هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-19-2024, 01:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-15-2005, 05:29 PM

عبداللطيف خليل محمد على
<aعبداللطيف خليل محمد على
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 3552

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ (Re: عبداللطيف خليل محمد على)

    مكة مهد اللسان العربي: توحيد اللهجات
    عبد الهادي محمد دحاني
    أستاذ مؤهل
    كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة
    ـ جامعة شعيب الدكالي ـ المغرب

    الملخص:

    تُعْتَبرُ مكة1 مَحْضِنَ لغات العرب، وتعتبر اللهجة القرشية من أهم اللهجات، ومن أعظمها أثراً في النَّسَقِ اللغوي العربي، بل إنها النواة التي تَكَوَّنَ منها هذا النسق، ودرج عليها حتى استوى على سوقه، فأعجب النحاة واستبد بألباب اللغويين عامة.

    وقد بدأت اللغة العربية على ألسنة العرب الأولين وقبائلهم القديمة من أمثال عاد التي كانت تعيش في جنوبي جزيرة العرب، وثمود التي كانت تجاور الآراميين في شمالي الجزيرة. وهذا التفرق للقبائل دعا إلى تفرق اللهجات، ثم تأثرت لهجات الشمال بالآرامية التي هي إحدى اللغات السامية، أخوات العربية، وكانت بقايا من معالمها لا تزال تظهر في نسق اللغة العربية.

    إن اللهجة القرشية هي التي ترعرعت في مكة مهبط الألسنة، كما هي مهبط الديانات ومهوى الأفئدة، لتكون الوثيقة الأساسية في الدرس اللغوي قديما وحديثا. ثم تطورت هذه اللهجة لتصبح اللسان العربي الموحد والمشترك بين جميع العرب، ومنه تفرعت اللغات المسماة باللهجات العربية، كالهذلية والأسدية والتميمية، ولغة ربيعة ولغة طيء وغيرها. ولقد أعطتها مكة، أم القرى، هذا الطابع المركزي وأكسبتها مكانتها العالمية منذ تكلم ولد إسماعيل في مكة المكرمة، وربما قبل أن يرفع قواعد بيتها في معونة أبيه إبراهيم الخليل عليهم السلام جميعا، وكان إبراهيم نزل بمكة أول مرة، وهي واد غير ذي زرع، لا عشب فيه ولا ماء. وقد ذكر الله هذه البقعة المباركة من العالم في القرآن الكريم، وجاء ذكرها تكريماً وتعظيماً لشأنها، حيث قال على لسان نبيه هذا الخليل: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم)2.

    وقد شاء الله تعالى أن تتملك مكة ما حولها، إذ كانت منابة للعرب وأمناً، لأنها تمسك بيدها زمام الأمور في المجتمع العربي. وقد أشار القرآن إلى تجارتها برحلة الشتاء والصيف، وجعلت التجارة من مكة مركزا ماليا في الحجاز.

    وكانت مكة تضم قريش البطاح والظواهر، وكانت بيدها زعامة مكة عند ظهور الإسلام، وكذلك كانت السقاية والرفادة فيها. وقد تجمعت الثروة في يد قريش من تجارتها. وكلها عوامل جعلت من مكة موطناً مُجَمِّعاً للغات واللهجات على اختلافها، وأدت إلى توحيد اللسان العربي، واحتوائه لجميع هذه اللغات واللهجات، واستيعابه لها. وتوحيد اللسان دليل على توحيد الدين، وتوحيد الأمة، وتوحيد المجتمع العربي القبلي، وتوحيد المصير والرؤية، وتوحيد الاقتصاد والمصالح..

    والعلاقة بين اللهجة واللغة هي العلاقة بين الخاص والعام، فاللهجة مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات أفراد هذه البيئة. وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها، لكنها تشترك جميعا في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض3.

    وقد كانت حياة العرب في الجاهلية بعيدة كل البعد عما يتوهمه بعض الواهمين، فيذهبون إلى أن عرب الجاهلية لم يكونوا سوى قوم بدائيين، يحيون حياة بدائية، في معزل عن غيرهم من أمم الأرض. والحقيقة أن عرب الجاهلية كانوا أهل حضارة، وكانت حضارتهم على اتصال بالحضارات المجاورة لهم أوَّلاً، ومن أمر حضاراتهم التليدة المو######## ثانياً. وكان من هذه الحضارات المعينية والسبئية والعادية والثمودية والنبطية التي ازدهرت في الشمال من الحجاز و في جنوب الشام أربعة قرون، وزال سلطانها السياسي في القرن الثاني بعد الميلاد، ثم الحميرية التي استطالت حتى أشرفت على أوائل القرن السادس الميلادي. وقد أدى هذا التفاعل الحضاري إلى انتشار الكتابة، وهي اللون البارز من ألوان الحضارة آنذاك.

    العَرْض:

    مكة أم القرى وأم القبائل، ومكة نقطة الوصل بين العرب والأمم التي كانت حولهم، وكانت تصل العرب بمملكة معين، وبمملكة سبأ، فكان المعينيون على جانب عظيم من القوة والجاه، وقد نشطوا حتى امتد نفوذهم التجاري إلى الخليج الفارسي وإلى بلاد الحجاز. وسلكت مسلكهم مملكة سبأ، ووصل المعينيون إلى مصر، وكانوا يزودون معابدها بأنواع الطيب والبخور، واتصل السبئيون ببني إسرائيل عن طريق الملكة بلقيس في عهد نبي الله سليمان عليه السلام.

    وفي هذه الأثناء كانت الأمة العربية المنتشرة في الأصقاع المترامية في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، توحدها لغة واحدة هي اللغة القرشية المتمركزة في مكة أم القرى. وعلى الرغم من انفراد كل قبيلة بلهجتها الخاصة بها، مما جعل هذه القبائل العربية مختلفة فيما بينها في النطق باللغة العربية من وجوه، لكن الاستعمال المكي للغة عمل على الاحتفاظ بالصيغة العربية الموحدة، وسُمِّيَتْ هذه اللهجات المختلفة لغات تجاوزاً، وهي ليست ـ في الحقيقة ـ سوى فروع من لغة واحدة هي اللسان العربي الفصيح.

    وعلى الرغم أيضا من التأثيرات التي عرفها اللسان العربي من جراء مجاورة العرب لغيرهم من الأمم، فالقبائل العربية موزعة في أطراف البلاد، وهي مختلفة المناخ بين اليمن والحيرة وبلاد الشام وأواسط جزيرة العرب، وتعيش ظروفا مختلفة في نظام حياتها وفي العلاقات الاجتماعية، ويطبع هذه الظروف وهذه الحياة التأرجح بين الاستقرار والترحال ـ على الرغم من هذا كله، فإن مكة كانت تقوم بتوحيد كل هذه العوامل، وتجميع كل هذه المؤثرات لتصنع من ذلك كله العلاقات العامة بين الأمم والشعوب تحكمها لغة واحدة هي لغة قريش، فتتصرف بها في جميع المجالات المنتظمة لهذه العلاقات العامة، سواء كانت دينية أوتجارية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية.

    وقد أثبت تاريخ العرب تضافر أسباب متعددة في التأثير على اللسان العربي لتجعل منه لساناً مُوَحَّداً، فالمناذرة وموالاتهم للفرس وتقليدهم إياهم في حياتهم، والغساسنة واتصالاتهم بالحبشة، وقريش ورحلاتها الاقتصادية بين الشتاء والصيف ـ كل ذلك اضطر القوم جميعا إلى الالتفاف حول لسان عربيٍّ موحد، هو اللسان الذي يتخاطب به الجميع، ويفهمه الجميع، وهو اللسان الذي خرج من العزلة إلى العالمية، ومن الانغلاق إلى الانفتاح بفضل ما ذكرناه من علاقات ومؤثرات واحتكاكات.

    ولذلك وجدنا لهجة كلهجة تميم مثلا لم يُكْتَبْ لها الانتشار، ولم تستطع أن تكون جماعة للغات أخرى مجاورة لها أو مُحْتَكَّةً بها، وبقيت منغلقة، لم تصنع ما صنعته اللهجة القرشية التي مَدَّتْ أواصر العلاقات الإنسانية إلى جميع مكونات المجتمع البشري، فَحَقَّ لها بذلك أن تكون لسان القوم، وحَقَّ لها أن تكون لغة القرآن الكريم، حتى يتمكن إبلاغه لجميع العرب قاطبة على اختلاف لهجاتهم.

    ومن هنا لم نجد في لسان القرشيين لغات متروكةً مَجَّهَا الذوق العربي فأُهْمِلَتْ وسقطت من الاستعمال اللغوي، كما حصل في عنعنة تميم، وكشكشة أسد، وكسكسة ربيعة، وتلتلة بهراء وغيرها4، وصارت لغة قريش لغة الانتقاء، لغة الأصلح، فسادت بذلك على سائر اللهجات العربية.

    ولا نقول بذهاب هذه اللهجات الأخرى غير القرشية كُلِّيَّةً، فلا زالت حاضرة عند أهلها، يتواصلون بها فيما بينهم، ويتواصلون باللسان الموحد مع غيرهم ممن لا يتقن لغتهم، وهذا يدل على أن اللسان العربي واحد، وإن تعددت فيه اللهجات أو اللغات، فإن تعددها لا يضير وحدته أبدا، لأن جميع هذه اللغات أو اللهجات منضبط بالإطار العام لأصل اللغة العربية، ولأن ما بينها من اختلاف ليس إلاَّ عارضاً من عوارض الاستعمال لم يخرج بها عن طابع اللسان العربي العام ومزاياه وخصائصه.

    وبهذا التوحيد لِلِّسانِ جَمَعَتْ مكة العرب كافة، فكان جَمْعُهُمْ مساهماً في وضع لسان موحد، لأن ذلك جعلهم يقتبسون من بعضهم البعض، فصار اللسان الفصيح يدور بالألفاظ الكثيرة التداول للتعبير عن المعنى الواحد، وكلما كَثُرَتْ الألفاظ للمعنى الواحد كان ذلك أدْعَى لأن تكون لغةً لشعوب وقبائل اجتمعت على قضايا مشتركة أو انحدرت من فخذ واحد. قال ابن جني: "رويت عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر، فقال أحدهما الصقر، بالصاد، وقال الآخر السقر، بالسين، فتراضيا بأول وارد عليهما، فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما، إنما هو الزقر. أفلا ترون إلى كل واحد من الثلاثة كيف أفاد في هذه الحال إلى لغته لُغَتَيْن أُخْرَيَيْن معاً. وهكذا تتداخل اللغات.. فقد وضح ما أردنا بيانه من حال اجتماع اللُّغَتَيْنِ أو اللغات في كلام الواحد من العرب"5.

    وكان على رأس أصحاب هذه اللغات قريش، قطان مكة، أجودهم انتقاء لأفصح الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها جرسا وإيقاعا في السمع، وأقواها إبانة عما يختلج في النفس من مشاعر وأحاسيس، وأوضحها تعبيراً عما يجول في الذهن من فكر ومعان، ولذلك تحدت قريش أفصح العرب لأنه اجتمع في لسانها كل هذه الخصائص المميزة. قال ابن فارس: "أجْمَعَ علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم، أن قريشا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشا قطان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في دارهم. وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تَخيَّروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب"6.

    ولقد زاد من مكانة لغة أهل مكة عند الناس أن ابتعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من قبيلة قريش، من خيار العرب دارا، ولغته من لغتهم، وكان قومه أول المخاطبين بالرسالة التي جاءت خاتمة لكل الرسالات السماوية، فقال تعالى لنبيه: (وأنذر عشيرتك الأقربين)7. وبذلك كانت لغتهم، كما مَرَّ بنا، هي اللغة المنتقاة من أفصح لغات العرب وأفضل الاستعمالات. ولما كان مقصد القرآن هو الإعجاز والهداية، اقتضت حكمة الله تعالى البالغة أن ينزل القرآن عربيّاً فصيحاً، فقال تعالى: (ألر تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآناً عربيا لعلكم تعقلون)8.

    ومع هذا فليس في هذا اللسان العربي الموحد شيء مما يختلفون فيه، على قلته ونذرته إلا وله من القياس وجه يؤخذ به، ولو كان في هذا اللسان حشو مكيل أو اضطراب مهيل لكثر خلافه واتسع خرقه وضاعت مهابته وتفرق عنه أصحابه، ولكنه لسان عربي مبين حفظه الله تعالى بما حفظ به الذكر الحكيم، مصداقا لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)9.

    من هنا كانت مكة أم القرى عنصرا أساسيا في توحيد العصبيات العربية المتنافرة التي لم تنجح أية جهة أو مؤسسة أو هيئة من هيئات المجتمع القبلي أن تحققها، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، وسواء كانت في عكاظ أو ذي المجاز أو في غيرهما. ولقد استطاعت أن تجمع كل العشائر والقبائل في مجالس مثل دار الندوة التي كانت تجمع رؤساء هذه العشائر والقبائل للمشاورة في البأساء والضراء، وقد ساعدها في ذلك عوامل مهمة مكنتها من توحيدها وتوحيد لسانها. ولقد تجلَّى أثر هذه العوامل في الأسواق والمواسم التي كان العرب تقيمها، وكان يؤمُّها المهتمون من مختلف بقاع الأرض على اختلاف لغاتهم وألوانهم وحضاراتهم، وكان يؤمُّها كذلك التجار من الفرس والروم والهنود والمصريين، فكانوا يلتقون في صعيدٍ واحد، يأخذون ويعطون ويتبادلون ما عندهم من متاع وعروض، ومن آثار وأفكار، ومن مظاهر الحضارات المختلفة ومعالمها. وكان القرشيون يلتقون كغيرهم من القبائل بإخوانهم العرب من كل مكان، وساعدت عوامل كثيرة على تهذيب لهجتهم وتهيئتها لتمثل جميع اللهجات، وتحتل الصدارة بينها، وقد توزعت هذه العوامل على كل مناحي الحياة العربية:

    العامل الديني:

    إن قيام القرشيين بسدانة البيت الحرام دفع بالعرب إلى تقديرهم وتوقيرهم، اعترافا بما يقومون به من خدمة البيت، فهم الذين كانوا يستضيفون الحجيج، ويُشْرفون على سقايتهم ورفادتهم، كما كانوا يقومون بتعليم الناس المناسك. وزاد من هذا التقدير ما وقع من حادث أبرهة الأشرم، وهو الذي سَمَّاه القرآن الكريم بقصة أصحاب الفيل. فتوطد مركز قريش، وارتفعت مكانتهم في أعين الناس، فوصفتهم العرب بعد هذا الحادث وقالت: "أهل الله قاتل عنهم فكفاهم مؤونة عدوهم"10. وقد أعطى هذا كله قريشاً مكانة خاصة بَوَّأتْها سلطانا دينيا، اعترفت به العرب جميعها، فاعتبرتهم أئمة الناس وهُدَاتَهم، وأهل البيت وسدنته، وصريح ولد إسماعيل وقادة العرب. وكلها أوصاف لا تجتمع إلا لمن تبوأ بين الناس مبوءا مُجْمَعاً عليه. ولاشك أن هذا العامل الديني كان له انعكاس كبير ومؤثر على اللغة المستعملة، وصهرها في لغة موحدة يفهمها الجميع، فيؤدون بها مناسكهم، ويرفعون بها تلابِيَهم.

    ومن احتضن الديانة منذ الجاهلية، وملك المال، وتحقق له الجاه، فقد أتته الغلبة، وتعليل ذلك أن الله تعالى اختار قريشا من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبي الرحمة محمدا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشا قُطَّانَ حرمه وجيران بيته الحرام وولاته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، ولم تزل تعرف العرب لقريش فضلها عليهم، وتسميهم أهل البيت، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. ولهذا دانت لها الرقاب وركنت إليها النفوس، فخضعت لها خزاعة وثقيف وعامر بن صعصعة، وبلغ من تعظيم العرب لها أنها أُعْفِيَتْ من المكوس، فلم تؤدِّ إتاوة قط، احتراما لها وإجلالا لقدرها.

    العامل الاقتصادي:

    وهذا النفوذ الديني أكسب قريشا الثقة اللائقة بها عند العرب، مما جعلهم يطمئنون لهم في التعامل التجاري، فراجت تجارتهم في كل الأقطار، من الشام إلى فارس إلى العراق ومصر والحبشة، وتوسعت أنشطتهم الاقتصادية توسعاً كبيراً، حتى روت كتب التاريخ11، فيما روته، أن قافلة واحدة من قوافل التجارة في قريش بلغت خمسمائة ألف بعير ومائة رجل، ولم تكن تجارة تبلغ في ذلك الزمان هذا المبلغ إلا القليل النادر. ولاشك أن ازدهار التجارة بهذا الشكل كان يتبعه ازدهار في لغة التعامل التي تستعمل في إدارتها وتدبيرها، حيث كان يقوم بذلك قوم لهم معرفة بالأسواق وبالمنافذ والطرق التجارية، ولهم خبرات في مجال التسويق والقيام بأعمال الاقتصاد، وكان يشترك في ذلك مختلف القبائل، ومن المعلوم أن لكل قبيلة لهجتها الخاصة بها، ولكنها تحت تأثير التبادل التجاري، اضطرت إلى الأخذ من هنا ومن هناك من لغات الآخرين حتى يتم التواصل والتفاهم على أحسن وجه، فكان لزاماً على كل عربي أن يتعلم لغة الآخر، فحدث من ذلك اندماج اللهجات فيما بينها وانصهارها في لغة مشتركة، هي لغة أهل مكة التي كانت تحتضن أغلب هذه الأسواق التجارية والمعاملات الاقتصادية، وزاد من ظهورها على باقي اللهجات تقدم تجارة قريش على كثيرٍ من العرب، وخاصة بعد انهيار سَدِّ مأرب في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي (450م)، وطرد قبيلة خزاعة من مكة بعد نشوب الخلاف بسبب الصراع الذي حدث بينهم. وقد وصفت كتب التاريخ والسير هذا الازدهار الذي عرفته تجارة قريش بكثرة الرواج عبر الأسواق، وكثرة السفن التي كانت تملكها قريش، وكانت تنقل تجارتها من الحبشة وأفريقية عبر البحر الأحمر، كما كانت تنقل تجارتها وتجارة اليمن إلى أسواق فلسطين، وتنقل تجارة الشام وحوض البحر الأبيض المتوسط إلى الحجاز ونجد واليمن. وهكذا كانت تفعل مع تجارة الأقطار الأخرى8. ولاشك أن هذا المركز التجاري الذي تميزت به قريش مكنها من التواصل الجيد مع القبائل العربية المختلفة، وهذا التواصل الاقتصادي لا يمر جيدا إلا بتوحيد العملة التجارية وتوحيد العملة اللغوية، وهي أهم شيء في مجال التواصل.

    وقد نجحت قريش في تحقيق هذا التواصل الفعال بينها وبين سائر القبائل والأقطار التي كانت تتعامل معها من خلال النجاح الذي أحرزته في تسويق تجارتها. وقد شهد القرآن الكريم لها بذلك، فقال تعالى مشيرا إلى رحلاتهم التجارية المتنوعة التي لم تعرفها قبيلة ولا قطر بهذا الشكل المتميز والمتلاحق بين الصيف والشتاء، وذلك كما قال تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)12.

    العامل السياسي والاجتماعي:

    وعرفت مكة استقراراً سياسيّاً، تَرَتَّبَ عليه أمْنٌ اجتماعي، نتيجة ما تمتعت به قريش في الجانبيْن الديني والاقتصادي من نفوذ واسع، ومن مكانة مرموقة عند العرب وغير العرب كالفرس والروم. وقد استطاع المجتمع المكي أن يفرز نخبة من الحكماء وذوي الرأي الحصيف، والذين كانت مهمتهم تتحرك دائما وبدون تردد في التدخل الفوري لفض النزاعات وحل المعضلات بين الأفراد والجماعات، أو بين القبائل والبطون. لقد كانت مكة ملاذاً لكل المتخالفين، فهي الحرم الآمن، ومن دخله كان آمنا، لا يُظْلَمُ ولا يُعْتَدَى عليه. وهذا أمر خَوَّلَ لقريش تكوين علاقات ودية وموضوعية مع جميع القبائل المتفرقة داخل جزيرة العرب وخارجها، وخاصة في الأطراف المجاورة كالشام والعراق. وهو أمر سياسي خدم قريشا في تكوين أحلاف ومعاهدين، مكنوا قريشا من السيادة السياسة إلى جانب السيادة الدينية، والسيادة الاقتصادية. وهذا العامل هو الذي أدى بأبي بكر الصديق إلى القول عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين كان الصحابة يخوضون في البحث عن الخليفة، قال: "لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش"13.

    وهكذا كانت مكة مصدرا من مصادر التوحيد في حياة العرب قاطبة، مؤمنهم ومشركهم، وتُوِّجَ هذا التوحيد بنزول القرآن بلغة أهل مكة، وقد جمعت هذه اللغة العرب على اختلاف مشاربهم وعقائدهم، الكُلُّ تَجَمَّعَ حولها على سواء.. أما المؤمنون فوجدوا في لغة القرآن لغة الوحي الذي يحمل إليهم تعاليم دينهم ودنياهم. وأما كافة العرب فقد التفوا حول لغته مأخوذين بجمال أسلوبه وكمال إعجازه، وهم يرون هذه الصنعة اللغوية التي ملكت عليهم شأنهم كله، وتسربت إلى حواسهم وقلوبهم فأرهفتها وغيرت مزاجها، وهم الذين كانوا في بداية أمرهم وعند سماع القرآن لأول مرة يحاولون جهدهم مغالبته، وذهبوا في عنادهم كل مذهب. فقد وضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا ينفذ منها إلى قلوبهم وأفئدتهم، فيصيبهم بالحق الذي به نزل، وتناهوا عن سماعه فقالوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)14، وعارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم ببلغائهم وفصحائهم، فأرسلوهم لِيَبُزُّوه فيما جاء به من البيان، وليُقَلِّلوا من شأنه حتى يصرفوه عن غايته ويَرُدُّوا عليه دعوته أمام الملأ، فما أفلحوا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وما ربحت تجارتهم وما كانوا لِمُبْتَغَاهم مُدْركينْ.

    وتحكي كتب السيرة كل هذا الذي أصاب صناديد قريش وغيرها من فطاحل العرب لدفع هذا التأثير، وحسبك ما ورد في هذه السير من إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسبب هذا الافتتان اللغوي.

    أما الصورة المعبرة حقيقة عن حيرة العرب، وانتهت بهم إلى التوحد والاجتماع على لغة القرآن والاحتكام إلى بيانه، فاتجهوا إليه مذعنين، فهي قصة النفر من فتيان قريش الذين كانوا يتسللون في جنح الظلام من الليل لواذاً، فيذهبون متفرقين، يَسْتَخْفي كل واحد من الآخر ليستمع القرآن، يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم قياماً وقعوداً وعلى جَنْبِه، حتى إذا عادوا كلهم في آخر الليل، جمعتهم الطريق، فانكشفوا جميعا، وأخذوا يتلاومون، وأقسموا ألا يعودوا، استجابة لعنادهم، وتَمَسُّكاً بعصَبيَّتِهِمْ وإلْفِهِمْ. وما تكاد تأتي الليلة الموالية حتى يعودوا لما تلاوموا بسببه، وحتى يكون من أمرهم ما كان بالأمس، يحسب كل امرئ منهم أن لن يره أحد. وفي السيرة قصص أخرى لأمثال هؤلاء من مثل قصة الوليد عتبة بن ربيعة وغيره.

    إن خضوع عدة مناطق في الجزيرة العربية لنظام سياسي واحد كان من شأنه أن أدى إلى تقارب لهجاتها ثم توحيدها في لغة عامة. وتمخض عن هذا التوحيد في الألسنة توحيد الرؤى وتضافر الجهود وتبادل الخبرات، مما ساهم في خلق حياة حقيقية للعمل والإنتاج، فكانت بالتالي مكة مركزاً كبيراً للتجارة، كما كانت مركزاً كبيراً في المجالات الثقافية (الأدب) والسياسية والاجتماعية.

    وبهذا تطورت مكانة مكة، فصارت قبلة الإنسان بصفة عامة في كل مناحي الحياة التي نشطت نشاطاً ملموساً وواضحاً، فازدهرت التجارة والفلاحة، ونضجت الخبرات الاقتصادية، واتسعت الرؤى السياسية، وتطورت الأسواق الأدبية، ونشطت الحركة الفكرية والثقافية، وانتعشت العلاقات الاجتماعية. وصارت مكة أيضا قبلة البدو كما هي قبلة الحضر، وقبلة العبادة، كما هي قبلة المصالح الدنيوية.

    العامل الأدبي:

    الأدب وسيلة مهمة من وسائل التوحيد اللغوي، فالأدباء والشعراء بصفة خاصة يستعملون اللغة التي يفهمها الجميع حتى يُكْتَبَ لإنتاجهم الشهرة والانتشار، وتلك لغة تكون منتقاة ومتخلصة من الخصائص المتعلقة باللهجات المحلية. وقد سادت عند العرب لغة عامة صِيغَ بها النثر والشعر اللذان عنيت بهما الأسواق الأدبية كعكاظ وذي المجاز والمجنة، وساعد ذلك على ظهور لغة موحدة قامت على أساس اللهجة القرشية وما استفادته من محاسن اللهجات الأخرى.

    ولم يَلُمّ شَعَثَ هذا التفرق اللغوي إلا مكة أم القرى التي جمعت القبائل ووحدت لهجاتها، وفَكَّتْ عنها العزلة التي كان يعاني منها الكثيرون، فصاروا يلتقون في حلبات أم القرى، يعمرون أسواقها التجارية، ويرتادون منتدياتها الأدبية يتبارون فيها، وقد أدت مبارياتهم ومهرجاناتهم إلى سماع جميع اللهجات الواردة من مختلف المناطق والأقطار، فأدى ذلك إلى الاستفادة العامة التي تمخض عنها اللسان العربي الموحد.

    لقد كان لهذا الاتصال والاختلاط بين القبائل أثره البالغ في التقريب بين اللهجات وظهور لغة عامة تتخلص من السمات الخاصة التي تنفرد بها كل لهجة. وقد حصل توحيد لهجات الجزيرة العربية في لغة عامة قبل الإسلام بحوالي قرن ونصف من الزمان، لما كان بين القبائل من ارتباط في النسب والعلاقات والمصاهرة والجوار والتعامل التجاري.

    فصاحة اللسان القُرَشِيّ:

    أفصح العرب قريش، والفصيح ما أفصح عن المعنى، واستقام لفظه على القياس لا على ما كثر استعماله. وأفصح قريش سيدها وسيد الخلق على الإطلاق، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبيب رَبِّ العالمين جَلَّ وعلا. قال رسول الله: "أنا أفصح العرب"، رواه أصحاب الغريب، ورواه أيضا بلفظ: "أنا أفصح من نطق بالضاد بَيْدَ أني من قريش"15.

    أخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق يونس بن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم دجن: كيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها. قال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: كيف ترون جونها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال: كيف ترون رحاها استدارت؟ قالوا: نعم ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: كيف ترون برقها؟ أخفيا أم وميضا أم يشق شقا؟ قالوا: بل يشق شقا. فقال: الحيا. فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك، ما رأينا الذي هو أعرب منك. قال: حق لين عربي مبين16.

    وروى البيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله ما أفصحك، فما رأينا الذي هو أعرب منك. قال:"حق لي، فإنما أُنزلَ القرآن عَلَيَّ بلسانٍ عربي مُبينْ"17.

    وقال الخطابي: "إعْلَمْ أن الله لما وضع رسوله صلى الله عليه وسلم موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم"18. وقد تقدم ما أورده ابن فارس من كلام إسماعيل بن أبي عبيد في فصاحة قريش، وفي خصائص لغتهم التي تخيروها من كلام العرب وأشعارها وخطبها، حتى اجتمع إليهم من كل ما تخيروه أفصح اللغات وانتهى إليهم توحيد اللسان العربي.

    ومن فصاحة قريش أهل مكة ما رواه أبو عبيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: "نزل القرآن على سبع لغات: منها خمس بلغة العجز من هوازن، وهم الذين يقال لهم عليا هوازن، وهم خمس قبائل، منها سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونضر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيد: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر." وكان رسول الله مسترضعاً فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: "أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم"19.

    ومن فصاحتهم أيضا ما قاله أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بـ(الألفاظ والحروف): "كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتُدِي، وعنهم أُخِذ اللسان العربي من بين قبائل العرب، وهم: قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتُكِل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يُؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"20.

    ولم تكن قبيلة من قبائل العرب قد تأهلت لهذه المنزلة اللغوية التي جعلتها موحدة اللسان العربي، فكل القبائل الأخرى كانت لغاتها خاصة أو محلية، ولذلك قال ابن فارس: "وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط أو ممن جاور الحضر، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم. فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية. و لا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان. ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس. ولا من عبد القيس وأزد عمان، لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس. ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة. ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم. ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم. والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء، وأثبتها في كتاب، فَصَيَّرَهَا عِلْماً وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"21.

    وقد اختلفت اللهجات العربية التي كانت في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام لأسباب ترجع في عمومها إلى البيئة الجغرافية ذات الامتداد الواسع، حيث تختلف الطبيعة، فيتصل بعض بقاعها، وتنفصل أخرى بسبب الوديان والجبال، أو بسبب المناخ الذي يميز بين بيئة زراعية وأخرى صحراوية، مما يؤدى إلى اختلاف حياة العيش بين الحضر والبدو، فيعتمد أهل الحضر على الزراعة والتجارة، ويعتمد أهل البدو في غالب أحوالهم على التنقل طلباً للماءِ والكلأ.. وكل هذا يؤدى مع الزمن إلى وجود لهجات تختلف فيما بينها وإن انتمت إلى لغة عامة واحدة.

    ومما ساعد على اختلاف اللهجات وتعددها أيضا حدوث الهجرات البشرية التي حدثتنا عنها كتب التاريخ والأنساب، وكان من أبرزها هجرة أهل اليمن إلى شبه الجزيرة العربية، فاستقروا بشرقها وشمالها، وهجرة أهل الحجاز إلى اليمن. فحدث من تفاعل هذه الهجرات مجاورةُ لهجاتٍ للهجاتٍ أخرى، فلهجات القبائل التي نزلت بادية الشام أو العراق مثلاً جاورت لغات كالآرامية والعبرية، والاحتكاك معها أدى إلى ظواهر لهجية ساهمت في بلورة اللسان العربي العام وتطوره. وبقيت مع ذلك كل اللهجات المتفرقة تعيش بين أهلها الذين يتكلمونها ويعتزون بالانتساب إليها. ومن هنا يذهب مؤرخو اللغة إلى أن هذه اللهجات ظلت سائدة إلى جانب العربية العامة قبل الإسلام، ولكنها لم تلبث أن انصهرت في لغة موحدة عُلِّقَتْ على أستار الكعبة في شكل لوحات شعرية سُمِّيَتْ بالمُعَلَّقَاتِ لهذا السبب. وقد تمثلت هذه اللغة واضحة المعالم في هذا الشعر الذي يُعرف بالشعر الجاهلي، والذي يُؤَرَّخُ له بقرن ونصف القرن قبل البعثة النبوية، ويُضاف إليه تلك النصوص النثرية المشتملة على الخطب والأمثال. ولقد حملت هذه النصوص الشعرية والنثرية سمات كل اللهجات التي كانت موجودة في شبه الجزيرة العربية، والتي كانت تختلف أحياناً وتتقارب أحياناً، فهي لم تكن موحدة توحيداً كاملاً، ولكنها لم تكن مع ذلك تمنع من وجود لغة عامة ومشتركة، كانت تجمع كثيرا من اللهجات التي تتقارب فيما بينها بفضل الاحتكاك أو الجوار أو بفضل عوامل أخرى بيئية أو اجتماعية.

    وهنا نصل إلى التساؤل أو الاستفسار عن هذا اللسان العربي العام أو عن هذه اللغة العامة الموحدة، ما هي؟

    يتفق مؤرخو اللغة على أن لهجة قريش هي أعلى اللهجات العربية وأفصحها، لأنها اللهجة التي ارتفعت في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن.

    وينقل السيوطي في الاقتراح عن الفارابي قوله: "كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس"22.

    وينقل السيوطي أيضا عن الفراء قوله: "كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخَلَتْ لغتهم من مُسْتَبْشَعِ اللغات ومُسْتَقْبَحِ الألفاظ"23.

    وعلى هذا الأساس اندفع العلماء اللغويون القدماء يُمَجِّدُون لهجة قريش لأن النبي صلى اله عليه وسلم منها: "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش"، فذهبوا إلى أن {بَيْدَ} هنا بمعنى {من أجل}، ونقلوا عن أبي عبيد قول

    الشاعر:
    عمدا فعلت ذاك بيد أني أخاف إن هلكت أن ترثيني

    والحديث واضح كما ترى لا يحتاج إلى شيء من هذا التأويل، وإنما دفعهم لذلك تمجيدهم لهجة قريش، قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته، لأنها القبيلة التي سكنت الحرم، وعمرت مكة، وتوسطت القبائل، وصارت قبلة الحجيج، كما صارت قبلة التجار، وأصحاب الحاجات الخاصة والعامة في شؤون الحياة اليومية. وأما {بَيْدَ أنَّ} فمعناها {غَيْرَ أنَّ}، يؤيد ذلك ما رُويَ عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا"24. وحتى إن كان معناها {من أجل أن}، فإن السياق يقبل ذلك وينسجم مع المعنى الذي يؤيده الحديث الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من طريق يونس بن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم دجن: كيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشدَّ تراكمها. قال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: كيف ترون جونها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال: كيف ترون رحاها استدارت؟ قالوا: نعم ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: كيف ترون برقها؟ أخفيّاً أم وميضاً أم يَشقُّ شَقّاً؟ قالوا: بل يشق شقاًّ. فقال: الحيا. فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك، ما رأينا الذي هو أعرب منك. قال: حق لين عربي مبين25.

    فحق لقريش قُطَّان بيت الله الحرام أن تعود إليهم فصاحة العربية من أجل موطنهم هذا المتميز، والذي نشأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي بسببه كان أفصحَ من نطق بالضاد، من أجل انتسابه لقريش، غير أنه لم يخرج من بين أظهرهم ويختلط بغيرهم، فيتعلم منهم، وهذا من كمال نشأته، ومن صنع الله تعالى واختياره لأنبيائه.

    ومن أجل ذلك أيضا اختار الله أن ينزل القرآن الكريم بهذه اللغة ، وإن كانت قراءات القرآن قد جمعت اللغات الأخرى التي تكلمت بها العرب، وكُتِبَ لها البقاء، فالقرآن بقراءاته المتواترة والشاذة تضمن لغات القبائل المتفرقة، والتي كانت مَعْنِيّةً بنزول القرآن جميعها، وفي ذلك يقول ابن عباس: "أُنْزِلَ القرآن على سَبْعِ لُغَاتٍ، منها خمسٌ بلغة العجز من هوازن، وهم الذين يقال لهم عليا هوازن، وهم خمس قبائل، منها سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونضر بن معاوية، وثقيف"26.

    ولقد عَظُمَ شأن مكة، وعَظُمَ شأن قريش، وعَظُمَ شأنُ لغتها. فصارت مكة وحدة سياسية مستقلة، لها شأن كبير، فقاومت كل السياسات الأجنبية التي كانت متسلطة على أطراف البلاد العربية. وصار لقريش سلطان سياسي قوي في مكة وما حولها مُعَزَّزاً بسلطانٍ اقتصادي عظيم، بحيث كانت أغلب الصفقات التجارية بِيَدِ قريش، وهذا كله كان مُعَزَّزاً بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة المشرفة التي كان يؤمُّها الناس من كل حَدْبٍ وصَوْب، فاجتمع لقريش بذلك سلطان سياسي واقتصادي وديني، وحَقَّ لمن اجتمع له هذا السلطان أن تسود لغته على سائر اللغات المجاورة، سيادة تعتمد المنفعة والمصلحة، وتبادل الأغراض والحاجات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية. وهكذا تهيَّأت لمكة الظروف الموضوعية التي مكنتها من أن تصبح القبلة التي تطلعت إليها القبائل، وشُدَّتْ إليها الرحال قبل ظهور الإسلام، فكان أن نشأت بها لغة مشتركة أُسِّسَتْ في كثير من مقوماتها على لهجة مكة.

    وأخيراً... ها نحن نرى اليوم ولله الحمد مكة شاهدةً على توحيدها للسان العربي، ويعبر هذا التوحيد تعبيراً صادقا على وحدة الأمة، ويعترف لهذه الأرض المباركة، مهوى الأفئدة وأم القرى بالفضل في ذلك، ويشهد نتيجة لذلك بأنها كانت ولا تزال مَهْبِطَ العلم والمعرفة، ففيها نزلت أول آيات الوحي، تخاطب معلم البشرية بالقراءة، وقرأ الآيات البَيِّناتِ بلسانٍ عربي مبين فكان بحقّ مُعَلِّماً وهادياً وبشيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً مُنيراً. ولَعَلَّ اختيار مكة لنزول اقْرَأْ جاء لمكانتها العلمية التي تميزت بها قبل الإسلام، فلقد عرفت قضايا التعليم في الجاهلية، ثم تطورت في الإسلام لتصبح مدارس متعددة ومتخصصة، ولازالت هذه الحركة العلمية تُشِعُّ بنورها إلى يومنا الحاضر.

    الهوامش:

    (1). مكة أم القرى: سُمِّيَتْ بذلك لأنها أقدم القرى في جزيرة العرب وأعظمها قدراً. وسُمِّيَتْ بذلك أيضاً لاجتماع أهل القرى في الحجاز وغيره فيها كل سنة واستكنافهم إليها، وتعويلهم على الاعتصام بها لما يرجونه من رحمة الله تعالى. أول من سكنها العمالقة، ثم خلفتهم جرهم، ثم جاءها بنو إسماعيل، وتبعهم الأزد بعد سيل العرم، وعلى أثرهم حلت خزاعة، فكنانة، فقريش. (معجم البلدان: 1/337).

    (2). سورة ابراهيم: آية37.

    (3). اللهجات العربية، إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الخامسة، 1979: ص11.

    (4). العنعنة التي تذكر عن تميم هي قلبهم الهمزة في بعض كلامهم عينا، يقولون: سمعت (عن) فلانا قال كذا، يريدون (أن). وأما الكشكشة التي في لغة أسد، فإنهم يبدلون الكاف شينا، فيقولون: (عليش)، بمعنى (عليك). وأما الكسكسة التي في لغة ربيعة، فهي أن يصلوا بالكاف في الخطاب سينا ساكنة، فيقولون: (عليكسْ). وأما تلتلة بهراء فهي كسر أوائل أفعال المضارعة. الصاحبي في فقه اللغة: 35-36.

    (5). الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني :1/374.

    (6). الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق السيد أحمد صقر، طبع البابي الحلبي بالقاهرة: ص 33-34.

    (7). سورة الشعراء: آية214.

    (. سورة يوسف: آيتان 1ـ2.

    (9). سورة الحجر: آية9.

    (10). السيرة:1/50و4/152.

    (11). الطبقات الكبرى:1/43، وتاريخ الأمم والملوك:2/139.

    (12). سورة قريش: آيات1-3.

    (13). المزهر في علوم العربية للسيوطي، تحقيق جاد المولى وآخرون، المكتبة العلمية: 1/211.

    (14). سورة فصلت: آية26.

    (15). المزهر:1/208.

    (16).المزهر:1/35.

    (17). المزهر:1/209.

    (1. المزهر:1/210.

    (19). المزهر: 1/210ـ211.

    (20). المزهر:1/211.

    (21). المزهر:1/212.

    (22). المزهر:1/212.

    (23). الاقتراح في علم أصول النحو: 22.

    (24). المزهر: 133.

    (25). المزهر: 1/210ـ211.

    (26). المزهر: 126، والهمع:1/232
                  

العنوان الكاتب Date
هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-15-05, 01:36 PM
  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Abureesh10-15-05, 02:25 PM
    Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-15-05, 02:36 PM
      Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ صباح حسين10-15-05, 02:41 PM
        Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-15-05, 02:53 PM
          Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Abureesh10-15-05, 03:20 PM
            Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-15-05, 03:33 PM
              Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-15-05, 03:46 PM
              Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-15-05, 03:51 PM
                Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-15-05, 04:03 PM
                Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-15-05, 04:52 PM
                  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-15-05, 05:15 PM
                  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-15-05, 05:19 PM
                  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-15-05, 05:29 PM
                  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-15-05, 05:33 PM
                    Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Abureesh10-15-05, 07:04 PM
                      Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-16-05, 10:04 AM
                        Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Abureesh10-16-05, 12:53 PM
                          Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ عبداللطيف خليل محمد على10-16-05, 01:48 PM
                          Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-16-05, 02:13 PM
  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Yasir Elsharif10-16-05, 02:27 PM
    Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Abdulgadir Dongos10-16-05, 02:51 PM
    Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-16-05, 03:02 PM
      Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Yasir Elsharif10-16-05, 03:32 PM
        Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-18-05, 12:39 PM
  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Mohamed Elbashir10-16-05, 03:16 PM
  Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Yasir Elsharif10-19-05, 02:56 PM
    Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-19-05, 08:45 PM
      Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Yasir Elsharif10-20-05, 02:17 AM
        Re: هل الاسلام رسالة للعالمين في حين لا يقبل القراءن التاويل؟؟ Albino Akoon Ibrahim Akoon10-20-05, 12:28 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de