الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 12:12 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-10-2005, 00:26 AM

abraham deng

تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 227

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا

    الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا

    قديماَ أعتقد أهلنا الدينكا ان الخالق "Aciekأشيك" كان قد أراد لجميع مخلوقاته من الحيوانات، بما فيها الإنسان، ان يعيشوا بسلام ووئام علي سطح الأرض فكان كذلك. جميع الحيوانات كانوا في تآلف وود. وكانوا ايضا سواسي وينظرون إلي بعضهم البعض كإخوة في الخلق، لا شجار بينهم ولا عراك. الذئب كان يصاحب الحمل والقط يداعب الفأر و الفيل حريص علي أن لا يسحق أو يفرنجخ القعونج بأقدامه....وهكذا كانت الحياة طمآنينة ورغد، ومن البقول وأعشاب البرية يقتات كل الحيوانات ومن ثمار الأشجار أيضاَ أكلت كل دآبة وطير والإنسان وهكذا كان الخالق راضي بما صنعه يده.
    لم يمض علي هذا السلام الفردوسي علي الأرض وقتاَ طويلاَ حتي طرأ علي الأنسان مزاج وسلوك غريب لم يألفه من قبل إخوته من الحيوانات. فقد أصبح كثير الحركة، غريب النظرات وغارق في التفكير. حاول بعض الحيونات الإستفسار عن السبب فلم يسعفهم أحد بالإجابة فتغافلوا الأمر وعادوا يزاولون حياتهم كالمعتاد إلي ان حدث ذات مرة ما لم يخطر ببال وإنتشر خبر الحدث وعم القري وبدأ الكل يسأل: في شنو ياخوانا؟
    ....الإنسان.
    مالو الإنسان؟
    ....عفص جداد من رقبتو وقتلو
    آآآآآه؟...قتلو؟
    ....آآي قتلو
    آآهاه؟..وعمل بيهوه شنو بعد ده؟
    ....والله سمعنا قالوا شواه و أكلو
    آآآآه؟...أكلو؟...ليه؟
    .................
    القردة والثعالب كانوا هايمين في البلد بيوزعوا الخبر والحيوانات في ذهول. لكن بعد مرور الأيام هدأ الموقف وعادت الطمآنينة إلي النفوس وأعتبر الحيوانات السلوك الذي بدر من الإنسان مجرد تغيير بسيط في المزاج ويمكن تعديله بالنصح. لكن الإنسان لم يتغير، بل إزداد سلوكه ومزاجه غرابه وتعقيد. وقد لاحظ الحيوانات في الإنسان إنه كل ما رأي سرب من الطيور رماها بحجر، بل وذهب أكثر من ذلك وبدأ يصنع لنفسه آلات فتاكة مثل الحراب والسكاكين وغيرها من آلات الصيد. فدب الخوف وعم الرعب بين الحيوانات.


    في صباح يوم من الأيام صحا الحيوانات مبكر ففاجئهم منظر الخروف وهو مذبوح ومعلق علي خشبه إستعداداَ للسلخ، فأصاب الهلع كل نفس حي، فدعا القرد جميع الحيوانات لإجتماع طارئ إستهجن فيه سلوك الإنسان وطالب بعزله فورا لأنه أصبح مصدر تهديد خطير للسكينه العامه. لكن بعض الحيوانات رفضوا الفكرة وطالبوا بمنح الإنسان فرصة أخرى لعلة يعدل سلوكه، ثم كونوا لجنة برئاسة البقر للإجتماع بالإنسان. فى الإجتماع طرح الحضور مجموعة من الأسئلة مستفسرين عن أسباب التحول المفاجئ في سلوك الإنسان. تعلل الإنسان فى الإجتماع بأنه لا يملك ملكة تسلق الأشجار لجني الثمار كما تفعل بقية الحيوانات. عادت اللجنة وشرحت بالتفصيل ما دار في الإجتماع الذي ضم الإنسان وعملاءه. أعترض القرد وقال: "عذر مشلول"...... لكن بقية الحيوانات تفهموا الموقف، فعادت الحياة إلي طبيعتها مرة أخري إلي أن حدثت المفاجئة الكبري.
    في شنو ياجماعة؟
    ....البقر
    مالو؟
    ....ضبحوه
    آآآآه؟
    فرد القرد قائلا: "يا جماعة أنا كلمتكم من زمان...بأن الإنسان من ما ذاق اللحم خلاص...إتوحش"....ومن ثم طالبهم بالهجرة إلي الغابة، فخرج جميع الحيوانات عدا قلة، من بينها الحمار والكلب والحصان وحيوانات أخري أعتقدت إنها مقربه للإنسان. عندما أحس الإنسان بتمرد الحيوانات ضده جن جنونه فإتخذ من نفسه عدوا للطبيعة ومن ثم بدأ في شن غارات علي معاقل كل من هو مخالف، وكان قد تكمن من إستمالة الكلب إلي صفه، فصرع به عدد كبير من الحيوانات التي خرجت عن الطاعة.
    مرت الأيام وسئمت الحيوانات حياة الغابة فدعوا لإجتماع تفاكري طارئ ، آملين التوصل إلي صلح مع الإنسان يعيد الإسقرار والطمآنينة إلي نفوس الحيوانات المرعبة، فإختاروا بموجبه القرد ليذهب ويراقب تطورات سلوك الإنسان من بعيد حتي إذا ما لاحظ تحسن في سلوكه أخبرهم بذلك.
    تمانع القرد في البداية، وأخبر الحيوانات بان سلوك الإنسان لا يمكن ان تتعدل وانه خير لهم ان يمكثوا في الغابة. ولكنه في الآخر قبل التكليف وهو في غاية الإحباط خاصة عندما علم ان هنالك حيوانات اخري قد حذوا حذوة الأنسان فصاروا من أكلي اللحوم: مثل الأسد والنمر وبعض أخر من الطيور.
    في مساء احدي الايام، تسلل القرد حتي إقترب من مقر الإنسان و إتخذ شجرة بالقرب من مسكن الإنسان برجاَ للمراقبة، وظل هناك لعدة ايام وهو يراقب بحذر تحركات الإنسان ونشاطه اليومي. كان الأنسان يخرج كل صباح لمزاولة نشاطه اليومي، يصنع الآلات ويجلب الماء والحطب وأحياناَ يخرج مع الكلب للصيد، ولكن في أحايين أخري يذبح دجاج أو خروف أو حتي البقر، ثم يشويه ويأكلان اللحم هو والكلب. وهكذا ظل القرد يراقب الإنسان وعميله الكلب وفي نفس الوقت كان يأتيه أخبار من الغابة عن تحول حيوانات كثيرة أخري إلي أكل اللحوم فتوحشوا وصاروا يفترسون إخوتهم اللذين ظلوا يقتاتون من عشب البرية والثمار، فإنعدم الأمن وأصبح القوي يأكل الضعيف وسارت الأمور علي هذه المنوال إلي ان وقع، ذات صباح، ما لم يكن في حسبان القرد وبقية الحيوانات.
    سمع القرد في ذلك الصباح، عويل الكلب فصحا من نومه مذعورا وألقي ببصره علي مسكن الانسان فرأي الكلب مكتف وملقي علي قفاه والانسان، بيده سكين، منهمك في عمل ما بين فخذي الكلب. إنتهت العملية وبقي الكلب مكوم علي الأرض يئن ويئن من شدة الألم.
    في المساء إقترب القرد من الخروف وسأله عن سبب عويل الكلب في الصباح الباكر فشرح الخروف تفاصيل الحدث بالكامل وقال: ان الإنسان كان دائماَ يشكو بأن الكلب لا يقوم بواجبه في الصيد بالوجهة الأكمل وان سرعته لا تضارع سرعة الغزلان والأرانب، لذلك فكر في ان يخصي الكلب حتي يخف في سرعته ويزداد وفاءه وإخلاصه. وقد طلب الخروف من القرد ان يخبر باقي الحيوانات في الغابة بالكارثة التي حصل للكلب ونصحهم بعدم العودة وقال ان الأقدار قد شاءت ان يكون مصيرهم، هو وباقي الحيوانات التي فضلت البقاء تحت رحمة الأنسان و جبروتة, الإستعباد الأبدي.
    عاد القرد إلي الغابة, وهو في غاية الإنكسار النفسي, ودعا إلي إجتماع عاجل حضره كل الحيوانات عدي الحيوانات التي تحولت لأكل اللحوم، ثم خطب فيهم قائلاَ: ياخوانا، الحصل لأخونا كلب ما بونسو...دي حاجا بتال...ولكن هو بستحق.
    ...مالو..حصل ليهو شنو؟
    فرد القرد:لا لا...دي حاجة بتال كلاس.
    ...قولو ياخ
    إستعدل القرد في جلسته وأخذ نفس طويل ثم قال: " قطعو حاجات بتا كلب".
    تأهه الحيوانات بصوت واحد: آآآآهههههه.....دي ياهو حاجة الماينفع كلو كلو....ليه يعمل زي ده؟
    شرح لهم القرد ما حدث بالتفصيل، نقلا عن الخروف. وبعد أن إستمع الحيوانات إلى التقرير المفصل الذي قدمه القرد, دار بينهم جدل و نقاش طويل إتفق أغلبهم فيما بعد على أن لا يقيموا مسكنا مع الإنسان بعد.
    ...............................................................................................................................................

    هذه القصة حكاها لى قبل عدة سنين فى الإسكندرية الأخ دوت قوم المقيم الآن بأستراليا . ومنذ ذلك الوقت لم يبرح ذهني السؤال عن إقتران العنف بالمخلوقات آكلة اللحوم. فمثلا تجد الغزلان أكثر وداعة من الأسود والنمور, وهكذا الصقور أكثر شراسة من بقية الطيور.
    وينسحب نظريتي الملعونة هذه علي الإنسان فنجد القبائل الرعوية التي تعتمد في معاشها على اللحوم أو منتجات الحيوانات التي ترعاها غالبا ما تميل إلي العنف عكس القبائل الزراعية التي هي مسالمة بطبعها.
    لا باعة لي في علم السلوك لذلك لم أرغب في هذا المقام أن أدلف بكم إلي دهاليز علم النفس والسلوك الحيواني لكن الفضول دفعنى للإنتباه إلي ظاهرة مهمة وهى أن الإنسان المعاصر بدأ يشكو كثيرا من تناول المنتجات الحيوانية خاصة اللحم. ورغم أننا قد نقرن الأعراض الجانبية الناتجة عن تناول اللحوم إلي ثقافة "الإستهلاك المفرط" إلا أن هنالك مؤشرات عديدة, لا يسع المجال لذكرها, قد تلمح إلي أن الإنسان يفترط أن يكون نباتي.
    المهم هو أن أهلنا الدينكا بمثيولوجيتهم هذه لم يبتعدوا كثيرا, علي ما أعتقد, عن روح الأديان, إذ ذكر في الكتاب المقدس ما يلي: ( وقال الله إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا علي وجه كل الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا. لكم يكون طعاما. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة علي الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعاما. وكان كذلك. تكوين: 1-29.)

    Any way, I am going vegetarian next year.

    أبرهام مدوت باك دينق
    Quote: كل عام والسودان وأهله الطيبين بخير

    (عدل بواسطة abraham deng on 11-10-2005, 02:24 PM)

                  

11-10-2005, 02:29 PM

abraham deng

تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 227

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا (Re: abraham deng)

    .
                  

11-10-2005, 02:46 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20487

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا (Re: abraham deng)

    up
    up
    up
                  

11-11-2005, 04:47 AM

Sudany Agouz
<aSudany Agouz
تاريخ التسجيل: 04-28-2002
مجموع المشاركات: 9014

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا (Re: osama elkhawad)

    عزيزى ابراهام دينق ..

    شكرا لسردك جزءا من مثيولوجيا الدينكا ..

    أما بخصوص تأملك فى : " لماذا يتباكى الانسان بل ويلهث لأكل
    الحيوان " فأنا أوافقك الرأى فى الكتاب المقدس .. خلق الانسان
    ليكون نباتيا ..

    ولكننى أعلل هذا .. بأن الانسان أصبح انتهازيا .. أصبح كسولا ..
    لا يود فلاحة الأرض ..
    والكنيسة عندنا نظمت لنا صيامات لا نأكل فيها لحوما .. ان جمعت
    تزيد عن نصف السنة لا نذوق فيها لحوما أو ألبانا بملحقاتهما ..

    وأود أن أضيف أيضا ياأخى ابراهام .. ان اتجه الانسان الى أكل
    النباتات .. يكون أصح ممن يأكل اللحوم ..

    ولو رجعنا الى سفر دانيال .. دانيال والثلاثة فتية .. لم يأكلوا
    من أطايب الملك .. وكانوا أصحاء أكثر من الآخرين ..

    شكرا أخى على هذه المداخلة القيمة .. وأرجو من الآخرين الاشتراك
    ولاسيما الاطباء .. لاثرائنا بالمعلومات الطبية ..

    ولك منى أعظم ود ومحبة ..
    عمك العجوز
    أرنست
                  

11-11-2005, 09:25 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 37006

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا (Re: abraham deng)

    الاخ العزيز ابراهام
    تحية طيبة
    والله اسطورة جميلة
    وكمان في المنهج الصوفي بقولو....ان اكل اللحم يورث غلظة في القلب..وهو بمثابة ادخال روح علي الروح وقد ترك ابو العلاء المعري اكل اللحم واضحى نباتى حتي مات..وهناك امم تعيش علي البروتين النباتي مثل الهندوس في الهند..واعتقد ان فعلا اكل اللحكم يورث الغلظة في القلب.. وان معظم جرائم القتل في السودان كان يرتكبها الجزارين لتعودهم علي ازهاق الارواح.. ولاتنسي اسطور السافح جاك ذا ريابر ..

    اعجبتني الاسطورة جدا...وكنت قد كتبت قصة قصيرة ونشرت في مجموعة قصص اصدرتها في اليمن باسم(كل الوان الظلام)...وستجد روح هذه الاسطورة في الحوار بين حمزة ولوكا في القصة (الكلمات التي تحتها خط)

    Quote: صرخة ميتا
    (( عا آآوووه ………)) صرخة طويلة ممطوطة تشبه صرخة حيوان جريح تصحبها ضحكة مجلجلة تنم عن قلب مفعم بالطيبة ، تردد صداها جنبات مدينتنا عطبرة * ، تأتي دائماً عند الغروب ، تقشعر لها جلود الناس ثم تلين بعد ذلك ويعم السلام المدينة ، يضحك الجميع في طهر طفولي ، يشفى الأطفال المصابين بأمراض المناطق الحارة ، يتوقف العراك بين الأفراد والجماعات ، تنتهي المشاكل الأسرية داخل البيوت ، أنها صرخة صديقي ميتا ، وجدوه يوماً ملقي كعصا أبنوس سوداء سيئة التكوين ، عند ملتقى النهرين في منطقة الحلفا * .
    حمله المواطنون من سكان الحلفا إلى أكواخهم البائسة . اسجوه هناك عند مريوم التي نظرت إليه فيه آسى ورددت بلكنتها العربية المكسرة (( إنها ميتا .. إنها ميتا )) فأسموه ميتا ، ومنذ ذلك الوقت لا يعرف أحد سر ظهوره الغامض على الشاطئ هل أتت به مياه النهر المتمرد نهر عطبرة الذي يندفع من الهضبة الأثيوبية حاملاً في طريقة الدمار والشرور ، جثث نافقة لمختلف الحيوانات ، جثث ناس ، وأخشاب وكائنات أخرى غريبة تحكي عنها الجدة الحرم * عندما نجلس معها في الليالي المقمرة ، لقد رأيت بنفسي وأنا صغير اندفاع هذا النهر المجنون و هديرة الصاخب الذي يبعث الرعب في القلوب ، وأنا جالس على نخلة أحدق في الأفق الشرقي .. تصتدم مياه النهر بشراسة بمياه النيل التي تبدو هادئة بعد رحلتها الطويلة من جهة الجنوب ويكون هناك فوران شديد في منطقة اللقاء أشبه بمرجل يغلي ، تطفوا أسماك نافقة تدور حولها طيور بحرية في وليمة احتفالية . هناك وجدوا ميتا تحت الجسر الحديدي الذي بناه الإنجليز لمرور قطار الشمال ، هل أتت به مياه النيل ؟؟ … لا أحد يدري فقط إنه أعلن عن قدومه السعيد عندما أفاق عند الغروب في بيت مريوم وأطلق صرخته الدواية التي تشبه صرخة حيوان جريح و انتهت بضحكة مجلجلة رددت صداها المدينة …..
    * * *
    كان صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني من بعيد ممزوج بهدير الأشجار في تلك الغابات المتشابكة التي تحيط بمدرسة القرية ، إني أعمل الآن معلماً بمدارس الجنوب . لم يكن اختياري للعمل في جنوب السودان بمحض الصدفة ، بل جئت بإرادتي ، والدي كان تاجراً بالأقاليم الجنوبية ومنذ أن غادر مدينتنا الوادعة في الشمال في ذلك الزمن البعيد لم يعد مرة أخرى ، انطلقت الإشاعات التي تردد بأنه تزوج من إحدى بنات سلاطين الجنوب وطاب له المقام هناك . أن ذكرياتي عن أبي الذي رحل وتركني صغير تبدو غامضة ومبهمة ، لا أدري هل أحتقره أم أحترمه ؟! . عانت أمي الأمرين لتربيني وتعلمني . عملت معلماً في مدينة كريمة * في أقصى الشمال لفترة ثم بعد تجربة حب فاشلة قررت العودة والسفر إلى الجنوب كانت أمي تخشى مثل هذا اليوم الذي قررت فيه السفر إلى حيث ذهب أبي ولم يعد ، لازلت أذكرها وهي تعدو جوار شريط القطار المبتعد حتى سقطت على الأرض وتعفر وجهها بالتراب كنت أبناً عاقاً عندما ضربت بتوسلات أمي عرض الحائط واندفعت في هذه المغامرة غير للما مونه العواقب في ذلك الجزء الذي يتصاعد منه الدخان . طافت هذه الذكريات بخيالي ولا زال صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني ، وعيون الأطفال اللامعة تحدق في توجس وحب عميق لي . كنت أحب تلاميذي من أبناء الجنوب ، بحثت عن شقيق يمكن خلف هذه العيون اللامعة والملامح السمراء ، أرتفع دوي هائل جوار المدرسة والطلقات تزداد قرباً وعنفاً وأصوات أقدام مذعورة على الشعب اليابس تقترب من المدرسة ، أوجست خيفة ولم أتمالك نفسي من الصراخ وأنا أرى حجرة المخزن تطير في الهواء متناثرة ، أصابتها قذيفة هاون ، دب الذعر بين الطلاب خرج الجميع إلى الفناء يتراكضون ثم انطرحوا أرضاً عندما صاح فيهم أحد المتمردين الذين قفزوا إلى داخل سور المدرسة القصير وهم يحاولون في يأس الرد على قوات الحكومة التي كانت تطاردهم ، دارت معركة شرسة وأنهمر الرصاص كالمطر وعلا صراخ الأطفال ، بدأت النار تشتعل المدرسة المصنوعة من الأعشاب والبوص وأنا مسجى على الأرض وقد التصق بي الأطفال كنت أحس بدقات قلوبهم المذعورة على جسدي ..تساقط المتمردين قتلى واحد تلو الأخر وعم الهدوء مرة أخرى ، مضت لحظات وحضرت الأقدام الثقيلة إلى داخل فناء المدرسة المحترقة فصيل كامل مدجج بالسلاح ، ظلوا يتجولون في حطام المدرسة ويقلبون الجثث في حذر شاهرين أسلحتهم الخفيفة وتنبه لي قائدهم ، أقترب مني وأنا دافن نفسي بين تلاميذي اللذين كانوا ينتفضون رعباً ، سحبني جندي من رجلي بقسوة من وسط كومة الأطفال وجذبني من شعري وتفرس في ملامحي جيداً ردد في غضب .
    - أنت …………. مدرس !!
    - نعم …….
    - من أتي بك إلى هنا ؟
    - الحكومة .
    صفعني بغلظة وردد في استهزاء
    - نحن أيضاُ أرسلتنا الحكومة !
    أمرني أن أخفض رأسي ودوت الطلقات النارية من جديد ممزوجة بعويل الأطفال وعم السكون مرة أخرى ، كست رهبة الموت المكان ، لازلت أذكر دقات قلوبهم الصغيرة على جسدي ، رحلت العصافير الصغيرة وانسحب الفصيل وعم الهدوء المؤسف المكان ، نهضت أترنح دون النظر إلى الوراء أريد الهرب من هذا الكابوس الحقيقي ، أجتاح كياني شعور بالألم المرير ((هل كان أخي بينهم؟!)) … كنت أسيراً مترنحاً بين الأشجار أبحث عند حدود آمنة أعبرها كنت أريد الهروب من جسدي الذي تلتصق به قلوبهم الصغيرة ، أريد العودة إلى حضن أمي الطيبة في الشمال ، أريد أن أتحول إلى طائر يحلق بعيداً حيث لا أمنيات والكائنات تمر، أريد أن أدلي بأقوالي في محكمة عادلة عن الحرب ومجرمين الحرب ، قد أتحول إلى لاجئ تمضي به رحلة العمر الكئيبة في ضيافة شعب كريم ، ظلت أسير أياماً بلياليها على غير هدى في الغابة، كنت أتفادي دائماً طرفي الصراع ، بعد مسيرة ثلاثة أيام مضنية عند الغروب خيل لي أنني سمعتها !! .. نعم سمعتها هي نفسها !! … لكن ذلك مستحيل وشعرت بقشعريرة تجتاح جسدي ، أنها صرخة ميتا !! هل فقدت عقلي وأصبحت أهذي ؟؟ .. لقد أضناني الجوع والتعب من طعام الغابة الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، عن كثب حيث خيل لي مصدر الصرخة العجيبة كان يجلس هناك كعصا أبنوس مشوهة التكوين ، جلسة جليلة أشبه بأوثان الأديان البدائية ولهب النار يتراقص على وجهه الهادئ ، ما هذا الهذيان ؟!… إنه أبدا لن أبدا لن يكون صديقي ميتا تداعت إلى مخيلتي الذكريات المشحونة بالشجن وأنا أتقدم بخطى متعثرة نحو الرجل الذي يقبع على بعد أمام النار (( عرفت ذلك في يوم أغبر ، رحيل ميتا ، عندما عدت إلى مدينتنا من كريمة حيث كنت أعمل أولاً ، كانت نهايته أشبه بفواجع شكسبير ، كذلك أخبرتني مريوم الحزينة ، في ذلك اليوم المشهود كان هناك نفر من أفراد الجيش يحتسسون الخمور البلدية في بيت مريوم في الحلفاء كعادتهم دائماً بعد صرف المرتبات وميتا جالس بينهم يغني على قيثارته التي صنعها بنفسه أغاني بوب ماري التي يحفظها ظهر قلب ، كان الجميع سعداء لكن السعادة من هذا النوع لا تدوم طويلاً في مدينتنا ، داهمت الشرطة المكان ودارت المعارك بالأيدي والعصي بين أفراد الشرطة والجيش ، ثم تطورت الأحداث بعد أن حصل كل من الطرفين على تعزيزات مسلحة من المعسكرات في الجوار ، دارت معركة رهيبة بالذخيرة الحية ، أحزن ذلك ميتا ، فحاول التوفيق بين الأطراف المتحاربة ، للأسف اغتالته رصاصة ، أطلق صرخة ألم حقيقية لا تشبه صرخته المعتادة وسقط على الأرض مضرجاً بالدماء ، توقف القتال ألقى الجميع السلاح ، تحلقوا حول الجثة يبكون وينتفون شعورهم ، الجميع يحبون ميتا ، صانع الفرح في مدينتنا ، لا أحد يريد أن يتحمل أوزار موته أقبل الجنود من الطرفين إلى بعضهم يتلاومون وظل النزاع قائم بين سكان الحلفاء بعد هدأت الأحوال مرة أخرى (( هل يدفن ميتا في مقابر المسلمين أم في مقابر المسيحيين ؟! )) ، كان الراحل صديق الجميع ، في الماضي عندما غرق على ود فرحين في النيل جلس ميتا على الشاطئ مع المواطنين ، بعد ثلاثة أيام طفت الجثة ، قفز إلى النيل وأنتشلها وذهب مع المعزيين إلى المقابر للدفن ، وقبل أعوام ماتت تريزا بالذبحة الصدرية في ليلة الميلاد ، كانت تجهز بالونات العيد مع أسرتها وصديقهم ميتا الذي حزن عليها كثيراً وبكى بحرقة في الكنيسة ذلك اليوم .. استمر النزاع حتى ساعة الغروب عندما دخلوا إلى مكان الجثمان داخل غرفته الطينية الصغيرة في بيت مريوم لم يجدوه ن اختفى ميتا ! ومن جهة النهر حيث وجدوه أولاً سمعوا صرخته المعتادة وضحكته المجلجلة للمرة الأخيرة ، ومنذ ذلك اليوم عادت المدينة تمارس كآبتها القديمة ، كثرت الحميات والأمراض التي تقتل الأطفال ، ارتفعت المشاجرات وحاولت الطلاق ، عادت النساء إلى الانتحار باحتساء صبغة الشعر السامة والرجال بالاستلقاء على شريط القطار ، اكتسى كل شيء باللون الرمادي ، رحل ميتا الذي كانت ضحكته تطهر المدينة ، رمز الحرية في مدينتنا ، المتجرد من كل قيود الأديان والأعراق ، أنطوي حضوره الدائم أفراحنا وأحزاننا ، نحن سكان مدينة عطبرة ، مدينة النهر المتمرد … )) .
    * * *
    التفت الرجل الذي يسكن وحيداً في الغابة عندما سمع وقع الخطوات المتعثرة على الحشائش وأبتسم ابتسامة عريضة .
    - السلام عليكم .
    - عليكم السلام
    - اسمي حمزة ، هل تسمح لي بالجلوس .
    - تفضل على الرحب والسعة .. اسمي لوكا
    هكذا تم التعارف كأننا التقينا في فليت أسريت في لندن ، كانت لغته العربية سليمة ، جلست وأنا أتأمل لوكا في فضول ، نهض إلى داخل الكوخ ثم عاد يحمل إناء به حليب ممزوج بعسل النحل ومده لي ، شربت حتى كدت أختنق واستلقيت من فرط الإعياء على العشب ورحت في سبات عميق واستيقظت في اليوم التالي فجراً لأجد نفسي نائماً على فراش وثير ، استجمعت ذاكرتي بقوة إلى أخر لحظة وصلتها أمس ، تذكرت الآن كوخ الأب لوكا ، أصبحت الصداقة بيننا عميقة في وقت وجيز لاحقاً فالرجل مثقف ثقافة عالية ، يعتنق جميع الأديان حسب ما تقتضيه الأحوال حتى يعيش في هذا الواقع المضطرب ، إذ يمر على كوخه جنود الحكومة والمتمردين أحياناً ، ظلت الحوارات بيننا سجال ، أحاديثه الغريبة تذكرني دائماً صديقي ميتا ، يتحدث كثيراً وكلامه ليس ثرثرة بل حديث عميق ذو دلالات وإيحاءات عميقة ، ذات صباح مشرق ونحن نجلس سوياً أمام الكوخ نشرب الحليب الممزوج بالعسل التفت إلي مردداً في مرارة شديدة .
    - هل تعرف سبب هذه الحرب القذرة الدائرة الآن .
    نظرت إليه في دهشة وبعد تفكير أجبته قائلاً
    - أعتقد أنها مخلفات الاستعمار وقانون المناطق المقفولة .. *
    ابتسم لوكا ابتسامة ناصعة البياض أضاءت وجهه الأسمر .
    - نعم ذلك أحد الأسباب ولكن هناك سبب جديد الآن أنه الحليب الأسود ! اليانكي يحبون الحليب الأسود الذي في ثدي أمنا أفريقيا ، أينما وجد الحليب يأتون بالموت والدمار للمنطقة .
    - إنها مأساتنا عبر العصور .
    - منذ أن داس القرد الأبيض بقدمه بطن ماما أفريكا ، أصبحت تجهض أبنائها أو تلدهم مشوهين .
    - نظرت إليه في دهشة ، خاصة للتعبير الغريب "القرد الأبيض " فأردف مسترسلاً .
    - مات العم توم * وراء البحر وهو يحلم بالحرية المستحيلة التي لا تأتي أبداً أما ما تبقى من أبناء أفريقيا فقد حولوهم إلى مسوخ مشوهة ، قرود ترتدي الأزياء الغربية ويتحدثون لغة الفرنجة ، يعودون إلى أبناء جلدتهم بالويلات والدمار …
    نظرت إلى الأب لوكا متسائلاً
    - هذا يعني أنك غير مقتنع بالحرب الدائرة الآن .
    - ضحك لوكا ضحكة مجلجلة تقطر بالأسى ونظر إلي ملياً
    - كنت من جنود التمرد الأول في الماضي ، وإني اليوم نادم أشد الندم على ذلك كنّا نسعى لطموحات مريضة ، الانفصال !!. إن الحرب تسبب لنا التعاسة جميعاً نحن وحيوانات الغابة !! .
    - حيوانات الغابة ؟ !!
    - نعم .. قبل قدومك جاء إلى كوخي أسد حزين ، فقد زوجته وولديه بعد أن أنفجر فيهم لغم أرضي ، كثير من الحيوانات تحتمي بكوخي ، أرى التعاسة في عيونها .
    - ألا تخشى حيوانات الغابة ؟؟
    - لا …. أنا أخشى الإنسان فقط لأنه أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً !
    هكذا كانت أحاديث الأب لوكا الطيب حتى جاء ذلك اليوم المشئوم ، عدت من إحدى جولاتي في الجوار وجدت الكوخ يحاصره فصيل من المتمردين ، ينتزعون اعتراف من لوكا عن هوية من يقم معه ، كان المنظر بشع ، لوكا رجل شجاع صمد حتى فاضت روحه ، تركوه و انسحبوا ، اندفعت نحو الجسد الدامي والدمع يظفر من عيني مدراراً ولا زلت عالقة في ذهن عباراته الأخيرة "الإنسان أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً" .….
    * * *
    دفنت صديقي جوار كوخه الصغير ، وتراجعت متجهاً جنوباً وبعد مسيرة أيام شاهدت فيها الأهوال ما لم يشهده أحد وبعد رحلة مضنية لمحت علم غريب يرفرف على البعد ، علم يوغندا ، إذا فقد عبرت حدود بلادي المصابة بالخبال، هناك خيل لي أني سمعتها مرة أخرى قادمة مع خيوط أشعة الشمس الغاربة ، إنها صرخة ميتا !! .
    سرت في جسدي المنهك القشعريرة ، أطلقت زفرة حارة وانطلقت نحو العلم الذي كان يرفرف من بعيد .
    ********************
    يمكنك ان تصنع اشياء كثيرة من الرماح ..فقط لا يمكنك الجلوس عليها


    ولك تحياتي مجددا


    سيرة مدينة :صرخة ميتا!!أ
                  

11-12-2005, 08:24 AM

abraham deng

تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 227

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنسان والعنف في مثيولوجيا الدينكا (Re: abraham deng)

    شكرا العم إرنست علي المداخلة القيمة. سأراجع قراءة سفر دانيال, أنا مولع بقراءة الكتاب المقدس هذه الأيام
    أبراهام
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de