http://www.rezgar.com/m.asp?i=787

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 12:53 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-28-2005, 08:22 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
http://www.rezgar.com/m.asp?i=787

    عنوان الموقع الخاص للمفكر العراقي : فالح عبد الجبار، في " الحوار المتمدن "
                  

10-28-2005, 08:26 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    تهاني العيد مقدماً

    أراكم في مطلع العام
    القادم جميعاً بخير
                  

10-28-2005, 09:12 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    http://www.rezgar.com/m.asp?i=787
    + ثبت بعناوين المقالات بعض المقالات
    المنشورة في الموقع

    ـ العراق: دولة دينية، دولة مدنية...؟

    ـ الأضحية والضحية - أقانيم في ثقافة

    ـ المشروطة أم المستبدة؟

    ـ الأفندية والملائية بين قرنين

    ـ العراق: مصادر العنف ومآله

    ـ نحن والغرب من إدوارد سعيد إلى محمد عبده

    ـ تأملات في العنف, لا سيما عنف أولئك الذين يفجّرون العراق
    التوتاليتارية، الكلمة الغائبة

    ـ انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الاشتراكية


    ـ المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات الاجتماعي لحنا بطاطوفي العراق المجتمع - التاريخ - الطبقة

    ـ سوسيولوجيا البداوة والمجتمع العراقي

    ـ المجتمع العراق و سوسيولوجيا البداوة
    الدين والدولة في الصراع على دستور العراق

    ـ في استشراء العنف الأصولي

    ـ علي الوردي وعلم الاجتماع

    ـ برلماناتنا وبرلماناتهم

    ـ تجاوز الخوف من الماضي


                  

10-28-2005, 10:58 AM

Eng. Mohammed al sayed

تاريخ التسجيل: 10-16-2005
مجموع المشاركات: 1181

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    الأخ الأستاذ عثمان
    للأسف لم تفتح معي روابط المقالات



    Access to the requested URL is not allowed!
                  

10-28-2005, 12:15 PM

هشام مدنى

تاريخ التسجيل: 08-08-2004
مجموع المشاركات: 6667

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    الأستاذ الأديب عثمان محمد صالح
    كــل عام وانتم بخير
    ويعود عليكم بالخير والبركات

                  

10-28-2005, 06:28 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    Quote: الأخ الأستاذ عثمان
    للأسف لم تفتح معي روابط المقالات


    ولا تحلم حتى باستعمال أجنة وشاكوش ومرزبة فلن تنجح فمفتاح الموقع وسدانة الكعبة كلها بيدى بنى شيبة
    رقم المفتاح 00966 وعايز تفتح الموقع دا هناك انصحك بي بلوتوث + هاتف الثريا او الاتصال عبر الفضائيات او استلام المقالات عبر البريد الالكترونى اتاشمنت من فاعل خير
    ولك ودى
    يا باشمهندس شغل مخك ولا الشيوخ قطعوا ليك هندستك فوق راسك اتصرف يا اخى اعمل خروج وعودة افتح الموقع وتعال راجع اصلو الرزق يحب الخفية و الرزق تلاقيط كمام!
    جنى

    (عدل بواسطة jini on 10-28-2005, 06:54 PM)

                  

10-28-2005, 06:39 PM

Eng. Mohammed al sayed

تاريخ التسجيل: 10-16-2005
مجموع المشاركات: 1181

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: jini)

    أنا عندي علاجوا بي الftp بدل ال http
    لكن أخير لو نزلتوا في البوست بعض المقالات
                  

10-28-2005, 11:33 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    للأعزاء الأفاضل محمد السيد ، هشام مدني و جني تحياتي

    سأعمل ـ إستجابة لطلب الأخ محمد السيد ـ على إنزال بعض
    المقالات المنشورة في الموقع المذكور ثم أمضي في إستراحة
    ضرورية ستمتد إلى مطلع السنة القادمة
                  

10-28-2005, 11:43 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    في التعريف بالكاتب فالح عبد الجبار

    عالم اجتماع مقيم في لندن، باحث في مدرسة السياسة
    وعلم الاجتماع التابعة لجامعة لندن. من مؤلفاته :
    Ayatollahs, Sufis and Ideologues. State,
    Religion and Social Movements in Iraq ; et
    Tribes and Power (co-dirigé avec Hisham Dawod),
    tous deux publiés chez Saqi Books, Londres, 2002.

    ـ نقل إلى العربية رأس المال لـ كارل ماركس
    ـ ترجم الجزء المجهول من الجرونديسة ل كارل ماركس
    ونشر عن دار الفارابي
    ـ أشرف على تحرير " ذكرياتي " وهو الكتاب الذي
    يضم السيرة الذاتية للشاعر العراقي محمد المهدي
    الجواهري
    ـ من مؤسسي المنبر الثقافي العراقي ـ لندن
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    ـ يعرفه قسم من القراء السودانيين محاوراً
    للأستاذ محمد ابراهيم نقد في خواتيم الثمانينات،
    وقد نشر الحوار في مجلة " النهج " التي يصدرها
    مركز الأحزاب الشيوعية و العمالية و مقره نيقوسيا
    ـ قبرص

    (عدل بواسطة Osman M Salih on 10-29-2005, 01:21 AM)

                  

10-28-2005, 11:45 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    تأملات في العنف, لا سيما عنف أولئك الذين يفجّرون العراق


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1218 - 2005 / 6 / 4


    تعرفت على العنف, أول مرة, على الورق. لا يزال كتاب فرانز فانون "معذبو الأرض" بين كتب اخرى, تذكرة مفيدة. قدّم لنا الكتاب صورة عن دورة تاريخية للعنف بعيني طبيب نفساني, وزنجي - فرنسي, قام بمعالجات سريرية للظاهرة.
    عند فانون القتل, وهو اجلى مظاهر العنف, يجري في دورة مكتملة: القتل المستبطن عند الضحايا العاجزين, فالقتل العشوائي بين الضحايا انفسهم, ثم القتل السياسي الموجه نحو الآخر (الأوروبي) في نوع من تفريغ سيكولوجي للعنف المستبطن, وهو ضرب من التنظيف الموازن, ان صح التعبير. قدم لنا فانون هذه الدورة بمثابة قدر وبمثابة خلاص. كانت الدورة محكمة, مترابطة, بل منطقية. تلك هي تجربة الجزائر.
    مرة ثانية, تعرفت على العنف على الورق ايضاً, في نصوص تسجيلية من حرب فيتنام, ومن الفيتناميين الثوريين انفسهم. بحسب منطوق فانون, كان هؤلاء يلجون المرحلة الاخيرة, اي عنف التطهّر, تلك القناة التي تفرغ الخزين الجواني لرمي الثفالات الى البرّاني. لكن لأصحاب التجربة كان الوضع معاكساً تماماً. فبعد الفراغ من اطلاق العنف الحبيس, تحولت دورة القتل ذاتها, عند كثرة الى روتين يومي, حتى نمت إلفة غريبة مع هذا الروتين, بقوة التكرار, بل غدت حاجة, نوع من إدمان انسلخ عن حوافزه الاولى, اياً كانت درجة شرعيتها.
    وتجد هذا الادمان نفسه عند قدامى المحاربين, الذين يقضون سحابة نهاراتهم الاخيرة متشبثين بأخوة المحاربين الكونية التي تعمدت بالدم, بلسماً يخفف عنهم توترات أرواحهم المنهكة. فهذه الارواح تتشوق الى توترات الحرب, ولا تزال ثفالاتها تبهظ ارواحهم التي لا تستطيع ان تتحمل سكينة المدنية وسكونها. فاللاعنف, عندهم, هو اللاحياة. فلسفة الوجود في نظرهم تقوم في اختزال بسيط للقتل.
    في الحرب, يقولون, نحن لا نرتكب جريمة قتل (MURDER), بل نفتك (KILL) بالآخر. ويضيفون: نحن لا نريد ان نموت في سبيل وطن, بل نريد للآخر ان يموت في سبيل وطنه.
    هذا الانموذج من القاتل - المحترف, القاتل - المدمن, القاتل - "الشرعي", يعاد انتاجه على نطاق واسع ويومي. وتشترك في اعادة الانتاج ثلة من الاصناف, كتبة ووعاظ, سياسيون واعلاميون, جهلة ومتعلمون, من كل شاكلة ولون. اكتب هذا وقد امتلأت ذاكرتي بالمقابر, كان آخرها قبر صديق يدعى هادي صالح, نقابي يتحدر من الناصرية, أسمر, نحيف, يحمل بسمة دائمة, وفكرة واحدة: النقابة الحرة. وبفكرته هذه كان شذوذاً في عالم البعث العراقي, حيث الدولة التوتاليتارية, الماسكة بتلابيب الرائح والغادي, تربأ بأي فكرة خارج سيطرتها. فلا حرية سوى حريتها, ولا وجود سوى وجودها.
    لم أفاجأ بقتله, فالخطف والقتل على الرأي والهوية هما (ولن اقول صارا) من تراث الدولة البعثية, وهو كما نرى تراث شمولي لا يزال ماثلاً, معمّداً بأسماء اخرى. ولم أفاجأ بأسلوب قتله. فقد كان هذا مجرد صفحة واحدة في مجلد القسوة البعثي - الاصولي.
    زمرة من خمسة او اكثر اقتحموا دارته في بغداد: عصبوا عينيه, قيّدوا يديه وراء ظهره, وقيدوا قدميه. بعد هذا خنقوه بسلك معدني. لم يكتفوا بمشهد الشنق (أفلت هادي من حكم صدر عليه بالاعدام لممارسته العمل النقابي السري عام 1969), فأطلقوا زخات من الرصاص على جسده. وفي الموجة الثالثة من الحيوانية الكاسرة أحرقوا جسده.
    ثلاثة اعدامات في جسد واحد, في آن واحد. طويت حزني عليه وعلى اصلاحه: اعادة تأسيس النقابات في العراق. ومع انني لست عاملاً ولا نقابياً, بل كاتب فردي حريص على بقاء فرديته, وجدتني مسوقاً بهذا الغضب العارم على اصحاب العباءة والخنجر, لأن ارسل برقية الى النقابة ألتمس فيها قبولي عضواً مؤازراً, لا لشيء إلا لأشهر محبتي للضحية. غير ان هذه الفاصلة الصغيرة من الأسى الذاتي, لن تعفيني, او تعفينا, من معاينة دورة العنف الجهنمية في العراق قبل الحروب, خلال الحروب, وبعد الحروب.
    ثمة حلف شبه معلن بين ثلاث شخصيات غير درامية: القاتل المأجور, رجل الاستخبارات البعثي, والأصولي المتقد ورعاً. تجتمع في هذه الشخصيات ميول واحدة للابادة التي تتركز في معظمها على العراقيين.
    القاتل الأجير في عراق اليوم هو في الاغلب الأعم جندي سابق, تعلم فن القتل, ومارسه بلا قيد على جبهات القتال, وعاد الى الحياة المدنية معدماً, بلا عمل, بلا أمل, بلا طائل. بحسب الارقام الرسمية بلغ عدد هؤلاء نحو 31 ألفاً, كانوا يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد, او ينتظرون دورهم لارتقاء منصة الاعدام. أُخلي سبيل هؤلاء عشية الغزو, وعادوا الى المدينة في مافيات تملأ مساحات العالم السفلي.
    في اعترافات أحدهم, التعاقد على الاغتيال مربح. تتولى المافيا الاختطاف, تقبض الثمن, وتسلم الخطيفة جثة هامدة. المقاول الاصولي يضيف لمساته: يبتر الرأس ويصور القتيل ويبث الصور على شبكة الانترنت, او يطبعها ويسلم الصور لثلة من أطفال تركوا مقاعد التلمذة ليعتاشوا على المهنة الجديدة: بيع الصور للجمهور! اما رجل الاستخبارات, فيترك لنا بطاقته الخاصة. بحسب الافلام الوثائقية المتبقية, كان جهاز الاستخبارات القديم يقوم, على غرار فرق الأس أس النازية, بتجريب أشكال شتى من الاعدام, بينها ما يشبه المشهد الختامي في "محاكمة" كافكا: الضحية (شاب في العشرين على الاغلب) تقف في اخدود على كتف تلة, وهو مقيد اليدين, يأتي المنفذ (لا نرى منه سوى قفاه) ليربطه بجهاز تفجير عبوة ناسفة حزمت على الخصر. تبتعد عدسة الكاميرا, يكبس اصبع على الزر, ويتطاير الضحية اشلاء.
    في كل مشاهد الاعدام هذه, وغيرها, يتلذذ المنفذ بايقاع اقسى آيات العذاب, واستكشاف اشكال جديدة من التعذيب, شأن مدمن يبحث عن مخدر اقوى فعلاً. وأعجب ما في هذه الوثائق تلك الاستكانة وذلك الصمت اللذان يبدوان على الضحية. وأخيراً ثمة الاصولي الورع. يعرف البغداديون هؤلاء الآتين في السيارات المفخخة, من صرخاتهم. فقبل لحظات من التفجير الانتحاري يطلق السائق الاصولي صيحات التكبير في صوت يشي بخليط من ارتعاشات الخوف والرهبة. الواقع ان هذا التكبير المرتجف أقرب الى الهلع منه الى الاقدام. مرة خاب فأل الانتحاري ولم تنفجر العبوة, فهرب من السيارة المفخخة الى حارة قريبة. طارده المارة وأوسعوه ضرباً قبل ان تنقذه الشرطة من غضب الجمهور. كان مذعوراً من رأسه حتى أخمص قدميه.
    يحلم هذا الاصولي بالصعود من بين حطام السيارة وأشلاء ضحاياه الى الفردوس, لينعم بأحضان حورية يفتقدها في بؤس حياته الارضية. الواعظ يعده بهذه الخاتمة, والفتاوى تؤكد له هذا المآل, على رغم ان السؤال الحارق هو إن كان المفتي عالماً بالغيب, او إن كان هو نفسه قادراً على ان يضمن لنفسه شبراً في الجنة.


    الحياة 2005/01/23
                  

10-28-2005, 11:47 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    التوتاليتارية، الكلمة الغائبة الحاضرة


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1214 - 2005 / 5 / 31


    يحتفي عالم الغرب، كل سنة، بذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية، منعطفاً كبيراً في تاريخ العالم، يسجل تدمير النظم التوتاليتارية في أوروبا الغربية، وما كان حفل هذه السنة مخالفاً: خطابات مملة، سياسيون يتثاءبون وجمهور شبه نائم، دليلاً على ان الرموز السياسية للحدث تنسل مواربة الى النسيان. منذ عقدين ونيف وأنا أتابع هذا المهرجان السنوي، باستعراضاته العسكرية، وموسيقاه الصادحة، وبهرجته الاعلامية، فلا أجد فيه كلمة واحدة عن الأوجه الثقافية والفكرية لهذا الحدث، الذي يعيش معنا بصورة أو بغيرها. أقصد بذلك فكرة التوتاليتارية ومعناها، وأصولها الفلسفية. فالنظام التوتاليتاري، بصيغته الغربية، لم يكن محض حركات جامحة، يقودها زعماء مصابون بداء العظمة، ولوثة التدمير، والرغبة في اكتساح العالم.
    التوتاليتارية بدأت أصلاً فلسفة بنائية، واعتراضية في لحظة خاصة من تاريخ أوروبا الممزقة بنشوء واصطراع الأمم. تاريخ التوتاليتارية مثير وغريب في أن. نشأت الفكرة من مصادر عدة فكرية واجتماعية، وتداخلت عناصرها المتنافرة لتأخذ شكلها الأكمل في فلسفة الايطالي جيوفاني جنتيلي (قتل عام 1944) في مباحث شهيرة منها: الأسس الفلسفية للفاشية، الصادر عام 1924. وجيوفاني جنتيلي فيلسوف هيغلي، يرى الى التاريخ بوصفه عملية روحية، ذات غائية سامية ويرى الى الدولة القومية تجسيداً أرقى لهذه الغائية في مجال السياسة، والتاريخ العالمي. فالدولة، عنده (مستقياً فكرة هيغل) بمثابة فرد فاعل في التاريخ. عند هذا الحد تبدو الفكرة بمثابة تحصيل حاصل لما هو قائم. فالامبراطوريات القديمة تنحل الى مكوّنات قومية تتخذ شكل دول. وقد اتخذ نشوء هذه الدول شكل حركات قومية، نقلت فكرة السيادة من العاهل الى الأمة (الشعب)، وارتبطت، لذلك، بتحولات من الاوتوقراطية (حكم الفرد) الى الديموقراطية (حكم الكل). لكن جنتيلي يرى الى هذا المسار رؤية مغايرة: الديموقراطية التي رافقت بناء الدولة القومية قامت بفعل صعود الطبقة الثالثة (أي الطبقات الرأسمالية)، اما في القرن العشرين فتميزت الدولة القومية الليبرالية بصعود الطبقة الرابعة (أي العمال وفقراء المدن) التي أضعفت الأمة بإضعافها الدولة. الأمة لا وجود لها بدون الدولة، والدولة لا استمرار لها بوجود انقسامات اجتماعية. تماسك الدولة، ووحدتها يتطلب، حسب جنتيلي، وضع الدولة فوق الأمة، وتقديم الدولة على الفرد، وباختصار بسط سيطرة الدولة على المجال الخاص، والغاء هذا الأخير، بما فيه من تعددية يراها معولاً للتمزيق والهدم. الدولة عنده يجب ان تكون بناء شاملا، كلياً، أي توتاليتارياً، يلغي كل كيان مجتمعي وكل مركز قوة يقع خارج سيطرته. وقد صاغ بنيتو موسوليني، زعيم ايطاليا وتلميذ جنتيلي، عصر ذاك، هذه الفكرة عينها في شعار: كل شيء في الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة!
    لكن الدولة التوتاليتارية، هذا الابتكار لدولة مهزومة، ومثقفين نخبويين، يزدرون أمتهم باعتبارها مجرد كمّ من دهماء لا يجوز لها رسم المصائر عبر أرقام صناديق الاقتراع، ومفكرين قوميين عصبويين يعلون شأن الدولة فوق كل شأن، بما في ذلك الشرائع التي تقوم عليها، فشلت فشلا ذريعاً في بلد المنشأ: ايطاليا، ونجحت في المانيا. وسر فشلها هنا هو سر نجاحها هناك. فإيطاليا تميزت بوجود مؤسسات اجتماعية راسخة تقع خارج سيطرة الدولة مثل الكنيسة الكاثوليكية، أو وجود كيانات محلية تربأ بالسيطرة المركزية الثقيلة (حكومات محلية، روح محلية)، وهي كيانات راسخة بسبب ضعف التطور الصناعي في ايطاليا مطلع القرن العشرين، أو وجود مراكز سلطة متعددة (العرش، الجيش). فالألمان نجحوا في بسط مركزيتهم المطلقة، بالسيطرة على اجهزة الدولة، ودمجها، على قاعدة الغاء تقسيم السلطات الذي ميز الدولة الليبرالية، كما نجحوا (مثل الطليان) في الهيمنة على الاقتصاد (انشاء المجمعات الصناعية الخاضعة لادارة حكومية) والمجال العام (الاعلام، الثقافة، التعليم). وارتقى الالمان بالنزعة النخبوية في فلسفة جنتيلي الى مصاف مبدأ سام قوامه تأليه الزعيم، مثلما ارتقوا بالنزعة القومية الى مصاف عنصرية منقاة، واعتمدوا، مثل جنتيلي، النزعة الارادية (عند نيتشه) منبعاً للفعل وشرعنة له. وبهذا تحولت التوتاليتارية الى مزيج من هيغلية تؤله الدولة، ونيتشوية تؤله الارادة المنفردة للزعيم (السوبرمان)، وداروينية اجتماعية (البقاء للاصلح) تزدري الأمم والأجناس الضعيفة.
    لم يكن لهذا الخليط ان يمتزج لولا احتدام العالم الجديد، المشاد من وحدات متعاونة ـ متصارعة، هي الامم القومية. وما كان لهذا المزيج ان يتماسك لولا نشوء المدن العملاقة التي دشنت ما يسمى بعصر المجتمع الجماهيري، حيث الحشود السديمية ترعب الفرد المنخلع عن الاسرة، وعن القرية، اي المنفصل عن عالم الاطمئنان الرعوي السابق، والباحث عن تطمين زعيم قوي. بل ما كان لهذا المزيج ان ينجح، في البناء كما في التدمير، لولا ظهور وسائل الاتصال الجماعية (الراديو)، التي تخطّت حدود الوسيلة السابقة (الجريدة) المقصورة على قارئ الابجدية. فقد اندلعت التوتاليتارية ردةَ فعل على صعود الطبقة الرابعة (عمال المدن وروسيا الثورية)، مثلما اندلعت ردة فعل على المهانة القومية (هزيمة المانيا وخروج ايطاليا بمكاسب من الحرب الاولى). ورغم ان بدايات التوتاليتارية جاءت بحافز الرعب من نجاح الثورة الروسية (1917)، الا انها راحت تتبنى أساليب التعبئة الجديدة في المدن المليونية، التي كانت ظاهرة جديدة. ومن مفارقات التاريخ، ان روسيا في عهد ستالين، راحت، تعجيلاً بتنمية بلد زراعي مخرب، تحاكي النموذج التوتاليتاري الالماني: المجمعات الصناعية والزراعية والهيمنة الشاملة على مرافق الثقافة والمعلومات.
    ولّد صعود التوتاليتارية وانهيارها تياراً فكرياً نقدياً عملاقاً جاء من مدارس يسارية نقدية (ادورنو، لوكاش هابرماس) ومدارس ليبرالية نقدية (هنه أرنت)، ومدارس ليبرالية خالصة (كارل فريدريك وبريجنسكي). وهذا النقاش الثري الذي انجب عقولاً كبيرة ضاع صداه في حمأة الحرب الباردة، الا انه خلّف لنا إرثاً فكرياً عظيماً ما يزال موضع تقدير وان يكن في دوائر فكرية ضيقة. فلقد اختفت التوتاليتارية من المسرح الأوروبي، لكنها عاودت الظهور بأشكال رثة في عدد من البلدان النامية، بعضها عربي. الا أن هذه الظاهرة لم تلق سوى صمت القبور. ذلك أن الفكر السياسي العربي (ان كان لمثل هذا الفكر وجود؟) غارق في موتيفات الدولة القومية الكلية، وموتيفات التنمية، غرقاً يصعب معه ان ينفك ليأخذ مسافة نقدية تتيح له دراسة الظاهرة بشكل معقول. التوتاليتارية العربية، أفكاراً أو مؤسسات، كاريكاتير مزر من الأصل، محاكاة بائخة لنموذج خارق، جاء في لحظة استثنائية، وخرج في لحظة استثنائية. نهاية التوتاليتارية كانت بداية الديموقراطية في اوروبا، اما أزمة أشباه التوتاليتارية في عالمنا العربي، فتنفتح على وريث أدنى مقاماً، هو الاصولية المنغلقة. ذلك أن نقد التوتاليتارية لم يبدأ بعد. نحن بحاجة الى أعمال مثل «جدل التنوير» (ادورنو)، او «تحطيم العقل» (لوكاش) او «أصول التوتاليتارية» (أرنت). نحن بحاجة الى نقد التاريخ.
    2005/05/22
                  

10-28-2005, 11:50 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    الأضحية والضحية - أقانيم في ثقافة التعارض


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1227 - 2005 / 6 / 13


    لعل من باب المصادفة أن تنفرد لغتنا العربية, عن لغات شتى, في انحدار الأضحية والضحية من جذر واحد. هذا التوحد في المنبع لا يمنع ذلك الحرف الواحد والأول في الأبجدية, الأليف, من أن يحول الضحية الى أُضحية, وهو انقلاب للجور الاخلاقي الى واجب قدسي. هناك ثقافات عدة تلغي الفارق بين الاثنين, أو تمزج الواحد بالآخر.
    الأضحية في معناها الأعم قربان وعهد, ينعقد في طقس خاص. وهذا القربان دليل عرفان, وبرهان امتثال, ودريئة ضد غائلات الزمان, أو لربما التماس ورجاء. وفي العادة يتعمد الطقس بتفجير الدم.
    هكذا دأبت شعوب شتى, في غابر الأزمنة, على نحر عذراء, أو اقتلاع كبد فتى أعذر, كل عام, في حفل جمعي, طلباً للغفران, وغسلاً للأدران, وطمعاً في هناءة وجيزة, وإطالة لأعمار قصيرة, بل تعبيراً أيضاً عن العرفان. وحتى تعمّ كل هذه البركات أفراد الجماعة كان قلب الأضحية أو كبدها يقسم ويوزع. في لحظة آفلة استُبدل طقس الذبح الفعلي بآخر مجازي. حلّت بعض الحضارات هذه النقلة بإحلال بهيمة محل البشر. وحلّت حضارات اخرى المشكلة بابتكار طقس رمزي, يسيح فيه الصباغ الأحمر بدل الدم, وتقطع أوصال الدمى بدل تقطيع الكائن... الأضحية إرباً. أعفت الدمى, كما البهائم, البشر من سفك دماء بعضهم البعض.
    هذا التعويض, أو هذا الابدال, يشي بمسعى للخروج من مملكة الحيوان, واعلاء شأن الحياة قيمة في ذاتها, تعلو على أية قيمة أخرى.
    ولثقافتنا العربية - الاسلامية اسهامها في هذه النقلة من النحر الفعلي الى النحر الرمزي, وما الرمز سوى إبدال واستعاضة. ما زلنا نحتفي, حتى اليوم, بكبش الأضحية (أو "خروف العيد" في الدارج العاميّ). ويقوم الحجيج بالطقس ذاته: نحر قرابة مليوني كبش كل عام في موسم الحج. ولم تعد الذبائح ترمى الى العفن, بل صارت, بفضل ابتكار عقلاني, وشركات ذكية, تطعم الجياع. فلا مقدم الأضحية يرى ذبيحته, ولا الجائع الذي يقتات على لحم البركة هذا يعرف هوية المحسن. بعض الغلاة في ثقافتنا ارتأوا, لأسباب ليست وجيهة بالمرة, وجوب أن نعود القهقرى من الرمز الى الحقيقة, من نحر الأكباش الى نحر البشر, من مملكة الانسان الى مملكة البهائم. يشترك هذا الفعل في تقليد ذكوري لغسل دنس المرأة الزانية بالخنجر, على رغم ان الشريعة الاسلامية تنص بجلاء على الجلد وسيلة قصاص.
    أما اليوم فإن التطرف الديني يوسّع فكرة الغسل بالدم خارج دائرة الشرف الذكوري, الى حقل الخلاف السياسي أو الديني. ثمة, والحق يقال, ايديولوجيات دنيوية تبيح القتل عـلى الهويـة الدينية أو السياسية. والحروب الأهلية, المعاصر منها والقديم, سواء بسواء, تحفل بضروب الإبادة الجمعيـة, من الفتك بالغاز الى الرمي بالرصاص. لكن ما يميز الداعية العصبوي عن غلو الايديولوجي, ليس القـتـل بذاتـه, بل وسيلته: حزّ العنق.
    رأينا في عقد التسعينات صور نساء جزائريات انفغرت أعناقهن. كما شاهدنا مراراً, على مواقع الانترنت الحديث, أقدم مراسيم الذبح التي يتسابق على اكتساب "شرف" التنفيذ فيها رجال ملثمون, ينتشون طرباً لتولي دور الجلاد.
    وتدور هذه الدراما البدائية في أجواء مثقلة بالمعاني السوداء. ثمة السيف, وثمة اللثام, وثمة الأضحية البشرية المقيدة, وثمة عدسة الكاميرا. وهذه الأخيرة هي المعلم الوحيد من الحضارة التكنولوجية الحديثة. هناك أيضاً لافتة, وهناك أيضاً الاصطفاف العسكري المنضبط لهذه الثلّة من العتاة. الرموز ثرية جداً في هذا العالم الفقير في تفاصيله, والمدقع في خوائه الروحي. والسيف المسلول, لا في الحرب ازاء فارس, بل ازاء نعجة بشرية مسلوبة الارادة, يرمز الى تعطش للجبروت لا يرتوي, وهو الحدّ الباتر بين الحياة والموت في تلك الغرفة المعزولة عن العالم. غير ان السيف, في عالم اليوم, سلاح نافل, لا قيمة له ازاء أصغر سلاح ناري. لكن حامله لا يكترث لذلك, فهو معني بإظهار القوة ازاء كائن أعزل, وهو يلتمس عودة الى التاريخ الذي كان ولم يعد, لابساً لبوس ورع زائف, متخيلاً نفسه قديساً أرضياً يمارس تعبّداً من طراز خاص.
    نعلم ان العبادة اتحاد روحي, تذوب فيه النفس في وجد باطني. لا يحتاج المصلي الى نظارة, ولا يبتغي المتعبد جمهوراً. فالابتهال علاقة جوانية وليس مسرحاً للفرجة. ولا يفكر المتبتل, وهو في محرابه, في ذاته, ولا يخطر له قط أن ينظر الى نفسه حين يدعو ويبتهل. المتعبد في محراب الدم لا يقبل بذلك, فهو يحرص على متطلبات الفرجة. فالقناع للإثارة, والرهبة, مثلما هو للتخفي, لكه نوع صارخ من التخفي, ينتشي حين يعرض نفسه أمام عدسة الكاميرا, ويذوب في ثمل هذه الشهرة السرية. ومتعته في ذلك عصبوية. ذلك ان شركاءه في الطقس هم وحدهم الشهود على هويته. ولكيما ينسى ان هذا القتل فعل سادي, ومبتذل, يرفع يافطة بالأهداف السامية, لإقناع جمهور متشكك.
    تدور هذه الدراما في غرفة صغيرة مجردة من معالم الحياة, خاوية خواء الممثلين فيـها. يستـطيع هؤلاء اطلاق النار على الضحية في عتمة زقاق, أو حفرة منزوية (كما اقترح أحد المفكـرين العرب). لكـن لا. فالممثل يـريـد اظهـار رموز قوة يفتقدها, وان يطرد الخوف الكامن في الأعماق بإظهار قسوة لامتناهية على الشاشة. ومغزى هذا التعارض بين ما هو جواني وما هو برّاني يوحي أن مسرح الفرجة السادي هذا يكشف عن سطوة الرعديد واستعلاء المهان, وهي ازدواجيات نمت في تربة الذل والخنوع.
                  

10-28-2005, 11:52 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    اطلالة على مفهوم العولمة


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1291 - 2005 / 8 / 19


    اتناول في هذا العرض الوصفي عددا من الثيمات المترابطة، التي تتصل بمفهوم العولمة: globalization، آملا ان يكون عرض هذا الترابط جليا.
    تتعلق الثيمة الاولى بماهية العولمة في الفكر الليبرالي الجديد، اما الثيمة الثانية فتتصل بمفهوم العولمة في نظر اليسار الراديكالي. وهذا الاخير لا يشكل كتلة صوانية بلا تمايز كما سنرى.
    الثيمة الثالثة تدور حول معالم العولمة، في ترابطاتها العديدة، وبخاصة الاتجاهات المحتملة للعولمة، وبالذات التناقضات الأشد بروزا في المجالات المتشابكة لهذه الظاهرة: التضاد بين السياسة والاقتصاد التضاد بين العالمية و القومية، تعددية مراكز القوى، صعود الحركات الاجتماعية الجديدة، احتدام التضاد الثقافي، وما الى ذلك.

    اولا:

    تقوم نظرة الفكر الليبرالي الجديد neoliberal، شأن الليبرالية الكلاسيكية في صورتها الصافية كما لدى آدم سميث (ثروة الأمم)، على فكرة او مفهوم المجمتع التجاري commercial society، وهي تسمية نظيرة لـ: المجتمع الرأسمالي. يعمل هذا المجتمع التجاري، وفق النظرة الليبرالية، بصورة "طبيعية"، فهو مجتمع ذاتي التنظيم، يتعرقل سيره بتدخل الدولة. انه مجتمع تتحقق فيه المصالح الاجتماعية عبر سعي الافراد الى تحقيق اقصى مصالحهم الذاتية. هذه هي الصيغة الفجة، الخام، للمفهوم الليبرالي الكلاسيكي عن المجتمع التجاري (الرأسمالي). ان فكرة التنظيم الذاتي للمجتمع،اي السوق الناظم لنفسه بنفسه، انها تتجلى في اطار تاريخي محدد. فالاطروحة الليبرالية الكلاسيكية كانت موجهة بالأساس ضد امتيازات الارستقراطية العقارية، وتدخل الدولة الاستبدادية(ما قبل د يمقراطية ) الفظ، المعرقل لنمو الرأسمالية الصاعدة. ولقد شهد القرن 19 اعادة طرح النزعة الليبرالية في اعقاب الثورة الصناعية، وترسيخ الرأسمالية، على خلفية صراع اجتماعي محتدم.

    اما اليوم، فان الاطروحة الليبرالية الجديدة لا تتقدم بازاء امتيازات طبقات عقارية آفلة، او بوجه دولة تدخلية استبدادية(ما قبل د يمقراطية ) في اطار سوق محلي، من اجل تقوية عود رأسمالية محددة داخل اطار الدولة القومية (الدولة – الأمة). ان الليبرالية تتجه الآن ضد الدولة القومية نفسها كأداة ضبط وتنظيم، أي أداة تدخل ولجم، على الصعيد القومي (اي ضد دولة الرفاه الاجتماعي) وعلى المستوى العالمي (ضد قيود التجارة والاستثمار) .
    والفكرة المطروحة حاليا عند الليبراليين الجدد ان الرأسمالية تنشط الآن على المستوى الكوني، مديرة حركة رأس المال، والخدمات، والسلع، وبالطبع العمل (رغم الخلافات الشديدة المتصلة بهذه النقطة الاخيرة، نظرا لأن الدولة القومية ما تزال قادرة على غلق الحدود بوجه حركة البشر، أحد عناصر الانتاج من الوجهة الاقتصادية).
    وتؤكد المناظرة الليبرالية الجديدة، ان التطورات المتسارعة في النصف الثاني من القرن العشرين، التي تكللت بانهيار الاتحاد السوفييتي، وانهيار الاقتصاد الاوامري (Command economy) معه، ودفعت عملية الخصخصة، والغاء الضوابط (de – regulation) الى مديات قصوى، تشكل انتصارا لاقتصاد السوق، الذي يربأ بأي تدخل سياسي، بل يتجاوزه آخر المطاف. وما ابرام اتفاقيات "الجات" (GATT)، ونشوء منظمة التجارة الدولية، وتسارع عمليات الخصخصة، وفتح الاسواق، سوى معالم على ظفر قوى اقتصاد السوق عالميا.
    ان فكرة "انتصار السوق" تقترن لدى منظري هذا التيار وسياسييه، بهجوم سياسي – ايديولوجي جامح يسير في عدة اتجاهات. الاول الهجوم على دولة الرفاه الاجتماعي، بهدف اعادة "تسليع" العمل، والثاني الهجوم على الدور التنظيمي للدولة في مجالات السياسة المالية والنقدية والاجتماعية، والثالث كسر الحواجز القومية امام حرية حركة رأس المال في بقية ارجاء العالم، والرابع تقليص دور الدولة في العالم المتطور والنزول به الى الدور الذي تلعبه البلديات في المدن، بتعبير آخر الغاء دور الدولة القومية كموجه وناظم manager اقتصادي. فالاقتصاد، وفق هذه النظرة، هو الاساس، اما السياسة فهي التابعة وعليه فان الدولة القومية، كأداة للسياسة، غدت نا فلة، اما الشركات والاسواق المتحررة، من سطوة الدولة، فستدير عوامل الانتاج بأعلى كفاءة ممكنة.
    هذه هي باختصار وجيز النظرة الليبرالية الجديدة للعولمة واتجاهات نشاطها العملي، في اطارها.

    ثانيا:
    اما على جبهة اليسار الراديكالي، فيمكن ايجاز النظرة العامة، الجديدة للظاهرة في الفكرة القائلة بأن العولمة تبرهن على فرضية ماركس الاساسية بأن قاعدة التطور (والثورة) تتمثل في النظام الرأسمالي العالمي، وتثبت بناء على ذلك، هشاشة وخطل أي "استراتيجية للاصلاح الاجتماعي" على الصعيد القومي (بلد محدد)، من قبيل: التشغيل التام لليد العاملة، ادارة الاقتصاد القومي، سواء كانت في اطار النموذج الكلي السوفييتي، او النموذج التشاركي corporative للاشتراكية الديمقراطية الغربية.
    ولو استعرضنا قولة شهيرة لأرنست ماندل، فان العولمة ستبدو اقترابا من النموذج النظري الذي شاده ماركس. فالرأسمالية العالمية كنظام كانت، في عهده، محض جزيرة صغيرة محاطة ببحور من اقتصاد الكفاف واقتصاد المنتج الصغير. وعليه فان مفهوم الرأسمالية كنظام عالمي كان نظرية تنميط، اكثر منها واقعا شاملا. اما الآن، فيبدو، حسب هذا التطور، ان الواقع اقترب من الانموذج النظري ان لم يكن تطابق معه.
    ولكن ما معنى ان يتطابق واقع معين مع انموذج او تنميط تجريدي سابق عليه؟ واي مغزى يكتسبه ذلك في الرؤية السياسية، النشاط العملي لليسار، راديكاليا كان ام غير راديكالي.
    هناك اجابات متنوعة على الصعيد الاوربي الغربي. نترك جانبا، بالطبع، البكاء على الماضي، هذا الندب اللامجدي، ونتناول الاستجابات النشطة، بصرف النظر عن واقعيتها.
    الاستجابة الاولى، هو ما يمكن ان نطلق عليه اسم: العولمة السياسية.
    ان فحوى هذا الاتجاه يقوم على الاعتراف بمحدودية النشاط السياسي على النطاق القومي (بلد محدد) بفعل شمولية العولمة كنظام اقتصادي كوني . ولكن خلافا للاتجاه الليبرالي الذي يعلن عن توديع الدولة القومية كتوديع للسياسة والتنظيم السياسي، يرى اصحاب هذه الاستجابة وجوب اقامة حكومة عالمية لضبط الرأسمالية كونيا . بتعبير آخر الرد على العولمة الليبرالية ب العولمة السياسية.
    ان تمايز هذه الفكرة عن النزوع الليبرالي الجديد جليّ للعيان. ولكنها متمايزة ايضا عن الاستراتيجية السياسية السابقة لليسار، سواء بصيغتها الكلاسيكية التي تتمحور على "الثورة البروليتارية العالمية" ام بصيغتها او صيغها الاخرى ما بعد الكلاسيكية.
    الاستجابة الثانية هي الدعوة لانشاء مجتمع مدني civil society عالمي. ورغم وجود مفاهيم عديدة عن ماهية المجتمع المدني، فان المفهوم المحدد الذي يُنسب اليه، في اطار هذه الدعوة، انه مجموع القوى والمنظمات والهيئات الاجتماعية المستقلة عن الدولة، بل واللاجمة لها. أي ان المجتمع المدني هو القطب المقابل للدولة، وهو الميدان الذي ينطوي على مصالح متباينة، ويتيح تنظيم هذه المصالح والدفاع عنها.
    وتبدو هذه المقولة (المجتمع المدني العالمي) موجهة ضد الدولة، الضعيفة، المقلصة بفعل نمو قوى السوق، كما انها جزء من مجال المجتمع المدني نفسه. ويبدو ان هذه المقولة الجديدة تنطلق من الفكرة الكلاسيكية القائلة بالطابع الرأسمالي للدولة كأداة تنظيم سياسي وضبط اقتصادي، واندماجها، او تواشجها مع قوى السوق الرأسمالية. ان فكرة المجتمع المدني العالمي ترتكز، كما يبدو، على قاعدة تنشيط الحركات الاجتماعية الطوعية، المتمحورة حول رؤية تجزيئية للقضايا (الاخلاق، البيئة، الاستهلاك، التعليم، الجوع، الحريات الجنسية، الخ، الخ)، من ناحية، ورؤية عمومية (تنظيم افضل للمجتمع بفعل ضغوط الحركات الاجتماعية نفسها).
    الاستجابة الثالثة هي التيار الفكري الداعي الى الديمقراطية الراديكالية. ويبدو هذا الشعار بمثابة بديل استراتيجي، راهن عن الاستراتيجية السابقة (الثورة البروليتارية العالمية).
    ان جوهر هذه الاستجابة يقوم على المحاججة التالية: بما ان العولمة غدت واقعا قائما، وبما ان آليات النظام الاقتصادي المعولم لم تعد تخضع لسيطرة الدولة القومية، او النطاق القومي، فان فكرة التخطيط الاقتصادي على الصعيد القومي قد تهاوت. وهذه ثمرة من ثمار تطور الرأسمالية العالمية نفسها. اما الثمرة الاخرى، فهي ان هذا التطور نفسه، بفعل الأتمتة، قد قلص من حجم ووزن وقوة الفاعل الاجتماعي للثورة الاشتراكية، والأداة السياسية للتخطيط- أي الطبقة العاملة.
    الاستنتاج المستمد من هذه المحاججة، انه لا الثورة البروليتارية ولا التخطيط الاجتماعي على النطاق القومي باتا ممكنين استنادا الى المنهج التحليلي الذي خلفه ماركس مطبقا على الوضع الحالي. وعليه فان البديل المطروح على اليسار الاوربي المرتبك، والحائر، هو الديمقراطية الراديكالية، أي تجاوز الحدود الراهنة للديمقراطية القائمة في صورتها الليبرالية.
    هذه باختصار ثلاث استجابات في وسط اليسار الراديكالي. وهي استجابات نظرية، أي انها لم تتبلور بعد في حركات سياسية واجتماعية.
    بصرف النظر عن مدى عمق او سطحية هذه المفاهيم، فانها، برأيي، خير من الكسل الفكري، او الصمت المطبق، ناهيك عن النحيب. واكرر ان هذه الاستجابات معروضة بصيغة مقتضبة، بهدف التبسيط ليس إلا.

    ثالثا:
    دعونا نتحدث عن سمات البنيو ية الجوهرية للعولمة
    تتميز العولمة globalization بخصائص بنيوية جديدة، على الاصعدة الاقتصادية، والسياسية، والتنظيمية، والاجتماعية، والثقافية.
    ويفرد المنظرون اليساريون عددا من الخصائص التي يعتبرونها جوهرية في ظاهرة العولمة.
    ان صورة العولمة تقوم في تمايز الوضع الراهن عن الوضع السابق، المسمى بالاقتصاد العالمي inter – national، وهو نظام كان قائما بين أمم (دول قومية)، لا فوق الأمم.
    ان العولمة تفترض بأن العمليات والمبادلات، الاقتصادية تجري على نطاق عالمي، بعيدا عن سيطرة الدولة القومية، بل ان الاقتصاد القومي يتحدد بهذه العمليات. وهذا الوضع مغاير تماما لما كان عليه الحال في الاطار السابق، حين كانت الاقتصادات القومية هي الفاعلة، اما الاقتصاد العالمي فهو ثمرة تفاعلاتها. بمعنى آخر ان اسواق الانتاج والمال تكتسب الان وضعا ذاتي التنظيم، ينتهي فيه الفصل بين الاقتصاد القومي والتجارة العمل كميدان لتحكم الدولة القومية.
    وعليه فان الخاصة الاولى لهذا الاقتصاد المعولم انه يقع خارج نطاق تحكم الدولة القومية (دولة مفردة او مجموعة دول محددة)، مما يزيد في امكانات التنافس والصراع.
    اما الخاصية الثانية، فهي تزايد دور الشركات متعددة الجنسيات وتحولها الى شركات فوق قومية (transnational) الى رأسمال طليق بلا قاعدة وطنية محددة، وبادارة عالمية.
    اما الخاصية الثالثة فهي تدهور القدرة السياسية والتساومية للعمل بسبب التنا فس لتقليص كلف الانتاج(=اجور العمل و الخدمات). توصف العولمة بأنها وضع الفوضى الشاملة، ففي القرن السابق، مثلا، كانت بريطانيا، الضامن للمبادلات التجارية (معيار الذهب)، وفي القرن الحالي (حتى انهيار اتفاقية برتينى وورز) كانت الولايات المتحدة تلعب هذا الدور.الان لا احد يلعب هذا الدور.
    ويبدو ان الدولة القومية لم تفقد الكثير من وظائفها كناظم اقتصادي فحسب، بل ان انتهاء الحرب الباردة، قلص وظائفها العسكرية – الامنية الى حد غير قليل.
    وهناك الآن تفاوت هائل في النظام العالمي بين الدولة كقوة سياسية عسكرية، والدولة كقوة اقتصادية. لقد كان القرن التاسع عشر قرن هيمنة بريطانيا، والقرن العشرين قرن هيمنة الولايات المتحدة. اما القرن الواحد والعشرين، فلن يكون قرن هيمنة الاتحاد الاوربي (كما يشاع)، بل ربما يشهد نشوء مراكز قوى متعددة، بعد صعود الصين، المانيا، وتعافي روسيا مجددا. ويبدو ان العولمة تدفع الآن باتجاه نظام آخر سياسي – عسكري، لم تتضح معالمه بعد.
    ومع تزايد سطوة النخب التكنوقراطية والادارية الناجمة عن خروج قوى السوق عن سيطرة الدولة القوميةن ينشأ وضع متناقض. فالنخب السياسية المفوضة والمخولة على اساس الانتخاب لن يعود بوسعها ان تتحكم بسير الاقتصاد المعولم. اما النخب التكنوقراطية الاقتصادية غير المنتخبة فتتحكم بهذا السير. ان هذا الوضع يطرح على بساط البحث قيمة ومعنى الانتخاب، والمساءلة، والضغط، والتغيير، في اطار النظام السياسي/الحقوقي الحالي.
    في اطار العولمة يبدو ان اهمية النشاط والحراك السياسي القائم على اساس الموقف الطبقي class politics تتضاءل فيما تتزايد اهمية الحركات الاجتماعية المتمحورة حول قضية محددة، او عدة قضايا issue-politics ، مما يغير صورة ومعنى واساليب النشاط السياسي – الاجتماعي.
    اخيرا، ان العولمة، التي اكتسبت زخما شديدا بعد انتهاء الحرب الباردة، تطلق العنان لموجة جديدة من النزعة القومية، في جانب (نشوء أمم جديدة) وتفاقم احتدام التضاد الثقافي – القومي.
    ولفهم هذه الظاهرة تنبغي دراسة اشكال تنظيم الثقافية:
    يمكن الافتراض ان الأطر التنظيمية الثقافية، تميزت بثلاث انماط، ما قبل قومية، قومية،و ما بعد قومية.
    النمط الاول يقوم على ثقافة الطوائف والجماعات المغلقة الحرفية، او الدينية. وان انحلال هذا الانغلاق المميز للمجتمعات الزراعية، شرط مسبق، لنشوء الثقافة القومية، بوصفها نظاما معرفيا يعتمد على لغة موحدة (نظام معلومات – اشارات خاص بشعب محدد) ونظام موحد نقل وانتاج المعرفة (مدارس، معاهد، اجهزة اعلام).
    ومثلما ان الدولة القومية حطمت عزلة الطوائف والجماعات المغلقة (حرف، طرق، قبائل) كذلك فان العولمة تحطم عزلة الدولة القومية سواء بفعل حركة قوى السوق على المستوى التجاري – الاقتصادي، ام بفعل ثورة المعلومات والاتصالات.
    ويبدو ان هذا الوضع يذكي النزعات القومية الثقافية Cultural nationalism، مثلما ان الغزو الكولونيالي السافر استثار نزعة قومية سياسية (= الاستقلال)، وان الاستغلال الاقتصادي استثار نزعة قومية اقتصادية. ان التضاد الثقافي القومي ليس بجديد. وهو بلا مراء من نتاجات القرن التاسع عشر. ونراه واضحا في الصراع داخل روسيا مثلا بين دعاة السلافية ودعاة التغريب، وينعكس عموما في صراع الاصالة/ الحداثة.
    ويبدو ان النزعة القومية – الثقافية نزعة دفاعية و احتجاجية، تتجلى في صور شتى. (بعض صيغ الاسلام السياسي تندرج في هذا الباب).
    والمأزق هنا، انه اذا كانت الدولة القومية في البقاع المتقدمة، آخذة بالأفول، فأي افق ينتظر الدولة القومية الضعيفة خارج هذه البقاع.
    هناك من يرى ان الاصولية الدينية (الاسلامية وغير الاسلامية) هي احتجاج قومي، لكن هذا يمثل النزعة القومية للخاسرين. فهي تفتقر، خلافا للحركات القومية في الخمسينات والستينات، الى برنامج واضح.

    تنويه
    مداخلة القيت بالانجليزية في جامعة لندن عام 1999 حول موضوع العولمة، وهي مداخلة شفهية بالاصل اعيدت صياغة متنها للنشر.
    اعتمدت المداخلة على عدد من الدراسات حول العولمة بينها:
    1 – Frances Fox Piven, Globalization Capitalism and the Rise of identity Politics.
    2 – William Graf, Globaization and the State in the Third World.
    3 – Paul Hirst, Globalization and the Future of the Nation State.
    4 – John Mepham, Marxism, Cluture and Politics.
    5 – Paul Hirst and Grahame Thompson, Globalization in Question.
    6 – J. L. Cohen, Class and Civil society, The Limits of Marxism Critical Theory.
    7 – E. Hobsbawm, The Age of Extremes.
                  

10-28-2005, 11:54 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة -الاشتراكية


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1332 - 2005 / 9 / 29


    ان دراسة تجربة الانهيار المدوي، والمفجع، لأول تجربة اشتراكية مستقرة نسبيا، يمكن ان تتخذ اشكالا عديدة: دراسة العومل الظرفية التي رافقت محاولات التجديد وأدت الى الانهيار، او دراسة العوامل البنيوية التاريخية للتجربة ككل من منظور ماركس نفسه.
    يستطيع الدارس ان يورد وفرة من الاسباب عن طبيعة النخب السياسية، وتركيبة الحزب، واسلوب عملها، وبنية الدولة، والضغوط الخارجية، التي ادت الى الانهيار. ويمكن، بالمثل، ايراد اسباب معاكسة، تؤدي نفس الوظيفة التبريرية او التفسيرية.
    ما نحتاج اليه هو تحليل بنيوي، تاريخي، في ضوء الفهم الماركسي لبنية الرأسمالية وتطورها، لا تحليل ظرفي آني.

    I الثورة الروسية

    لقد جاءت الثورة الروسية، في اكثر البلدان الرأسمالية تأخرا. أي في بلد لا يصلح للتطور ما بعد الرأسمالي، بالمعنى الماركسي للكلمة، فالبلاد شهدت لتوها نمو اولى نبتات الرأسمالية الصناعية الحديثة، على شكل جزر في المدن الكبرى الرئيسية وبخاصة موسكو وسانت بطرسبرغ. وكان مدراء المصانع يستوردون من انجلترا، ويعملون في ظروف لم يتبلور فيها بعد حتى انضباط العمل المصنعي المعروف. ولم تمد الرأسمالية فيها بعد تأثيرها التنظيمي (الانتاج لأجل السوق، عقلنة الانتاج، الحساب الاقتصادي، انضباط العمل، اعادة الانتاج الموسع وهلمجرا) او تأثيرها المؤسساتي (اتحادات الصناعيين، نقابات العمال، المؤسسات القانونية لحماية الملكية الخاصة المستقلة من الدولة... الخ) او تأثيرها الثقافي (فكرة الفرد المستقل، التعاقد الحر، حرية السوق).
    لينين نفسه يعترف في كتابات عديدة (راجع كراسه: "حول رأسمالية الدولة") ان ماهو موجود في روسيا عصر ذاك هو رأسمالية برجوازية صغيرة، أي انه يعترف بعدم كفاية التطور الرأسمالي في روسيا لأجل الانطلاق الى أي شكل ما بعد رأسمالي (ناهيك عن الاشتراكية). ويعترف ايضا بأن الثورة الروسية لا تملك من "الاشتراكية" سوى السلطة السياسية للعمال، وهم اقلية في المدن ويعيشون وسط بحر من الفلاحين.
    الثورة الروسية نفسها كانت ثلاث ثورات في آن، فهي ثورة (او قل تمردات) فلاحية ضد اشكال القنانة البالية، وثورة ليبرالية سياسية ضد الشكل الاوتوقراطي للقصيرية، وهي ثورة عمالية في المدن. وقد اكتسبت هذه الثورات الثلاث طابعا حادا، متوترا، متداخلا، بفعل ظروف الحرب العالية الاو لى.

    II

    والسؤال الآن اذا كان العمال اقلية، والرأسمالية غير متطورة في روسيا، فما الذي دفع لينين الى تغيير الدفة باتجاه الثورة العمالية ذات المهام الاشتراكية في بلد ينتظر انجاز مهمات رأسمالية (= ديمقراطية)؟ هل كان لينين متطرفا، كما قال بعض معاصريه؟ ام كان لينين غير واع لنظرية ماركس؟ لا هذا ولا ذاك.
    كان لينين يعي تماما شروط التطور التاريخي للرأسمالية والسعي للخروج منها وتجاوزها كما وضعها ماركس، وهي:
    1 - لا يمكن تجاوز الرأسمالية إلا بعد وصولها مرحلة عليا من النضج.
    2 - ان الرأسمالية نظام عالمي وليس محليا.
    3 - ان روسيا تفتقر الى هذه الشروط.
    ماذا نقصد بمرحلة نضج الرأسمالية؟
    نقصد:
    أ - وصول القوى المنتجة حدا هائلا من التطور يكفي لاشباع الحاجات المادية لافراد المجتمع.
    ب - نضج مؤسسات الادارة الذاتية داخل المجتمع وتمايزها عن بعض (المنظمات الاجتماعية).
    ج – نضج مؤسسات الادارة السياسية للمجتمع، الديمقراطية، تمايز السلطات وانقسامها (تنفيذ، تشريع، قضاء...الخ).
    د – انفصال الملكية الاجتماعية عن المالكين، في الطور المتقدم من الرأسمالية (ظهور طبقة المدراء والمنظمين من خارج طبقة المالكين الرأسماليين، تطور نظام الائتمان، تطور التنظيم الواعي داخل المؤسسات الرأسمالية التعميمية على المجتمع – لاحقا)، تطور نظم الاتصالات (سكك الحديد، الهواتف، السيارات، الطرق والجسور)، تطور المؤسسات الاجتماعية المستقلة... الخ.

    III

    لقد كانت هذه الشروط غائبة تماما عن روسيا. وقد اعترض مفكرون ماركسيون عظام على فكرة استيلاء الطبقة العاملة الروسية على السلطة.
    فهناك اعتراض بليخانوف الذي قال ان بلدا (مثل روسيا) يقوم على انتاج سلعي صغير، وبحر من الفلاحين (البنية التحتية) لن يسمح بنشوء نظام سوى استبداد قيصري حتى لو ارتدى رداء بلشفيا.
    وهناك اعتراض كاوتسكي، الذي اكد ان ضعف التطور الرأسمالي لروسيا لا يتيح للبلاشفة الاستمرار في السلطة على قاعدة مثل هذه. وتنبأ في دراسات عديدة له (مطلع ثلاثينات القرن وفي مقال قبل وفاته عام 193 بتعذر استمرار التجربة.
    وهناك اعتراض او استغراب المفكر العملاق انطونيو جرامشي (ايطاليا) الذي اكد ان الثورة الروسية هي ثورة مخالفة لـ"رأس المال"، أي ضد منطق ماركس الوارد في كتابه "رأس المال"، باعتبار روسيا البلد الافقر والاقل تطورا.
    وهناك اعتراضات اخرى من مفكرين غير ماركسيين تنبأوا بأن الدولة (البيروقراطية) ستبتلع الحزب، وان النظام السياسي سيتحول الى اوتوقراطية مطلقة (ماكس فيبر وآخرون).
    اذا كان لينين واعيا للمزلق الروسي فما الذي دفعه الى تغيير الدفة باتجاه البحث عن تجاوز الرأسمالية في ظروف بلد لم تتطور فيه الرأسمالية بدرجة معقولة؟
    الجواب انه كان ينتظر، ويأمل، ان تحرك الثورة الروسية فتيل ثورات عمالية في القارة، فتكون بمثابة المهماز السياسي. وكان يتطلع الى المانيا المتطورة، مثله الأعلى في التنظيم الصناعي والعسكري، الى ثورة عمالية ظافرة هناك، تذكي بدورها وبأثرها، ثورة تالية في فرنسا، وايطاليا، أي ثورة بروليتارية في معاقل الرأسمالية المتطورة. لم تأت هذه الثورات.
    فالثورة المجالسية (العمالية) الاولى اندلعت في المجر، ثم جزئيا في ايطاليا، اما في المانيا فلم تستطع الخروج من القماط. هذا الرهان التاريخي لم يتحقق.

    IV

    كان النموذج السياسي الاقتصادي والاجتماعي الذي بناه لينين هو نموذج رأسمالي حكومي، مؤقت بانتظار النجدة التي لم تأت. وان هذا النموذج سار في اتجاه التطور الذي تنبأ به بليجانوف وكاوتسكي وفيبر وحتى روزا لوكسمبورغ، أي قيام دولة بيروقراطية، مركزية، استبدادية، تفتقر الى أي معلم ديمقراطي (حتى للبلاشفة انفسهم ناهيك عن المجتمع)، وتجمع في آن السلطة السياسية بالسلطة الاقتصادية، وتهيمن على انتاج الثقافة، على يد طبقة بيروقراطية تحكم باسم التاريخ وباسم الطبقة العاملة.
    لقد كان هذا النموذج يعيش انفصالا بين واقعه المتخلف (تدني الانتاج، ضعف المؤسسات المجتمعية، غياب التمايز المؤسساتي في الدولة... الخ). وادعائه الايديولوجي بأنه يبني الجنة الموعودة، جنة التحرر من الحاجات المادية، وجنة التحرر من القمع الرأسمالي... الخ.
    لقد ادى هذا النموذج الى النزع القسري للفلاحين (راح ضحيته 20 مليون انسان)، والى القمع الجسدي لصغار المنتجين والمثقفين (راح ضحيته 10 ملايين انسان).
    كان هذا النموذج مرشحاً للانهيار لولا بضعة عوامل انجدته، منها:
    1 – التحام البلشفية بالنزعة الوطنية الدفاعية خلال الحرب العالمية الثانية، مما اكسبه شرعية لدى جيل ما بين الحربين، شملت حتى الكنيسة الاورثوكسية.
    2 – توفر روسيا الثورية على ريوع كبيرة (النفط، الذهب)، سدّت الثغرات الاقتصادية لفترة.
    3 – تمتع روسيا الثورية بعطف ثوري عام في البلدان الرأسمالية والعالم الثالث وسط قطاعات الطبقة العاملة، واليسار الثوري، وغير ذلك من قوى.
    ان النموذج الروسي يقوم على بنية سياسية شديدة التمركز والاستبداد، وعلى بناء اقتصادي اوامري، ضعيف الانتاجية، وخاضع لتحكم طبقة بيروقراطية متنعمة.
    لقد لعب هذا النموذج دوره في التطوير الجزئي للقوى المنتجة (التصنيع الثقيل، الكهربة، مد سكك الحديد) وهي مهمات رأسمالية اصلا، الا انه عجز عن مواكبة تطور الثورات العلمية والتكنولوجية اللاحقة. كما لم تسمح البيروقراطية المتحكمة بالفوائض، باجراء أي تعديل في بنية النظام السياسي.
    لقد كان النموذج: رأسمالية موظفين مستبدة، انهارت تحت وطأة تناقضاتها المستحكمة. انها رأسمالية مشوهة.

    V

    ان التجربة الروسية تعيدنا الى اصل نظرية ماركس: لا تجاوز للرأسمالية الا في اطارها، وبفضل انجازاتها، وتطورها بالذات. ولا يمكن تجاوزها بمراسيم وادعاءات ايديولوجية فارغة.
    لقد سعت محاولات الاصلاح الى الفكاك من الاقتصاد الاوامري، فاكتشفت ان البيروقراطية غدت فئة اجتماعية عاتية تحتل مفاصل الدولة. فلما اتجه الاصلاح الى الدولة ذاتها، اصطدم بمقاومة اعتى من الطبقة البيروقراطية، التي انقسمت وتوزعت الى تيارات.
    هناك في الحياة الاكاديمية منهج يقول ان لمشكلة معينة سبعة اسباب محتملة. فيتولى كل فريق عمل البحث في سبب من الاسباب، وهكذا تعمل سبعة فرق ابحاث لتثبت ان ستة من التفسيرات هي خاطئة، وان تصورا او سببا واحدا هو الصائب.
    وتجربة اكتوبر برأيي تنطوي على اهمية كبرى، انها تثبت بالملموس ما هو الطريق الخاطيء الذي لا يتوجب علينا اتباعه.
    اقول هذا وانا مدمى القلب، فالبروليتاريا الروسية، بل شعوب الاتحاد السوفيتي، وبخاصة الشغيلة، تحملوا اعباء لا تقوى عليها الجبابرة، من دمار الحرب الاهلية، وخراب حربين عالميتينن وحصار، وسباق تسلح، واعباء اطعام حركات التحرر لبلد لا يقوى اقتصاده بالكاد على كفاية حاجات مجتمعه.
    تقول لنا الثورة الروسية ما لا ينبغي عمله، وما لا ينبغي السير عليه. وقد دفعت روسيا ثمن ذلك بالدم والدموع.

    VI


    لقد اطلقت الرأسمالية، كتشكيلة عالمية، عدة ميول اجتماعية – فكرية، هي النزعة الفردية (الليبرالية)، النزعة الاجتماعية (الاشتراكية)، النزعة الدولتية (الفاشية والنازية).
    وانتصرت كل نزعة سياسيا حيثما كان الخلل الذي ولدته الرأسمالية يفغر فاه في ذلك المجال المحدد. وتحولت هذه النزعات بانتصارها السياسي، الى دول ليبرالية، ودول اشتراكية ودول نازية، أي تحولت الى نظام فرعي في مضمار العالم الرأسمالي. ودخلت هذه النظم الفرعية في احتراب وتلاقح متبادل.
    فالليبرالية تمجد الفرد المنتج (= الرأسمالي) والحريات المدنية، والنازية تمجد الأمة والدولة، والاشتراكية تمجد الجماعية، لكنها كلها انحبست في اطار دول قوميnation-state. وهذا امر طبيعي، لأن معمار العالم الرأسمالي، كما وصفه ماركس في مخططه الاخير لكتاب "رأس المال"، بأنه يتألف من اربعة عناصر:
    1 – رأس المال
    2 – الدولة
    3 – السوق العالمية
    4 – التجارة الدولية
    لقد كتب ماركس باستفاضة عن العنصر الاول، ولم تتح له امه الطبيعة ان يبحث باسلوبه المستفيض، الموثق، العناصر الثلاثة الاخرى، رغم انه اشار اليها اشارات لا تخطئها العين، رغم انها اشارات متناثرة.
    ترك ماركس ارثا ثوريا يقوم على:
    1 – تركيب المناهج العلمية في اعلى نقطة من تطورها في عصره.
    2 – نقد الرأسمالية وتحليلها وصولا الى تعيين تخومها، وامكانات تجاوزها.
    لقد مرّ على انجازه قرن ونصف القرن وحصل ما يلي:
    1 – ان الرأسمالية نفسها اكتسحت العالم (كما توقع لها ماركس) وصارت المحيط الذي توجد فيه جزر صغيرة من اقتصاد الكفاف، بعد ان كانت جزيرة وسط بحر متلاطم من الفلاحين والحرفيين.
    2 – ان تطور الرأسمالية يتخذ اشكالا عديدة متنوعة يمكن تنميطها في ثلاثة انماط رئيسية تجريدية:
    3 – أ – الرأسمالية الفردية.
    3 – ب – رأسمالية الدولة.
    3 – ج – الرأسمالية القرابية.
    نشأ النمط الاول كلاسيكيا في بريطانيا (ولاحقا امريكيا)، ونشأ النمط الثاني كلاسيكيا في المانيا (ثم روسيا الثورية)، اما النمط الثالث فيترعرع امام انظارنا في دول عديدة (اندونيسيا، السعودية، من بين امثلة وفيرة). هناك هجائن بالطبع، او خلائط من هذه الانماط.
    4 – لقد ظلت الرأسمالية نظاما قائما داخل الدولة القومية، ومتحققا خارجها (في السوق العالمي) عبر التجارة الدولية، وهي تجارة كان تدار بقوة السلاح (فتح اسواق اليابان عام 1802 على يد البوارج الاميركية، وكذلك الصين)، اما اليوم فانها تخرج من هذا الاطار لتتطابق او تقترب بالاحرى من النموذج النظري الذي ابتدعه ماركس، مع وجود تعديلات مستمرة على البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية.
    5 - ان الرأسمالية كنمط انتاج، او كتشكيلة (سياسية، اقتصادية ثقافية، مجتمع مؤسسات).
    هي ذات طابع مزدوج.
    علّمنا ماركس ان عملية الانتاج هي عملية عمل، تنظيم للقوى الحية، حساب اقتصادي عقلاني، تفاعل مع الطبيعة، لانتاج الخيرات المادية التي لا تحرر من عالم الضرورة بدون وفرتها الغزيرة. ولكنها في الوقت نفسه عملية استغلال، نظام علاقات اجتماعية.
    ومن الواضح وضوح النهار، ان عملية العمل، هذه لن تتوقف في أي تشكيلة ما بعد رأسمالية.
    وما يصح من ازدواج على عملية العمل، يصح ايضا على بقية مكونات التشكيلة الرأسمالية: تقسيم السلطات، تجديد الشرعية بالاقتراع، حرية المعلومات، تعميم الثقافة (التعليم العام)، تعميم منجزات العلم، الحريات الفردية (حرية الضمير، المعتقد... الخ)، مقابل سطوة الشركات، الهيمنة على وسائل الاعلام، التعصب العرقي والديني والقومي، انفصال مؤسسات الدولة عن الرقابة، الخ... الخ.
    6 – تعمل الرأسمالية في اطار معولم (كوني)، ولا تجوز المساواة بين الرأسمالية والعولمة ، فالعولمة، هي الاطار العام الذي يسمح لكل القوى والمؤسسات المتناقضة داخل الرأسمالية بالعمل والتحرك، على نطاق واسع. وهي ذاتها متناقضة، ومتصارعة. وهي تتحقق بفضل نظم الاتصال الكونية، وثورة المعلومات، وتداخل كل العمليات في حياة المجتمعات البشرية تداخلا لا فكاك منه.
    ان نقد الرأسمالية شيء، ونقد العولمة شيء آخر. ان البعض من النقاد يشبه ذهنية اللوديت الذين ارادوا تحطيم الرأسمالية بتدمير الآلات الحديثة.
                  

10-28-2005, 11:56 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    في استشراء العنف الأصولي


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1267 - 2005 / 7 / 26


    بدا مشهد الدم في محطات المترو في قلب لندن (كنغز كروس – يوستن، آلدغيت، ليفربول واجوار رود) تكراراً مصغراً للتفجيرات المتكررة في العراق ولبنان، أو مدريد وباريس. وحين نتذكر التفجيرات المماثلة في مصر أو السعودية، أو باكستان وماليزيا، وأندونيسيا، نجد ان القائمة تطول.
    ثمة اخطبوط شبحي يمد أذرعه في زوايا المعمورة، معلناً عن نفسه باسم ايديولوجيا «سامية»، تقرر، بداهة، حق الحياة والموت، والرائح والغادي، ملغية العالم كله باعتباره الشر المطلق، بازائها هي بوصفها الخير المطلق.
    استقبل بعضنا نحن ا لعرب هذا الحدث بإشهار الغضب على التفجير، والعطف على الضحايا المدنيين، باعتبار ان لندن هي أكثر المدن عطفاً على قضايانا. (المضمر في هذا القول: لا ضير من استهداف المدن التي لا تبدي مثل هذا العطف!).
    ومال بعضنا الى ابداء التشفي تحت يافطة ان هذا القتل الجمعي، البربري بكل المقاييس، شبيه بعنف الدولة (الغربية طبعاً)، فاتحين الباب على مصراعيه أمام تعميم العنف وسيلة مثلى للسياسة. وعمد بعضنا الآخر الى تحميل الضحية أوزار العنف، على قاعدة الفعل ورد الفعل، وبالذات ان تفجيرات لندن هي رد اسلامي على مساهمة بريطانيا في احتلال العراق، علماً ان جلّ العراقيين، وهم أصحاب القضية قبل غيرهم، يرون في بناء القوى الذاتية للجمهورية الخامسة، المشرعنة بصناديق الاقتراع (8.5 مليون ناخب) هي السبيل لخروج قوات الاحتلال.
    أجد في الكثير من ردود الفعل العربية، وبخاصة «خبراء» الفضائيات في صناعة الكلام، اسرافاً في العاطفة، وإيغالاً في التبرير، وفقراً أخلاقياً، لابساً أسمال تحليل مهلهل.
    نحن بازاء عنف ديني ما يني يتسع منذ عقدين. ففي 1980 لم تكن هناك سوى بضع منظمات دينية ميالة الى العنف. بعد عقد تقريباً نما العدد الى ثلاثين حركة عنف نصفها من اصول دينية. أما في 1995 فبلغ عدد الحركات الدينية العنيفة ستة وعشرين حركة جلها إسلامية.
    ينبغي التنويه بأن كل الأديان ساهمت في هذا العنف. وان عدداً من الايديولوجيات الدنيوية قامت أيضاً مقام حاضنة لهذه البربرية الجديدة. إلا ان الحركات ذات المنشأ الاسلامي احتلت مركز الثقل في هذا الانقلاب. وتؤلف القضايا التي تشكل المهماز المحفز لهذا العنف تؤلف تشكيلة واسعة، تبدو متنافرة: فثمة قضايا ذات طابع قومي (فلسطين) ونزاعات حدودية – دينية (كشمير)، وقضايا أقليات (مسلمة) تعارض التهميش السياسي (الشيشان، البوسنة، الفيليبين، الصين)، وثمة حركات احتجاج على حكومات استبدادية أو اصلاحية، وثمة عنف طائفي (سني أو شيعي في الباكستان وغيرها)، وثمة أصولية ثقافية، تعارض الانفتاح، مثلما تعارض السياحة، والانترنت، وما شاكل، وثمة أصولية فكرية غارقة في عبادة ماض مثالي، مجرد في الخيال من كل شائبة، وثمة رُهاب من كل ما هو غريب وأجنبي، وثمة، وثمة...
    في وسع هذه القائمة ان تطول، وان تتداخل عناصرها تداخلاً غريباً ينتج لنا توليفة من مصادر تكوين أصوليّ العصر الحديث: سفاح يضع قدماً في الماضي وقدماً في الحاضر، تائهاً بين عالم يمضي بسرعة جنونية قدماً، وأوطان ما تني تبتعد في أفكارها وقيمها عن ملامسة الحاضر.
    يبغض هذا السفاح المرأة، ويرتعد من كل وسائل الاتصال الحديثة (التلفزيون، الانترنت، السينما)، ويصاب بالدوار والغثيان لدى سماع الموسيقى، ويفزع من أي تلاقٍ بين الجنسين، ولا يطيق مناقشة أو رأياً في تراثه، أو في تفسيره لهذا التراث. وعلى رغم انه غارق حتى أذنيه في كل منتجات الحضارة الحديثة، من ساعة اليد، الى النظارات الطبية، ومن الانترنت، الى الهاتف النقال، ومن السيارات، الى الصواريخ، ولا يكف عن استعمالها ليل نهار، فإنه يشجب الحضارة الحديثة باعتبارها صنماً. وهذا البكّاء على أطلال الماضي انما يخشى الحاضر. والماضي الذي يستدعيه الى الوجوه ملقياً بقداسته في وجه كل الخصوم، إنما هو وهمه الذاتي عن هذا الماضي.
    ويجد هذا الايديولوجي القادم من كهوف العصر الحجري، أو من البوادي الفكرية القاحلة، فئات غاضبة، مهمشة، أو مثالية، في خدمته.
    كان أسامة بن لادن، على قول أخيه يسلم، يبغض الراديو والتلفزيون ولا يسمح لأولاده بأي تماس مع هذه المخترعات. ولم يجد هذا الأصولي المنغلق خيراً من الأميين الأفغان، وثفالات المجتمعات العربية، جمهوراً لمواعظه الفارغة. انه شأن صنيعته الزرقاوي، رجل العودة الى الماضي، والمجتمع الذكوري المنغلق، والطهرية الفارغة. وأدعياء القداسة اولئك هم الابناء المحبطون للايديولوجيات الصحراوية، التي لم تجد من صحراء في عالم الحواضر سوى قفار أفغانستان، حيث 90 في المئة من السكان في البوادي، وحيث الخرافة، والانغلاق السرمدي. وتمد هذه الايديولوجيا اخطبوطها الى ما وراء هذه القفار بفضل الهجرة التي حملت الكثيرين الى شواطئ أوروبا التي ترفض تسليمهم الى حكومات بلدانهم استناداً الى قانون انساني يحظّر طرد اللاجئ الى موطنه ان كانت حياته في خطر.
    لا مراء في ان الإعلام أسهم في صنع هذه الأصنام وتحولها الى نوع من «روبن هود». يمجد هؤلاء «القديسون الدمويون» العنف لخواء خطابهم، وهو عنف يفتك بالمسلمين قبل غيرهم. في العراق وحده بلغ ضحايا هذا العنف الأصولي من المدنيين زهاء 24 ألفاً. ونحن بالطبع ميالون الى البكاء من العنف ان طاولنا مباشرة، والتباكي عليه ان طال غيرنا.
    وبالعودة الى الحركات الاسلامية العنيفة، نجد في خلائطها اربعة أنماط اساسية من الاسلام العنيف: ثمة الاسلام القومي (النزوع الى الاستقلال)، وثمة الاسلام الاجتماعي (الاحتجاج على التهميش والاقصاء) وثمة الاسلام الثقافي (المعادي للقيم الحديثة، للمرأة، للتلفزيون، للسينما) وثمة الاسلام الكوني المحارب الذي يرى وجوب خوض حرب الحضارات.
    وعلى رغم ان هذه الأنماط تشترك في صفات عدة، إلا ان صنفها الأخير هو الأخطر عالمياً، في حين ان اصنافها الثلاثة الأولى هي الأعنف محلياً (في محيط العالم العربي – الإسلامي). ويعاني العراق من هذه الأصناف كلها مجتمعة، زائداً علاوات اخرى غير سارة.
    ويرى هؤلاء في التدمير الوسيلة الوحيدة: بحرق دكان، أو نسف قطار، أو تدمير محطة كهرباء، أو قتل حلاق (لأنه يقص الشعر على الطريقة الغربية!) أو حرق محطة كهرباء، أو تدمير مسجد، وقتل أئمة صلاة.
    ماذا يريد الاسلام الكوني المحارب الذي هاجم لندن وغيرها من عواصم غربية وعربية؟
    ذات مرة قرأت وثيقة أصولية أدهشتني لشدة ما فيها من إيهام ذاتي ووضوح الغاية. تقول الوثيقة، الصادرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي إثر انسحابه من أفغانستان: الآن وبعد أن دحرنا (؟) الجناح الكافر من الحضارة الغربية، سنعمل على دحر جناحها الصليبي، وإقامة حكم الإسلام. يتوهم هذا البنّاء، الذي لا يعرف غير الهدم، انه هو الذي هزم الاتحاد السوفياتي، وهو موقن كل اليقين ان فرقته «الناجية» كفيلة بهزيمة العالم بأسره.
    هناك تفسيرات عدة لهذه الحركات أغلبها ظرفي، يرتبط بهذا الحدث أو ذاك. والمشكلة، كما أظن، تكمن في توتر، بل قل فشل، المنطقة العربية – الاسلامية في الانتقال من عالم ما قبل الحديث، وتكمن أيضاً في التوترات الناجمة عن تطور الغرب، مثلما تكمن في العلاقة بينهما.
    ان «الاسلام الكوني المحارب» يريد العودة بنا الى عصر الحروب الدينية التي استهلكت قرنين من جهود أوروبا في بناء نفسها. وأجد ان المسؤولية تثقل كاهلنا بالدرجة الأولى، فلا نزال في منزلة وسطى بين عالم التراث الغابر، وعالم الحضارة الذي ندخله منذ قرن على وجل.
                  

10-29-2005, 00:01 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    تأملات في الماركسية


    فالح عبد الجبار


    ان كانت هذه الاوراق تدين بالعرفان لأحد، فهي تدين بذلك، تحديدا، للاستاذ كريم مروة. له وحده يرجع الفضل في التفكير باعادة اصدار طبعة عربية جديدة لرأس المال. وله ايضا الفضل في عقد لقاء فكري عن مستقبل الاشتراكية، في بيروت عام 1996. هذان الحدثان كانا بمثابة المهماز للقيام ببعض الابحاث، واعادة التفكير في بعض الاسئلة. وها نحن اليوم امام مطلب جديد: التفكير في عموم الماركسية، لا البكاء على طلل دَرَس. ومن جديد ايضا تأتي المبادرة من الاستاذ كريم مروة، الذي لا يكف عن القاء الاحجار في مياهنا الراكدة بعناد مشاكس، لايني يحفز ويحرك، فاتحا ابواب الاسئلة على مصاريعها. وانا هنا ادخل من كوة عسى ان ألحق بركب الاسئلة، في مسالكها الوعرة.
    ***
    يقول ماركس، في مكان ما، ان طرح السؤال الصحيح هو نصف الجواب. وفي اعتقادي ان السؤال الارأ:س، هو الآتي
    ما هي النظرية الماركسية؟ قد يبدو السؤال نافلا، لكنه برأيي جوهري.
    هناك اجابة جاهزة، جامعة، مانعة، تقول ان الماركسية نظرية ثورية تتألف من 3 اقسام هي: المادية التاريخية، والمادية الديالكيتية، والاشتراكية العلمية.الطبيعة والمجتمع والفكر نفسه.
    هذا التقسيم المبسط، والشائع، الذي تربت عليه اجيال واجيال من الماركسيين، تقسيم اعتباطي، وزائف، حسب رأيي. اعرف ان هذا القول سيصدم الكثيرين، فهو حكم قطعي بامتياز.
    الواقع ان هذا التقسيم الذي ثبت في الادبيات الماركسية السوفيتية اعتبر بمنزلة المقدس. المادية التاريخية (حسب هذا التقسيم): هي تعميم للمنهج المادي على التاريخ. اما التاريخ فهو، حسب المفهوم المتداول، قائم على تشكيلات متعاقبة: المشاعية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية، والاشتراكية.
    والاشتراكية العلمية: تنقسم بدورها الى الاقتصاد السياسي للرأسمالية، ثم الاقتصاد السياسي للاشتراكية، منمذجة في قوانين صارمة للانتقال، والتضاد، والتحول. والمادية الديالكتيكية – انها تقوم على اولوية المادة على الوعي، على شمولية التناقض الجدلي (الهيغلي)، وعلى ازواج من المقولات، المادة و الوعي، الجوهر والمظهر، الشكل والمحتوى، الكم والنوع، وهلمجرا.
    قلت ان هذا التصوير للماركسية كحقول ثلاثة – فلسفة تاريخ، فلسفة معرفة، ثم اقتصاد سياسي للرأسمالية والاشتراكية، قدم بوصفه كلا معرفيا مكتملا. وقد ثبته الباحثون السوفييت في اقانيم شكلية، ثابتة لا فكاك منها.
    الواقع ان هذا التقسيم (الثلاثي) مستمد من مقالة كتبها لينين (مصادر الماركسية الثلاثة) للموسوعة البريطانية Encyclopaedia Britannicaللتعريف بالماركسية. وهو مقال مكثف ومبسط، مطروح للقارئ العام. ويقصد به توضيح مجالات اهتمام ماركس، وحصرها، قدر الامكان، في حقول محددة. اما ان ماركس كان ماديا، فلا مراء في ذلك. واما ان ماركس طرح نظرة فلسفية للتاريخ. فلا مراء في ذلك ايضا. لكنه لم يكتب دراسة للتاريخ. ولم يكن مؤرخا، ولا فيلسوف تاريخ (سآتي على هذه النقطة مرارا). واما ان ماركس كان ماديا وجدليا، في نظرية المعرفة، فلا مراء في ذلك. لكنه لم يكتب ولم يبحث في فلسفة المعرفة. هناك بالطبع اطروحاته الشهيرة عن فيورباخ (ستة اسطر)، وتعليقاته الشهيرة حول ديالكتيك هيغل (بضعة مقاطع). اما كتاب انجلز (الرد على روهرنغ) و"ديالكتيك الطبيعة" فهما تلخيصان لكتابي هيغل: المنطق Die Logic (المترجم الى اللغات كلها – الانجليزية مثلا، والعربية ايضا). وللقسم الاول من كتاب هيغل: فينومينولوجيا الروح (او العقل) او "تجليات العقل"، ان شئنم. وقسمه المتعلق بالطبيعة. وان قراءة الاصل الهيغلي، تغني عن هذين (انتي دوهرنغ وديالكتيك الطبيعة)، بل تكشف عن محدودية قراءة انجلز
    قلت ان التقسيم الثلاثي المبسط، للماركسية، على انها "مادية تاريخية" و"مادية ديالكتيكية" و"اشتراكية علمية"، تقسيم مبسط، وان تحويله الى مذهب، او منظومة، كان احد منابع تقويض الماركسية، وثلم حدّها النقدي.
    النظرية الماركسية هي نظرية تحليل النظام الرأسمالي ونقده، ونظرية البحث عن الامكانات التاريخية لنقد وتجاوز الرأسمالية، بل ان هذا التحليل، انحصر، موضوعيا، في اوربا الغربية، وكرّس مادة ابحاثه للفترة من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر.
    بنى ماركس النموذج النظري للرأسمالية وتناقضاته، معتبرا اياه نموذجا كونيا (شاملا) رغم ان الرأسمالية لم تكن في زمانه سوى جزيرة صغيرة وسط محيطات هائلة من انتاج سلعي (حرفي) صغير، وانتاج كفاف، ومشاعيات. اما اليوم فان الانتاج الصغير وانتاج الكفاف، ليسا سوى جزيرة صغيرة في محيط الرأسمالية المتلاطم. وهنا مكمن عبقرية ماركس: بناء نموذج نظري لظاهرة تاريخية (تشكيلة اجماعية – اقتصادية) يستبق اكتمال ونضج هذه الظاهرة نفسها في الواقع.
    ان تحليل ونقد الرأسمالية، والبحث عن امكانات تجاوزها يقوم انطلاقا من تطور الرأسمالية ذاتها، تطور قواها المنتجة، وتطور مؤسساتها الاجتماعية والثقافية، كنظام عالمي (وليس كنظام محلي داخل دولة) حدا معينا من التطور يتعذر عليها، بعده، الاسنمرار.
    وبودي القول، هنا، ان مهمة نقد الرأسمالية، وتحليل اشكالها المتطورة، المتحولة باستمرار، والبحث عن سبل تجاوزها، مهمة راهنة. وهي اساس استمرار الماركسية ما بعد ماركس. ولكن كيف هي صورة الرأسمالية في النموذج النظري لماركس؟ او: ما هو هذا النموذج؟ ازعم ان الصورة النظرية التي نعرفها، اما مشوهة (النسخة السوفيتية الرسمية) او ناقصة، كما تركها لنا ماركس.
    لو عدنا الى خطط ماركس لكتابة "رأس المال" لوجدنا اجابة شافية، ومربكة. شافية لانها (اي الخطط) تقدم لنا البنية النظرية كما ارادها ماركس، ومربكة لأنها (أي الخطط) تكشف لنا ان ماركس لم يسعه، خلال حياته، انجاز هذا العمل النظري الجبار. وتركه مفتوحا. وهذا اروع جانب في نظرية ماركس، خلافا لرعب ستالين والستالينيين منه، حيث سعوا الى جعله مغلقا ناجزا، مكتملا، مكتفيا بذاته – على صورة الدكتاتور المغرور الذي يتصور نفسه مركز الكون، نهايته.
    لنعد الى الصورة النظرية للرأسمالية كما تصورها ماركس، في هيئة مخطط، وكما اراد عرضها.
    هناك عدة خطط لرأس المال، صيغت بين خمسينات وستينات القرن التاسع عشر. وقد استقرت اخيرا الى خطة رباعية (رغم ثلاثية هيغل!) وهي:
    اولا – رأس المال.
    (أ – الانتاج ب – التداول. ج – وحدة الاثنين. د – العمل المأجور. هـ - الملكية العقارية. و – تاريخ نظريات "رأس المال").
    ثانيا – الدولة.
    ثالثا – السوق العالمي.
    رابعا – التجارة الدولية.
    اذا تذكرنا هذا التقسيم الرباعي، وهو حجر الزاوية في فهم نظرية ماركس، لخلصنا الى نتيجتين: النتيجة الاولى (بخصوص ماركس نفسه)، انه انجز البند الاول من العمل النظري. فرأس المال بمجلداته الثلاثة يغطي الفقرات من (أ) الى (هـ). والمجلد الرابع (تاريخ نظريات فائض القيمة) يغطي الفقرة هـ.
    اما البنود ثانيا (الدولة) وثالثا (السوق العالمي) ورابعا (التجارة الدولية) فلم يقدم عنها سوى ملاحظات واشارات دقيقة ومذهلة (لما فيها من تنبؤات حول الشكل الدوري لنشوء الرأسمالية في بلدان زراعية، أي شكل انتشارها من بلد الى آخر)، لكنها ليست مبحوثة بذلك التقسيم العلمي الوارد في المجلدات الخاصة برأس المال.
    اما النتيجة الثانية المترتبة على ذلك فهي ان النظام الرأسمالي يقوم على اربعة عناصر مترابطة عضويا، هي الرأسمال، والدولة، والسوق العالمي، والتجارة الدولية. فمعمار العالم، كما اشادته الرأسمالية، هو رباعي المرتكزات. انها تشكيلة كونية.
    فالرأسمال، الذي ينمو في اطار قومي، يحتاج الى الدولة، ولا حياة له الا في ظلها وعبرها. وان جريان الاسواق، ونواظم التجارة الدولية، في الاطوار الاولى من الرأسمالية (ما تزال سارية الى حد كبير حتى اللحظة) غير ممكنة الا على اساس بناء الرأسمالية على شكل وحدات قومية (دول) تكون الحامل والناظم لنشاط الرأسمال وعلائقه، لكن حياة الرأسمال انما تكون خارج هذه الوحدات، ولا بقاء له واستمراره الا خارجها ايضا. لم يستطع ماركس دراسة هذه المنظومة الرباعية كلها. هذا اولا، وثانيا ان ما كتبه عن هذا الموضوع (البند الاول مثلا) لم ينشر كله حتى سبعينات القرن العشرين. فمثلا ان الجروندرسية Grundrisse، التي تعتبر المكمل الضروري لرأس المال، لم تنشر الا في الثلاثينات على نطاق محدود، ولم تدرس جيدا. كما ان ماركس ترك لنا مخطوطات 1863 ومخطوطات 1867 عن الرأسمال (نصف مليون ثم مليون كلمة على التوالي)، التي لم تدرس جيدا ايضا. وهذا يمعن في تعميق نقص اطلاعنا على النظرية الماركسية. ويا له من نقص فادح.
    قلت ان مارس درس الرأسمالية في موطنها الاساس بريطانيا، وليس المانيا، لان النمط الرأسمالي في هذه الاخيرة لم يكن متطورا بعد! ودرس الملكية العقارية (الريع العقاري) في روسيا، لانها قدمت له الظاهرة في شكلها الصافي. ولكن لا الرأسمالية توقفت، وما كان لها ان تتوقف، عند حدود حياة ماركس. ولا بقي المنهج الذي درس به الظاهرة (كأدوات تحليل واستبطان) على حاله. ماركس لا يعترف بالثبات. فالتغير هو الثابت الوحيد. ويصح هذا على الظواهر قيد الدرس، والمنهج (أداة الدرس) الذي يعاينها. ما بقي ثابتا هو ضرورة نقد الرأسمالية، المستمر، الدائم، المتغير (تبعا للظروف) والبحث عن امكانات تجاوزها انطلاقا من تطورها هي بالذات، لا من تمنيات مصلح او طوباوي.
    والحال ان نقد الرأسمالية اليوم، اما منكفئ (باستثناء هبرماس الالماني ونعوم تشومسكي الاميركي)، او يعيش على اوهام الماضي وتصوراته (هذا هو حال جلّ الاحزاب الشيوعية، التي فقدت الرؤية ولا تفعل سوى تكرار جمل عقيمة، من ترسانة اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين).
    * * *
    كتب ماركس اذن، او درس، التشكيلة الرأسمالية كما بدأت بالنشوء امام ناظريه، واستطاع ان يدرس، بامتلاء، ويقدم لنا العرض النظري، لركيزتها الاولى، الرأسمال. لكنه لم يكتب مجلده عن الدولة، ولا كتب مجلده عن السوق العالمي، ولا كتب عن التجارة الدولية. بتعبير آخر لم تسمح (امه الطبيعة) له بأن يكمل العمل. لكنه كان واعيا لبنية الرأسمالية كمعمار رباعي: رأسمال، دولة، سوق عالمية، تجارة دولية. ان كل مقولات ماركس، عن التشكيلة، عن البنية الفوقية والبنية التحتية، عن القوانين الاجتماعية بوصفها "ميولا" Tendenzien, tendencies عن البنية الاجتماعية، وكل ملاحظاته الوجيزة عن الدولة والسوق والتجارة الدولية، تنتمي الى هذا الحقل التاريخي المحدد (العهد الرأسمالي)، ولا تنتمي لغيره. غير ان المدرسة السوفيتية – الستالينية، مطتّه قسرا ليشمل التاريخ كله وليشمل كل التشكيلات، وليشمل كل الظواهر، وهو مط وشمول لا تجده الا عند البابوات المعصومين، او في النظم الدينية، الغيبية.
    واعود الى التقسيم الثلاثي التبسيطي الذي وضعه لينين لأجل القراء (او القارئ الوسطي) فأقول انه جرى تحويله الى قفص حبست فيه الماركسية، واضفى عليها ادعاءً شموليا مكتملا (ما ابعد ماركس عن ذلك بتواضعه العلمي المشهود!). ولينين نفسه اسهم في هذا بدرجة معينة. فمن جهة نجد لديه توكيدات قاطعة بأن الماركسية "مرشد" عمل، وانها مفتوحة على كل اتجاهات البحث، الى جانب توكيدات قاطعة بأن الماركسية علم كلي القدرة، وكلي الصحة! ليس ثمة علم كلي القدرة ولا كلي الصحة، خصوصا في المجال النظري الاجتماعي. كل ما لدينا هو فرضيات.
    هناك تقسيمات لفكر ماركس تخرج من الاطار الثاني (مادية تاريخية، مادية ديالكتيكية، اشتراكية علمية)، الى اطار اكثر تعددا (من ناحية المواضيع) واقل اتساعا (من ناحية المجال – أي قصر نقد ماركس على الحقبة الرأسمالية المعاصرة لا توسيعه على كل التاريخ، رغم اهمية ملاحظاته التاريخية).
    دعونا نعاين وجهات نظر ماركس في الصيغة التالية:
    1 – الماركسية والتاريخ.
    2 – الماركسية ونظرية المعرفة.
    3 – الماركسية والمجتمع (البنية الاجتماعية).
    4 - الماركسية والدولة.
    5 – الماركسية والاقتصاد.
    6 – الماركسية والقومية.
    7 – الماركسية والعولمة.
    من جديد ينبغي ان انبه الى ان هذه الحقول المتعددة (اوسع من التقسيم الثلاثي) مقصورة على التشكيلة الرأسمالية المعاصرة، فماركس هو منظّر تناقضات الرأسمالية وإمكان تجاوزها. كما ينبغي ان انبّه الى ان هذا التقسيم هو اقتراح جديد لمعاينة فكر ماركس من زوايا عدة، وتلمس مواطن قوته وبواطن ضعفه.
    سأتناول هذه الحقول منطلقا من قراءات عديدة انجزتها عقول ماركسية عملاقة في الغرب، استطاعت بفضل انفتاح حقل البحث دون قيود، ان تبتدع وتعمّق. وسيكون اساس التناول، كما هو حالنا دوما (أي كما يجب ان يكون)، هو:
    أ - ان نظرية ماركس لم تكتمل في حياته.
    ب - ان الظواهر التي درسها في تحول مستمر.
    ج - ان منهج دراسة الظواهر في تعمق مستمر بفضل الانجازات الجديدة في علوم المنهج.
    هذه الاسس الثلاثة تضع على عاتق الماركسيين مهمة عسيرة: استمرار الاطلاع على كل فرع معرفي جديد، او انجاز جديد في فرع معرفي قديم، ورصد حركته النقدية. وهي مهمة تضطلع بها اعداد هائلة من الباحثين، والممارسين من المختصين بالعمل النظري والفكري، والمختصين بالنشاط العملي في تظافرهم المشترك.
    لنأخذ الحقول الثمانية المذكورة اعلاه ونبدأ بـ:

    اولا – الماركسية والتاريخ

    ابتدأت هذا الحقل بعنوان "الماركسية والتاريخ" بدل "المادية التاريخية" عن قصد، حتى لا تضيع نظرة ماركس الحقيقية الى التاريخ او تفقد طابعها الفعلي.
    تقدم لنا الستالينية نظرة ماركس الى التاريخ على اساس لوحة ستالين الشهيرة لتسلسل: المشاعية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية، فالاشتراكية. كل تشكيلة مؤلفة من بنية فوقية وبنية تحتية، وطبقات (عدا المشاعية) وتتميز بصراع طبقي. وتصل كل تشكيلة بنمو القوى المنتجة الى نقطة لا تعود علاقات الانتاج تتلاءم معها، فتمزقها، لتنشأ تشكيلة جديدة.
    كما قلت سابقا ان مفاهيم البنية الفوقية، والتحتية، وتصادم القوى المنتجة بعلاقات الانتاج، ونشوء تشكيلة جديدة من رحم القديمة مفاهيم تختص في نظر ماركس بنمط الانتاج الرأسمالي، وبه وحده، وليست معممة على كل التاريخ.
    لقد كان ماركس على غرار هيغل يرى ان التاريخ البشري، كتاريخ واحد، تشترك فيه كل الحضارات، والشعوب، وان هذا التاريخ ينطوي على انماط تقسيم عمل: مشاعية، وعبودية، واقطاعية، ورأسمالية، وايضا شرقية (نمط الانتاج الآسيوي القديم).
    هذا التنميط العمومي (المختلف عن نظرية المراحل الخمسة) يراد به قول ما يلي:
    - وجود تطور ارتقائي في التاريخ البشري.
    - ان هذا التطور هو عملية عالمية واحد.
    - ان نمط الانتاج الرأسمالي هو ثمرة التطور السابق.
    - ان هذا النمط الاخير ظاهرة جديدة وليس قديمة قدم الانسان.
    اكتسب عرض ماركس للتاريخ شيئا من ملامح الغبش الصوفي للهيغلية، وبخاصة فكرة وجود غائية في التاريخ، أي كأن التاريخ هو ذات تعي نفسها. وهي فكرة انتقدها الماركسيون عموما، لأنها فكرة نافلة.
    انتقد الماركسيون اللوحة الخماسية (لوحة المراحل المتعاقبة) التي صيغت في عهد ستالين، واعتبرت بمثابة القفص الحديدي. لاحظ باحثون كثيرون ان النمط العبودي الذي نشأ في اليونان وروما لم ينشأ في بلدان اخرى، وان نمط الانتاج الاقطاعي لم ينشأ لا في اليونان ولا روما، بل في المناطاق الجرمانية (المانيا القديمة، فرنسا، الجزر البريطانية). ان الانتاج الرأسمالي فقد نشأ في بريطانيا وليس في اليونان.
    هذا النمط من التناثر لانماط الانتاج (وهي بالاساس انماط تقسيم عمل)، لا يضع رابطة سببية او تعاقبا سببيا بين نشوء العبودية والاقطاع، فالرأسمالية في اليونان او روما القديمة.هناك دوائر حضارية لم تعرف العبودية. واخرى لم تعرف الاقطاع. وبقيت اخرى مشاعية الى يومنا هذا (قبائل استراليا الاصلية قبل الغزو الاوربي). لقد ارادت نظرة ماركس الفلسفية الى التاريخ ان تؤكد على فكرة التطور والتناقض، وعلى الطابع المادي للتطور، الذي لم يكن مدروسا من قبل.
    لنأخذ الرأسمالية:
    لقد نشأت في اوربا الغربية (بريطانيا، فرنسا) بالتضاد مع الاقطاع، واقترنت بثورات سياسية حادة، بل دامية.
    في السويد، حصل الانتقال تدريجيا الى الرأسمالية وبتسويات، ومن دون ثورات. وفي اليابان تولت الميجي الاقطاعية بنفسها بناء الرأسمالية، لأن البوارج الرأسمالية من اميركا ارادت فتح اسواقها بقوة السلاح للتجارة، فاضطرت الى الانتقال من منطلق حماية النفس. الخلاصة اليابانية ان دولة اقطاعية تتولى الانتقال الى الرأسمالية وتخلق طبقة رأسمالية. هناك انماط لا حصر لها من الانتقال الى الرأسمالية لبقاع لم تشهد عبودية، ولا اقطاعا. هذا التنوع من التاريخ يسخر من أي محاولة لحبسه في ما يشبه جدول الضرب.
    الخلاصة ان نبذ فكرة اللوحة الخماسية، و(التشكيلات الستالينية) ومعها فكرة وجود انماط انتقال حديدية يفي ماركس حقه وينجيه من مغبة تعميمات لا شأن له بها. لأن ماركس طرح نظرة فلسفية عامة، هي مجرد اطار عام للنظر، وليس تحليلا مفصلا لكل وقائع التطور التاريخي.
    وكما قلت فان ماركس لم يكرس قلمه لدراسة تطور الحضارات رغم انه استشهد باحوال اليونان القديمة، ومصر القديمة، وحضارة الانكا والمايا. وان الدراسات المعاصرة عن هذه الحضارات، المتاحة لمن يريد ان يطلع، تقدم لنا استخلاصات مثيرة.
    عدا عن تثبيت مفهوم التطور العام، والطابع المادي (انتاج الحياة) لهذا التطور، اراد ماركس ان يشدد على تاريخية نمط الانتاج الرأسمالي ونبذ فكرة انه ازلي، ويشدد ايضا على عناصر اختلافه عما سبقه. ويلاحظ ان امكانات التطور في التاريخ تتخذ اشكالا عديدة:
    - تطور ارتقائي، تدريجي Evolution
    - تطور قطعي Rupture
    - تطور خطي (تراكمي – صاعد باتجاه واحد). (Lineal)
    - تطور دوري (ارتدادي ، ومتقدم في آن (Cyclical
    هناك ظاهرات في التاريخ تتسم بالتدرج الارتقائي، واخرى بتطور خطي، وثالثة بتطور دوري، ورابعة بتطور قطعي. وما ينطبق على نشوء وحركة الرأسمالية من اشكال تطور، ينطبق على اشكال تجاوزها المحتملة.
    لو طبقنا هذه المقولات على انماط الانتقال الرأسمالية او انماط التغير الاجتماعي، لوجدنا امثلة وفيرة، على انتقال هادئ، تدريجي من الاقطاع الى الرأسمالية، ولوجدنا اشكال انتقال قطعية، تخللتها حروب وثورات، ولوجدنا اشكال انتقال خطية، واخرى دورية، ارتدادية، وهكذا. ان هذا التنوع في انماط التطور يعني تعذر وضع وصفة واحدة للتاريخ، لمساره، واشكال تجليه.

    ثانيا: الماركسية ونظرية المعرفة

    مثلما اقترحت التخلي عن وهم وجود "مادية تاريخية"، واحلال فكرة وجود "نظرة ماركسية الى التاريخ"، اقترح ايضا التخلي عن وهم آخر هو وجو "مادية ديالكتيكية" كاملة، ناجزة، هي الشكل "الوحيد" والأرقى للمعرفة.
    تقوم المادية الديالكتيكية على عمودين، العمود الاول هو اولوية المادة على الوعي، وكون الوعي نفسه هو نتاج تطور شكل ارقى من المادة (الدماغ البشري)، والعمود الثاني، ان هناك "قوانين" للديالكتيك تنظم عمليات الطبيعة والمجتمع والفكر.
    ان فكرة اولوية الوعي على المادة او اولوية المادة على الوعي قديمة قدم الفلسفة، والنظرات الفلسفية الاولية السابقة لها. وان القول بأولوية المادة على الوعي قديم قدم المادية اليونانية نفسها، شأن الديالكتيك، ولنا الملاحظات التالية:
    أ – تقوم مادية القرن التاسع عشر، ونظرية المعرفة اللصيقة بها على ثنائية الذات والموضوع. الذات الواعية، والواقع الموضوعي، موضوع الوعي. هذه الثنائية هي موضع اعتراض منذ بداية القرن العشرين.
    فالوحدة الاولى للمعرفة ليست ثنوية (ذات وموضوع)، بل رباعية:
    ذات عارفة موضوع معرفة بتوسط اللغة كنظام اشارات لخزن المعرفة ونقلها، وذات اخرى تنقل لها المعرفة.









    نحن لا ندخل الى أي ميدان اجتماعي بدون توسط اللغة، والدماغ الخازن لاشارات المعرفة المكونة بدورها من نظام معقد (دال – مدلول، اشكال – اصوات – علامات... الخ).
    ب – ان نظم المعرفة حبيسة في نظم ثقافية (ثقافات قومية، ثقافات محلية، ثقافة عالمية متداخلة مع الثقافتين القومية والمحلية).
    ج – ان الدراسات اللغوية (من البنيوية الى ما بعد الحداثة) قدمت اكتشافات هامة انعزل عنها الماركسيون بالكامل تقريبا (اضطهاد باختين ابرز مفكر في هذا الباب داخل بلاده – روسيا)، من سوسير، اول بنيوي لغوي، الى نعوم تشومسكي احدث العباقرة في هذا الميدان.
    د – ان الفلسفة نفسها، التي كانت علم العلوم، تقلصت اليوم الى مجرد حقل صغير يعنى بعلم المعرفة (الابستمولوجيا)، ويشمل المنطق.
    هـ - ان علم المنهج Methodology الذي كان اختصاص الفلسفة وركنها الأعز، انفصل عنها، وبات لكل علم منهجه (مناهج علم الاجتماع، مناهج الاقتصاد، مناهج الانتروبولوجيا، مناهج الفيزياء وهلمجرا).
    و – ان منطق هيغل الذي لخصه انجلز في كتابيه (انتي دوهرنغ وديالكتيك الطبيعة) يقف متخلفا الآن عن انجازات العلوم الفلسفية وبخاصة في مباحث المعرفة، وان الزمن قد تجاوزه بشوط كبير.
    ز – ان علم المعرفة لم يكتف بالخروج عن أسر الفلسفة بل دخل ضمن املاك علم تشريح وفسلجة الدماغ، وعلم النفس.
    هل هناك حاجة الى نظرية معرفة خاصة، جامعة، مانعة، في هذا الباب؟ لا اظن. لأنه اولا لا توجد نظرية جامعة، مانعة، بل توجد فرضيات متوسعة وبحث متصل. ولأنه ثانيا تجري هذه البحوث في ميادين اختصاص لا قبل لفرد او حركة ان تلمّ بها.
    هل ننقطع عن الاطلاع على هذه الميادين؟ كلا. بل ان ما ألمّ بالماركسية من خور وتراجع يرجع في جانب منه الى انعزال القائمين على فكرها عن تيارات العصر الفكرية الكبرى: البنيوية، علم النفس، ما بعد البنيوية، التفكيكية، او عن مدارس ماركسية هامة مثل مدرسة فرانكفورت، او مدرسة تشومسكي السنديكالية.

    ثالثا: الماركسية والمجتمع

    درس ماركس بنية المجتمع الرأسمالي، انطلاقا من انجازات المؤرخين الفرنسيين عن الطبقات الاجتماعية، ومن كتابات غيرهم عن بنية "المجتمع المدني"، أي الرأسمالي، (مثل جروتيوس، ومونتسيكيو، وهيغل).
    اعتبر ماركس العلاقة بين العمل ورأس المال هي الجوهر البنيوي الذي ينبغي فهم كل العلائق الاجتماعية، في اطاره، وعلى اساسه.
    لم يأخذ ماركس اية امثلة من خارج اوربا، لأن الرأسمالية لم تتطور بعد خارجها. كما لم يأخذ جل امثلته الملموسة إلا من بريطانيا وفرنسا بشكل اساس.
    رسم ماركس في التجريد النظري طبقتين خالصتين هما الرأسمال = الرأسماليين من هنا، والعمل = العمال من هناك. وهذا التجريد ضروري لدراسة الظاهرة بشكلها النقي. لكن دراسات ماركس الاخرى، اشارت الى وجود طبقات اخرى: الفئات الوسطى (ما يسمى بالبرجوازية الصغيرة)، الفلاحون، الانتلجنسيا. كما ان الرأسماليين، عنده، ليسوا كتلة، نتذكر كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت" (او ثلاثيته الشهيرة في فرنسا) هناك رأسمال صناعي، ورأسمال مصرفي، ينميان مصالح عديدة. كما ان الطبقة العاملة ليست بالكتلة المتجانسة، الموحدة، ولا بالكتلة الجامدة.
    اعتبر ماركس الملكية او انعدامها اساس الموقع الطبقي. كما اعتبر المراتب الاجتماعية القديمة (الطبقات الاقطاعية) قائمة على معايير المكانة، الدين، الخ، المو########. ودرس اشكال الانتقال من البنى القديمة الى الجديدة. (مجتمعاتنا العربية في طور انتقالي من هذا الى ذاك).
    توقع ماركس اتجاهات (tendencies) عديدة بينها:
    1 – عملية الافقار المطلق ستؤدي الى تحويل جل الفئات الاجتماعية الى بروليتاريا، أي تحول الاخيرة الى غالبية الشعب.
    2 – ان تحطم الفئات الوسطى المتعلمة، سينقل للطبقة العاملة عناصر المعرفة.
    3 – ان نظام المصانع سيحول جيش العمل الى قوة منظمة، منضبطة.
    4 – تتحول طبقة العمال من طبقة في ذاتها الى طبقة لذاتها في عملية تطور الرأسمالية عينها.
    ما تزال المجتمعات الرأسمالية تواصل عمليات التمركز والتركز للثروة المجتمعية، وتعزز سطوة الرأسمال، غير ان تطور الطبقة العاملة لم يسر باتجاه الافقار المطلق. وأدت الثورات العلمية المتلاحقة، الى زيادة الانتاجية زيادة هائلة، وتحويل ثروات متزايدة (قوى عمل + وسائل انتاج) الى ميادين الخدمات (القطاع الثالث) والعسكرة (القطاع الرابع) وصناعة الثقافة (القطاع الخامس؟)، أدى حلول الآلات محل الجهد العضلي اولا، ثم الجهد الفكري للمنتج ثانيا، عبر الاتمتة، الى حصول اتجاهات جديدة في تطور البنية الاجتماعية:
    تقلص العمل اليدوي، تقلص الطبقة العاملة، اتساع الفئات الوسطى.
    ان توقع ماركس باتساع الطبقة العاملة ظل يتحقق منذ مطلع الرأسمالية (اواسط القرن السادس عشر) حتى منتصف القرن العشرين. بتعبير آخر ان "القوانين" التي رصدها ماركس عملت لفترة، وهي، كما قال ماركس "ميول" وليست قوانين، فالقوانين ثابتة لا تتغير، والميول تتعدل وتتحور.
    ولدينا الآن ظاهرة تقلص الطبقة العاملة في الدول الصناعية المستقرة، حيث نشأت الرأسمالية، وعدم تطورها بدرجة كافية في الدول النامية، حيث نقلت الرأسمالية. وهناك حالات وسطية ما تزال تشهد تحقق "ميول" المجتمع الرأسمالي كما رصدها ماركس في حياته.
    هذا الوضع بالطبع يعطي الثقل الاجتماعي للفئات الوسطى، وتترتب عليه استنتاجات كثيرة ذات طابع عملي، متروكة للممارسين.
    وبالطبع فان هذه الميول الجديدة ليست ازلية هي الاخرى. ولا يستطيع احد ان يعرف على وجه الدقة ما سيحصل للبنى الاجتماعية في حالة التوصل الى مجتمع مؤتمت، أي مسيّر بأجهزة آلية، ذاتية التنظيم والتفكير (على غرار نظم الكومبيوتر الفائقة)، وهل ان مثل هذا المجتمع يوصل احتدام العلاقة بين التملك الخاص للثروة، والطابع المجتمعي الشامل للانتاج، الى مدى اقصى، ويحل، في الوقت نفسه، مشكلة توفر المعلومات اللازمة لتنظيم المجتمع، او تسييره وفق خطة منظمة، بدل الفوضى الضاربة، مع ما يتطلبه ذلك من اعادة توزيع الثروة.

    رابعا – الماركسية والنظرية الاقتصادية

    يشكل هذا الحقل ألمع وأوسع وأغزر نتاجات ماركس، وتلاميذه، جيل كاوتسكي وبوخارين وهيرشفيلد ولينين، وسواهم.
    ينطوي هذاالحقل على عدة مجالات:
    1 – المجال الارأس، أي الجوهري، وهو ما حاولت الالماح اليه سابقا، يقوم في هذا: ان نمط الانتاج الرأسمالي، القائم على مبدأ الربح (استخلاص فائض القيمة – المطلق اولا، فالنسبي لاحقا) لا يستطيع العيش بدون توسع (اعادة الانتاج الموسعة)، التي تتطلب توسعا في الاسواق (القومية والعالمية)، ويتحقق عبر التجارة الدولية، بتوسط الدولة (في القرون الاولى) وخارج قيود هذا التوسط في عصر العولمة . يصف لنا ماركس في الجروندريسة Grundrisse وفي الاجزاء المجهولة من رأس المال . ان الرأسمالية تتوسع باطراد، وتخلق بتوسعها القيود والعقبات الخالقة للأزمة، وتحفزها الأزمة على ابتداع حلول وطرق جديدة، فتخرج منها الى توسع أكبر واشد عنفوانا، ويخلق التوسع الجديد قيودا وعقبات جديدة، تستثير بدورها محاولات تجاوز، وهكذا دواليك، حتى تصل الرأسمالية (كنظام عالمي) الى نقطة يتعذر بعدها تجاوز عقباتها هي، فتدق عندئذ ساعة النهاية. هذه هي رؤية ماركس.
    هذا النمط من التنبوء النظري يحيلنا الى السؤال الكبير الذي اثاره المؤرخ الماركسي بيتر جوان Peter Gran: ما هي الآماد الزمنية لمثل هذه العملية؟ قرن؟ قرنان؟ سبعة قرون؟ ويجيب: "نحن لا نعرف! لا ندري ان كنا في اواسط عمر التشكيلة الرأسمالية ام في اواخرها! وان القول بمرحلة اخيرة (عليا)، تخمين وحدس قد لا يصمدان امام الواقع."
    يواجه الماركسي الواعي المشكلة التالية: ان آماد تطور التشكيلة لا تحسب على غرار آماد حياة البشر. لكن الوعد الثوري بتجاوز التشكيلة الرأسمالية يواجه محنة المصالح المادية الآنية للحركات والطبقات الثورية، فهي تريد تحقيق انجازات، هنا، الآن، وليس انتظار وعد (قد يكون بنظرها مجرد يوتوبيا). هذا الاحتدام بين الآماد (المدة) الموضوعية للتطور، والآماد المحدودة للحياة البشرية يصح هنا على المفكرين، كما يصح على قادة الحركات وانصارها. هذا التضاد يدفع الى تفكير رغائبي، الى "تمنيات" بـ"قرب النهاية". لعل مثل هذا التضاد يقف وراء القول بأن "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" (قد تكون مرحلة وسيطة)، او يقف وراء قول ستالين بامكان بناء الاشتراكية خلال حياة جيل واحد (حياته هو)، او قول (زعم) خروتشوف بأن بناء الشيوعية سيكتمل في التسعينات (من القرن الماضي اثناء رئاسته طبعا).
    2 – وضع ماركس صورة (تنميط نظري او نمذجة) للرأسمالية الفردية كما نشأت في بريطانيا، وتنبأ بتحول ملامحها باتجاه الاحتكار. ووصف، معتمدا على الوقائع التاريخية وليس على الحدس، نموذجين لصعود نمط الانتاج الرأسمالي: صعود الحرفي الصغير، او صعود التاجر (أي اما من دائرة الانتاج، او دائرة التداول). ولو قيض لماركس ان يعيش حتى اواسط القرن العشرين، لوسع نموذجه الى عدة انماط:
    2 – أ – النمط الفردي/ الرأسمالية الفردية.
    2 – ب – رأسمالية الدولة.
    2 – ج – الرأسمالية القرابية.
    2 – د – خلائط او هجائن من أي اثنين، او حتى هذه الثلاثة.
    اذا كان نمط الرأسمالية الفردية مفهوما، فان رأسمالية الدولة انطلقت من البلدان التي جاءت الى الرأسمالية متأخرة بعض الشيء (المانيا، ثم روسيا)، وقد سخر انجلز من الاشتراكيين الالمان، الذين ظنوا ان "قطاع الدولة" هو "بناء اشتراكي". (راجع مقالته عن قضايا السكن وغيرها من الامور في المانيا).
    تكشف لنا رأسمالية الدولة والرأسمالية القرابية عن هجائن فرضها التطور (على شكل خطر عسكري من دول متطورة، او منافسة تجارية حادة). اما تطور الرأسمالية القرابية (اندونيسيا، السعودية، ودول اخرى) فيكشف لنا ان نقص المؤسسات الاجتماعية والقانونية الحامية للملكية، ونقص تطور المؤسسات المجتمعية الحديثة، يدفع باتجاه الاحتماء بشبكات القرابة (حتى على مستوى الحرفي الصغير).
    لهذه الانماط، او خلائطها تمايزات عديدة، ونتائج سياسية خطيرة. منها ان شكل رأسمالية الدولة لا يسمح بتطور المؤسسات الديمقراطية بل يعيقها، ويعيق بالتالي، تطور الرأسمالية نفسها في المدى البعيد. اما النمط القرابي فانه يضيف الى ذلك عوائق اخرى اجتماعية وثقافية.
    3 – درس ماركس المكونات القطاعية للرأسمالية على اساس ثنائي:
    القطاع الاول (انتاج وسائل المعيشة).
    القطاع الثاني (انتاج وسائل الانتاج).
    تطورت هذه البنية القطاعية في عدة اشكال تبعا لمستوى تطور القوى المنتجة. فكلما ازدادت القوة المنتجة تعاظما، قل العمل الضروري اللازم لانتاج وسائل المعيشة ووسائل الانتاج اللازمة لها. وزاد العمل الفائض المكرّس للحاجات الاخرى. ويلاحظ ان لدينا في الاقل ثلاث بنى قطاعية، حاليا:
    3 – أ – الرأسمالية المتطورة – تحركت على النحو التالي:






    بلغ التصنيع و الانتاجية الرأسمالية شأنا عظيما اليوم بحيث ان قطاع "صناعة الثقافة culture Industry" يستوعب اليوم 40% من قوى العمل في الولايات المتحدة مثلا.

    3 – ب – رأسمالية الدولة الاجتماعية (البلدان الاشتراكية):










    لم تستطع دول التجربة الاجتماعية الوصول الى قطاع خدمات متطور، او قطاع خامس اكثر تطورا. وبقيت عواصم مثل موسكو ووارشو، تفتقر الى جهاز استنساخ، او فاكس، حتى الثمانينات!

    3 – ج – رأسمالية الدولة الخليطة






    يفتقر هذا النموذج الى القطاع الثاني، الذي تقرر الانتاجية فيه مستوى تطوير ما يليه من قطاعات. كما يتميز بضعف القطاع الاول (انتاج وسائل المعيشة)، ولما كان الريع المستمد من الصناعات الاستخراجية (النفط) او بيع الخدمات السياسية والامنية والعسكرية للدول الغنية، عرضة للتقلب، فان التطور السريع لقطاع الخدمات يقف على رمال رخوة.
    الخلاصة: المكونات القطاعية في تغير وتحول مستمرين، وان هذه التحولات مقبلة على ثورة كبرى، في حال تعميم الاتمتة.
    4 – يتميز النظام الرأسمالي العالمي اليوم بتداخل واسع ومتشعب، يزج شعوب الارض قاطبة. ولم يعد هذا النظام معتمدا على دولة ضامنة (انجلترا في القرن التاسع عشر، واميركا حتى عام 1973، عام سقوط اتفاقية "بريتون وودز" الضامنة للمبادلات العالمية بالدولار).
    ويتسم الوضع الحالي بأن التأثيرات المتبادلة للانتاجات القومية (كوحدات مؤلفة للبنية الكلية) يخلق وضعا خارج سيطرة أي وحدة منفردة فيه، مما يدفع باتجاه العمل الجماعي (الاتحاد الاوربي، مجموعة السبعة – صارت ثمانية – الكبار).
    لاحظ مثلا التدخل الهائل لمعالجة الانهيار المالي في المكسيك (ضخ عشرات المليارات)، او معالجة الوضع الكوري الجنوبي (احد النمور الآسيوية)، او معالجة الوضع الاندونيسي. لقد ضخت الرأسمالية العالمية، عبر قنواتها الناظمة (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي) ما يقارب 200 مليار دولار لمعالجة أزمات ثلاثة بلدان ليست متطورة ولا اساسية في المنظومة.
    والاستنتاج الاولي، ان المنظومة الكونية للرأسمالية لا تستطيع العمل بصورة متسقة، سلسلة، خالية من الأزمات، الا بسير كل اجزائها سيرا "طبيعيا"! بتعبير آخر ان منابع الأزمة في الرأسمالية عممت على سائر مكونات المنظومة، بدرجات متفاوتة الشدة بالطبع. كما ان الجهد التدخلي التنظيمي بات اكبر وأوسع. ولكن ماذا سيحصل، ومن سيضخ لمن، اذا اندلعت الأزمة في اكثر من موقع، وفي آن واحد!
    بودي الاسترسال حول تحويرات بنية الانتاج (حلول الآلات محل العمل الفكري)، وتحويرات قانون القيمة الماركسي (الخاص بسلع الصناعات التحويلية) الى مظاهر جديدة لقوانين سلع صناعة الثقافة (دقيقة اعلان بخمسة ملايين جنيه، او سعر لاعب كرة قدم بـ55 مليون جنيه، او سعر صورة او صوت لمغن شهير... الخ).
    ان "موت" الماركسية "المعلن" سيثبت زيفه في اول أزمة واسعة، آتية. والغريب، كما تقول احدى الصحف الليبرالية البريطانية، ان "اتباع" ماركس، يهجرونه، اما المنظمون الرأسماليون فيعيدون اكتشافه! ويعلنون بدهشة: ان توقعات ماركس حول سيطرة الاقتصاد على السياسة صائبة، وتتحقق الآن امام ناظرينا، وان الأزمات المصاحبة للنمو، جزء من التكوين البنيوي للرأسمالية.
    هذه المفارقة مفهومة. فـ"الاتباع" يهجرون الماركسية بصيغتها الميتة، أي التي عرفوها ناقصة مشوهة، اما الرأسماليون فقد تحرروا من عقدة العداء لماركس، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وصاروا يرونه بتوازن اكبر. ما احوجنا الى ان نصاب بعدوى رؤيته بتوازن اكبر، ووضوح اشد.

    خامسا – الماركسية والدولة

    بعد الرأسمالية، او الرأسمال، تأتي الدولة في التسلسل التالي لمشروع دراسة ماركس، وهو المشروع الذي لم يتحقق، لسوء حظنا.
    شدد انجلز على الطابع القمعي كوظيفة اولى واساسية للدولة الحديثة في العهد الرأسمالي. وفعل ذلك بصورة مطلقة. كما شدد انجلز (كتاب اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) على ربط نشوء الدولة بالصراع الطبقي اساسا. وفعل ذلك صورة مطلقة.
    اما ماركس فانه قبل بهذا التحديد، ولكنه اضاف عليه ابعادا كثيرة منها: علاقة الدولة بالمجتمع المدني، علاقة الدولة بالطبقات، استقلال الطبقة السياسية (القائمة على اجهزة الدولة) استقلالا نسبيا عن الطبقات المالكة، التمايز البنيوي للدولة من حيث مؤسساتها. لكن ملاحظات ماركس، للأسف، لم تحظ بالاهتمام الكافي قبل ان يتحرك العقل الماركسي رالف ميليباند، الذي نبه الى هذه المسائل وغيرها.
    اوردت الدراسات الانتروبولوجية للحضارات القديمة، ان الدولة نشأت كجهاز حماية لدولة – المدينة (اثينا، روما، بابل، الانكا، الصين، مصر القديمة) ضد البوادي، أي ليس لقمع جزء اجتماعي داخلي، بل لصد جماعات خارجية. بتعبير آخر ان نشوء الدولة يرجع الى التضاد بين الشكل المستقر للمجتمعات البشرية (المحمية بالاسوار) والشكل المترحل (البدو بلغة العرب والبرابرة بلغة الاغريق)، كما يرجع، لاحقا، الى التضاد بين مراكز الحضارة نفسها. فلم يكن عبيد هذه المدن بحاجة الى ادوات لجم مادية، ذلك ان الدين والاعراف، وانغلاق الطبقات القديمة، وحرمة الاتصال فيما بينها، كانت جزءا من التقاليد والعبادات الكفيلة بالضبط المجتمعي. ولم تقم الدولة بوظيفة قمعية ضد العبيد إلا بعد فترة طويلة من نشوئها وتطورها، وبعد نقل العبيد من الانتاج المنزلي، الى الانتاج الزراعي والمنجمي. ولم يحصل هذا التحول إلا بعد قرابة 3 آلاف عام من نشوء دولة المدينة!
    اهمل الماركسيون ملاحظات ماركس عن الدولة كما اهملوا تحليل الدولة الحديثة من حيث:
    (1) انها ممثل لجماعة قومية محددة (الاهتمام بنشر الثقافة القومية، وتوحيد اللغة عبر اجهزة التعليم).
    (2) انها لبنة في المعمار الرأسمالي العالمي.
    (3) انها تتولى وظائف انتاجية وثقافية.
    (4) انها تمتاز بتكوين بنيوي متباين من حيث المؤسسات ودرجة تمايزها.
    (5) انها تحتاج دوما الى مصادر شرعية (الدين، الايديولوجيا، التعاقد الاجتماعي... الخ).
    (6) انها ذات علاقات متباينة بالمجتمع المدني... الخ.
    هذا التذكير مفيد لنبذ الفكرة التبسيطية عن الدولة الحديثة كنتاج للرأسمالية وحسب!
    فاذا كانت الرأسمالية واحدة، فما الذي يفسر لنا نشوء عدة اشكال من الدول داخل نمط الانتاج الرأسمالي، بل داخل بلد واحد، ولماذا تبرز دولة الملكية المطلقة، او دولة الملكية الليبرالية المقيدة، او الدولة البونابرتية، او الدولة الفاشية، او الدولة التقليدية القرابية، وهلمجرا كلها داخل التشكيلة الرأسمالية الواحدة.
    قلت في مبحث مطول (ماركس والدولة – النظرية الناقصة) ان ماركس ترك لنا الحقل فارغا، وان "هذا الحال يستثير تعاسة الدوغما بلا ريب، ولكن من أين نأتي لها باستقرار الاشياء وهنائه في عالم التنوع المناكد؟".
    اقول هذا لأننا بحاجة الى دراسة الدولة في عالم اليوم بوجه عام، ودراسة الدولة في عالمنا العربي، وفي العراق تحديدا، اضافة الى حشد من الدراسات التطبيقية. وبودي اقتراح عدد منها للاطلاع، وبخاصة ما يتعلق منها بالتطور الديمقراطي، المفتاح نحو مجتمع يدير صراعاته بصورة قانونية، مؤسساتية، سلمية، مع ادراكي ان هذا الافق بحاجة الى مدى تاريخي كامل كي يتحقق في بلد مثل العراق انحطت فيه الروابط المدنية الحديثة الى ادنى مستوى من السقوط.
    ان الديمقراطية الرأسمالية، هي الممهد التاريخي الحضاري، نحو أي افق ما بعد رأسمالي يمكن تخيله، ولا يشفع لنا ان العالم يتقدم الى ما بعدها.

    سادسا – الماركسية والقومية

    تعتبر الدولة القومية (nation – state) شكلا جديدا للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، ملازم للعهد الصناعي الرأسمالي. فالجماعات البشرية التي كانت تتحدد بالانتماء الى قبائل وعشائر، او دول مدينة، ومقسمة الى احياء وبيوتات واصناف، صارت تعيش في مجال واحد موحد، محدد سياسيا بالدولة المركزية ذات التخوم الجغرافية المثبتة، ومحدد ثقافيا باللغة (او مزيج الدين واللغة، او مزيج اللغة والعرق)، ومحدد اقتصاديا بالسوق القومي، ومحددا اجتماعيا بالمؤسسات المجتمعية.
    ان عمر هذا التنظيم الجديد للبناءات المجتمعة لا يزيد عن 3 قرون.
    اعتبر هذا الشكل الجديد (الدولة القومية)، في اطار الماركسية، بمثابة ثمرة للتطور الرأسمالي بما فيه من (أ) نظم اتصال مادية (سكك حديد، سفن بخارية وخطوط تلغراف) تسهل التبادل التجاري وتسند تقسيم العمل المتشعب. وبودي ان اضيف معمارين هما: (ب) نظم اتصال ثقافية: لغة موحدة، وسائل طباعة (صحيفة... الخ)، تشكل اداة التفاعل. (ج) نظم ادارة سياسة مركزية – جهاز اداري موحد، نظام قضائي موحد، جيش دائم... الخ.
    اعتبر ماركس تطور الدولة القومية نتاج عملية ارتقاء تطوري مديد، وانتقال من مستوى انتاج ما قبل رأسمالي الى رأسمالي حديث.
    ونلاحظ هنا ان اولى الدول القومية نشأت عفوا، أي بدون وجود "حركات قومية" او "ايديولوجية قومية". لكن دول الموجة الثانية قلبت التسلسل: ابتداء من حركات وايديولوجيا قومية، وصولا الى دولة قومية مركزية حديثة.
    لاحظ احد المفكرين ان ماركس، الذي امتاز بعين ثاقبة لكل ما هو جديد، طرح بديله الأممي (العالمية ما فوق القومية) في القرن التاسع عشر تحديدا، وهو قرن الموجة الثانية للقومية (المانيا، ايطاليا، ثم بولندا والشعوب السلافية لاحقا).
    ورث ماركس، شأن اوغست كونت، وسان سيمون، النظرة الارتقائية لمفكري اواخر القرن الثامن عشر، وهي النظرة القائلة بأن الدولة المركزية (= الدولة القومية) هي لحظة عابرة في التطور، وان تجاوزها الى رحاب العالمية (الاممية) ضرورة واتجاه محتوم للتطور.
    هذا الاستنتاج اغفل واقعة ان الرأسمالية اذ ترسي الاساس للعالمية، فانها انما ترسيه بتوسط الدولة القومية. وبالفعل فان التطور العالمي سار في اتجاه توطيد الدولة القومية على امتداد القرن التاسع عشر (بوتيرة بطيئة) ثم القرن العشرين، بوتيرة متسارعة، كان آخر موجاتها تفكك يوغسلافيا الى مكوناتها القومية، وقبلها تفكك باكستان (الى بنغلاديش وباكستان)، وتفكك جيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفييتي نفسه، الى مكوناته القومية.
    وبينما يحث التطور العالمي توطيد الأسس لتجاوز الاطار القومي (الاتحاد الاوربي)، فانه ما يزال يواصل بقايا العملية الاخرى: ونشوء دول قومية (فلسطين الآن، والاكراد مستقبلا).
    واليوم فان العالمية التي توقع لها ماركس ان تتحقق وتتجاوز الدولة القومية بسرعة (خلال حياته؟ ربما) خرجت من اطار الدولة القومية الى الكونية، أي اقتربت من النموذج النظري، الذي استبق الواقع. ماذا حصل للحركات الاشتراكية والشيوعية خلال هذه الفترة.
    1 – في الطور الاول (ماركس، روزا لوكسمبرغ، كاوتسكي، ولنين ايضا) – ازدراء النزعة القومية، واعتبار الدولة القومية لحظة عابرة، يتم تجاوزها بفضل الاممية التي ترسي الرأسمالية ركائزها المادية والثقافية.
    2 – في الطور الثاني (لينين – ستالين) قيام الحركات المنتصرة ببناء دول قومية، والاعتراف بها كلبنة من لبنات معمار العالم المعاصر، لبنة ضرورة باطلاق.
    لقد انحبست كل الحركات العمالية في اطرها القومية، الى حد التطابق.
    3 – واليوم، اذ تبدأ عملية الخروج من الأطر القومية الى العالمية (الكونية، العولمة) يقف اليسار مرتعبا من ذلك، متشبثا بالماضي، بعد ان عاش جل القرن العشرين داخل الاطار القديم، بتعبير آخر بينما يبرز اساس متين للأممية، تبقى اشكال الفكر والممارسة حبيسة الاقفاص المحلية.

    سابعا – الماركسية والعولمة

    ينبغي ابتداء التمييز بين العولمة globalization كعمليات موضوعية، ومذهب (او مذاهب) العولمة globalism، أي التفسير الايديولوجي لهذه العمليات، والبرامج السياسية المشتقة منها.
    ان اغلب الدراسات الجادة (الماركسية وسواها) يشير الى ان العولمة هو الاصطلاح الذي يطلق على كل العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تجري خارج سيطرة الدولة القومية بوصفها وحدة للتحكم، بعد ان كانت هذه العمليات تنطلق اساسا من الدولة القومية باعتبارها المرجع والاطار المقرر، أي أداة التحكم والفعل.
    ان قصر العولمة على الجانب الاقتصادي وحده (فتح الاسواق، اسواق السلع والمال، وفتح عمليات الاستثمار والتبادل بتجاوز أي سلطة سياسية قومية) هو قسر فكري، اختزالي وضار الى أبعد حد.
    ان نظم الاتصال عبر الاقمار الصناعية، وتدفق المعلومات، والتسخين الكوني، واوضاع البيئة، الفقر، الاوبئة، الانفجار السكاني، الجريمة المنظمة، الهجرة المتبادلة هي جزء من عمليات العولمة، شأن تدفق السلع والرساميل والخدمات، وايضا (بحدود مقيدة) حركة قوى العمل.
    وتنشط في العالم جملة هائلة من المؤسسات والآليات فوق القومية، من الأمم المتحدة، الى محكمة العدل الدولية، الى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومحكمة العدل الاوربية، مرورا بعشرات الآلاف من المنظمات الاجتماعية، والمعاهد والجامعات (بحدود ما هي مستقلة).
    تطرح العولمة كاطار موضوعي عام لتطور المجتمعات الحديثة باشكالها الرأسمالية المتنوعة، جملة تناقضات منها:
    أ – ان خروج هذه العمليات عن سيطرة الدولة القومية، يعطي للشركات العملاقة، باعتبارها قوى اقتصادية ناشطة، سلطة وسطوة فوق سلطة الدولة.
    وهذا يطرح الاشكال التالي من زاوية التطور الديمقراطي في العالم المتقدم (حيث الديمقراطية تحصيل حاصل): كيف يسع التكنوقراط، وهو غير منتخب وغير مخول ان يقرر ويحسم، في حين ان الطبقة السياسية المنتخبة بالاقتراع والمخولة، لا تستطيع ان تقرر وتحسم. من يحكم؟ هذا السؤال يستثير العقول ويحفز على الآتي: (1) تشكيل حكومة عالمية. (2) تشكيل مؤسسات فوق قومية جديدة، ذات طابع ديمقراطي. (بيان ستوكهولم).
    ب – اتجاه العلاقات الدولية نحو الفوضى الكاملة، بموازاة سعي الولايات المتحدة الى التصرف المنفرد، في الوقت الحاضر، وبموازاة نبتات كارتلات سياسية جديدة (صعود اوربا الموحدة).
    ج – احتدام التوتر الثقافي، نظرا لانحباس الثقافات في اطر ثلاثة: اطار قومي، (دولة)، ما دون قومي (جزء من بلد)، وما فوق قومي. ويحتدم الصراع بفضل ظاهرتين متعاكستين: (1) نشاط الثقافات المحلية في ازدياد. (2) وسائل الاتصال الالكترونية تفتح له المجال للانتشار ما وراء الاطار المحلي.
    د – ان تطور العولمة يذكي من ناحية انتشار قيم الديمقراطية، والعلم، والشفافية، وحرية المعلومات، ويدفع باتجاه الليبرالية السياسية (= الديمقراطية البرلمانية) من الوجهة الثقافية، لكن انفتاح الاسواق، وانفلات التطور الرأسمالي المفتوح، يستثير حركات احتجاج عارمة، تدفع النخب السياسية الى تشديد الاستبداد او انماط الحكم التسلطي.
    بتعبير آخر، ان الليبرالية الاقتصادية، وان كانت (بالمعنى التاريخي العام) الاساس الموضوعي لليبرالية السياسية، تعمل، في ظروف العالم النامي وسط ظروف العولمة، باتجاه كبت الليبرالية السياسية.
    هـ - اخيرا، ان الحركة المدومة للعولمة، تخلق، رغم نشرها للعلم والتكنولوجيا، حالة من انعدام اليقين تذكي النزعات الصوفية، والغيبية (وهذه احد منابع بروز الدين بقوة في حياة كثرة من البلدان المتقدمة والمتوسطة والمتخلفة – باستثناء اوربا الغربية).
    بتعبير آخر ان التقدم العلمي التكنولوجي، يذكي "تقدم" اشكال الفكر ما قبل العلمي. هذه بعض اوجه عمليات العولمة.
    هناك ثلاثة استجابات ايديولوجية عامة للعولمة، هي:
    1 – الاتجاه الليبرالي – الذي يحيي العولمة باعتبارها انتصارا للعقلانية، الرأسمالية، وانتصار الاقتصاد على السياسة، او فك حركة الرأسمال عن الدولة، كما دعا اليه أباء الليبرالية الكلاسيكيين (آدم سميث). وهو يدفع باتجاه الهجوم على نظم الرفاه الاجتماعي، وتأمين مناخ حرية كامل في ارجاء المعمورة.
    2 – الاتجاه القومي والماركسي المنغلق، الذي يعيش في الماضي، ويعارض العولمة، جملة وتفصيلا.
    3 – الاتجاه الماركسي النقدي، وايضا الليبرالي النقدي (سوروش، أتالي) الذي يدعو الى تطوير حكومة عالمية، واشكال لجم عالمية لحركة الاسواق، ومعارضة كل الاوجه السلبية لهذه الظاهرة، دون اغفال الطابع المزدوج للعولمة، وجوانبها الموضوعية.
    ان العمليات التاريخية في المرحلة الراهنة، وان كانت تتسم بموضوعية، فان حقل الموضوعية هذا ناجم عن الفعل البشري المنفتح في كل لحظة على امكانات متعددة، وخيارات. فالتاريخ، كما يقول ماركس، عملية من صنع البشر، وان كانوا يصنعونه في شروط معطاة ومنقولة من الماضي.


    لندن

    كتب بالاصل في 4 – 14 – أب 2000
                  

10-29-2005, 00:03 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    العراق: مصادر العنف ومآله


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1222 - 2005 / 6 / 8


    هناك رؤيتان لمصدر ومآل عنف ما بعد الحرب في العراق: الأولى تعتبره حركة عمادها حزب البعث المخلوع والسلفيون الجدد، هدفها إما العودة (البعث)، أو خوض حرب مقدسة شاملة تنتهي بانتصار الإسلام على الغرب (السلفيون). والثانية تعتبر العنف حركة وطنية، جامعة ومانعة سببها الأول والأخير الاحتلال، وبالتالي فهي منزهة عن أي غرض آخر.
    ويمكن لأصحاب كل رؤية ايراد وقائع تكون برهاناً على قولهم، في نقاش بلا نهاية.
    ويركّز بعض النقاشات على مخاطر الحرب الأهلية، معترفاً، برواية أو بغيرها، بوجود انقسام عريض في المجتمع العراقي، وهو انقسام لم يكن وليد اليوم بأية حال، إلا أنه احتدم في أعقاب الحرب. ذلك أن الحرب لم تسفر عن وقوع البلد تحت الاحتلال فحسب، بل انتهت الى تفكيك مؤسسات السلطة القديمة، وفتح الباب لنشوء مؤسسات جديدة، بقوى اجتماعية وسياسية جديدة، كانت إما مهمشة أو مقصاة. وهذان الجانبان من نتائج الغزو، أي تفكيك مؤسسات السلطة التوتاليتارية، وإعادة توزيع السلطة على القوى الاجتماعية المقصاة سابقاً، اكتسبا بالتدريج أهمية سياسية واجتماعية متنامية غدت، بصورة أو بأخرى، تتجاوز في أهميتها واقعة الحرب ذاتها عند معظم القوى الفاعلة. لا نعني بذلك أن واقعة الاحتلال لم تعد مريرة عند الفاعلين السياسيين، أو لم تعد واردة كهدف سياسي، فاستعادة السيادة العراقية كانت وستظل محركاً مهماً، إلا أن الخلاف يدور حول سبل الوصول إليها.
    إن تفكيك المؤسسات الحصرية القديمة، وبناء المؤسسات التشاركية الجديدة، فتح الباب لاقصاء السادة القدامى، مثلما فتح الباب لمشاركة المبعدين بالأمس. وهذا الانقلاب في الأدوار ينطوي على نتائج عميقة الغور. فتوزيع السلطة السياسية هو في العين ذاته توزيع للثروة الاجتماعية. ذلك أن الدولة العراقية مترعة بعوائد النفط، خلافاً للغرب حيث توزيع الثروة يقرر توسيع السلطة. هذا التحول هو في اساس انقسام المجتمع العراقي تيارين عريضين متضادين، تيار العنف، وتيار التحول التفاوضي. الأول يخفي مقاصده الخاصة وراء الشعارات الوطنية، والثاني يكشف عن مقاصده الخاصة من دون اعتبار لهذه الشعارات.
    وتوزيع السلطة، وتوزيع الثروة بالتبعية، هو أيضاً اساس التشظي العراقي الى هويات محلية، إتنية كانت أم طائفية، أم قبلية أو جهوية. فالثروة المجتمعية كانت حكراً على نخب ضيقة، أدت بسياساتها العصبوية الى حرمان الجنوب (عقاباً على انتفاضة 1991) وتحويل مدنه الى احياء صفيح مزرية، وحرمان كردستان حتى من الوقود. من هنا الاندفاع نحو الفيدرالية الاتنية (للكرد) رفعاً لحيف مديد عبر السعي الى تمثيل راسخ في السلطة المركزية، ومشاركة مكفولة في ريوع النفط، أو الاندفاع نحو الفيدرالية الإدارية (في البصرة والعمارة والناصرية) لدرء مخاطر وسوءات نظام إدارة شديد المركزية، يمنع تدفق الخدمات العامة الى الأطراف، ويحيل محافظات نفطية (كالبصرة) الى مدن من الأسمال والفاقة.
    لقد أدى تفكيك المؤسسات القديمة الى اشعال فتيل العنف، أو تسهيل اشعاله. فمثلاً، تفكيك مؤسسات العنف (الجيش، الأمن، الإعلام، المخابرات) أحدث فراغاً أمنياً، هبط فيه التناسب الأمني الى السكان من 34 لكل ألف الى 3 لكل ألف، دون توفر قوى دولية شرعية لحفظ السلام (على غرار ما حصل مثلاً في البوسنة أو مناطق أخرى). حصل ذلك في مجتمع فيه 4.5 مليون قطعة سلاح، وجيلان تشبعا بقيم العنف، وفوضى الانفتاح الفجائي لحرية الاحتجاج والحركة، علاوة على نحو ربع مليون سجين جنائي أطلق سراحهم، بينهم 30 ألفاً من عتاة المجرمين المنظمين في مافيات.
    وأدى التفكيك المتسرع (بدل التطهير التدريجي) لهذه المؤسسات الى اهانة فئات اجتماعية واسعة (نحو نصف مليون) وإلقائها في لجة الفاقة، رغم أنها كانت تتطلع الى إعادة التأهيل. واقترن الفراغ الأمني بفراغ سياسي ما كان لـ«سلطة الائتلاف الموقنة» (التي ترأسها بول بريمر) أن تسده، وسط مجتمع تجهل تضاريسه. وبات العراق بلا حكومة أهلية شرعية، وبلا وسائل قوة لإدارة البلاد. لا حكومة ولا جيش ولا قضاء. هذه وصفة مؤكدة للحرب الأهلية.
    اندلعت أولى بوادر الحرب في حزيران (يونيو) 2003 في الفلوجة، ثم استشرت في عموم المناطق السنّية، الأكثر تمثيلاً في المؤسسات المفككة. ثم تحول العنف من ضرب القوات المتعددة الجنسية كرمز للاحتلال، الى حملة عشوائية ضد كل ما هو أجنبي، من مقار الأمم المتحدة، الى المنظمات الإنسانية كالصليب الاحمر الدولي، أو وكالات الاغاثة.
    ومع بدء تشكيل نُوى الحكومة الأهلية (مجلس الحكم فالحكومة الموقتة) تحول العنف الى حملة لتعطيل الانتقال السياسي: ضرب المؤسسات الحكومية، تفجير منشآت النفط والكهرباء، في مسعى لشل العملية السياسية والنشاط الاقتصادي والخدمي. وبعد نقل السيادة ثم الانتخابات، حصل تحول جديد في استراتيجية العنف باتجاه التركيز على الرموز الدينية الشيعية والسنّية والمسيحية، بأمل إثارة حرب طائفية تكون مدخلاً لانهيار العملية السياسية بأسرها.
    غير أن هذين التحولين في استراتيجية العنف أوقعاه في مأزق مسدود. ذلك أن رفض العراقيين سلطة الائتلاف الموقتة كان يستهدف، عموماً، استعادة السيادة بالوسائل السلمية، عبر تحركات قاعدية سلمية، وعبر صناديق الاقتراع، ولا شأن له بعودة البعث المخلوع، أو اقامة نظام سلفي على غرار طالبان.
    والمفارقة أن العنف الساعي الى تعطيل عملية الانتقال السلمية، أسهم في دفع الولايات المتحدة الى التعجيل بنقل السيادة الى أيد عراقية، والى التعجيل بارساء الاساس الشرعي الوحيد لأية سلطة سياسية: الانتخابات. وإذ توجه العنف ذاته لتدمير عملية نقل السيادة، أو منع الانتخابات، بات العراقيون يرون فيه عموماً وسيلة انتقام تستهدفهم هم، مثلما تستهدف عملية التوزيع الجديد لمقاليد السلطة. وكان خروج 8.5 مليون ناخب أكبر تحدّ لمنظومات العنف، وهزيمة أخلاقية لها.
    وكانت أرقام الضحايا تزيد في اقناع جل العراقيين بهذا الموقف. فمجموع ضحايا العنف بين تموز (يوليو) 2003وأيلول (سبتمبر) 2004 زاد على 23 ألف قتيل وقع أغلبهم ضحايا العنف الأهلي، متفوقاً بذلك بمراحل على ضحايا العمليات العسكرية للمتعددة الجنسية.
    ويميل جل العراقيين اليوم الى استخدام كلمة «إرهاب» و«إرهابي» الغربية المنشأ لوصف القائمين بالعنف، بعد أن امتنعوا طويلاً عن قبول هذه المفردة. ولم يعد لكلمة المقاومة الوقع الذي كان لها قبل عامين. فخيوط الشرعية عبر التفويض (الانتخابات) ونمو الميل للانخراط في المؤسسات الأمنية الأهلية، مشفوعاً بتحسن كبير في أحوال الطبقات الوسطى وكسر الاحتكار الإعلامي العربي ـ الإيراني الداعم للعنف، تؤلف مادة صلبة لتجاوز مرحلة العنف. ولعل نجاح العملية الدستورية والانتخابات العامة المقبلة من شأنه دفع الأركان الرئيسية للعنف الى نقطة الانحدار. وثمة من الآن بوادر على أن الأغلبية الصامتة في مناطق العنف تخرج الى العلن، معترضة على توجيهه الى العراقيين، أو رافضة المساس بالمنشآت العراقية. فالعنف لن ينتهي بين عشية وضحاياها، لكن مستقبله مسدود.
                  

10-29-2005, 00:05 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    نحن والغرب من إدوارد سعيد إلى محمد عبده


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1221 - 2005 / 6 / 7


    في هذا العام يمر قرن كامل على رحيل مفكر جبار هو الشيخ محمد عبده. وقبل عامين رحل عنا مفكر آخر هو ادوارد سعيد. المفتي والمصلح الاسلامي، محمد عبده، هو ابن الفلاح المصري الذي اقتحم دارة الفكر الشرقي بقوة النقد والتجديد. والفتى المقدسي، ادوارد سعيد، اقتحم دائرة الفكر الغربي ناقداً ومتجاوزاً. والى ما بين الاثنين من بون شاسع في المنهج، والثقافة، والمنابع، والأصول، ثمة فكرة جوهرية مشتركة تجمع بينهما: نحن والغرب.
    وهذه الـ«نحن»، عند الاثنين، هي الشرق بمجمله، آخر الغرب، نقيضه وغريمه، شريكه وضحيته، هذه الموضوعة المشتركة تشي، لمن يريد تسمية الاسماء بإسمها، بأننا ندور منذ قرن حول ذواتنا (البائسة)، مثل دابة الناعور، تمضي في حلقة متصلة بلا سير الى أمام. كما ان هذه الموضوعة المشتركة تفيد اننا عجزنا عن حل المشكلة الاساسية، وعجزنا عن صياغة أجوبة مطلوبة منذ قرن.
    كان موت إدوارد سعيد ترميزاً لحال شرق عربي. بقي سنوات وهو يصارع ذلك الغول اللامسمى، منتظراً ان يغيب في الثرى، حيث اللامبالاة المطبقة بكل جمال الكائن البشري وثراء عقله.
    أذكر انني رأيته أول مرة في محاضرة في لندن (1990) جامحاً يندفع بعقله في هوى عاطفة مشبوبة. وتساءلت كيف يتأتى له ان يفك عقله من أسر الهوى؟ ورأيته آخر مرة بعد عقد ونيف في نيويورك، في محاضرة اخرى، بصحبة المفكر الاميركي نعوم تشومسكي، مندفعاً بهواه في تلمس المعقول، وتساءلت كيف يمكن له ان يطلق عقله في هذا الهوى الآسر.
    اليوم تسربلت حياته بالأبد. لم تعد ثمة استئنافات، ولا مصالحات. بات ذلك النكد المشاكس من شأننا نحن الاحياء، ان ننظر في ارثه، وان نرى الى هذا الأرث، الملتبس عند جل قرائه العرب.
    لا أفكر في ادوارد سعيد فرداً حسياً، معيناً بمزاج، بل أعاينه كاتباً متأملاً في ما يكتب.
    ثمة قرن يفصل سعيد عن محمد عبده، مع ذلك يؤلف الرجلان حلقة في فصل واحد، من كتاب واحد: نحن والغرب.
    يسلك عبده (وأقول: يسلك بصيغة المضارع امعاناً في طلب حضوره) طريقاً وعرة عبوراً من علم الكلام المعتزلي والفقه الكلاسيكي الى الفكر الارتقائي الغربي. وبهذا العبور دشن حركة نقد ذاتي للعالم الشرقي بأسره. ثمة من يتهمه بأنه رأى الى الشرق بعين الغرب. وبودي ان اصحح هذا الزلل. كان لقاء عبده بالفكر الغربي لحظة تصادم محفز، اكتشاف هول التخلف المشرقي، وادراك وجوب فحصه. ارتد عبده الى الفكر الاسلامي يسائله ويستنطقه من داخل. وحين أعمل مبضع النقد في عقيدة الجبر، كان يستجمع كل التراث العقلاني الذي سبقه، من المعتزلة الى اخوان الصفا. وادرك بحس تاريخي أن لا منفذ إلا باختراق جمود الاكليروس.
    تحمل نتاجات عبده، في «رسالة التوحيد»، كما تحمل مقالاته في «العروة الوثقى»، أعباء التجديد الفكري والسياسي. في الفكر ثمة اعلاء لشأن العقل. وفي السياسة ثمة سعي لإنزال أمور الحكم والحاكم الى مرتبة شأن دنيوي عادي (نزعت عنه أردية القداسة الزائفة) وإرساء مؤسسات الليبرالية السياسية. في المقابل، سيرحل ادوارد سعيد مثل سندباد باطني في جوف الغرب نفسه ليبدأ حركة نقد للغرب عينه ولطريقته في رؤية الشرق.
    استعار سعيد من الفيلسوف الفرنسي فوكو، معماراً نقدياً خاصاً كيما يصحح الرؤية التي لا تزال ملتبسة بين الشرق والغرب. يقوم هذا المعمار على توأمين من الثنائيات، هما الخطاب - المؤسسة، والمعرفة - السلطة. تحدى الفيلسوف الفرنسي فكرة ان الخطاب (كبناء فكري من مقولات ومفاهيم) هو محض بناءات موضوعية (حقيقية، مطابقة للواقع، علمية الخ)، ورآه جزءاً من تقنيات السيطرة الاجتماعية. وبالتالي، ليس الخطاب «علمياً» خالصاً. فهو، كما رأى، نتاج مؤسسات: فالمصحات العقلية، وكليات الطب، تنتج خطاباً عن الجنون، وبفضل هذا الخطاب تتوافر هذه المؤسسات على «سلطة» يفرضها المجتمع فرضاً على موجوداته. فخبراء العقل، الاصحاء عقلياً، هم الناطقون باسم الجنون الصامت عن حقيقته. وما يصح على الجنون يصح على ميادين اخرى.
    المؤسسة، في هذا، تنتج معرفة وسلطة تنتشر في كل الفضاء الاجتماعي.
    ان استعارة ادوارد سعيد لم تكن نقلاً حرفياً، بل تطويراً للفكرة الفوكوية. اذ نقل سعيد الدراسة الى ميدان مؤسسات التعليم المنتجة للخطاب عن الشرق، لكشف خبايا البعد الجديد للمعرفة كأداة للسلطة (أو القوة). ظن العرب (على كثرة ما عندنا من ظنون) هذا المسلك النقدي دفاعاً عن كل رزايا الشرق وضحالته ونكوصه. ولم يروا فيه إمكاناته الاخرى: نقد منهج الرؤية العقلي في الغرب، واستبطان لهذا النقد الغربي، باعتماد أدواته، لأن الشرق بكل بساطة يفتقر الى مثل هذه الرؤية لنفسه، أو لآخره. وكان نتاج سعيد ايضاً إشهاراً لكونية المناهج العلمية قبولاً أو نقداً.
    رحل ادوارد سعيد من دون ان يحدد ماهية الشرق في نظره، لكنه أومأ الى صورته المغلوطة. لم يدوّن كلمة واحدة تفيد الدفاع عن ديكتاتوريات الشرق، وأصولياته، أو نكوصه الحلمي الى أمجاد تليدة، أو عيشه في ماض سعيد، ساد ثم باد.
    رحل ادوارد سعيد من دون ان يعمل على تصحيح هذا الالتباس بدقة (فعل ذلك في بعض المقابلات الخاصة التي لم تنتشر على نطاق واسع). ولعله صحح واحداً من التباساته مع المثقفين العراقيين، وانا واحد ممن التمسوه ان يفعل ذلك. كان نقده اللاذع للسياسات الاميركية تجاه العراق يفتقد الإشارة الواضحة للبعد الداخلي: الواقع المروّع الذي ساده النظام الشمولي البعثي. اشار مرة اشارة عابرة الى وجوب استقالة الرئيس العراقي، الممسك بمهاميز السلطة بظفره ونابه. وقبل أشهر على غزو العراق، وضع سعيد توقيعه على بيان لمثقفين عرب يطالب الرئيس العراقي المخلوع بالرحيل. كانت تلك لمسة حنان للمثقف العراقي الجريح، ولحظة جرأة في معارضة القطيع.
    سنفتقد هنا العقل النقاد بلا ريب، وسنفتقد معلماً أفادنا بدروس كثيرة، ابرزها ان يحتفظ المثقف بمسافة نقدية عن أروقة السلطة، وان يُعمل مبضعه النقدي غير هياب بـ«الاجماع». فالخروج على «الاجماع» هو جوهر العقل. وجمال العقل في تنوعه وعناده. وما للعقلانية ان تترسخ الا بالإصرار على تعدد التمثلات، فهذا هو الترياق الوحيد للشفاء من طرق التفكير المبتذلة، السائدة في عالمنا العربي الشقي. تلك هي رسالة محمد عبده قبل قرن، ورسالة سعيد الآن.
                  

10-29-2005, 00:09 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    المؤسسات الاجتماعية والمجتمع المدني في العراق


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1261 - 2005 / 7 / 20


    (موجز ورقة بحث)

    مقدمة

    ثمة فهم شائع وشائه للمجتمع المدني يقوم على حصره في "المنظمات الطوعية"، وهو فهم يضرب جذوره في المدرسة الأميركية التي ورثت هذه الرؤية عن أليكسي دي توكفيل صاحب كتاب "الديمقراطية في أميركا". والعالم العربي يتداول هذا الفهم دون أية مساءلة نقدية، ويفشل، بالتالي، في إرساء قواعد للمجتمع المدني، متينة وفاعلة.

    فهمنا للمجتمع المدني يعتمد على أربعة أركان، هي تباعاً:

    1- هو المجتمع التجاري، الذي يستقل فيه الاقتصاد، أو إنتاج الثروة عن الدولة بوصفها جهازاً للحكم، أي انفصال الاقتصاد عن السياسة (آدم سميث - ثروة الأمم)، غير أن هذا المجال الاجتماعي المستقل ليس جنة التصالح بل هو مجال مصالح متعارضة (هيجل - فلسفة الحق، ماركس - نقد فلسفة الحق).

    2- المجتمع المدني يتمثَل أيضاً في المؤسسات الوسيطة التي تقف بين الفرد والدولة، وتتولى سلطات محدودة، تؤدي إلى نشر السلطة لا مركزتها، وإلى حماية الفرد من جبروت الدولة المركزية (مونتسيكيو - روح الشرائع).

    3- المجتمع المدني يتمثل أيضاً في الاتحادات الاجتماعية الطوعية، غير القرابية non-primordial. وإن نشوءها مرهون بوجود المؤسسات المذكورة فــي (1) و (2)، ولا يمكن لها أن تقوم في فراغ (إليكسيس دي توكفيل - الديمقراطية في أميركا).

    4- أخيراً، هناك بعد رابع للمجتمع المدني هو نشوء مجـال عام (public sphere) لتداول المعلومات غير المحتكرة سلعياً، تسمح بنشر آراء متعددة وتدقيقها، ونشر الشفافية (المدرسة الألمانية - أدورنو-هابرماس).

    هذه أوجه مركبة، متداخلة للمجتمع المدني، نتخذها معياراً للقياس والتحليل والاستدلال.

    الحقل الأول: المجتمع المدني في العراق

    تطورت نبتات المجتمع المدني الحديث في العـراق منذ إصلاحات مدحـت بـاشـا (1872)، وتواصلت في العهد الملكي (1921-195، بوتيرة متسارعة. وكانت في الواقع عملية تحديث لمجتمع زراعي انتقل من أشكال التنظيم القرابية التقليدية، كالقبائل والعشائر، وبيوتات الأشراف والأعيان، والأصناف الحرفية، إلى مجتمع يعتمد معايير الثروة والتعليم الحديث، من دون أن يفقد ماضيه التقليدي بالمرة. فهو مجتمع انتقالي، تتجاور فيه الطبقات الحديثة، مع الفئات التقليدية، وتقع بين الاثنتين فئات وسيطة تحمل شيئا من هذا وذاك. ترعرعت طبقة من التجار والصناعيين والمصرفيين والمقاولين في قطاع خاص، على أساس اقتصاد السوق، وباتت قوة مجتمعية يحسب لها حساب. كما نشأت، قبلها، طبقة قوية من كبار ملاك الأرض.

    وأدت عمليات التحديث، أيضا، إلى نشوء طبقات وسطى تعتمد بالأساس التعليم الحديث، مثلما تعتمد على الملكية ورأس المال في جانب.

    وتبلورت طبقات عاملة في الصناعات الحديثة، وطبقة فلاحية معدمة في الأرياف. بإزاء نشوء الثروة الاجتماعية كمجال مستقل نسبياً، نمت أيضا اتحادات وجمعيات وحركات اجتماعية، تعبر عن هذه المصالح، وتذوِد عنها، ضاغطة على المجال السياسي. وبموازاة ذلك أيضاً، ازدهرت بشكل نسبي صحافة ومجال معلوماتي غير حكومي.

    عملية التطور هذه انقطعت في حقبة الحكم العسكري "الثوري" (1958-196، وتشوهت تماماً في حقبة الحكم الشمولي (1968-2003).

    الحقل الثاني: تفكيك وابتلاع المجتمع المدني

    جرى تفكيك المجتمع المدني بقواه ومنظماته، تباعاً، بدفع من ميول تنموية أو اشتراكية تتمركز حول الدولة كفاعل رئيسي في عملية التحديث.

    فأولا جرى إضعاف مؤسسة الملكية الخاصة بتحولات ابتدأت بالإصلاحات الزراعية التي قوضت الملكية العقارية الكبيرة، ومرت بتأميمات الرأسمال الخاص (1959 و 1964 تباعاً). بموازاة ذلك، توسع دور الدولة كمالك ومنتج اقتصادي، تعويضاً عن ضعف الرأسمال الأهلي، من جانب، ومسخاً له من جانب آخر. وبذلك حذفت قوة اجتماعية، هي نواة انفصال واستقلال المجال السياسي عن الاقتصادي.

    الواقع أن زحف الدولة على مجالات المجتمع المدني، اتخذ أبعاداً قصوى في العهد الشمولي (1968-2003). فهذه الدولة الشرهة، بسطَت سيطرتها على الحياة الاقتصادية، مالكاً ومنتجاً. وكان نشوء الاقتصاد الأوامري أحد تجلياتها. وقد تحقق لها ذلك بفضل الفورة النفطية.

    وعززت الريعية النفطية قدرة الدولة على امتلاك موارد هائلة مستقلة عن المجتمع، والقدرة على رشوة فئات اجتماعية واسعة، بل أمكن لها إعادة هيكلة طبقات رجال الأعمال المهمَشة، وحذف عناصر منها على أساس ديني أو جهوي أو إثني. وتمكنت من خلق مزيج من رأسمالية قرابية (أقرباء النخب الحاكمة) ورأسمالية خاضعة (crony)، فقدت مبادراتها السياسية، واعتمدت على الدولة كزبون، ومانح للعقود.

    وأمكن لهذه الدولة، بفضل ريوع النفط، من أن توسع الطبقات الوسطى المعتمدة على الراتب، وأن تحقق لها ازدهاراً بيناً، في جانب، وأن تخضع جل هذه الطبقات لإيديولوجيا الدولة.

    وفي هذا المجال ابتلعت الدولة أو أزالت كل الاتحادات الطوعية للطبقات الوسطى والعاملة، وألحقتها بنظام الحزب الواحد.

    أخيراً، هيمنت الدولة الشمولية على مجال إنتاج وتوزيع الثقافة، بما في ذلك وسائل المعلومات والتدخل حتى في لغة التخاطب والاتصال.

    هذا الإفراغ المستمر لكل مؤسسات المجتمع المدني جرى في ظل نظام شمولي تندمج فيه السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في هيئة عليا (مجلس قيادة الثورة)، مما أسبغ على السلطة، في البدء، طابعاً شديد التمركز، ثم أسبغ عليها طابعاً فردياً.

    الحقل الثالث: الأزمة وعواقبها

    لا نغالي إذا قلنا أن الريوع النفطية ساعدت في بناء وإرساء النموذج الشمولي، وأمدته بالوسائل اللازمة لانتصار الدولة على المجتمع المدني وتفكيكها إياه. غير أن الحرب العراقية - الإيرانية، أضعفت، بالتضافر مع انهيار أسعار النفط، هذه القدرات الهائلة للدولة الشمولية، فقلَصت إمكاناتها على تمويل الضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية، كما أرغمها على البدء بإصلاح إداري، ثم فك جزئي للاقتصاد الأوامري (command economy) ولم تعد بقادرة على إدامة أجهزة عسكرية وأمنية ضخمة (جيش بنحو نصف مليون، وأجهزة أمنية بنحو ربع مليون، وجهاز إداري يناهز المليون). إن الريعية النفطية قوة عاتية بمعنيين: ثروة مجتمعية قابلة للإسهام في التنمية، وقوة قمعية قادرة على بسط جبروت النخبة الحاكمة. وقد قامت فعلاً بهذين الدورين معاً.

    غير أن الأزمة التي احتدمت في أعقاب الحرب العراقية - الإيرانية، ثم في أعقاب حرب الخليج 90-1991، والحصار العاتي، أدَت إلى نشوء وضع فريد: دولة شمولية ضعيفة، ومجتمع مدني منهك، بل محروم من مؤسساته.

    في هذا الوضع من الفراغ النسبي، نمت شبكات القرابة، وأشكال التنظيم القبلي، لتسدّ مسدّ مجتمع مدني مغيَب. وبرزت شبكات التضامن المحلي في صورة إعادة تنظيم للدين الشعبي حول الجوامع والشخصيات الدينية.

    قامت هذه الشبكات، التي شجعتها الدولة، على ملء الفراغ وتقديم خدمات الأمن (الحماية الذاتية)، والقضاء القائم على الأعراف (بعد انهيار أجهزة القضاء والشرطة)، علاوة على التعاضد الاجتماعي (إسعاف الفقراء، الأيتام، العاطلين الخ...).

    ارتبطت هذه المؤسسات التقليدية بإحياء القبائل، وهي جزئية تقوم على فكرة الانتساب بالدم (أيديولوجيا النسب) لا على فكرة المواطن، وبات شيخ القبيلة شخصية اجتماعية بارزة من جديد، بعد أن كاد النسيان يطويها في بلد كان يعدّ، منذ القرن التاسع عشر، مقبرة القبائل.

    وارتبطت المؤسسات التقليدية أيضاً بالشيوخ الدينيين وأئمة الجوامع والمجتهدين (الشيعة)، وهي أيضاً تقوم على الروابط المحلية، والدينية، وتقترن بنشر رؤى اجتماعية - سياسية ذات منحى أصولي في بعض الأحيان (كالوهابية والخمينية).

    لم تعد الدولة الشمولية راعياً اجتماعياً بعد أن قامت بـ تتجير commercialization الخدمات الصحية والتعليمية، ولم تعد منتجاً رئيسياً، لكنها بقيت محتفظة بأجهزة العنف المشروع، متقاسمة السلطة مع القوى ما قبل الحديثة التي أطلقتها.

    لقد تحرَر المجتمع، جزئياً، من سيطرة دولة ميَالة إلى الاحتكار المطلق، لكن أفراده بقوا بلا مؤسسات مدنية.

    لقد نمت طبقة رجال أعمال عليا، نمواً واضحاً. فعدد أصحاب المليون (ممن توفروا على إيراد يناهز المليون خاضع لضريبة الدخل) بلغ مثلاً 54 في نهاية العهد الملكي، ليرتفع إلى نحو 800 عام 1980، وإلى نحو 3000 بنهاية الحرب العراقية-الإيرانية (198.

    غير أن هذه الطبقات بقيت مفككة قطاعياً، وبقيت منقسمة إلى جماعات قديمة وحديثة، ذات ارتباط قرابى بالنخب الحاكمة، أو ارتباط بأجهزة المخابرات (ما يسمى بـ رأسمالية العباءة والخنجر). أما الطبقات الوسطى التي نمت من 28% عام 1958 إلى 34% عام 1968، فقد بلغت 54% من سكان المدن (عام 1990).

    غير أن هذه الطبقات فقدت مكانتها، وانهارت أجزاؤها المعتمدة على الراتب انهياراً مدوياً خلال عقد التسعينات، وباتت ركاماً من فئات مهمَشة.

    ولعل طبقة المهمشين الحضر التي بلغت 8% في عز الفورة النفطية في السبعينات، قد توسعت الآن توسعاً هائلاً.

    خرج المجتمع المدني من الحرب الاخيرة، إذاً، فاقداً للمؤسسات والروابط الحديثة، فاقداً لثقافته الحضرية-العلمية، منغمساً في شبكة الروابط القبلية-الأسرية والدينية الأصولية، مشبعاً بقيم العنف، بعد ثلاث حروب عاتية.

    لا نغالي إذا قلنا، أن بناء المجتمع المدني، مجدداً، سيبدأ مما يقرب من الصفر، في ظروف احتلال أجنبي لا يحظى بأي سند داخلي، بل تشتبك معه جل القوى المجتمعية في صراع سياسي مدني وسلمي لانتزاع الاستقلال الوطني.

    أخيراً

    إن المؤسسات التقليدية الحالية تقوم مقام مجتمع مدني مغيَب، وإن بقاءها أو تراجعها رهن بمدى النجاح في إرساء هياكل سلطة وطنية، وإعادة تأهيل مؤسسات المجتمع المدني، بأوجهها الأربعة: مؤسسة الملكية الخاصة المنفصلة عن الدولة، والمؤسسات الوسيطة والاتحادات الطوعية، ومجال المعلومات العام، المفتوح والشفاف.

    ولن يتحقق مثل هذا البناء من دون قاعدته الأرأس: تحويل إنتاج الثروة إلى مجال اجتماعي مستقل عن الدولة، وبخاصة تحويل الريعية النفطية إلى ثروة بناء اجتماعي لا قوة قمع دولتية.
                  

10-29-2005, 00:12 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    الأفندية والملائية بين قرنين


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1224 - 2005 / 6 / 10


    يكره رجال الدين كلمة «العلمانية»، مثلما يبغض المدنيون فكرة الدولة «الدينية».
    في نظر الأوائل، العلمانية رديف للكفر، أو في الاقل، رمز لاخضاع المقدس الى سطوة الحاكم الدنيوي. وفي نظر الثانين، الدولةالدينية هي رديف لاستبداد الاكليروس. هذا التنافي المتبادل بين العلمانية والمقدس ليس مجرد تضاد بين طريقتين في التفكير، بل هو أحد تجليات صراع جد قديم بين صنفين من منتجي المعرفة: الفقيه والفيلسوف. كانت المدرسة الدينية، التي نشأت في حاضنة الفقه فكراً، وفي أسوار الجامع فضاء، أول مؤسسة نظامية لانتاج وحفظ ونقل المعرفة. وكانت المدرسة الدينية، منذ نشأتها في النجف على يد الامام الطوسي، وفي الازهر على يد الفاطميين، وفي بغداد على يد الوزير السلجوقي نظام الملك، ترتبط بتقسيم العمل التقليدي في مجتمع زراعي ـ حرفي بسيط. خريجو هذه المدارس كانوا يتجهون الى القضاء، او الوعظ ائمة صلاة او التدريس او تولي الحسبة في الاسواق او الافتاء.
    وكانت المعرفة (اي العلم) تعني شيئاً واحداً عصر ذاك: علوم الدين. فلا شيء يعلو عليها، ولا شيء يدانيها قيمة. غير ان الفقيه كان يجابه عارفاً آخر، غريماً في انتاج الفكر، هو الفيلسوف. وكان الفقيه يتميز غيظاً من الفلاسفة مثلما كان يتنابز مع اصحاب العرفان (المتصوفة) الذين كانوا يعتبرون الفقه، مثلا، ليس بعلم، قياساً الى علمهم هم العارف بما يرونه أسراراً الهية.
    وكان رجل الدين، كالفيلسوف، يسعى لنيل حظوة السلطان او تفاديها. فها هنا سطوة السيف والذهب الرنان. فكم من مدرسة فقهية تلاشت لغياب الحظوة. عاش خريجو المدارس الدينية هناءاتهم وتعاساتهم طويلا، حتى ظهور المدرسة الحديثة. بفضل الاصلاح العثماني والقاجاري (ايران)، ظهرت المؤسسات الحديثة: الجيوش الدائمة بدل الانكشارية، والبيروقراطية الحديثة بدل الصدر الأعظم. قدمت اوروبا لهذا التحول حوافزه وأدواته. وخرج من بطانته المثقف الحديث، المهندس والاداري والطبيب والاقتصادي والمفكر. جاء التحديث لا من رجال الدين بل من بيروقراطية دولة تشعر بدنو الهزيمة، وأدى الى جملة تغيرات مدوية. انفصل اصحاب العمائم، مثلا، عن الاقتصاد الحديث (صناعة، مصارف، اسواق مال، الخ..) انفصالا مميتا كاد يودي بفقه المعاملات الذي لم يتطور بموازاة تطور العصر الصناعي. اصبحت المدرسة الحديثة تستقبل الملايين، اما المدارس الدينية فبالكاد تحوي بضعة آلاف، وتنتهي بأصحابها الى مهن فقيرة، يعتاش فيها بعضهم على حساء الاحسان، عدا النخب العليا من كبار العلماء والمجتهدين.
    عشية الثورة الايرانية كان ثمة 70 ألف رجل دين أو نحوهم، جلهم فقراء يتراتبون في هرمية صارمة. ولم يكن في العراق، آنذاك، اكثر من 1950 طالب علوم دينية، جلهم أغراب، اما العراقيون منهم ففي حدود 200 طالب. وتعيش بلدان اخرى وضعاً مماثلاً. هناك استثناءات في بعض البلدان حيث ثنائية التعليم تنتج، مثلا، من المقرئين وأئمة الصلاة ومدرسي الدين اكثر بكثير مما تنتجه المدارس الحديثة، رغم تناقص حاجة المجتمع اليهم.
    التوتر بين العلماني والمقدس هو في أحد اوجهه توتر وتنافس بين الافندية والملائية، تنافس ضار على احتكار العلم والمعرفة والموارد، منذ ان اتكسر احتكار رجال الدين في القرن التاسع عشر بظهور طبقة «الافندية»، اي طبقة الكتبة المتعلمين، مقابل «الملائية» اي طبقة المشتغلين بأمور الدين. لقد نمت طبقة الافندية نمواً هائلاً فاق كل تصورات معتمري العمائم. ولعل الثورة الايرانية عام 1979 شكلت انتقاماً تاريخياً انزله الملالي عقاباً بالمتعلم الحديث، وفرضوا شروطاً تعيد لرجل الدين مركزيته، وتزيد من طلب المجتمع عليه وعلى خدماته، رغم تناقص الحاجة الفعلية الى ذلك. الواقع ان شاه ايران، شأن كثرة من الزعماء العرب، اسدى خدمة جلى لاصحاب العمائم. ذلك انه انقض على الطبقات الوسطى، المنبع الرئيس للانتلجنسيا الحديثة (الافندية)، سحقاً وتدجيناً. وبهذا عمل الشاه على حفر قبره بالذات، بفتح الباب لعودة المثقف التقليدي، صاحب العمامة. ولما أمسك هذا الأخير بالسلطة فقد المثقف الحديث كل دفاعاته. تكررت تجربة الشاه بأشكال مشوهة في مصر على يد السادات، وفي الجزائر على يد الشاذلي بن جديد. أما الرئيس العراقي المخلوع فقد نحا النحو ذاته، وعمل على احياء كل الرموز الدينية (الحملة الايمانية). وأدى هذا الانقلاب الى قلب عالم الثقافة. ابتكر رجال الدين نظام المصارف الدينية، وحشروا أنفسهم في كل زوايا العلم الحديث، من مدخل الحق في الافتاء بما هو حلال وحرام . ثمة اطروحة قيل لي في طهران (عام 1982) ان فقيهاً وضعها لمعالجة أداء رائد فضاء مسلم للصلاة في سفينة الفضاء، وبالتحديد تعيين وجهة القبلة في هذا الموضع المتحرك. وسمعت وقتها أيضاً من يتندر بأنه كان على الفقيه ان يفكر في ايصال المسلم الى الفضاء اولا، وان يحار في صلاته ثانياً.
    لكن المعركة بين الملائية والافندية التي احتدمت مطلع القرن العشرين (كما سجلها علي الوردي) تختلط اليوم على الناظر. فمشهد الانقسام بين حراك علماني مدني، وحراك اسلامي مقدس، لم يعد مقصوراً على التنابذ بينهما. ذلك ان ثلة من المدنيين انتقلت الى معسكر المقدس لأسباب شتى، بعضها متصل برغائب الصعود الاجتماعي. وترى اليوم الطبيب الاصولي-الثائر، والمهندس-القاتل، حيث تجتمع في هؤلاء خلائط من عقائد خلاصية وطهرانية جامحة، ونخبوية متعالية، تنحو الى تجميد الزمن، وتأليه العنف، والغاء كل مخالفة وخلاف، مثلما تنحو، عند آخرين، الى براغماتية دنيوية لا جامع لها بالعقائد، او عبادة للجاه والسلطان بما يفوق أية عبادة. واليوم يشهد العراق مثل هذا الاختلاط مثلما يشهد اقبالا متزايداً على المدارس الدينية. تضم الحوزات العلمية في النجف اليوم زهاء 4000 طالب جديد، وهذا رقم هائل قياسا الى مستويات ما قبل الغزو. مثلما يشهد العراق ايضاً احتداماً للجدل حول العلمانية والمقدس، مرشحاً للتفجر خلال عملية كتابة الدستور الجديد. لعل مراسيم أداء الوزارة العراقية الجديدة للقسم تشي بما هو آت، فقد كانت أقرب الى تراتيل وطقوس في جامع منها الى مراسيم دنيوية في برلمان. يصعب تخيل الوجهة التي سينتهي اليها صراع العلمانية ونقيضها. لعل هذا التنافي المتبادل مثمر فكرياً ان بقي الخلاف فكرياً محضاً، بلا هراوات أو سيوف.
    مؤخراً اقترح رجل دين متنور هو السيد محمد حسن الأمين فكرة «العلمانية المؤمنة». وهي فكرة سديدة، وعميقة، رغم انها تبدو لغير المطلع بمثابة تناقض في التعريف. ان جدة هذه الفكرة ذاتها تجعلها جديرة بالتأمل والنقاش. فنحن أحوج ما نكون الى مثل هذا السجال المنفتح، نظراً لأن حضارتنا العربية ـ الاسلامية ما تزال في طفولتها من حيث تطور التكنولوجيا الحديثة، لا من حيث امتداد الزمن المحسوب بالروزنامة. ينبغي ان نفهم التكنولوجيا هنا بمعناها العريض: تكنولوجيا الطبيعة، وهندسة المجتمع، وتطور الفكر.
    تبدو حضارتنا هيابة من اقتحام مرتقى الجلجلة هذا.

    2005/05/8
                  

10-29-2005, 00:14 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    كرنفال الديموقراطية: حقيقة الأشياء أم مظاهرها


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1223 - 2005 / 6 / 9


    ثمة كرنفال عربي (قد يكون مبكراً) احتفاء بانعطاف نحو الديموقراطية. المحتفون يومئون الى انتخابات فلسطين والعراق، والى حركة «كفاية» (مصر) والى الانتخابات البلدية في المملكة العربية السعودية، فضلاً عن الوثبة اللبنانية لاستعادة مقاليد الديموقراطية البرلمانية. وبوسع المرء ان يسعف المحتفين، هنا، بتوسيع قائمة الاصلاح الديموقراطي، كيما تضم البحرين والمغرب (مثلاً) او الكويت الساعية الى فتح باب المشاركة امام المرأة لتعميم الديموقراطية.
    في المقابل ثمة مأتم كامل يقيمه المرتابون من هذه الانتخابات او حركات الاحتجاج الديموقراطي. ويرى الغارقون في الاسي ان هذه التطورات مؤامرة غربية، او اميركية تحديداً، وديموقراطية مستوردة، وان لا بديل عن الرفض والمقاومة رافعين بذلك الثيمات القومية كنقيض لإرساء الديموقراطية (ولو الى حين).
    أرى في هذين المسربين خللاً في الرؤية رغم ان كل رؤية تنطوي على عناصر واقعية. فالسؤال الأهم هو ان كان العالم العربي على ابواب تحول ديموقراطي حقاً. والسؤل الموازي في الاهمية هو إن كانت الديموقراطية متسقة مع البعد القومي والاجتماعي عند المعترضين.
    الريبة واجب، لا تشكيكاً بقيمة الديموقراطية، ولا تقليلاً لشأن العرب في استحقاقها، ولا نكراناً لأهمية البعد الاجتماعي والقومي، بل خشية من طريقتنا نحن في تقليل الاشياء، طريقتنا المفعمة حماسة قبولاً او نبذاً.
    منذ نصف قرن تقريباً والثقافة السياسية (كما العلوم السياسية) في العالم العربي منشغلة عن موضوعة الديموقراطية، اي البنية المؤسساتية للدولة ونواظم عملها (تقسيم السلطات حكم القانون) وعلائقها بالمجتمع، بمواضيع أخرى تسد الافق الفكري منذ الخمسينات، مثل الوحدة القومية او التنمية او الاشتراكية او التحرر او الاسلام السياسي او الأصالة.
    اواخر الثمانينات من القرن المنصرم بدأ حديث خجول، هياب، عن «المجتمع المدني» والديموقراطية، بدأه، والحق يقل، بعض التنويريين القوميين، استجابة لتحولات اوروبا الشرقية واميركا اللاتينية بانهيار النظم التوتاليتارية والعسكرية التسلطية. غير ان حرب الخليج 1991، فالانتفاضة الفلسطينية الثانية وصعود ليكود، ادت جميعها الى اسكات هذه البداية، وسرعان ما عادت الثيمات القومية (ازاء خطر خارجي) لتهمين على الأفق. عاد العالم العربي القهقهرى الى قوقعته السابقة، مستكيناً الى رُهاب الغرب، وفوبيا الآخر، هذا المخرج الأيسر لتعليق كل التبعات على مشاجب الغريب.
    لعلنا خسرنا بذلك فرصة تعميق النقاش حول الاندراج في موجة الانعطاف العالمي من نموذج الحكم التسلطي او الشمولي (التوتاليتاري) للدولة الى النموذج التمثيلي - الدستوري، الذي اكتسب زخماً اكبر بعد التحولات الكبرى في اوروبا الشرقية، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي السابق.
    شملت موجة الدمقرطة هذه نحو خمسين دولة. ولم تكن اوروبية (كما كان الحال في القرن التاسع عشر) بل عالمية، ضمت اوروبا وآسيا وافريقيا اميركا اللاتينية.
    كان ذلك ثمرة نهاية الحرب الباردة واعترافاً بأن هذه الحرب عينها ختمت بالشمع الاحمر على اي كوة للحريات السياسية في عصر الصراع بين القوتين الاعظم. وما ان زال هذا الغطاء حتى انهارت أول ما انهارت انظمة الحكم العسكرية في اميركا اللاتينية (صنيعة الاستخبارات الاميركية) التي اغتذت مثل الرخويات على عفن الحرب الباردة. ولم تكن وحدها في هذا العيش الطفيلي.
    كان القرن العشرون عجيباً حقاً، كان قرن انهيار الديموقراطيات في اوروبا كما تأسست في القرن التاسع عشر، واعادة تأسيسها وفقاً لمتطلبات القرن العشرين. انهارت الديموقراطية في روسيا القيصرية تحت وقع احتدام اللامساواة الاقتصادية المريعة، وحاجات التصنيع (الثورة البلشفية 1917). مثلما انهارت الديموقراطية في ايطاليا والمانيا (1921 و1933) تحت وقع المهانة القومية للامم المهزومة. كانت النازية والفاشية، بمعنى ما، احتجاجاً على اللا مساواة القومية بين الأمم، على كل بشاعة هذا الاحتجاج. وليس مصادفة ان يقارن موسوليني الفوارق الاقتصادية بين الأمم بالفوارق الاقتصادية بين الطبقات، مُعلياً شأن الصراع بين الأمم على صراع الطبقات.
    خلاصة التاريخ الاوروبي الغربي في القرن العشرين تفيد ان توسيع المشاركة الاقتصادية حجر اساس في استقرار الديموقراطية التي انبثقت من عالم الاسواق الرأسمالية. من هنا ميلاد دولة الرفاه ونظام الضمان الاجتماعي. كما تفيد هذه الخلاصة ان التوازن بين الامم في حقوق السيادة والمشاركة في الاسواق العالمية (المشاركة الاقتصادية) هو ركيزة اخرى لثبات الديموقراطية. ومن هنا ولدت اتفاقيات بريتون وودز وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومن بعدهما لاحقاً منظمة التجارة الدولية.
    بخلاف هاتين الركيزتين (الاقتصادية - الاجتماعية والقومية) تنحو الامم او جل قواها الاجتماعية الى اعلاء البعد الاجتماعي (الرفاه، الخدمات، او حتى التصنيع) واعلاء الشأن القومي (الاستقلال، الوصول للاسواق العالمية) على الحرية السياسية (الديموقراطية)، بما يؤدي الى تدمير اسس الديموقراطية، وفتح الباب لصعود الشمولية، والغرق في اوحال الحرب، ساخنة او باردة. انفقت المانيا المحرومة من الاسواق البلايين لبناء ترسانتها العسكرية، وخوض الحروب، كما انفق الغرب الليبرالي البلايين لسحق الماكنة الألمانية، وأنفق البلايين الاضافية، بعد الحرب، لبناء الديموقراطية في البلدان المهزومة (المانيا، ايطاليا، اليابان، النمسا).
    وفي عالمنا العربي يقف الفكر الديموقراطي نبتة هشة تماماً بازاء تيارين: الاجتماعي والقومي. المدرسة الاجتماعية تمحض الدولة الراعية ما يشبه حق البكورية الاقطاعي، في احتكار الحكم مقابل دفع التنمية وتوفير الخدمات الاجتماعية، على حساب الشرعية الدستورية، والمحاسبة، والانتخاب. في حين أن المدرسة القومية تضع التحرير القومي، بمعناه الواسع أو الضيق، أو بمعناه الحقيقي أو المتخيّل، محل التعارض مع الديموقراطية، ومع حركات اذكاء الصراع للجم أنظمة الحكم التسلطية. وقد ولدت الليبرالية مع جيل السياسيين المتحدرين من عوائل الاعيان والوجهاء، المعتمدين على الملكيات العقارية. اما مدارس الاحتجاج الاجتماعية والقومية فولدت من أوساط الفئات الوسطى ذات التعليم الحديث. من هنا سهولة بل واقع تداخل هاتين المدرستين تداخلاً مكينا أدى، في الممارسة، الى نشوء دول تسلطية (عسكرية في الغالب) تقوم على نظام الحزب الواحد، والاقتصاد الأوامري. حتى بديلها الشعبوي بصيغته الاصولية الاسلامية تشرّب الكثير من أفكار وشعارات هاتين المدرستين.
    وعليه فان السجال الديموقراطي الحالي بازاء هاتين المدرستين ليس تجريداً نظرياً، أو بحثاً مجرداً عن انماط متوازنة للتطور الديموقراطي. بل يتخذ هذا السجال شكل تصادم مع نخب حاكمة مدعمة بانتلجنسيا تنعم بامتيازات هذا النظام التسلطي، الذي لا يفكر قط بالتخلي عن مزاياه وامتيازاته، رغم احتدام المشكلات.
    هذه هي معضلة السجال الديموقراطي. اما المعضلة الأخرى فتتصل بالبنية المؤسساتية اللازمة لقيام ديموقراطية مستقرة. وهنا تتفق العلوم الاجتماعية على ان الديموقراطية التمثيلية الدستورية، الفاعلة في اطار الدولة القومية الحديثة، كنظام شامل بكامل طبقاته وأفراده، نظام حديث العهد، ينتمي الى طور متقدم من العصر الصناعي ولا سابق له قبل هذا العصر.
    ثمة في الاقل ثلاثة شروط مؤسساتية لذلك، وهي تطور الاسواق كقوة اقتصادية منفصلة عن الدولة، وصعود الطبقات الوسطى الحديث، والخروج من أسر الثقافة التقليدية كمنبع للشرعية السياسية. وقد دخل عالمنا العربي عصر الديموقراطية من أواخر عهده الزراعي (أو حتى الرعوي في بعض الاصقاع) الذي يقوم على جماعات مغلقة، وطوائف ثابتة، ذات تراتب هرمي يستبعد المساواة السياسية. ولم ينتقل الا جزئياً نحو مجتمع حديث يقوم على جماعات منفتحة، متغيرة، ذات مساواة سياسية لا تستبعد التفاوت الاجتماعي.
    ودخل الدستور الينا في القرن التاسع عشر من بوابة الاحتكاك بالغرب وبفضله. جاءتنا الدساتير عبر مصلحين كبار انحدروا من صلب دولة اقطاعية (مدحت باشا مثلا)، مثلما أُرسي اول البرلمانات والنظم الانتخابية المستقرة في القرن العشرين تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي في المشرق العربي. وسقطت النماذج الأولى للنظام التمثيلي - الدستوري لقمة سائغة على يد العسكر، وذلك لهشاشة أساسها الاجتماعي (غياب طبقة وسطى دينامية) ولفظاعة التفاوت الاجتماعي (أرياف الفلاحين المعدمين، ومدن الحرفيين المنهارين) ولاحتدام المشكلة القومية (الاحتلال، القواعد الاجنبية، قيام اسرائيل). والتجربة الوحيدة (اللبنانية) التي حافظت على قدر من الاستمرار بفضل نظام الطوائف، سرعان ما قُمعت وقُيّدت بفعل الصراع الاقليمي - العالمي.
    ولعل العالم العربي اليوم على أبواب تحولات اجتماعية وثقافية مهمة، وإن تكن متفاوتة بين مغرب ومشرق وخليج. فالتمديُن بلغ مستوى عالياً، واتساع الطبقات الوسطى سمة بارزة للعيان، ورغم تهمّشها في أصقاع وصعودها في أخرى، فان حتمية تحول مضطرد نحو زيادة مكوناتها المعتمدة على الملكية والرأسمال، على حساب الفئات المعتمدة على الراتب (فهذه الأخيرة شديدة التعلق بالدولة، تسلطية أم لا). لكن الأسواق، رغم بعض الاصلاحات، ما تزال مقيّدة، وما تزال كثرة من الدول تعتاش على ريوع محلية (انتاج النفط)، أو خارجية (بيع الخدمات لدول غنية)، وهذه الريوع تمنح الدولة مصادر مستقلة عن الانتاج المجتمعي للثروة.
    أخيراً، ثمة احتدام بين الثقافات التقليدية التي تسبغ الشرعية الدينية على السياسة، للحاكم كما لحركات الاحتجاج، والثقافة الحديثة التي تترك بصماتها حتى على التقليديين. فكسر الصلة بالاقتصاد الأوامري الريعي، وبالثقافة التقليدية هو، بالتالي، المنعطف التاريخي الفعلي نحو الانتقال الديموقراطي.
    أما الآن فما يزال العالم العربي يسا حل على ضفاف هذا التفكيك، في وجل. وقبل نحو ثلاثة قرون سخر مونتسكيو، صاحب «روح الشرائع»، من هذه المساحلة: اذا لم نكن نمتلك الأشياء، فلنملك اذاً مظاهر الأشياء!
    (باحث عراقي)
    2005/03/20
                  

10-29-2005, 00:16 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    تجاوز الخوف من الماضي


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1237 - 2005 / 6 / 23



    ما من أمة تخشى التاريخ مثلنا نحن العرب، العاربة والمستعربة. وما من أمة تخشى مثلنا القبول بتعدد أبعاد التاريخ المركب المعاني. نعلم ان النسيان شيمة المخلوقات الدنيا في سلم التطور، وهو أيضاً شيمة الحضارات الدارسة. فالتمسك بالذاكرة التاريخية معلم حضاري، كدريئة ضد النسيان، ونافذة على الآتي.
    نحن نحب النسيان بطريقة عجيبة. فمن جهة، يغرق بعضنا في ذاكرة الماضي، الى درجة الذهول عن الحاضر، بل ان ذاكرة الماضي هذه مصاغة في صورة مثالية، منقاة من كل ما نتوهّمه شائبة. ويغرق بعضنا الآخر في غمار اللحظة الراهنة الى حدود إلغاء الماضي، بفعل التحريم المكين لأية معاينة حرة، متعددة لما كان، وهذا نسيان مزدوج، أو تذكّر ناقص.
    أقول هذا متأملاً مثال لبنان والعراق بعد الحرب والاحتراب، مقارناً إياه بمثال جنوب افريقيا، التي أسست لجان المكاشفة والمصارحة وسيلة للقبول والفهم والتفهم والتعلم والتجاوز.
    أقول هذا أيضاً ونحن على اعتاب مرحلة جديدة بغثها وغثيثها، ووعدها ولا وعدها. والعراقيون، كالعادة، منقسمون إزاء تاريخهم بالذات، إزاء معانيه، أسبابه وآفاقه.
    ثمة نزعة تدميرية لإزالة الماضي، تستهدف الرموز المادية للحقبة السابقة، تماثيل الرئيس وأنصابه، مثلاً، مثلما ان هناك نزعة تقديسية لكل ما كان. وهذه المواقف من التدنيس المفرط الى التقديس المفرط، هي من بقايا العنت الايديولوجي. ما أحوجنا الى إبعاد الشعارات والكليشيهات عن الوقائع الثرّة المتشابكة، كيما نرفع عن التاريخ أي محرّم، ونطلق اوار البحث في أحداث الماضي بحثاً مفتوح النهايات، منفتحاً على المعطيات والمعلومات، هادئاً ومحترساً. ولعل مشروع الذاكرة العراقية، بمبادرة كنعان مكية، يأتي بمثابة إنقاذ: ثمة اكثر من ثلاثين مليون وثيقة من العهد السابق تنتظر الفرز والتبويب، وثمة ما لا عدّ له من الأنصاب، وما لا حصر له من الأجداث الغفل في حقول الموت المسماة: مقابر جماعية.
    سيبقى تاريخنا ناقصاً من دون هذه الوثائق، وستظل الأسطورة تخالط الواقع ما لم ندرس هذا السجل. وأول مهام مشروع الذاكرة العراقية ان يختزل الآماد الزمنية لعملية الحفظ والتبويب. أتذكر في هذا الصدد كتاب ويليام شيرر الموسوم: «صعود وسقوط الرايخ الثالث» (دولة هتلر)، الذي اعتمد نحو 45 طناً من الوثائق. ويعد هذا الكتاب، حتى يومنا هذا، أفضل وثيقة عن المانيا النازية، قياماً وسقوطاً. والكتاب، بمعنى من المعاني، كان بمثابة تطهير اخلاقي لأمة أصيبت بجنون العظمة، واطلقت كل قوى التدمير الغريزي الكامنة فيها. كانت الأمة في حاجة الى التصالح مع نفسها، والى استعادة عافيتها الاخلاقية.
    نحن ايضاً بحاجة الى تطهر اخلاقي، الى معاينة هذا الذي كان، وفهم جذور شرائع الغاب المنفلتة. وهذه ضرورة للضحية كما للجلاد، لمتلقي العنف كما لصانعه.
    قبل أعوام، وأنا في زيارة لأربيل، حضرت ندوة كبرى عن حلبجة الكردية، المسممة بالغاز. رأيت أصنافاً عدة تدخل في بازار السجال: سياسيين يجيّرون المأساة في حسابات أحزابهم، ومحامين يتلهفون لرفع دعاوى تعويضات دسمة، وغاضبين يفكرون في الثأر، وأنصار الحكومة المركزية ينكرون وقوع ما وقع. وقبل عام وأنا في بغداد، رأيت مشهداً مماثلاً يتكرر إزاء اكتشاف عدد من المقابر الجماعية: سياسيين يلهجون بالمحنة لحساب أحزابهم، ومحامين يسيل لعابهم أمام صورة التعويضات المالية، وجمهوراً غاضباً يطالب بالانتقام، وأنصار الحكم السابق ينكرون حصول مجازر.
    في الحالين غاب عنصر حاسم: الضحايا من عوائل ثُكلت، ومُزقت. يعيش هؤلاء الماضي كل يوم في اهاب كوابيس وهلوسات وحالات عصاب ورُهاب، دون ان يجدوا من يلتفت الى عنائهم المستديم. ذات مرة اشتكت عجوز كردية من كل هذه الندوات عن أهلها وأحفادها في حلبجة. في الأيام الأولى للكارثة، كما تقول، كنا نرى كابوس القصف الكيماوي كل ليلة. بعد سنوات صرنا نرى الكابوس مرة كل اسبوع. واليوم، بعد هذه الندوات، عدنا الى الاحلام الرهيبة في كل ليلة.
    كانت شكوى الكردية المسنة بسيطة وبليغة: المهرجانات ترضي السياسيين، لكنها تنكأ جراح الضحايا الذين تركوا وحيدين مع أهوال الصدمة.
    العراقيون بحاجة الى فهم الماضي لا الى نسيانه، بحاجة الى التطهير بمعناه الاغريقي، مثلما ان الضحايا بحاجة الى الشفاء بالمعنى السريري.
    ابتكرت الحضارات سبلاً عدة لبلوغ هذا الأرب. ابتكر الاغريق المحاكاة على المسرح وسيلة لحض النظارة على التخلص من الأدران. وابتكرت أوروبا المسيحية طقوس الاعتراف، وابتكرنا نحن تقاليد الاعتذار (الاعتراف بالخطأ فضيلة). اختلافنا عن الآخرين ان التطهّر الاغريقي والاعتراف (فالغفران) المسيحي - الأوروبي كانا جزءاً من المؤسسات القائمة وعنصراً من مكونات الثقافة، أما تقاليد الاعتذار عندنا فعائمة، أي متروكة للمصادفة. وهذا تعطيل لإمكانية التجاوز.
    غير ان التجاوز بذاته ليس سوى وجه واحد من وجوه المشكلة العراقية. نحن في حاجة الى الفهم ايضاً. فالنظام السياسي السابق، الشمولي بامتياز، خلق جمهورية من طراز خاص، سماها مكية «جمهورية الخوف»، ولعل بالوسع اضافة نعت آخر «جمهورية الصمت»، في البلد الذي اخترع الكتابة، وسيلة الإفصاح الكونية هذه.
    كانت جمهورية الصمت - الخوف لا تكتفي بالهيمنة على مجال السياسة والاقتصاد والثقافة، بل تسعى، شأن النظم التوتاليتارية، الى اختراق فضاء الفرد، حقل حياته الحميمة، ودائرة مخيلته. كفّ العراقيون المولعون بالشتم عن شتم الرئيس المخلوع خشية ان يكرروا ذلك أثناء نومهم على مسمع من زوجة واشية أو جار مخبر. ورغم ان هذا الخوف آخذ بالتآكل إلا ان خطر اعادته قائم. والمفارقة ان هذا الخوف معمّم بالتساوي. وهو تذكرة بقولة مونتسكيو الشهيرة: «في ظل الاستبداد كلنا متساوون، لأننا جميعاً عبيد». وبهذا المعنى فالتحرر من عبودية الخوف ضرورة للضحية والمخبر سواء بسواء.
    في وسع «مؤسسة الذاكرة العراقية» ان تنقذ وثائق الماضي، وان تفتح نوافذ الفهم والاستيعاب، لا لتغذية روح الثأر، بل للارتقاء بالذاكرة الى مستوى التطهر والإدراك.
                  

10-29-2005, 00:18 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    علي الوردي وعلم الاجتماع


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1255 - 2005 / 7 / 14


    تأملات في رحلة معرفية


    للكتابة عن علي الوردي مذاق خاص، فهي كتابة عن المجتمع وعن الشخص في آن . ولد الوردي عشية تأسيس الدولة الحديثة، ورحل عشية أفول الجمهورية الرابعة. وتاريخه الشخصي هو، بمعنى من المعاني، تاريخ العراق الحديث. اما استجاباته الفكرية فهي جزء جوهري من تحولات هذه الحقبة.
    والبحث في كتابات الوردي (من وعاظ السلاطين – 1954 – الى لمحات اجتماعية – الجزء السادس 1976) يشكل رحلة فكرية متشعبة. فهذا البحث هو تأمل في علم الاجتماع (او بعض اوجهه)، وهو ايضا تأمل في تاملات الوردي في هذا العلم، تواشجا او تنافرا. وأجد في سيرة الوردي الفكرية منابع شتى حافزة على التفكر، اجتزيء منها، لاغراض تركيز البحث ليس الا، العلاقة بين عالم الاجتماع (السوسيولوجي) وعلم الاجتماع (السوسيولوجيا)، وبتحديد ادق نظريات ومناهج علم الاجتماع. اما نظرية الوردي، خلدونية الأرومة، فستندرج هنا كعنصر ثانوي رغم موقعها المركزي في افكاره ونتاجاته. وسبب هذا الاجراء انني كتبت عن ذلك مبحثا وجيزا مستقلا يقوم على التحليل المقارن بين الوردي وابن خلدون
    المبحث الحالي اذن يتركز في الجانب النظري، وهو مسعى لتحليل المصادر النظرية لمنهجية الوردي، التي أراها خلائط من نقائض ذات ثراء خاص، تعتمد مزيجا نظريا انتقائيا هو الآخر.
    وتحسبا لأي لبس او ابهام، اقول ان نقائض الفكرة، فهما وتطبيقا، هي دليل عافية فكرية بنظري، كما ان المزيج الانتقائي هو برهان حيوية خاصة، لانه ما من نظرية واحدة تلم بكل جوانب واقع مركب.
    اما الباحث عن فكر بلا نقائض، ومناهج بلا تلاقح، فلن يجد مسرته إلا في مقابر التاريخ، حيث السكون المطبق.
    ما هي النقائض في منهجية الوردي، وما هو الخلائط الانتقائية، التي يعتمدها؟ الأجابة عن هذين السؤالين تدوران في النقاط الآتية:
    اولا – ان مجرد اشتغال الوردي بعلم الاجتماع يبدو، كنقطة انطلاق، في تضاد صارخ مع البيئة الاجتماعية التي ينشط فيها.
    واذا صدقنا قولة اوغست كونت (1789 – 1857) من ان علم الاجتماع، هدا الفرع المعرفي الجديد، الذي اسهم هو في تأسيسه، لم يظهر الا بعد انتقال البشرية من المرحلة اللاهوتية، الى الميتافيزيقية، ليصل اخيرا الى المرحلة الوضعية (مرحلة الدراسة العلمية المجردة للوقائع المتاحة امام الحس)، اي فلسفى العصر الصناعي، عصر المدن الكبرى، والعلوم الحديثة، والدول المركزية قومية الطابع، فان ظهور علي الوردي نفسه كعالم اجتماع، في عراق اربعينات القرن المنصرم، في رقعة متأخرة تعيش في عالم ما قبل – وضعي، يشكل تناقضا في التعريف، او استثناء خارقا ان جاز القول.
    ثانيا – اعتمادا على ما تقدم، ولد الوردي في عصر انتقالي، يتفكك فيه المجتمع الزراعي المتجزيء قبائل وطوائف، منتقلا الى مجتمع حديث يندمج في أمة ودولة، رغم ان هذه العملية تبدو، من منظار الجمهورية الخامسة، وكأنها تبدأ من جديد.
    وولد الوردي ايضا في حقبة تفكك المراتب القديمة من حرف وصنايع، وسادة واشراف ومشايخ، وبروز الطبقات الحديثة.
    هدا الوضع الانتقالي اورثه حساسية مرهفة لادراك ديناميكيات التغيير، رغم وجود ميل معاكس عنده (لا شعوري، او مجتمعي ان استعرنا لغته) الى القبول بالسكون او الثبات المجتمعي (القول بوجود "طبيعة" ثابتة للمجتمع العراقي، او "طبيعة" بشرية... الخ).
    ثالثا – لما كان الوردي يشخص في المجتمع العراقي ثلاث مشكلات اساسية (صراع البداوة والحضارة،. التناشز الاجتماعي بين الاثنين، تفتت الوعي الجمعي وانغلاقه) فانه يعتمد في معالجته هذه الاوجه على ما يلي:
    أ – نظرية ابن خلدون، مفسرة على اساس المنهج التجريبي – الوضعي (بيكون – كونت).
    ب – المدرسة السوسيولودية الاميركية، (جورج هربرت ميد – 1863 – 1931) مؤسس مدرسة "التفاعل الرمزي" Symbolic Interactionفي الجماعات الصغيرة .
    ج – المدرسة التاريخية الالمانية (كارل مانهايم وفرديناند كون).
    هناك عناصر اخرى مستمدة من علم النفس الاجتماعي في جناحه الاميركي.

    رابعا – رغم تكرار الوردي بأنه يعتمد ابن خلدون فان قراءته لهذا الاخير تعيد بناء النظرية
    الخلدونية بل تقلبها رأسا على عقب. فصراع البداوة والحضارة الخلدوني يقوم بين نمطين متضادين (ومتفاعلين) من التنطيم الاجتماعي (المدن والبوادي)، اما عند الوردي فهو ازدواج قيمي داخل المدينة، اولا، وضمن الدولة الحديثة ثانيا. وهو، عند الوردي، نتاج صراع الحضارة العراقية مع محيطها البدوي (الجزيرة العربية)، اولا، ثم هو، صراع بين العراق والحضارة الغربية الوافدة ثانيا،
    إثر غزو العراق في الحرب العالمية الاولى. لكن الاهم في عملية قلب ابن خلدون رأسا على عقب (وهو قلب ضروري) ان "منطق" ابن خلدون، كما يرى الوردي، ينفصل عن المنطق الاوسطي، الميتافيزيقي، اي القائل بوجود جواهر ثابتة، وكليات عقلية مسبقة. والوردي هنا يقرأ ابن خلدون او يعيد قراءته انطلاقا من المنهج التجريبي (فرانسيس بيكون) والمنهج الوضعي (اوغست كونت) الذي يشكل، من نواح معينة، امتدادا للتجريبية. هذا المزيج الانتقائي، فريد، املته ضروراته الموضوع المدروس.
    خامسا – يرى الوردي في علم الاجتماع منهجا لدراسى "الثقافة الاجتماعية" Culture محللا اوجه الثقافة الروحية والمادية (القيم ونمط العيش)، معتمدا على مؤسس علم الاجتماع الاميركي (جورج ميد)، ومتجاوزا اياه في أن، بخروجه على حدود الثقافة الروحية (التفاعل الرمزي) الى رحاب الثقافة المادية ايضا. وهو في هذا يقترب من ماكس فيبر (1864 – 1920).
    وان علاقته بعلم الاجتماع الاميركي الذي تأسس متأخرا عن نظيره الاوربي بنحو سبعة عقود، اورثته نزعة وصفية للاحداث والوقائع، تنسجم ونفور المدارس الاميركية في النصف الاول من القرن العشرين، من اية مراجع نظرية كبرى تحدد ماهية المجتمع وماهية علم الاجتماع (تغير هذا الحال في اميركا بعد هجرة الالمان هربا من النازية).
    كما ان هذه العلاقة بعلم الاجتماع الاميركي افادته في ملاحظة الفوارق العميقة بين علم الاجتماع الاوربي الذي يضرب جذوره في منظومات فلسفية – لغوية معروفة (الوضعية، الماركسية، البنيوية)، وعلم الاجتماع الاميركي المتحرر نسبيا من هذه الجذور (حتى الفلسفة البراغماتية الاميركية تشبه علم اجتماعها).
    سادسا – لكن هذه العلاقة الغنية والنقدية بعلم الاجتماع بجناحيه الاميركي – الاوربي دفعته الى الاعتقاد بوجود خصوصية لكل مجتمع تحتم انشاء علم اجتماع خاص بذلك المجتمع. هذا المنحى الى الخصوصية لم يكن فقط وليد "ضغط" منهجي بل ايضا ثمرة مؤثرات سياسية: صعود الناصرية بمنحاها العروبي، وصعود التيارات القومية العربية (البعث وغيره) الداعية الى انشاء علم اجتماع عربي، كان بحسب الوردي، وعظيا لا علميا.
    لكن مبدأ الخصوصية الذي جاهر به الوردي (ولم يطبقه اصلا في كتاباته) وهم ايديولوجي. فلكل مجتمع خصوصيته، ولكل مجتمع عموميته. وما من مجتمع يشبه غيره بحذافيره، بل ما من مجتمع يشبه نفسه قبل قرن، او قرنين، إلا في حدود ضيقة، ثفالة قابلة للحذف.
    حقا لقد انحبست نظريات علم الاجتماع في اطر قومية (فرنسا، المانيا، انجلترا، اميركا) خلال جل القرن العشرين، لكنها سرعان ما انفتحت على بعضها البعض في اواخر القرن المنصرم لتولد خلائط خصبة في سياق من التحليل والتركيب.
    سابعا – استمد الوردي من المدرسة الالمانية (كارل مانهايم) مفاهيم اساسية لتفسير تنوع انماط المعرفة حبيسة التنظيمات الاجتماعية، مثلما استمد من مانهايم قواعد نظرية لدراسة الدولة الحديثة. الأهم في ذلك هو اعتماد مبدأ النسبية المعرفية الذي يشكل اليوم اساس فكر ما بعد الحداثة.
    اما فرديناند تونيس فقد استمد الوردي منه (على نحو غير مباشر – اعتمادا على ماكايفر صاحب مفهوم التناشز الثقافي والتصادم الثقافي) افكار التمايز والتضاد بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث (الصناعي). الاول، حسب تونيس، منظم في جماعات، والثاني منظم في مجتمع كبير. في الاول ثمة علائق حسية مباشرة، واحساس بالمكان (الجغرافي والاجتماعي)، والانتماء، واعتماد تقاليد ثابتة، تسيطر فيها العائلة والكنيسة (الدين). اما في الثاني فتسود العلائق اللاشخصية، والمصالح الاقتصادية، والتنافس على الموارد، في حراك متصل، متغير يربأ بالثبات. لكن الوردي حبس التضاد بين الحداثة والتقليد في قفص البداوة والحضارة الخلدونية، علما ان حضارة ابن خلدون شأن بداوته تنتمي الى العالم ما قبل الحديث.
    ثامنا – اخيرا ابتدع الوردي في هذه الرحلة طريقا ثالثا للخروج من اسار الفكر القومي المتزمت، او قواعد الفكر اليساري في صيغته المتحجرة. ولم يكن من باب المصادفة ان يدعو الى مجتمع يعتمد الليبرالية السياسية.
    كان يحرص على تفرده في مجتمع يبغض الفردية، وينفتح على كل النظريات في مجتمع يحول النظرية الى معتقد ديني، ويمضي في البحث وسط مؤسسات علمية خاضعة لجبروت الدولة، ومجردة من حرية التفكير والبحث الطليق.
    هذا وحده اعجاز!
                  

10-29-2005, 00:19 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات الاجتماعي لحنا بطاطوفي العراق المجتمع - التاريخ - الطبقة


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1318 - 2005 / 9 / 15


    المجتمع - التاريخ - الطبقة
    في العراق
    المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات ا لا جتماعي لحنا بطاطو

    ترك لنا حنا بطاطو إرثا كبيرا كرس له جل حياته الواعية اكاديميا مدققا، يسعى الى معاينة مركّبة للمادة قيد البحث، هيابا من أي تعميم لا يقوم على الوقائع التجريبية، ومتوجسا من معنى التاريخ المتفجر الذي يعاينه ويعيشه، في آن.
    يلوح حنا بطاطو، للوهلة الاولى، في نظرة كثير من قرائه ومحبيه، جامع معلومات لا يبارى، شغوفا بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل. وهذه بلا ريب خصلة من خصاله الكثيرة. غير ان هذه النظرة تنطوي على تبسيط مفرط. فمنهج جمع مادة البحث، وتحليلها، وتركيبها، ثم عرضها على النحو الذي فعله حنا بطاطو، عملية معقدة، عميقة الغور. فمادة البحث، أي بحث، أشبه بسديم له بداية وليست له نهاية. وهي اقرب الى العماء chaos الارسطي، الذي يتحدى العقل البشري Logus، كقوة ناظمة او طاقة للتنظيم، للفرز، والتمييز، والفصل والربط.
    لقد ووجه بطاطو وهو يغرف التفاصيل عن المجتمع العراقي تحديات عديدة.
    اولها فرز وتصنيف هذه المادة. وثانيها اجلاء غموض العلائق فيما بين مكوناتها، وثالثها قراءة المعني في هذه العلائق.
    يعترف بطاطو بأن المادة التي جمعها كانت مشابكة الى درجة محبطة. وان غموض علائقها بقي نقطة محفزة على الاستجلاء. اما المعنى فقد دفعه الى البحث في لغز التاريخ، الذي قال عنه، مكررا كلمات المؤرخ بيتر جيل: "ما التاريخ إلا سجال بلا نهاية" “History… is an argument without end”.(1)
    لم يكن بطاطو جامع فراشات الوقائع، عقلا منهجيا مبدعا ايضا، رغم تمنعه الواعي عن الكتابة النظرية، التي يسرف غيره فيها اسرافا. ونراه يكرر في اكثر من موضع ان هذا الحكم النظري او ذاك (مثلا وجود او عدم وجود طبقات في المجتمعات العربية) بحاجة الى "ثروة من التفاصيل" حسب تعبيره(2) . فأي منهج، او قل أية مناهج تقف وراء سفر بطاطو "الطبقات الاجتماعية القديمة"، ووراء غير ذلك من كتابات قليلة العدد، كبيرة الأهمية؟
    افترض من خلال قراءتي لجلّ اعماله، ان الرؤية المنهجية التي اعتمدها بطاطو مركبة استمدها من مصادر عدة واعتمدها بصورة نقدية، أي باضافة ابداعه الخاص للمناهج التي درسها. اقول هذا رغم ادراكي ان حنا بطاطو لم يكن مختصا في فلسفة المعرفة او علم المنهج، بل كان مؤرخا اجتماعيا، أي يجمع في عمله مناهج علم التاريخ ومناهج علم الاجتماع. ولتعيين رؤيته المنهجية، واسلوب تطبيقه لها، سأتناول اربعة جوانب نظرية في عمل بطاطو:
    الجانب الاول: مفهوم وطبيعة المجتمع في المشرق.
    الجانب الثاني: مفهوم التاريخ.
    الجانب الثالث: مفهوم الطبقة.
    الجانب الرابع: النزعة التجريبية.
    بوسع الباحثين المهتمين بهذا الموضوع ان يجدوا ويختاروا جوانب اخرى، بلا ريب، فالتقسيم الذي اقترحه مجرد اختيار شخصي أملته اشارات بطاطو نفسه في مقدمات اعماله، مثلما أملته خياراته لبعض المواضيع السجالية: معنى التاريخ، طبيعة المجتمع العربي وطابعه الانتقالي، وجود او غياب الطبقات في هكذا مجتمع، واسلوب التثبت من هذا المفهوم او ذاك الحكم النظري.




    I


    لا ريب في ان طبيعة المجتمع او المجتمعات، وجوهر التطور الاجتماعي، والعوامل الكامنة وراء التطور (او لتغير)، تندرج في صلب اهتممات علم الاجتماع والمشتغلين به، مثلما تندرج في صلب تأملات الفلسفة الاجتماعية والسياسية والاخلاقية.
    ويلاحظ ان المشتغلين العرب في هذا الحقل ينقسمون عموما، شأن كثرة من المعنيين بالفلسفة الاجتماعية او من قادة الحركات الاجتماعية، بصدد مفهومهم لطبيعة المجتمع العربي (او الاسلامي). ثمة تيار عريض يرى الى ان هذا المجتمع يتميز بخصوصية، تفرده عن مجتمعات الغرب، وتضعه بالتالي خارج فعل مقولات أي علم اجتماعي غربي، كما تضعه بمنأى عن أية منظومات نظرية تدعي تفسير نشوء المجتمعات، وديناميكية تطورها. وهناك بالمقابل تيار آخر، عريض ايضا، يتبنى مفهوما معاكسا، يرى الى وحدة تطور المجتمعات، وبالتالي يضع المجتمع العربي، شأن المجتمعات الاخرى، في دائرة نظريات ومقولات العلوم الاجتماعية الغربية بعامة.
    يقدم تيار الخصوصية (الذي يتوزع في الحياة الفكرية على اتجاهات ايديولوجية عديدة) على فكرة وجود جواهر حضارية، او ثقافية، متعددة، متباينة، ثابتة، تقرر طبيعة كل دائرة او وحدة حضارية، وتسبغ عليها تميزها وفرادتها.
    الواقع ان اتجاه الخصوصية هذا هو نسخة مكررة، وان تكن مقلوبة، للمدرسة الجوهرية الالمانية essentialist، التي تفصل حضارة الغرب عن حضارات الشرق، وتقيم بينهما برزخا من الانقسام يقوم على جملة من المتضادات. في هذا الاطار يقف الغرب الديناميكي، العقلاني، في هذا الطرف من البرزخ، ويقف الشرق الراكد، اللاعقلاني في الطرف الآخر من البرزخ. ابرز منظري هذا الاتجاه هو عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر(3) .
    أما الاتجاه الآخر، القائل بالعمومية، فيرى، اعتمادا على مقولات مدرسة الحداثة او المدرسة الماركسية التاريخية، ان مسار المجتمعات، يمضي من مراحل دنيا الى مراحل عليا في تطور خطي صاعد، أي من التقليد الى الحداثة، (او من المجتمعات الزراعية الى الصناعية) او من الاقطاع الى الرأسمالية.
    تنفي المدرسة الاولى (مدرسة الخصوصية) او تهمل وجود أية أوجه تشابه جوهرية في حراك المجتمعات، بينما تنفي المدرسة الثانية او تهمل وجود التمايزات والاختلافات.
    لقد تعرض هذان الاتجاهان الى نقد مستديم، لانطلاقهما من القول بثبات الاختلاف، او انعدامه، ومن تمسكهما بكليات مثل "الشرق" او "الغرب" ليست في الواقع متجانسة كما لو كانت كتلة صوانية.
    يعلن علي الوردي مثلا انتماءه لمدرسة الخصوصية، داعيا الى قيام علم اجتماع عربي خاص يعتمد نظرية ابن خلدون(4) .
    وهناك حشد من علماء الاجتماع العرب يتمسكون، دون كثير سجال نظري، بالاتجاه المعاكس. واعتقادي ان حنا بطاطو قام بنوع من تركيب Synthesis بين الاثنين.
    هناك قولة شهيرة للانتروبولوجي الفرنسي لويس دمونت(5) ، يحاجج فيها ضد مبدئي الخصوصية والعمومية المجردين، في معرض تطبيقهما على دراسة المجتمعات الشرقية او الغربية. ويلاحظ، مثلا، ان المراتبية في نظام الطوائف المغلقة الهندية، مع نظام المراتب، يتميز بعناصر اختلاف وعناصر تشابه مع نظام المراتب، في آن.
    من هذا المنطلق نفسه انتج بطاطو توليفة جديدة، هي بمعنى من المعاني ضد المدرسة الجوهرية الخالصة، وضد مدرسة الحداثة الخالصة، سواء بشكلها العربي او بشكلها الاوروبي. وهذه التوليفة هي أحد منابع ثرائه.
    ولعله ادرك السخف المنطقي لمذهب الخصوصية الذي يستدعي، بداهة، انتاج منهج بحث وتحليل خاص بكل مجتمع، مثلما ادرك السخف المنطقي لاتجاه العمومية المطلق، الذي يفترض بداهة وضمنا الاكتفاء بدراسة نموذج او حالة واحدة، تكفي للتعميم.
    أطل بطاطو على المجتمع العراقي دون ان يقبل مسبقا بنفي وجود الطبقات (موقف المدرسة الجوهرية) ودون ان يقبل مسبقا باثبات وجودها (موقف مدرسة الحداثة الخطة)، وترك الحكم مُرجأ حتى الفراغ من استقصاء مادة البحث في الواقع. بهذه النظرة المركبة درس بطاطو المجتمع العراقي، وبالطبع فان مدى نجاحه في تطبيقها، او مدى تماسكه المنطقي في اعتمادها، مسألة اخرى تماما. لكن ما قدمه لنا من مادة غزيرة انما يكشف عن مجتمع في مرحلة انتقالية، بالمعنى التاريخي لهذا المفهوم.
    ولكن ما معنى التاريخ وما معنى الانتقال؟ تلك هي القضية المنهجية التالية التي انشغل بها.



    II

    يشي بطاطو في واحد من اعترافاته الوجيزة بحيرته الكبيرة ازاء معنى التاريخ، وازاء التحليل التاريخي للانتقالات العنيفة كالحرب الاهلية الانجليزية (اربعينيات القرن السابع عشر – 1640) والثورة الفرنسية (اواخر القرن الثامن عشر) والثورة الروسية (1917) ويلاحظ ان عمالقة المؤرخين (تويني Tuwney، تريفور – روبر Trevor – Ruper، وهيكستر Hexter) اختلفوا اختلافا شديدا حول الاصول الاجتماعية للحرب الاهلية الانجليزية وبالذات دور النبلاء. ويقول بطاطو في نغمة تبدو يائسة "لم تُحل القضية ابدا"! .(6)
    ويعرج بطاطو على دراسات الثورة الفرنسية، فيلاحظ ان تفسير ظاهرة بروز نابليون يختلف من جيل الى آخر، ومن حقبة الى اخرى فيستشهد بالمؤرخ الهولندي، بيتر جيل Pieter Geyl، بعبارة اوردناها في المقدمة: "ما التاريخ إلا سجال بلا نهاية".
    يفترض بطاطو، وهو افتراض قابل للنقاش ان شئتم، ان التاريخ ليس موضوعية خالصة "فهناك تاريخ، ولكن هناك ايضا شيء من ذات المرء" أي ذات المؤرخ حسب قوله. ويضيف "لا مناص من ذلك"(7) . يثير بطاطو بهذه العبارة اشكالية قديمة في الفلسفة الحديثة، المتأرجحة بين الموضوعية الحديدية للتاريخ، كما تمثلها الهيجلية، (والماركسية المفسرة تفسيرا جامدا بالتبعية)، والذاتية الجامحة، كما تمثلها النيتشوية (وتيارات ما بعد الحداثة بالتبعية). هنا التاريخ صيرورة تجري وفق قانون حديدي، وهناك التاريخ نص واعادة انتاج النص باعتباره نتاجا خالصا للذاتية، ان جاز التعير. هل نلمح في ذلك محاولة توليف نابعة من رؤية منهجية واعية؟ جائز.
    لقد كان فهم التاريخ على انه مسار مقدس لا ترتبط احداثه بعلائق السببية بل يرتبط كل حدث، منفردا، بقوة متعالية تحكم السيرورة البشرية والطبيعية، يسود الثقافات والحضارات ما قبل الكوبرنيكية، او بتعبير اوغست كونت، يسود الفكر الميتافيزيقي (الديني). وكان اول تحرر لفهم التاريخ من السببية المقدسة، قد اتخذ شكل فهم عشوائي، لتطور التاريخ فهمّ يقوم على وصف اعمال العظماء، ملوكا وزعماء وقادة، ثم اتخذ، بفعل النظرة التأملية، طابع مسار موضوعي، مجلل بالغائية، أي وجود معنى باطني محرك للتاريخ، إما بوصفه تجليا للروح (العقل)، او حركة صاعدة باتجاه مملكة الحرية. يفتح الفهم الموضوعي العميق للتاريخ الباب امام تحليل التغيرات البنيوية، التي تجري بهدوء تحت السطح، حاملة مدماك التغيير. مقابل هذه المقاربة البنيوية، ثمة المقاربة الظاهرية المكتفية بتحليل ورؤية "الاحداث" المحتدمة على السطح.
    يشكل التحليل الباطني، او البنيوي، امتدادا لفكرة "اليد الخفية" (حسب آدم سميث)، فكرة وجود بنى، وقوانين تتحكم بالحركة الخفية للتغيير، التي تتراكم لتصل نقطة التحول. يتبنى بطاطو المنهج البنيوي لتحليل التاريخ دون ان يتقبل النظرة الفلسفية لوجود حركة غائبة فيه. ويحلل على هذا الاساس التحولات "الهادئة" الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تراكمت لتؤدي الى 14 تموز 1958.
    ويلومه النقاد على الاغراق في "التحليل البنيوي"، وإهمال "التحليل السياسي"( يشرح بطاطو موقفه على النحو التالي:
    "يبحث وليم روجر لويس، بعمق، آراء آخر سفيرين للملكة المتحدة في العراق الملكي وهما السير جون تروتبك والسير مايكل رايت.
    ويلاحظ روجر لويس، بصدد اسباب [ثورة تموز 1958] وجورد تضارب بيني، من جهة، وبين السير مايكل رايت ومايكل ايونيدس، الخبير الاقتصاد البريطاني، من جهة اخرى. ويقارن بين "التفسير السياسي الصارم" الذي يقدمه رايت وآيونيدس، وبين "تشديدي المفرط" على التغيرات والانخلاعات البنيوية".
    ما علة هذاالتباين؟
    يجيب بطاطو:
    "برأيي ان التاريخ ينطوي على عمليات خفية واحداث برانية، وهي مترابطة. العمليات الخفية تمضي بلا ضجيج، بل دون ان تُلحظ. اما الاحداث البرانية، بالمقابل، فقد تكون رتيبة احيانا، ومدوية وعاصفة احيانا، لكنها بيّنة في كل الاحوال. وان المبعوث الدبلوماسي او الخبير الاجنبي يميل الى تحسس الاحداث الظاهرة لا العمليات الخفية، بحكم المهنة، وذلك ما لم يكن مطلعا اطلاعا عميقا على تاريخ البلد الذي يخدم فيه".
    ويذكّر بطاطو قراءة ان السفير مايكل رايت أكدّ في يوم 22 نيسان 1958 – أي قبل 3 اشهر من الثورة – ان العراق يخلو من "أي وضع ثوري"، مرددا بذلك صدى قولة نوري السعيد الشهيرة، نهاية عام 1956 ان "دار السيد مأمونة"(9) .
    رغم ان بطاطو يلمح، من طرف خفي، الى انه لم يقبل بعضا من افكار ماركس، (فكرة الحتمية والغائية في التاريخ)، فانه يقر بأنه مدين بفهمه البنيوي لتحليل التاريخ الى ماركس وحده(10) ، وبخاصة قضايا الانتقال. فهو يشير في اكثر من موضع الى ان التحولات التي شهدها العراق في القرن العشرين ناجمة عن ارتباطه، بل زجه في حركة السوق الرأسمالي العالمي، وهو يحلل هذا "الزج" كحركة واقعية باعتماد المعطيات الملموسة، دون ان يعتبر التحول محدّدا سلفا كحتمية، او غائية واعية، بل نتاج تفاعل واحتكاك دائرتين حضاريتين، وخضوع الواحدة للأخرى.
    ولنلاحظ عرضا، ان قضايا الانتقال التاريخي الى المجتمع الحديث، تنطوي، في كلاسيكيات ماركس على نزع ملكية صغار الفلاحين وصغار المنتجين، ونشوء وتركز وتمركز رأس المال الحديث. وهي عملية درسها ماركس اعتمادا على معطيات ملموسة في انجلترا، وبلدان اخرى. اما في العراق، فان الدولة كمالك أرأس للأرض، وكناظم اقتصادي، تلعب دورا اساسيا في خلق الطبقات الحديثة من كبار ملاك الارض، وكبار الرأسماليين، بينما كانت نطف هذه الطبقات قد نشأت في حاضنة الادارة الكولونيالية.
    ومهما تكن طبيعة وسمات الانتقال هذه، أي مهما اضفنا اليها او اضاف اليها باحثون آخرون من سمات بنيوية، فان زبدة المرام هنا، الاشارة الى ان وحدة جوهر الرأسمالية، أي نشوء الرأسمال كعلاقة اجتماعية تقوم على تحويل قوة العمل الى سلعة، وتجرد المنتجين الصغار من وسائل الانتاج، لا تنفي اطلاقا تنوع اشكال نشوئها، وضرورة معاينة هذا التنوع على الارض الخصبة، لا في سماء التجريد الجدباء.

    III

    الجانب الثالث في المعمار المنهجي الذي استخدمه حنا بطاطو هو مفهومان: مفهوم الطبقة class، ومفهوم المكانة، أي الوجاهة الاجتماعية (المعروف بالانجليزية status، وبالالمانية stand).
    اعتمد بطاطو هنا، كما يذكر في عدة اماكن(11) ، بالاساس، على ثلاثة منابع نظرية: ماركس، ماكس فيبر، وجيمس ماديسون. غير انه استخدم مفاهيم هؤلاء المفكرين الثلاثة كأدوات منهجية، وليس كمعطى نهائي، يطبق عشوائيا على كل الظروف، واضاف لهذه المفاهيم، ما تيسر له من خزين الملاحظات التجريبية.
    معروف ان مفاهيم ماركس وماكس فيبر ارتكزت الى مادة تجريبية مستقاة من المجتمع الغربي، وبالتحديد بريطانيا وفرنسا (ماركس)، والمانيا واميركا (ماكس فيبر). كما اعتمد المفكران على معطيات تاريخية من غابر المجتمعات الاوروبية الاقطاعية (ماركس وفيبر)، مثلما اعتمد فيبر على مصادر انتروبولوجية عن بعض المجتمعات الشرقية.
    يرى بطاطو بحق، ان ماركس وفيبر يلتقيان في مفهوم الطبقة المعاصرة، وان فيبر مدين لماركس بالكثير (اكثر مما يعترف به في العادة) في هذه المسألة، وما عدا ذلك فبينهما عوالم من التباعد والاختلاف(12) وسنرى لاحقا اين يلتقيان واين يفترقان، اما الآن فنتناول فهم ماركس للطبقات الاجتماعية.
    ابتداء يرى ماركس (شأن فيبر من بعده) ان الطبقة تكوين اقتصادي اساسه الملكية اوانعدامها.
    وفي التجريد النظري الذي اورده ماركس، كخطوة اولى في التحليل، أي في "رأس المال" اعتمد نموذجا مبسطا ثنائيا، تقف فيه او تتواجه بالاحرى، فيه، الطبقة الرأسمالية، المالكة لوسائل الانتاج والطبقة العاملة، البروليتاريا، المعدومة الا من ملكية قوة العمل. ونلاحظ ان هذا التجريد ينطوي على حذف لكل الفئات الوسيطة بين قطبي التملك وانعدامه في المدينة الصناعية. كما ينطوي ايضا على حذف للريف بما فيه من طبقات ومراتب اجتماعية.
    بل ان الصورة كلها تخلو من بقايا المراتب الاجتماعية ما قبل الصناعية.
    غير ان هذه الحذوفات مؤقتة، يتطلبها منهج العرض Presentation، لا منهج البحث Research.
    لنتذكر ان "رأس المال" يصور منطق الرأسمالية، منطق الانتاج، وإعادة الانتاج الموسع، الذي يسير، من خلال آليات التركز والتمركز، الى نزع ملكية المزيد من المالكين الصغار، أي تجريدهم من ملكيتهم وتكديس او مراكمة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج في هذا القطب، وحرمان القطب الآخر منها. تظل هذه العملية في اتساع سائرة على اساس الافقار النسبي والمطلق، الى ايصال المجتمع متعدد الطبقات، الى ما يقارب التجريد الثنائي.
    هذا هو التجريد النظري الذي انطلق منها المجلد الاول من رأس المال. ولا تظهر الطبقات الاخرى، وبخاصة ملاك الاراضي، (والملاك العقاريين عموما) إلا بعد دراسة الريع.
    تتناول دراسات كثيرة لماركس الفئات الوسطى الصغيرة، التي يطلق عليها بالالمانية Kleiner Mittle Klasse الى جانب العمال. وللأسف فان الترجمات العربية لهذا المفهوم، الأوضح، والأكثر دقة، اعتمدت النص الفرنسي وهو البرجوازية الصغيرة Petite bourgeoisie دون النحت الالماني. فهذا الاخير يحدد الموقع بدقة: صغار الطبقة الوسطى. وتناول ماركس ايضا الفلاحين، في ثلاثيته الشهيرة عن فرنسا، وبخاصة "الثامن عشر من برومير".
    بموازاة ذلك، استفاض ماركس في تحليل كل طبقة، وبخاصة الرأسمالية. فمفهوم "الطبقة الرأسمالية" يبدو بمثابة تعبير عن كتلة شاملة، صوانية ان جاز التعبير. عمد ماركس الى تقسيم هذه الكتلة الشاملة في الظاهر، الى اجزاء فرعية، رأسمالية صناعية، رأسمالية مصرفية، رأسمالية عقارية.
    حصر ماركس جل تناوله للطبقات في اطار حقبة محددة اطلق عليها اسم التشكيلة الرأسمالية، او الحقبة الصناعية (Industrialism)، كما يسميها بعض السوسيولوجيين.
    واقام مفهوم الطبقة على اساس اقتصادي حصرا (الملكية وانعدامها)، واعتبر الطبقة محددا للفعل السياسي والاجتماعي الجمعي (الوعي، السلوك، الموقف السياسي)، وان كان هذا الفعل دفاقا، ومتطورا، ينتقل من العفوية (الطبقة في ذاتها) الى القصدية الواعية (الطبقة لذاتها)، مرجعا هذا التحول الى نمط المؤسسات الرأسمالية ذاتها (المصانع) التي تنطوي على انضباط عمل، وتقسيم عمل صارم، اشبه بالتجييش ان صح التعبير، وتحشيد جمعي في ثكنات العمل، وعيش مشترك في احياء الفقر.
    ويرى ماركس ان لا معنى لمفهوم الطبقات المعاصر إلا في اطار التضاد بين رأس المال والعمل، كما يرى ان هذا التضاد لا بد ان يفضي الى الغاء الطبقات، معتبرا ذلك غائية تاريخية مستمدة من التطور الموضوعي للتاريخ نفسه.
    انطلق فيبر في تحديد فكرة او مفهوم الطبقة من الأساس الاقتصادي الماركسي نفسه (الملكية وانعدامها)، وان يكن حصر الطبقة في اطار "الوضع في السوق"ـ أي القدرة التنافسية على تحديد الموقع في السوق. ورغم ان الطبقة تشكل اساسا للفعل الجمعي، برأي فيبر ايضا، الا ان هذا الفعل عارض، نسبي، ومحدود.
    وخلافا لماركس، فتح فيبر مفهوم الطبقة على مدى التاريخ كله، وليس على الحقبة الصناعية. فالرأسمالية في عرفه اقدم من العصر الصناعي، وانها اذ كانت تقوم على الحروب (النهب) وغير ذلك من اشكال النشاط غير العقلاني، لكنها تحولت الى الحساب الاقتصادي العقلاني (في الحقبة الصناعية). وبصرف النظر عن مدى دقة هذا المفهوم التاريخي الفيبري للرأسمالية، فقد اخذ فيبر ما اسماه "طريقة توزيع سلطة التصرف بالملكية المادية" اساسا لتحديد الطبقة الحديثة. لكنه لاحظ ان الثروة ليست المحدد الوحيد للموقع الطبقي في اطار مجتمع محدد، فأضاف لها ابعادا ثقافية – سوسيولوجية اخرى، مثل المعرفة والتعليم، او فكرة الشرف كقيمة ثقافية (نبالة المنحدر او وضاعته) او المنحدر الاثني للأفراد.
    ويميز فيبر بين الطبقة class، والمكانة او الوجاهة status، ويمكن ترجمة هذا المفهوم الاخير بأصحاب الحسب والنسب، او الوجهاء، او الأعيان، (تقابلها بالالمانية Stand).
    هذه النظرة تضفي على مفهوم الطبقة ابعادا أوسع، وتتسم بالتمييز بين العوامل الاقتصادية والثقافية في تحديد الموقع الاجتماعي، كما تسمح بتركيب هذه العوامل في تضافرها وتداخلها، أي القول بوجود طبقات من جهة، والقول بوجود جماعات مكانة أي وجهاء موزعين على طبقات شتى، او وجود فئات طبقية شتى ضمن جماعة مكانة واحدة. يتناول فيبر هذه الاشكالات في مجلديه الكبيرين: "الاقتصاد والمجتمع" ضمن مبحث وجيز بعنوان:
    Political Communities: The Distribution of Power within the Political community: Class. status, Party.
    الجماعات السياسية: توزيع السلطة ضمن الجماعة السياسية: الطبقة، المكانة، الحزب(13) .
    اعتقادي ان هذا المبحث قدم لبطاطو الأدوات المفهومية لتحليل البنية الاجتماعية ذات الطابع الانتقالي في العراق، علاوة على اعتماده مفاهيم ماركس، والى حد ما مفاهيم جيمس ماديسون الامريكي.
    يقسم فيبر الطبقات الى ثلاثة عناقيد:
    العنقود الاول: الطبقة ذات الملكية.
    العنقود الثاني: الطبقة المنتجة.
    العنقود الثالث: الطبقة الاجتماعية.
    ان تمييز الطبقات على اساس ان بعضها "مالك" وبعضها "منتج" وبعضها "اجتماعي" قد يكون ملتبسا.
    غير ان الطبقة المالكة عند فيبر، تعتمد على امتلاك رصيد معين (منجم، ارض، مواش، عبيد) دون ان تتولى تشغيل هذا الرصيد. فهي تؤجر هذه الارصدة، مستدرة الريوع. أي انها مالك لوسائل انتاج.
    اما الطبقة الثانية، المنتجة، فهي منظمة للعمل او مساهمة فيه (الانتاج)، دون ان تكون بالضرورة مالكة لأدوات الانتاج المستخدمة، أي انها منظمة انتاج مادي (سلعي) مستدرة الربح الرأسمالي الاصلي.

    واما الطبقة الثالثة، الاجتماعية حسب تعبير فيبر، فهي خلافا للأولى، لا تملك وسائل مادية لتأجيرها، ولا تتولى استئجار هذه الوسائل لانتاج سلع مادية، وانما تبيع الخدمات، اعتمادا على التعليم (المعرفة المنظمة). أي انها خدمية، بياعة معلومات.
    يحوي كل عنقود تفرعات. فالطبقة المالكة الريعية (العنقود الاول) يقابلهان ضمن حقلها، قطب محروم من أي وسيلة للحصول على الريع وتقع بين هذين القطبين فئة وسطى ريعية.
    ونجد النمط نفسه من التقسيم في تحليل فيبر للطبقة المنتجة (العنقود الثاني) الى منتجين كبار، يقابلهم منتجون بلا ملكية على الطرف الأقصى، وتقوم بين هذين القطبين فئة وسطى منتجة.

    ويتكرر نمط التحليل ذاته مع العنقود الثالث (الطبقة الاجتماعية)، فهناك اناس يقدمون خدمات بمستوى رفيع، يفترض انه يدر ايرادات اكبر، يقابلهم طرف معدوم التعليم او المهارات في القطب الأقصى، وثمة بين القطبين فئة وسطى خدمية.
    من هذا التقسيم الثلاثي لكل عنقود من العناقيد (وهي ثلاثة ايضا) يتضح ان هناك فئة عليا وفئة دنيا وفئة وسطى. والحصيلة وجود ثلاثة انماط مفهومية للطبقات الوسطى: ريعية، منتجة، وخدمية. (انظر الجدول)




    جدول – الطبقات الوسطى عند ماكس فيبر



    الطبقة الما لكة
    (تعيش على الريع)
    عليا

    الطبقة المنتجة (تعيش على الربح)
    (الرأسماليون المنتجون)
    عليا
    الطبقة الاجتماعية
    (الراتب)
    عليا



    وسطى
    وسطى
    وسطى

    طبقة
    دنيا محرومة
    طبقة
    دنيا محرومة
    طبقة
    دنيا محرومة






    IV

    استخدم بطاطو هذا التقسيم اساسا لدراسة الطبقات الوسطى في العراق. ولعل التعديل الوحيد الذي اضافه، اعتمادا على المعطيات الملموسة للواقع العراقي، انه خلص الى وسم البنيان السياسي والاجتماعي للدولة العراقية بعد تموز 1958، بأنه حقبة الطبقة الوسطى.
    ولو عدنا الى جدول بطاطو الشهير عن نمو الطبقات الوسطى (1958 – 196 لوجدناه يقصره على الطبقات الوسطى الخدمية (اصحاب المهن)، والمنتجة المالكة (مؤسسات الانتاج المتوسطة والصغيرة).(14)
    تقوم نشاطات الفئة الاولى على بيع الخدمات (اساسا للدولة، دون استبعاد القطاع الخاص)، للحصول على مداخيلها بهيئة رواتب (من محامين، ومعلمين، ومدرسين وضباط، وموظيفين) اما الفئات الاخرى فتعتمد على تنظيم الانتاج (اصحاب ورش انتاجية وخدمية).
    لا يعني هذا التقسيم عدم وجود فئات مزدوجة (تعتمد على الملكية والراتب). كما لا يعني ان الفئات البائعة للخدمات، لا تستطيع تحويل خدمتها الى ملكيات ريعية، او دخول حقل الانتاج، مما يولد ثلاثة أنماط قريبة الشبه بالتقسيم الفيبري. الواقع ان بطاطو يفرد حقلا خاصا لمتوسطي وصغار المالكين الريعيين للأرض، في اطارعلاقات الملكية الزراعية. مرد هذا الاستبعاد معيار منهجي يقوم على اعتبار الفئات الوسطى نتاجا حديثا، مقصورا، في الفترة المبحوثة، على الحواضر دون الارياف.
    يستبق بطاطو دراسته للفئات او الطبقات الوسطى، التي تحتل موقعا مركزيا في التاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق، بدراسة الطبقات او بتعبير أدق المراتب الاجتماعية القديمة، وهي الملاكين، الشيوخ، الأغوات، السادة، الارستقراطية القديمة (أي الموظفين الاتراك) والتجار الجلبية، والصرافين والتجار اليهود، والضباط الشريفيين.
    ويرصد تداخل هذه الطبقات القديمة مع تقسيمات اخرى، ثقافية، مقررة للمكانة الاجتماعية (للوجاهة)، وان هذين المعيارين (الموقع الطبقي class من جهة، والمكانة status)، يضفيان تعقيدات شديدة على انحلال وإعادة تشكل الطبقات الاجتماعية الحديثة، من الطبقات المالكة العليا (من صناعيين، ورأسماليين تجار، ومقاولين، وكبار ملاك ارض)، والطبقات الوسطى، والطبقات معدومة الملكية (العمال، الفلاحون، المعدمون... الخ).
    ان فكرة او مفهوم المكانة او الوجاهة (stand. Status)، حسب النظرة الفيبرية، تتعايش جنبا الى جنب، لا في تراتب افقي، بل في تراتب عمودي. بمعنى ان المكانة متدرجة هرميا، تضع بعض الفئات في موقع اكثر سموا وشرفا، وفئات اخرى، في مواقع اقل، فأقل، وصولا الى أدنى الهرم.
    تقوم هذه المراتبية على المعايير الثقافية (الدين، التعليم)، او المعايير القيمية (نبالة الأصل او وضاعته المفترضة) او المادية (قوة التنظيم العسكري لقبائل أهل الابل).
    قلت ان بطاطو التفت الى رؤية فيبر لمفهوم المكانة status، والطبقات، ولكنه، والحق يقال، أفاد من تجربة حياته الوجيزة في مدينة القدس قبل هجرته الى الولايات المتحدة. فالقدس، مثل كثرة من مدن المنطقة، مدينة تقوم على نظام الملل العثماني، الناظم لمراتبية المجموعات الدينية، من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، مثلما ان كل "ملة" تنقسم بدورها الى جماعات فرعية، مثل وجود الأسر الشريفة، والأسر الدينية، او الأسر التجارية العريقة، (او قادة الطرق الصوفية في مدن معينة).
    كما تنقسم المدينة القديمة الى احياء مغلقة، لا تتصل ببعضها.
    وتندرج المجموعات المتمايزة ثقافيا (الدين) الى هرم اجتماعي يقف على رأسه المسلمون، فالمسيحيون، فاليهود. وغني عن البيان ان منظومة مقاربة لهذه قامت في العراق العثماني.
    ولو تذكرنا القسم الاول من كتاب بطاطو "الطبقات الاجتماعية، الخ" لوجدنا انه يقدم وصفا عاما للمجتمع العراقي يقف المسلمون في القمة منه، ليليهم المسيحيون فاليهود. ويتدرج المسلمون مذهبيا، حيث يقف السنة في قمة النظام المراتبي (المللي) العثماني، ليليهم الشيعة.
    والجديد عند بطاطو انه ينتقل بمراتبية المكانة الفيبرية الى حيز جديد: الارياف والبوادي.

    خلافا للخرافة الشائعة عن "المساواتية البدائية" في عالم القبائل، نجد ان هناك مراتبية صارمة، يقف فيها اهل الابل في القمة (بفضل تنظيمهم العسكري الأرفع)، ليليهم الحراثة (المستقرون في الزراعة)، فالمعدان. هذا التمايز يشي بوجود مراتبية بين العشائر، هي علاقات ناشئة (في اصولها البعيدة) عن عوامل مادية (التنظيم العسكري) وثقافية: قيم نبالة او نقاء المنحدر، أي ايديولوجيا النسب. ثم تحولت هذه الفروق، في اطار علاقات الملكية الزراعية الجديدة (بعد الاستقرار) الى فروق في الثروة (امتلاك الارض من عدمه).
    هذه النظرة المركبة للبنية الاجتماعية العراقية، المعتمدة على مفهوم الطبقة ومفهوم المكانة، ومزيجهما، بل تداخلهما المعقد، سمح لحنا بطاطو ان يتجاوز التبسيطات المفرطة، الجدباء بالاحرى، لتصوير المجتمع العراقي مجتمع طوائف فحسب، او مجتمع طبقات فحسب.
    وبالطبع فان انجاز بطاطو الكبير، مهما اوغلنا في ما يستحقه من ثناء، لا يخلو من مواطن ضعف تحفز على النقد.
    ولعل الملاحظة الأبرز، برأيي، تتصل بالطبقات الوسطى. يوحي بطاطو (لربما عن غير قصد) بوجود تطور خطي صاعد للنمو المطرد لهذه الطبقات، علما ان التجربة الاخيرة لبعض البلدان العربية (وغيرها) يشير الى ان الطبيعة المهزوزة، المتقلبة للاقتصاد الريعي – الدولتي، لا تسمح باطراد نمو هذه الطبقات، بل يؤدي، عند نقاط معينة، الى انهيار مراتب واسعة منها (مثال العراق، او السودان)، وانحدار الفئات المعتمدة على الراتب منها انحدارا شديدا الى مرتبة بروليتارية متعلمة، تحمل تطلعات الطبقات الوسطى الحديثة (بفضل التعليم) وتعجز عن تلبية هذه التطلعات في سوق العمل، المتخم. الواقع ان هذه الفئات تشكل الفضاء الاجتماعي لنمو الحركات الاسلامية الاحتجاجية.
    الملاحظة الاخرى، ان بنية الفئات الوسطى اكثر تعقيدا مما يلوح للوهلة الاولى، سواء من حيث المداخيل، ونوعية التعليم والمنحدر الاثني، ناهيك عن المحددات الثقافية القديمة للمكانة كالمعرفة الدينية – السادة ورجال الدين ومشايخ الطرق (وهذه الفئة الاخيرة تبرز اكثر في كردستان العراق)، او النسب النبيل (السادة – بالنسبة للشيعة، والاشراف – بالنسبة للسنة) او ايديولوجيا القرابة (بيوتات مشايخ العشائر، او الانتساب القبلي).
    هذه العوامل ما قبل الحديثة، ما تزال ماكنة، تفعل فعلها تحت السطح عموما، او سافرة فوق السطح، احيانا. وهي منبع تشطير للفئات الوسطى، تشطير يخفت في فترات التطور العاصف، وبخاصة المقرون بتحولات في مجال الثقافة السياسية كصعود ايديولوجيات جامعة – اممية او قومية مثلا – تتجاوز التشظيات او التفرعات الجزئية، لكن هذا التشطير يشتد في فترة تدهور اثر هذه الايديولوجيتين أيا كان سبب التدهور.
    الملاحظة الثالثة تتعلق ايضا باعتقاد بطاطو بوجود مسار تطور خطي لانحلال القبائل. فمرونة التنظيم القبلي، تسمح له بالعيش في صيغ شتى، حتى بعد انفصاله عن اقتصاد الرعي، او الاقتصاد الزراعي. وما استمرار انماط معينة من التنظيم القبلي في الحواضر إلا دليل على ذلك. وهو استمرار يجد تفسيره (بين عوامل اخرى) في بقاء ما نسميه مجازا بـ"القبلية الثقافية" Cultural Tribalism)، أي استمرار القيم الجماعية القبلية (الالتزامات المالية المتبادلة – دفع الديات مثلا، والتعاضد الاجتماعي) في بيئة الحواضر، المفعمة بالضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والثقافية (القيم، طراز العيش... الخ).
    وما إعادة بناء العشائر في العراق، ومناطق اخرى، إلا أحد الامثلة على ذلك.
    وما ينطبق على العشائر ينطبق على فئات اخرى من جماعات المكانة ، كالسادة والفقهاء، او السادة – الفقهاء. يرجع ذلك، في اطار العراق، الى صعود دور الاسلام السياسي الايراني، والدور البارز الذي لعبته المؤسسة الدينية، بقيادة السادة – الفقهاء هناك، وانعكاس هذا الصعود على الوضع الاجتماعي – السياسي العراقي.
    وتعد طبقة الفقهاء – السادة في العراق، حاليا، واحدة من انشط الفئات الاجتماعية في المجالين السياسي والاجتماعي، اذا قسنا درجة نشاط أي فئة بعدد الافراد المنخرطين في التحرك السياسي والفكري والاجتماعي. وهذاالوضع يلغي استنتاج بطاطو بـ"تدهور" مكانة السادة، او، ان توخينا الدقة، يعدل هذا الاستنتاج.
    _____________

    - The Iraqi Revolution of 1958, The Old Social Classes Revisited.
    R. Fernea R Wm. Louis (editors) I. B. Tauris. London, 1991, P. 212.
    2 The Arab Society, Arab Social Science Perspectives, 3rd print 1992 (1977), Edit. By S. Ibrahim Nicholas S. Hppkins, Cairo, The American University Press, P. 379.
    3 حول نظوة المدرسة الجوهرية والتباينات فيها، انظر على سبيل المثال:
    S. Zubaida, Is There A Muslim Society? Emest Gellner’s Sociology of Islam, in/ Economy and Society, Volume 24, No. 2, May 1995, Pp. 152 – 153.
    4-علي الوردي: "منطق ابن خلدون"، طبعة قم، 1997، ص 298 – 299.
    5-وهو من افضل الدراسات عن الطوائف في الهند. Louis Dumont, Homo Hierarchicus, London, Paladin, 1970
    6-المرجع نفسه، ص 211.The Iraq Revolution of 1958
    7-المرجع نفسه، ص 212.
    8-المرجع نفسه، ص 214.
    9-المرجع السابق، ص 214.
    10-المرجع السابق، ص 212.
    11-يذكر ذلك في مقدمة كتابه "الطبقات الاجتماعية القديمة" وفي حواشي دراسته الموسومة: "الطبقات والمجتمع العراقي"، كما يأتي على ذلك في مساهمته لكتاب “The Iraqi Revolution of 1958” الذي سبق ذكره.
    12-المرجع السابق، ص 212.
    13-:Max Weber, Economy and Society, Volume 2, ch. Ix, Edited by G. Ruth C. Wittich, California University of California Press, (196 1978, pp. 026 – 39.4
    - 14 H. Batatu, Old Social Classes, P. 1126

    (عدل بواسطة Osman M Salih on 10-29-2005, 00:30 AM)

                  

10-29-2005, 00:41 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    نحن والعالم في ظلال 11 أيلول


    فالح عبد الجبار
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1322 - 2005 / 9 / 19



    18/09/05
    لعل مشهد الطائرة المنقضة على برج نيويورك، وكرة النار المندلعة، ثم سقوط البرجين تباعاً، وفرار المارة المذعورين، تطاردهم عاصفة من حطام مبنى التجارة، سيعمر طويلاً في ذاكرة العالم، لدى الساخطين، ولدى الشامتين. توافق هذا الحدث مع لحظة خاصة في تاريخ العالم، لحظة البحث عن معنى جديد لهذا التاريخ ووجهته، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية عصر الحرب الباردة. وهذا الانهيار اطلق على جبهة الأفكار عدة استجابات نظرية، أبرزها نظرية حرب أو صدام الحضارات لصامويل هانتنغتون، ونظرية نهاية التاريخ لفوكوياما. ثمة نظريات أو استجابات فكرية أخرى بينها استجابة داعية ظفر العولمة (أوهمي) ودعاة لجم العولمة بانشاء حكومة عالمية (جماعة بيان ستوكهولم). ويمكن تقسيم هذه المذاهب الى ثلاثة توجهات. التوجه الأول هو الليبرالية المسلحة (كما يمثلها هانتنغتون)، التي ترجح كفة الصراع، وتبقيه، بل تذكيه، وتمده على قاعدة منظّر الحرب الحديثة الألماني كلاوزفيتز: الحرب امتداد للسياسة.
    أما التوجه الثاني، فهو ليبرالية السوق (فوكوياما، وأوهمي)، أو الليبرالية السلمية، التي ترى في انتصار اقتصاد السوق انتصار الاقتصاد على السياسة (وعلى العسكرة بالتبعية)، على قاعدة أيو الليبرالية الأول آدم سميث. أما الاتجاه الثالث، فهو الاتجاه الديموقراطي الاجتماعي الساعي الى لجم الاقتصاد الكوني الطليق بانشاء حكومة عالمية، تنجي العالم من انفلات قوى السوق، فتعيد بالتالي لعالم السياسة موقعه المؤثر، باتجاه مجتمعات أكثر توازناً.
    هذه الموتيفات الثلاثة تحمل بطرق مختلفة أوجهاً شتى من عالمنا المعاصر. فالحرب ما تزال عنصراً مهماً في العلائق الدولية، كما في علائق الدول بأممها، وستظل كذلك لأمد غير معلوم. ولعل أبرز قرينة على ذلك أن الموازنات العسكرية لم تتغير تغيراً يذكر حتى اللحظة. كما أن اقتصاد السوق بدأ زحفه البطيء منذ الثمانينات ليتحول الى تيار قوي يخترق الاقتصادات الأوامرية، اختراقه لعالم اقتصاد الكفاف البالي. وأما الميل الى انشاء أجهزة تحكم سياسي كونية، أو فوق قومية ما تزال متلكئة (مجموعة الثمانية، الاتحاد الأوروبي).
    جاءت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) المدمرة لتطغى على الحل الليبرالي (آدم سميث)، وتغذي اتجاه الحل الكلاوزفيتزي، المسلح. والغرب نفسه منقسم بين هذا وذاك. وعلى هذا فإن نظرية صدام الحضارات تلقت نجدة كبرى من أحداث 11 أيلول المأسوية.
    كان مصطلح «الحضارة» يهجع في سبات، منسياً في ادراج الماضي قبل أن يعيده هانتنغتون الى التداول في القلب من نظرية العلاقات الدولية. والمشكلة في نظرية هانتنغتون، كما عند فوكوياما، هي التبسيط المفرط.
    المعروف، منذ فلسفة كانط السياسية، أن العالم مؤلف من مونادات (دول) قومية، وهو ينزع الى الاحتراب والتصالح في آن، فكل احتراب ينطوي علىتصالح و كل تصالح على احتراب ، في حركة مستديمة يتقلص فيها الأول لمصلحة الثاني. أما صاحب حرب الحضارات فيحذف المركّب الثنائي، مفرغاً اياه من ديناميكيته المعقدة، ومحركاً اياه باتجاه وحيد. كما أن نظرية صدام الحضارات تلغي أهم سمة للمعمار العالمي، وهي كونه يتألف من دول قومية لا من حضارات. فمفهوم الحضارة يكتسب معناه من تضاده مع نمط التنظيم الاجتماعي - السياسي السابق على نشوء الحواضر (المدن)، بما فيها من بنى سياسية وقانونية تتفوق على حالة الفوضى المفترضة في المجتمعات الرعوية والزراعية البدائية السابقة على نشوء الحضارة.
    والمشكلة الثالثة في هذه النظرية أنها تختزل الحضارة الى جوهر ثقافي - روحي هو الدين، وتذهل عن رؤية البنيان الحضاري بوصفه كلاً معقداً، متفاعلاً هو أصلاً ثمرة عمل وتلاقح أقوام وديانات عدة. ولعل الحضارة الإسلامية هي المثال الأسطع، حيث اندرجت فيها شعوب شتى، وثقافات لا حصر لها. فما من حضارة، إن بقي لهذا المفهوم من معنى مادي في عالمنا المعاصر، دائرة مغلقة على غرار تخيلات أوزفالد شبنغلر صاحب كتاب «سقوط الحضارة الغربية».
    المشكلة الأخيرة في نظرية حرب الحضارات أنها تتعجل ملء الفراغ النظري المفسر للعالم، كما بدأ يتشكل بعد سقوط التجربة السوفياتية وزوال ما كان يعرف بـ «المعسكر الاشتراكي». ولعل أبرز نفي لهذه النظرية الحربية بامتياز، أن تزايد العسكرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة يلقى معارضة شديدة داخل «الحضارة الغربية» المنقسمة بين كلاوزفيتز وآدم سميث، وماركس (بالتفسير الاجتماعي الديموقراطي للأخير). بل ان الانقسام ماثل حتى داخل الولايات المتحدة. ذلك أننا في عالم دول، مونادات لها مصالح متباينة، ورؤى متنافرة، مثلما لها مواطن لقاء.
    في المقابل، أجد أن تسهيل الانعطاف من كلاوزفيتز الى آدم سميث مسؤولية تقع في جانب منها على «حضارتنا» العربية الإسلامية، المثقلة بقيود الماضي، والهيابة من انتقالات الحداثة. ذلك أن مجتمعاتنا ما تزال على تصادم شديد بين قطاعات البدو والزراع المستقرين والحضر، تصادم في القيم وطراز العيش ونمط التفكير. ونرى ذلك جلياً في النظم السياسية ومصادر شرعيتها، نظم «ثورجية» (وليس ثورية) لها شرعية ذاتية باسم أمة هلامية، و نظم إسرية لها شرعية مقدسة و ما بين ذلك من تلاويين. أما حركة التحديث في بلداننا الجارية منذ قرن ونيف تصطدم ببنى سياسية تقليدية لا تسمح لها بالتعبير عن النفس سلمياً، على غرار الغرب.
    في غضون ذلك، تمضي الحضارة ما بعد الصناعية بوتيرة مدوية تزيد الهوة الفاصلة، وتخلق بمجرد تقدمها لحظة مأزومة مع «حضارات الماقبل». وإزاء احتدامنا الداخلي، واحتدامنا مع العالم المحيط، نرى ان «الغرب» نفسه يتخذ مواقف مزدوجة. ففي جانب نراه لا يجد في استمرار البنى السياسية البالية، التي لا تتواءم مع الاقتصاد الحديث ومعمار الدولة الحديثة، اي ضير، هذا إن لم يكن مسانداً لها سراً أو علانية. ألم نكن (بل وما نزال) نستشيط غيظاً إزاء مظاهر التعاون والرعاية السياسية الغربية لأنظمة حكم تقليدية، أو ديكتاتورية. بل ان غيظنا من استمرار عالم الماضي يدفعنا الى ان ننحو باللائمة على هذا الغرب باعتباره المسؤول عن استمرار هذا التخلف. في المقابل نشهر كل أسمالنا الفكرية إذا ما عزّ لأحد من الغرب ان يضغط باتجاه الاصلاح، أي في اتجاه «حلحلة» الجمود، دون أن نقر بفشلنا. اعلم ان ديناميكيات التغيير تتبلور داخلياً وان ضعفها بالتالي هو مسؤوليتنا الأولى، التي نولي الإدبار عنها بكل إباء، مثل أسد عجوز فقد أنيابه. وأعلم أيضاً أن «الغرب» ليس منزّهاً عن كل ما يُكال له من اتهامات، أو عن كل ما يُنسب اليه من خيبات. هاكم آخر فشل مدوٍ في العراق: ظفر الديموقراطية الذي بشرت به كوندوليزا رايس تحول الى بوابة الانتقال الى حكم اسلامي متزمت في اكثر المجتمعات العربية مدنية. وأجد في هذا الفشل ثمرة تحول النظام الحداثي البعثي الى عشيرة منظمة في دولة تستبدل ايديولوجيتها العلمانية بأيديوجيا القرابة والخرافة الدينية تبعاً لمصالح استمرارها، مثلما هو فشل التجربة الاميركية في الدمقرطة المعسكرة لمجتمع تجهل تضاريس بُناه الثقافية، ومؤسساته المجتمعية. وهذا هو ايضاً فشل القوى الوسطية العراقية نفسها (اليسار، الليبراليون، الخ) التي عجزت عن البناء الذاتي .وأخيراً، فهو فشل محيطنا العربي، الذي حول ديكتاتور العراق الى بسمارك العرب، وغرق حتى أذنيه في تقديس الزعيم والأهداف القومية بدل متطلبات ارساء السياسة على مبدأ الديموقراطية، والفكر على قاعدة التعدد.
    ختاماً، أرى ان نمط تقاتل «الغرب» معنا أقام من الأصنام أكثر مما يعمل على تهديمه اليوم، أما نحن فندير ظهورنا مستنكفين عن حمل المعاول، نادبين «الحظ العاثر» مستسلمين للبكاء على الأطلال الدارسة، والحاضر المزري، والمستقبل الذي لا اسهام لنا فيه.
                  

10-29-2005, 01:28 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4701

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    (القاتل الأجير في عراق اليوم هو في الاغلب الأعم جندي سابق, تعلم فن القتل, ومارسه بلا قيد على جبهات القتال, وعاد الى الحياة المدنية معدماً, بلا عمل, بلا أمل, بلا طائل.)

    مقتطف من اعلاه


    الخوف يا عثمان من مثل هؤلاء فى سوداننا ذلك المسمى مجاهد او مدافعا شعبيا الذى تعلم فن القتل بلا قيد على جبهات القتال وفن الكراهيه كراهية الآخر ويعود الى الحياة المدنيه معدما بلا عمل بلا امل بلا طائل هؤلاء هم الذين يدمرون السودان
                  

10-29-2005, 03:17 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: wadalzain)

    للخشية من تكرار التجربة العراقـية ما يبررها يا أخي
    المفضال ود الزين في مجتمعنا الذي عـسكـّرته و غذته
    بقـيم العنف شمولية أصولية
    للخشية مايبررها في تأمل المآلات الكارثية لإنهيار
    الأنظمة الشمولية في شرق أوربا حيث نشأت المافـيات
    الجديدة من نواة تحالف آثم بين الفاقة و البطالة
    وعناصر المخابرات القديمة والفـئة المسماة بال
    culturists

    لها مايبررها في الخبل الجماعي الذي أفرزه سقوط
    شمولية سياد بري وتفكك الدولة الصـومالية في
    " محلول " الحرب الأهلية

    الأمثلة عديدة ولا يبعث واحد منها على الطمأنينة

    معذرة للتعديل أملاه إضافة مفردة

    (عدل بواسطة Osman M Salih on 10-29-2005, 04:35 AM)

                  

10-29-2005, 02:49 AM

Ahmed Daoud
<aAhmed Daoud
تاريخ التسجيل: 01-30-2004
مجموع المشاركات: 755

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    الاستاذ عثمان

    كل عام وانت بخير
    سنفتقدك كثيرا خلال هذه الفترة
    ارجو ان لا تطيل الغياب


    لك كل الود والامنيات الطيبة

    احمد داود
                  

10-29-2005, 03:20 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Ahmed Daoud)

    العزيز أحمد داؤد
    شكراً لطيب ما كتبت
    تأجلت الإستراحة أكثر
    مما يجب
    أراك و الجميع في
    يناير القادم بخير

    آفيالوقو
                  

10-29-2005, 12:04 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    لن تكون عودتي للنشاط في المنبر ممكنة ، كما
    أسلفت ، قبل العاشر من يناير القادم

    تعوزني في فترة الغياب مقالة لـ سمير أمين
    عنوانها " الإشتراكية أو البربرية " نشرتها
    مجلة " النهج " عام90 أو91 ( لا أذكر ).
    حوت المقالة مقاربة خاصة لأحد منظـّري مدرسة
    التبعية لوقائع إنهيار المعسكر الشرقي

    أرجو ممن بحوزتهم المقالة التفضل برفدي بها
    على إميلي المشهر في البروفايل
                  

10-29-2005, 12:48 PM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    العزيز عثمان محمد صالح

    شكرا . لا تغب طويلا

    مرتضى جعفر
                  

10-29-2005, 01:26 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Murtada Gafar)

    العزيز مرتضى جعفر

    هي آخر الساعات ،الليلة ، قبل غياب مؤقت
    مؤجل و ضروري
    عـشـمي أن تعينني في الحصـول على المقالة
    المذكورة أعلاه و بسطها وتوائمها و شبيهاتها
    في المنبر

    عـسى و لعل
                  

10-29-2005, 01:40 PM

خضر حسين خليل
<aخضر حسين خليل
تاريخ التسجيل: 12-18-2003
مجموع المشاركات: 15087

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: Osman M Salih)

    وردة ومنديل

    ياصديقي ولا تغيب طويلا

    شكرا لهذ البوست


    خضر
                  

10-29-2005, 02:50 PM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: http://www.rezgar.com/m.asp?i=787 (Re: خضر حسين خليل)

    ولك الحدائق بابلية وغير
    غير بابلية يا قريبي خضر

    الغياب المؤقت ضروري و مفيد

    ثمة أخبار مفرحة

    سأمسجرك بها( من مسنجر )
    اليوم إن بنت على الشاشة
    أو غدا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de