يا مات زول في البلد وتكاثرت المناحات , والدنيا كلها صبحت حزن و حداد ، يا مسْرتنا بطلت و العيشة علينا انمحقت ، وهكذا ظللنا على هذا الحال لامن الوليدات كبروا ، وقرب يفوت فيهم الفوات .. لكن السنة دي خلاص انفرجت علينا من باب واسع بالحيل ، و الحمد لله صرنا مريشين ، وزي ما قلت لك الوليدات خلاص نويت اطهرن ، دحن بُكْره لازم تجيء تحْضرُن , و بالمرة تفطر وتتغدى , وأن ربنا هون تتعشى معانا ، ترى كل شيء جاهز و منتهي.. وأنا من دريبي ده ، ماشي أكلم طهار القرية ،عمك محمد ود دفع الله ، عشان يجيء ء يطهرن في الصباح الباكر قبل أن يشـتـدّ الحر)) ...
    و هـكـذا ياضيفي ،لا يكاد هذا الرجل يبرحك بخطوات ، و شبح خياله ذاك ما يزال يقف ماثلا أمام ناظريك ، وصدى دعوته الكريمة تلك ، ما برح يطن و يرن عالقا بأذنيك .. حينئذ يقتفي أثره في الحال أولاد العجمي ود كرار، يأتونك قادمين من جهة عرب الخور السيال ، لاهثين من طول المشوار و كثرة التجوال ، بعد أن لفوا القرية مهرولين من دار إلى دار .. وفي الحال يعلنوا لك أن والدهم يدعوك ومن معك لتشريف دارهم في مناسبة أخرى ، تضاهي تلك المناسبة في كرمها ، وسخائها وأريحيتها ... و ربما تخرج عن دارك هنيهة ، لتقضي حاجة من حوائجك ، فما أن تعود أليها ، تجد الفال ينتظرك بها ، أن الباقر ود الطاهر, قـد أتاك النعـل حذو النعـل , ليعلمك بخبر عقد قران ابنه البكر الأستاذ تاج السر, وقـد ألح عليك في وصيته ,لآبـد أن تأتي غدا إلى دارهم ، عقب صلاة المغرب ، لحضور مراسم العـقـد ..
    وهكذا أيها الضيف، طيلة هذا الموسم بالذات ,لا تكاد تمضي اللحظة تلو اللحظة ، حتى يأتيك بين الفنية والأخرى , الرسل تلو الرسل ، حاملين لك الفال والبشرى ، وفي كل حين ولحظة ، يزداد عدد المراسيل ، وينتشر فيض هذه لدعوات المتكررة ، وربما تبلغ في اليوم الواحد دعوات عدة ، تعج بها كافة أرجاء القرية 0فتحطم جدارا لصمت الذي خيّم عليها منذ أمد طال ، و لتعلن انبثاق الفرح في رحاب الكل ، رجالا، وأطفالا ، ونساء .. وتغـدو بيوت القرية ، تفور بالنشاط والحركة كخلية النحل0وحينها تـغـدق الساحات ، بالكرم والسخاء ،والترحاب والضياء .. وتعبق سماء القرية ، بأريج الفرح والخُمْرة والدلكـة، وبالعديل والزين ..و تصدح الحناجر بالغناء .. وأهازيج الفرح ، وتهلل النساء بالزغاريد الضحوكة المبتهجة ..وما عليك ألا أن تغادر دارك في حالة من الطوارئ، ، ولن تعود أليها ألا بعد أن يكون الليل قـد أضناه طول السهر ...وهـكذا، كقافلة راحلة ، تتوالى كرنفالات البهجة والأفراح ، وليالي السمر والملاح، وتجوب بأرجاء القرية شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا ، لا يستقر بها مقام , و لا تحل بدار ألا ريثما ترتحل لأخرى ، لتعُـمّ كل أحياء القرية ، ولابـد أن تـغـدق الكل تشريفا ومجاملة..
                  

العنوان الكاتب Date
المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-18-04, 09:55 AM
  Re: المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-18-04, 05:34 PM
  Re: المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-18-04, 05:39 PM
  Re: المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-18-04, 05:42 PM
  Re: المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-19-04, 11:23 AM
    Re: المواسم - قصة Dr. Moiz Bakhiet09-19-04, 02:28 PM
      Re: المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-19-04, 02:57 PM
        Re: المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-23-04, 04:49 AM
          Re: المواسم - قصة إيمان أحمد09-23-04, 06:40 AM
            Re: المواسم - قصة Ehab Eltayeb09-23-04, 04:38 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de