|
انحنيت تقديرا لأم الحسن وزملائها
|
عذابات السنين ومعاناتها تظهر بوضوح فوق جبينها ، وصبغ الحنّاء يلوّن مقدمة شعرها ، وبدا لي أن ساقيها قد انحنتا بعض الشيء من كثرة المشاوير ( الكدّاري ) بين المحطة الوسطى ووزارة المالية ،، فقد أحسست أن قامتها أقصر مما تركتها عليه قبل أكثر من عشرين عاما حين هاجرت لأول مرة ، ثم لم ألتقيها طيلة هذه السنين ،، كانت أم الحسن في ذاك الزمان تعمل بجد في غرفة مخصصة للطباعة بالآلة الكاتبة ،، وكان بالغرفة ما يقارب العشر بنات ، يتوسطهن صبي واحد ، كلهم منهمكون في عملهم لا يجدون وقتا للتعارف ، والأنس ، والتسكع ،، لكن أم الحسن كانت أكثر زميلاتها نشاطا وانفتاحا وخروجا من المكتب ،، ورغم ذلك كان أداؤها ممتازا ، ومتميزا ، وسريعا .. وكنت كلما رأيتها تسرع في مشيتها أو في عملها ، أو استمعت إليها تشكو من ضغط العمل ، أقول لم كل هذا ؟ أيعقل أن يكون هذا كله من أجل أربعة وعشرين جنيها هي كل مرتب أم الحسن ؟ قالت لي أم الحسن أنها بعد أن أكملت المدرسة الوسطى اتجهت إلى معهد للآلة الكاتبة ، تدربت فيه ، ثم التحقت بوزارة المالية في وظيفة ( ناسخ ) ، قالت ذلك ، وروت لي حاجة أمها الأرملة وإخوتها الصغار ، مما دفعها لترك الدراسة والانتقال إلى الوظيفة مضحية بكل مستقبلها من أجل هؤلاء الضعفاء . كان يبدو لي أن أم الحسن كانت تعاني كثيرا لتشتري ثوبا أبيض إضافيا لتأتي به إلى المكتب ، وكانت تعاني كثيرا وهي تدفع كل يوم خمسة وعشرين قرشا جيئة وذهابا في مواصلات العاصمة ، لذا لم يكن بمقدور أم الحسن أن تبدل ثوبها يوميا ، أو تغسله وتكويه يوميا ، ولم يكن في مقدورها أن تغسل شعرها أو تفرده أو تمنحه حمّام زيت بصورة منتظمة ،، وفستان أم الحسن أيضا لا يحظى باهتمام كبير ، فهي فقط تمتلك القدرة على الابتعاد عن ما يمكن أن يراكم الأوساخ ، لكنها لا تمتلك القدرة على النظافة المستمرة .. أم الحسن كانت في ريعان شبابها حين تعرفت عليها لأول مرة في أواخر السبعينات ، متوسطة الطول ، متوسطة الوزن ، وجهها يميل إلى الاستدارة ، عيناها واسعتان ، صدرها بارز ، شعرها ناعم مسدل ، يهتز منها الكفل حين تمشي عبر الصالة الممتدة بعرض وزارة المالية .. والبساطة كانت سمة أم الحسن ، لا تفتعلها ، ولا تتصنعها ، ولا تدّعيها ، فهي قادمة من أطراف المدينة ، من أسرة عانت الفقر واليتم ، ، لكن الابتسامة لم تكن تفارق أم الحسن ، وهي دائما منفرجة الأسارير ، تمتلك استعداد فطريا للظرف ، والفكاهة ، والمزاح ،، تبادل الزملاء والزميلات التحايا ، والقفشات ، والمودة ،، لم ألحظ على أم الحسن انهزاما ، ولم ألحظ عليها تكدرا ، ولم ألحظ عليها تطلعا إلى ما في أيدي الناس ،، بعد بضع وعشرين سنة ، عدت منتفخ الأوداج ، منتفخ الجيوب من غربتي اللئيمة ، وكما تغير بي الحال ظننت أن أم الحسن أيضا تغير بها الحال ،، قلت أزور وزارة المالية ، وأقابل من بقي هناك من زملاء وزميلات لم يقدّر لي أن أزاملهم طويلا ،، ربما يذكرونني لماما ، لكني سأزورهم ، وأشفي بعضا من فضول ، وبعضا من غرور ،، وفي الصالة الطويلة المطلة على وزارة الداخلية ، رأيتها ، نفس المشية ، نفس الهيئة ، وربما نفس الثوب الأبيض ، لم يتبدل الشكل الخارجي لأم الحسن طيلة هذه السنين ، لم تنتقل إلى الطرحة ، ولم تهجر الإهمال . أسرعت الخطى نحو أم الحسن ، إلى أن بلغتها ،، رفعت صوتي بالسلام ، والتفت أم الحسن ترد السلام بشيء من تردد ،، مددت يدي ، فترددت أكثر ، لكنها في النهاية مدت يدها ،، لا خاتم فيها ، ولا سوار ، لكنها ليست يدا مضطربة ،، سألتها : أنت أم الحسن ، أليس كذلك ؟ قالت : نعم ،، وكأنك أنت ودقاسم ؟ قلت : نعم أنا هو . قالت : لكنك ازددت طولا وعرضا ، عيني باردة ، ويا صلاة النبي . قلت : إنه ملح الغربة انتفخ به جسدي ، وهلك به عقلي .. أخذتني أم الحسن لمكتبها ، الغرفة تغيرت ، والأجهزة تغيرت ، وأشكال الناس تغيرت ،، سألتها عن زملائها السابقين ،، وعرفت أنهم جميعا تفرقوا ، وتفرقت بهم الدنيا ،، الغربة أخذت بنصيبها ، والبيوت أخذت بنصيبها ، والموت أخذ بنصيبه ،، وعرفت أن أم الحسن أصبحت الآن رئيسا لهذه الغرفة ، وأن الراتب تضاعف أضعافا مضاعفة ، لكن معاناة أم الحسن ظلت تتضاعف مع مرور السنين ،، فظل الثوب واحدا ، والفستان واحدا ، والحذاء واحدا ، وظل الشعر بلا عطر ولا زيت .. في مكتب أم الحسن شربت كأسا من الشاي ، رغم إصرارها على أن أشرب عصيرا ، إلا أنني فضلت الشاي رحمة بمحفظة أم ألحسن ،، وسألت أم الحسن عن أمها وإخوتها ، فترحمت على أمها ، وغشتها سحابة من حزن ، ثم عرّجت على إخوتها ، الذين كبروا ، إلا أنهم لم يحققوا لها حلما .. الحمد لله أن كل منهم الآن مسئول عن نفسه . قالتها أم الحسن وفي نفسها حسرة وألم ،، وما خبرك أنت أم الحسن ، هل جاءك ود الحلال ؟ سألتها بعد تردد . قالت : نعم جاءني ، غمرني بحبه ، لكن سرعان ما افترقنا ، وبيننا ولد عمره الآن سبع سنين .. كانت تجربة قاسية ، عشتها طلبا للسترة ، وما كنت أرغب في استمرارها ،، ذقت الكثير من الألم ، والكثير من سوء المعاملة ،، لا أعلم كيف تستمر النساء كزوجات ، يبدو لي أن الأزواج كلهم وقحون ، وأن الرجال كلهم مخادعون ، وأن مهنة الإنسان هي رفيقه الذي لا يخونه ،، لم يخلص لي في هذه الدنيا إلا مهنتي ، ظللت ( ناسخة ) منذ يوم تعييني ، تغيرت الحكومات ، وتبدلت أحوال الناس ، وجاءت تقنية جديدة ، لكن مهنتي ظلت رفيقا لي ، لم تتبدل ولم تخذلني ولم تتعالى عليّ ، ولم تتقاصر عن حاجتي .. قادتني أم الحسن إلى مكتب أحد الزملاء من الذين صمدوا أمام كل التيارات فأصبح يشغل وظيفة نائب الوكيل ، وفي مكتبه تنادى عدد آخر من الزملاء الصامدين ، لكنهم جميعا فقدوا الشعر ، أو فقدوا صمود سواده ، وانحنت ظهور بعضهم ،، تقدم بهم العمر ولم يتقدم بهم الحال ،، ساعتين قضيتهما مع زملاء فصلت بيني وبينهم سنوات الغربة اللئيمة ، لم يتغيروا كثيرا ، ولم يتبدلوا كثيرا ، أنا فقط تغيرت ، وبدلا عن إشباع فضولي ، وإشباع غروري ، انحنيت تقديرا لأم الحسن وبقية الزملاء ..
|
|
|
|
|
|
|
|
|