النهايات – عبد الرحمن منيف

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 02:00 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-22-2005, 00:00 AM

الريح كودى
<aالريح كودى
تاريخ التسجيل: 09-10-2005
مجموع المشاركات: 641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
النهايات – عبد الرحمن منيف

    النهايات – عبد الرحمن منيف
    إنه القحط.. مرة أخرى!

    وفي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء, وحتى البشر يتغيرون, وطباعهم تتغير, تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضة أول الأمر, لكن لحظات الغضب, التي كثيرًا ما تتكرر, تفجّرها بسرعة, تجعلها معادية, جموحًا, ويمكن أن تأخذ أشكالاً لا حصر لها. أما إذا مرَّت الغيوم عالية سريعة, فحينئذ ترتفع الوجوه إلى أعلى وقد امتلأت بنظرات الحقد والشتائم والتحدِّي!

    وحين يجيء القحط لا يترك بيتًا دون أن يدخله, ولا يترك إنسانًا إلاَّ ويُخلّف في قلبه أو في جسده أثرًا. وإذا كان المسنّون قد تعودوا, منذ فترة طويلة, لفرط ما مرَّ بهم من أيام قاسية, على سنوات المُحْل وعضّة الجوع, وكانت المخاوف تملأ قلوبهم حين يفكّرون فيها, فالكثيرون غيرهم لا يقدرون على مواجهتها بالتصميم نفسه, لأن الكميات القليلة من الحبوب التي توضع جانبًا, بإصرار قوي أول الأمر, لتكون زادًا في أيام الجوع لا تلبث أن تتسرّب أو تختفي, كما يتسرّب ماء النبع أو كما يجفّ المجرى. وتبدأ بعد ذلك محاولات البحث المضني عن خبز اليوم, وخلال هذا البحث تتراكم الأحزان والمخاوف لتصبح شبحًا مرعبًا تظهر آثاره في وجوه الصغار, وفي سهوم الرجال وشتائمهم, وفي الدموع الصغيرة التي تتساقط من عيون النسوة دون أسباب واضحة!

    إنَّه القحط مرة أخرى. وها هو ذا يسوق أمامه أشياء لا حصر لها, ولا يعرف أحد كيف تتجمع هذه الأشياء وكيف تأتي. فالفلاحون الذين كانوا يحملون سلال البيض وينزلون بها إلى أطراف المدينة, ويتجرأون بعض الأحيان ويصلون إلى وسط الأسواق المليئة بالبشر, والرعاة الذين كانوا يأخذون أجر سنة كاملة بضعة خراف, وكانوا يسوقونها في بداية فصل الربيع, ومعها الحملان الصغيرة, وكانوا يضعونها على صدورهم لأنها ولدت لتوّها, لكي يبيعوها في المدينة, ثم أولئك الباعة الماكرون الذين يحملون على دوابهم العنب والتين والتفاح, ويحملون موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة التي تعوّدوا استعمالها أوزانًا, ويبالغون أول الأمر في الأسعار التي يطلبونها إن كل هؤلاء إذا جاءوا في مواسم القحط يجيئون بهيئات مختلفة شديدة الغرابة: كانت ملابسهم ممزقة وغريبة الألوان, وعيونهم مليئة بالحزن والخوف, أمَّا أصواتهم القوية الصاخبة فكانت تنزلق إلى الداخل, وبدلاً عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة, حتى إنهم كانوا يضطرون إلى إعادة ما يقولون بضع مرات, بناء على الأسئلة الفظة التي يوجّهها لهم أصحاب الدكاكين في المدينة, والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤلاء الناس قدر ما ينظرون إلى الأيدي أو إلى تلك الصرر الصغيرة المربوطة بإحكام في أطراف الملابس التي يضعونها على أجسادهم أو على رؤوسهم. كان هؤلاء إذا جاءوا في مثل هذه السنين لا يبيعون البيض والفاكهة والزيتون والخراف, وإنما يحاولون شراء أقصى ما تسمح به نقودهم القليلة من الدقيق والسكر. حتى الرعاة الذين كانوا شديدي النزق ويبالغون في المقابل الذي يطالبون به ثمنًا للخراف, وكانوا يفضّلون العودة مرة أخرى ومعهم دوابهم, دون شعور بالأسف لأنهم لم يبيعوا ولم يشتروا حتى هؤلاء يتحولون في مثل هذه السنة إلى رجال متردّدين متوسّلين, لأنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المسنّة, إذ أصبحوا يخافون خوفًا حقيقيًّا أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش.

    أما الباعة الذين تعوّدوا المجيء في كل المواسم, حاملين من كل موسم ثماره, وفي بعض الأحيان للتجول والفرجة, فلم يعُد أحد يراهم يحملون شيئًا في هذه المواسم, وكأنَّهم مجموعة من القنافذ تكورت وهرّبت أشياءها إلى باطن الأرض!

    لو اقتصر الأمر على هذه المظاهر لما أثار استغرابًا, لأنَّ العلاقة بين المدينة وما يحيط بها هي من القوة والاستمرار بحيث لا يمكن لأحد أن يميّز بسرعة التغير المفاجئ الذي أخذ يتكون, لكن مع تلك المظاهر كانت أشياء أخرى كثيرة تحصل. فالتجار الذين تعوّدوا على تقديم القروض الصغيرة للفلاحين, واستيفائها أضعافًا مضاعفة في المواسم, اتخذوا موقفًا, بدا, أوّل الأمر, مليئًا بالشروط والتعنت, ثم ما لبثوا أن امتنعوا تمامًا, وافتعلوا لذلك أسبابًا وخصومات. أما الذين استمروا في تقديم بعض المساعدات, فقد رفضوا أن يكون سدادها في المواسم القادمة, وأصرّوا على شروط جديدة. أصرُّوا على أن تسجّل أقسام كبيرة من الأراضي التي يمتلكها الفلاحون بأسمائهم وأسماء أبنائهم, وفي محاولة لإثبات حسن النية قالوا الكلمات التي يقولها الدائنون دائمًا: (الدنيا حياة وموت, والإنسان لا يضمن نفسه في اليوم الذي يعيش فيه, فكيف يضمن حياة أولاده الصغار بعد موته?). كانوا لا يكتفون بذلك, كانوا يضيفون: (وكما قال الله عزَّ وجل في كتابه الكريم: ﴿إذا تداينتم بدَيْن إلى أجل مسمًّى فاكتبوه ولْيكتُبْ بينكم كاتبٌ بالعدل﴾

    والفلاحون الذين قابلوا إصرار هؤلاء الدائنين بإصرار أقوى, ورفضوا تسجيل الأراضي, أول الأمر, اضطر الكثير منهم إلى استخراج الحليّ الذهبية والفضيَّة القديمة, والتي جمعت خلال فترات طويلة سابقة, وقدّموها عوضًا من الطحين والسكر وبعض أمتار من الخام. وفي وقت آخر وافق بعضهم على التنازل وقدّم الأراضي والبساتين التي طلبها الدائنون. ومع كل صفقة جديدة كانت أثمان الأرض في القرى تتراجع, وكان التجار يزدادون تصلبًا ولا يوافقون إلاَّ بشروطهم, وبعد أن تتم جميع الإجراءات!

    ومع القحط تأتي أشياء أخرى أيضًا: تأتي الأمراض الغامضة, وتعقبها الوفيات. كان الكبار يموتون من الحزن, والصغار تنتفخ بطونهم وتصيبهم الصفراء ثم يتساقطون. وإذا كان الناس قد تعوّدوا على الموت, ولم يعد يخيفهم كما كان الأمر في أوقات أخرى, برغم أنه يتسبب كل الأوقات في تفجير آلاف الأحزان والأحقاد القديمة, فإنَّ حالة أقرب إلى الانتظار اليائس كانت تحوم فوق كل بيت وتسبح في دم كل مخلوق. حتى الدواب في حواكير البيوت, أو في أطراف البساتين, كانت تسيطر عليها حالة من العصبية واليأس.
    وفي هذي السنين, ومع الجوع والموت, تأتي أفواج لا حصر لها من الطيور. ومثلما كانت الغيوم الخفيفة العالية تمرّ مسرعة, كذلك كانت الطيور. فقد كانت أفواجها تعبر في كل الأوقات, حتى في الليل العميق, عالية صائتة, وكأنَّها ذاهبة إلى الموت أو إلى مجهول لا تعرف متى أو أين سيكون.

    كان الناس ينظرون إلى الطيور نظرة مليئة بالحزن والأسى. تمنوا لو كانت قريبة, أو لو تتوقف قليلاً, لعلهم يظفرون بعددٍ منها يعوّضهم عن الجوع الذي يهدّهم, لكن الطيور تواصل طيرانها المتعب لعلّها تصل إلى مكان ما. والناس لا يتوقفون عن النظر والحسرة, ويتوقعون شيئًا ما, لكن هذا الشيء لا يحصل أبدًا, لأن أسراب الكركي والوز البري, وعشرات الأسراب من الطيور الأخرى واصلت رحلتها المجهدة دون توقّف. أما أسراب القطا والكدري فقد بدأت تظهر بين فترة وأخرى. والفلاحون الذين تعلموا أن هذا النوع من الطيور لا يترك أماكنه الصحراوية, ويقترب من المناطق المزروعة, إلاَّ إذا عضّه الجوع وأضناه العطش. ولم تعد واحات الصحراء أو الخوابي المتناثرة في أماكن عديدة تحوي قطرة ماء, فقد لاحظوا أن هذه الطيور بدأت تتخلى عن الحذر والخوف, أول الأمر, مدفوعة بغريزة البقاء, فتندفع إلى أي مكان لعلها تلتقط بضع حبات أو قطرات من الماء.

    إنَّها المأساة نفسها تتكرّر مرة أخرى أمام عيون الفلاحين, وهم قد تعوّدوا الصبر والانتظار, وتعوّدوا أكثر من ذلك أن يبدوا التشاؤم والتحفظ, وكانوا يردّدون إذا سئلوا عن المواسم والزراعة: (المواسم لا تعني الأمطار التي تأتي فقط, وإنما أمور أخرى كثيرة). فإذا حصلت لجاجة في السؤال كانوا يختصرون كل شيء بالكلمات التالية: (المواسم تعني ما يقسمه الله وما يتركه الطير), لأنهم في أعماقهم يخافون كل شيء, يخافون انحباس المطر في الشهور التي يجب أن يسقط فيها, أما إذا جاء مبكرًا ونما الزرع وارتفع شبرًا أو شبرين عن الأرض, فكانوا يخافون أن يأتي مطر غزير بعد ذلك الانقطاع, وعندها تغرق الأرض وتنمو الأعشاب الطفيلية ويفسد أو يقلّ الموسم. فإذا جاء المطر هيّنًا متفرقًا, وفي الأوقات التي يجب أن يأتي فيها, فإنَّ الخوف يظل حتى الأيام الأخيرة من أيار, حين تشتد الحرارة فجأة وتحرق كل شيء, فتخيب الآمال وتتراجع الوعود التي أعطاها الرجال للنساء بأثواب جديدة, وللفتيان الذين تجاوزوا سن البلوغ وأصبحوا يطمحون إلى الزواج إن جاءت المواسم الجديدة بالخير. إن هذه الوعود تتراجع يومًا بعد آخر لأن (الشوبة) جاءت وقضت على كل شيء!

    إنَّ أحدًا لا يحب أن يتذكر أيام القحط. أما إذا جاءت قاسية جارفة, وإذا تكرر مجيئها سنة بعد أخرى, فالكثيرون يفضّلون الموت أو القتل ثم الرحيل على هذا الانتظار القاسي, وآخرون يندفعون إلى حالة من القسوة والانتقام لا يتصورها أحد فيهم, بل ويستغربها هؤلاء الناس أنفسهم في غير هذه الأوقات, وفي غير هذه الظروف. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن ينتقم من الغيوم أو ممّن يرسلها, فلا بدَّ أن تكون هناك ضحايا من نوع آخر. فالأزواج الذين أبدوا من السماحة الشيء الكثير, ولم يتعودوا الشتيمة أو الضرب, كانوا مستعدين لأن يغيّروا هذه العادات بسهولة, ودون شعور بالذنب. كانوا لا يتردّدون في أن يضربوا ويصرخوا لأتفه الأسباب. والذين كانوا يبدون المرح ويظهرون التفاؤل, يتحولون فجأة إلى رجال قساة بوجوههم وتصرفاتهم. وحتى أولئك الذين كانوا شديدي الإيمان ويَعدّون كل ما تأتي به السماء امتحانًا للإنسان, لا يلبثون أن يصبحوا ضحايا وأكثر الناس شتيمة وتجديفًا, حتى ليستغرب مَن عرفهم من قبل كيف كان هؤلاء الناس يخزنون في صدورهم هذا المقدار الهائل من الشتائم والأفكار الخاطئة المحرمة!

    هكذا كان القسم الأكبر من الناس في تلك السنة القاسية الطويلة. وإذا كان لكل قرية ولكل مدينة في هذا العالم ملامحها وطريقتها في الحياة, ولها أسماؤها ومقابرها, وإذا كان لكل قرية ومدينة مخاتيرها ومجانينها, ولها نهرها أو نبع الماء الذي تستقي منه, وفيها مواسم الأعراس بعد الحصاد, فقد كان للطيبة أيضًا حياتها وطريقتها في المعاش, وكان لها مقبرتها وأعراسها, وكان في الطيبة مجانينها أيضًا. لكن هؤلاء المجانين لا يظهرون دائمًا ولا يتذكرهم الناس في كل الأوقات, وإن كان لهم حضورهم وجنونهم الخاص, بحيث كانوا كبارًا وأقوياء في أوقات معينة, وكانوا حمقى وشديدي الغرابة في أوقات أخرى.

    وكان للطيبة دائمًا أعراسها وأحزانها. كانت الأعراس, في أغلب الأحيان, بعد الحصاد, وكانت الأحزان حين ينقطع المطر وتمحل الأرض. وإذا كانت الأعراس تعني بعض الناس, ولبعض الوقت, فإنَّ الأحزان, وفي سنوات المحل, تعني جميع الناس, وتمتد فترة طويلة.

    الطيبة مثل أي مكان في الدنيا, لها أشياؤها التي تفخر بها. قد لا تبدو هذه الأشياء خطيرة, أو ذات أهمية بالنسبة لأماكن أخرى, لكنها بالنسبة للطيبة جزء من الملامح التي تميزها عن غيرها من الضيع والقرى. وهذه الأشياء تكوَّنت بفعل الزمن, وبفعل الطبيعة القاسية, كما لم يحصل في أماكن أخرى. فإذا كانت الأصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى, حتى لتبدو أصوات الفلاحين عالية الجرْس صلبة المخارج, وبعض الأحيان سريعة, وتتخللها مجموعة من الحِكَم والأمثال, كما هي العادة لدى الكثير من الفلاحين في أنحاء عديدة من العالم, نظرًا للعادة وللمسافات التي تفصل الناس بعضهم عن بعض في الحقول, أو حين يضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة, أو على تلك التي تذهب بمزاجها الغريب إلى أماكن بعيدة أو مجهولة, أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض, وما يحيط بها من الحواكير والبساتين الصغيرة التي تزرع فيها أنواع عديدة من الخضراوات - فإن هذه الأسباب, وغيرها كثير, خلقت طبيعة معينة, وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقة خاصة, حتى ليظن مَن يسمع الحديث ولا يفهم طبيعة الناس أو علاقاتهم, أنَّهم يتعاركون, أو أن الخلاف بينهم وصل إلى درجة من الحدة, لا بدَّ أن تعقبه أمور أخرى!

    لو اقتصر الأمر في الطيبة على ذلك لما عني شيئًا, خاصة بالنسبة للفلاحين أو الذين يعرفون طبائعهم. لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي تعوّده أهل الطيبة, حيث يلجأون في أكثر الأحيان إلى الاستطراد والتذكر, ويسرفون في رواية القصص والتاريخ, فإنه لولا هذه الصفة لما ظهرت تلك الطبيعة الخاصة, ولما ظهرت تلك الخشية التي تميّز البشر في ذلك المكان, وما يحيط به من قرًى وضياع, وقد تصل إلى المدينة, أو بعض أطرافها أيضًا!

    كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقة العجيبة التي تجعل الأمور ذات أهمية شديدة. وهذه الميزة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء, تجعلهم في نظر الكثيرين نوعًا خاصًّا من الناس, وتجعلهم أكثر من ذلك قادرين على التأثير في الآخرين, وربما إقناعهم. ولا يمكن تفسير هذا الأمر على أنه ضرب من الاحتيال أو التملُّق, كما لا يمكن أن يُعَدّ دليلاً على نزعة شريرة, ولكنها العادة بتكرارها الدائم, ثم تلك الليالي الطويلة, ليالى السمر والأحاديث السائبة, ثم التحديات, وما تجرّ إليه, وليالى الصيف أو الشتاء, في البيادر أو إلى جانب النبع, وحول المواقد. لقد كانت الأحاديث تجري سريعة شجيّة وأقرب ما تكون إلى الحلم. وكان الذين لا يحسنون المشاركة في أحاديث من هذا النوع, لا يلبثون أن يصبحوا بشرًا مختلفين إذا وُجدوا بين أناس آخرين, عندئذ يبدأون بإعادة ما سمعوا ويردّدون القصص التي رويت في الطيبة, ثم يضيفون إليها ما شاؤوا من الخيال, فتبدو وكأنَّها أقرب إلى الذكاء والمهارة, فتثير من الإعجاب بمقدار ما تثير من الحسد.

    وابن الطيبة, كبيرًا كان أم صغيرًا, يعرف كيف يسمع, وإن كان الصغار, بشكل خاص, أكثر قدرة على الإصغاء, ولربما ردَّدوا فيما بينهم أو في أنفسهم, ما سمعوا مرات كثيرة, حتى تترسخ في الذاكرة الأشياء فلا تضيع ولا تنسى, يضاف إليها أفكار وأمثال تَرِد عفو اللحظة وتمليها الظروف الطارئة التي يواجهونها. إنَّهم يلجأون إلى ذلك كله لكي تبدو أحاديثهم أكثر تشويقًا وأكثر أهمية!

    والطيبة التي تعتمد على المطر والزراعة, وعلى ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي ترويه العين, تحسّ في أعماقها خوفًا دائمًا أن تأتي سنوات المُحْل. وإذا كانت تستعد لذلك بحرص شديد, بتربية بقرة أو اثنتين في كل بيت, وبتربية عدد من رؤوس الغنم, فإنَّها في سنوات المحل لا تستطيع أن تطعم أبناءها, ولذلك تسرف فيما تعطي للرعاة, وتحاول أن تتخلص من الدواب الباقية بذبحها أو بيعها. وبرغم أن عدد الرعاة في الطيبة أقل بكثير من القرى الأخرى, فإنَّ رُعاتها من البراعة بحيث يحسدهم الكثيرون, فالراعي الذي يسرح بغنم عشرة بيوت, ويعرف كيف يتصرف في كل الفصول, وإلى أين يذهب- هذا الراعي, برغم غيابه الطويل في الفلاة, يظهر فجأة في سنوات المحل, ويمتلك دالّة على أصحاب الغنم السابقين, بحيث ينام ويقوم في أي بيت يريد دون شعور بالحرج أو التردُّد. أمَّا المزايا الخفية التي يمتلكها الرعاة ولا تظهر للناس في المواسم الجيدة فلا تلبث أن تظهر في سنوات القحط. فهم يرابطون في مداخل القرية, ويتحوّل قسم منهم إلى الصيد, لكن العادات التي اكتسبوها في الرعي لا تفارقهم. وأهل الطيبة الذين يمتازون بقدرة خارقة على الحديث, يدركون أن الرعاة فقدوا هذه الميزة لكثرة ما عاشوا مع الحيوانات في البراري, لكنهم يعرفون كيف يستطيع هؤلاء أن يتجاوزوا الصمت بتلك الأغاني العجيبة التي يردّدونها في الفلاة, ويعرفون أيضًا كيف يستعملون تلك الآلات الخشبية, والتي لا يحسن استعمالها غيرهم, في مواسم الأعراس والحصاد, وربما في حالات الحزن أيضًا.

    بهذه الطريقة, وبمعرفة الأماكن التي تعيش فيها الحيوانات, يصبح الرعاة في مواسم الجفاف أُناسًا لا غنى عنهم, لكنهم في أغلب الأحيان لا يتقنون الصيد, وليست بينهم وبين الصيادين مودة. فهم لا يتخلون عن الغناء أو عن تلك الآلات الشيطانية, كما يحبّ المسنون أن يسمّوها, ويحتالون كثيرًا من أجل إبداء براعتهم في كل الأوقات, خاصة إذا تجمع الناس, وكانت هناك ضرورة من نوع ما! الطيبة بداية الصحراء. من ناحية الشرق البساتين والنبع والسوق بعد ذلك, وعند الأفق, تبدأ سلسلة الجبال. ومن ناحية الشمال والغرب تمتد سهول فسيحة, يتخلّلها بين مسافة وأخرى بعض الهضاب. وهذه السهول تزرع بأنواع كثيرة من الحبوب. كانت تزرع بالحنطة والشعير والكرسنة والبرسيم وبعض أصناف البقول, وفي الأماكن القريبة من البلدة ترتفع مساكب الخضرة, قريبًا من الأشجار المثمرة. أما من ناحية الجنوب فكانت الأرض تشحب تدريجيّا, وتخالطها الحجارة الكلسية, وتبدأ تُقفِر ذراعًا بعد آخر حتى تتحول في بداية الأفق إلى كثبان رملية, وبعد ذلك تبدأ الصحراء.
    في المواسم الجيدة تخضرّ الطيبة وتعبق من كل جهاتها, وتمتلئ بالورد والنباتات العجيبة الألوان والأشكال في بداية الربيع. حتى الجهة الجنوبية التي تبدو في أواخر الصيف متجهمة قاسية, لا يعرف الإنسان ولا يستطيع أن يفسر كيف كانت قادرة على أن تقذف من جوفها كل هذه الكنوز, وكيف كانت تشد أهل الطيبة في بداية الربيع لكي يذهبوا أفواجًا لالتقاط الثمار العجيبة المخبوءة في بطن الأرض, وما يخالط ذلك المهرجان من الذكريات عن أيام كانت فيها الحياة أكثر روعة وخصبًا. إن هذه البلدة تتصف بمزايا وصفات ليست متاحة لكثير من القرى المجاورة. حتى الرعاة الأغراب الذين كانوا يحلمون بالوصول إلى المراعي الخصبة, لا يجرؤون على الاقتراب كثيرًا من مراعي الطيبة, ولا يتجاوزون حدًّا معينًا, لأنهم يعرفون طباع أهل الطيبة وما يتّصفون به من حدة, وما قد يرتكبونه من حماقات إن اعتدى غريب على رزقهم أو حياتهم.

    هذه الأمور يعرفها ويتصف بها كل من عاش في الطيبة, ويعرفها أيضًا الذين عاشروا أهلها. وإذا كانت بعض القرى قادرة على أن تقذف من جوفها أبناء كثيرين, وترميهم في أنحاء الأرض كلها, وتفقد بعد ذلك كل صلة بهم, فإنَّ الطيبة تختلف كثيرًا, لأنها تولّد في نفوس أبنائها حنينًا من نوع لا ينسى. وحتى الذين سافروا وابتعدوا كثيرًا, كانوا يردّدون دون انقطاع اسم الطيبة, ويحنون إلى أيامها الماضية, ويتمنون لو عادوا إليها ذات يوم ليعيشوا ما تبقَّى لهم من العمر. والذين لا يذهب بهم التفكير والخيال هذا المذهب, كانوا يفكّرون في العودة إليها بين فترة وأخرى, وهناك يقضون أيامًا جميلة, ويتذكّرون كل ما حصل في سنوات سابقة, ويمرون على كل البيوت, ويجلسون في مقهى السوق ومقهى النبع, ويعبّون الهواء بقوة وشهوة لعله يمنحهم قوة تمكّنهم من مواجهة الأيام المقبلة والاستمرار في الحياة الجديدة التي بدأوا يحيونها في أماكن أخرى!

    وإذا كان الناس يفضلون, في بعض الأوقات, تذكّر الأيام الجميلة من الماضي, فإنَّ الأيام القاسية يصبح لها جمال من نوع خاص. حتى الصعوبات التي عاشوها تتحول في الذاكرة إلى بطولة غامضة, ولا يصدقون أنهم احتملوا ذلك كله واستمروا بعد ذلك!

    هذا الوفاء الذي يكنّه أهل الطيبة لبلدتهم لا يقتصر على شيء دون غيره, ولا يقتصر على المقيمين وحدهم, فالذين سافروا طلبًا للرزق أو الدراسة, وعاشوا في أماكن بعيدة, لا يكتفون بأن يرسلوا الطحين والسكر والرسائل وبعض الحاجات الأخرى إلى البلدة. إنهم يأتون لقضاء وقت غير قصير في الطيبة أيضًا, خاصة بعد أن يعجزوا عن إقناع أقربائهم بالسفر إليهم.

    صحيح أن هذه الفترات التي يقضونها في الطيبة تسبّب لهم ألمًا عميقًا, وتولد في النفوس أحزانًا لا يعرفون كيف يكتمونها, خاصة حين يرون المياه وهي تشحّ وتكاد تنقطع من النبع, ويرون المجرى وقد جفَّ, ثم يتملكهم شعور بالاختناق حين يسمعون أصوات الفؤوس وهي تهوي على الأشجار الجافة. فإذا أضيفت إلى ذلك أخبار الذين رحلوا وغيَّبتهم الأرض من الأصدقاء والأقرباء, الصغار والكبار, فإنَّ الحزن يتحوّل إلى حالة عصبية, ويأخذ الحديث مجرى جديدًا. يبدأ القادمون, برغم صغر سنهم, يلومون الكبار, ويوجهون لهم كلمات التقريع:

    - قلنا لكم مئات المرات: هذه الأرض لا تطعم حتى الجرذان, وأنتم, هنا, تتشبثون بها, وكأنَّها الجنة. اتركوها, ارحلوا إلى المدينة, هناك يمكن أن تجدوا حياة أفضل من هذه الحياة التي تعيشونها ألف مرة!

    وحين يصمت المقيمون, خاصة من المسنّين, ويتطلّعون بحزن إلى وجوه الذين يتكلمون, يتراءى لهم, للحظات, أنهم لم يروا هذه الوجوه, ولم يعرفوها من قبل. ويتراءى لهم في لحظات أخرى أن الكلمات التي يسمعونها قالها أناس غيرهم, أو أن المدينة أفسدتهم تمامًا وجعلتهم يتكلمون مثل هذا الكلام. وتمتد في أذهان المسنين صور لا نهاية لها, صور الطيبة في كل الفترات, حين كان العشب ينبت على الصخور وعلى سطوح المنازل, وحين كانت الينابيع تتفجر من كل مكان, كانوا يتذكرون ذلك ويعبّون أنفاسًا عميقة وكأنَّهم يتنفسون رائحة الخصوبة تتولد من كل الكائنات, ليس من البشر وحدهم, وإنما أيضًا من الحيوانات والجماد. يتذكرون كل شيء, ويتذكرون أكثر مذاق الأطعمة التي كانوا يأكلونها فيتحرّك اللعاب في أفواههم!

    وبرغم أن الأبناء الذين هجروا الطيبة منذ وقت طويل, واستقرّوا في المدينة البعيدة, لا يعنون ما يقولونه تمامًا, أو لا يقصدون إليه, فإنَّ تلك الصعوبات التي كثيرًا ما تتكرر, تحملهم على أن يقولوا كل شيء, وتحملهم أكثر على أن يفكروا بهذه الطريقة. ومع ذلك, وبالرغم منه, فإنَّ هؤلاء في مواطنهم الجديدة لا يكفّون عن ذكر الطيبة, والحديث عن مزايا موهومة لا تتمتع بها أي بلدة أخرى في المنطقة كلها. كان هؤلاء الأبناء لا يكتفون بالحديث, فإنَّ تعلقهم بالطيبة يدفعهم في حالات كثيرة, وفي لحظات الشوق المذكِّرة, لأن يفعلوا أشياء لا حصر لها ولا تخطر ببال: كانوا يقيمون أفراحهم في الطيبة, يجدّدون هذه الأفراح في الطيبة, يبعثون أبناءهم خلال فصول الصيف, لكي يعيشوا مثلما عاشوا حين كانوا صغارًا. وحين تأخذهم النشوة يدعون أصدقاءهم لقضاء بضعة أيام في هذه البقعة الرائعة: (في الطيبة السماء قريبة, شديدة الصفاء, والليالي هناك مليئة بنشوة لا تجدونها في أي مكان آخر من هذا العالم. أما الفواكه, أما الألبان, كالجبنة حين تكون طازجة, والزبدة حين تقطف, والدجاج والخراف الصغيرة وهي تشوى على نار الحطب... أما هذه الأشياء وأخرى وغيرها في الطيبة, فلا يمكن أن يكون لها مثيل. ثم هناك الصيد. الصيد وفير, فالحَجَل والأرانب, وحتى الحيوانات المتوحشة التي انقرضت في معظم البقاع, يمكن أن توجد في بعض الأودية العميقة المحيطة بالطيبة. والينابيع الغزيرة, إن الينابيع, إذا كانت أمطار تلك السنة وفيرة, تتفجّر من شقوق الأرض, وتتدفّق من تحت كل صخرة. ومياه هذه الينابيع باردة نقية, حتى إن الإنسان لا يشبع حين يشرب من تلك المياه).

    هكذا كانت الأحاديث تجري. أما إذا جاءت فاكهة الطيبة إلى المدينة, في سلال صغيرة, فكان هؤلاء الأبناء لا يملّون أبدًا من تقليبها والنظر إليها. كانوا يفضلون أن يقدّموها إلى ضيوفهم, وأن يتحدثوا عنها. أما إذا جرى الحديث عن أجبان المدينة وألبانها, فكثيرًا ما كانت وجوه هؤلاء الأبناء تتغير, تمرق مثل ومضات خاطفة مظاهر القرف والذكرى في وقت واحد, ويتصورون للحظات أنهم غير قادرين على أن يتذوّقوا شيئًا من الطعام غير ذاك الذي يأتي من الطيبة!

    أشياء كثيرة تتولّد في النفوس, في نفوس المقيمين والراحلين, وهذه الأشياء من التداخل والتعقيد بحيث لا يستطيع أحد أن يفسرها.

    صحيح أن الطيبة, مثل أماكن أخرى كثيرة, شحيحة الأرض, قليلة المياه, لكن فيها شيئًا يجذب الإنسان ويشدّه إليها شدّا محكمًا. وإذا بدأ المسنّون الحديث, في السهرات الطويلة خلال الصيف, فإنَّهم يتحدثون بلغة تروق كثيرًا لهؤلاء الذين أتوا من المدينة. (قبل سنين كثيرة كانت الجبال المحيطة بالطيبة خضراء مثل البساتين, لكن الأتراك, وهم يبنون سكة الحديد, ثم وهم يسيّرون القطارات, لم يتركوا شجرة إلاَّ وقطعوها. كانوا يريدون أخشابًا, ولا يهمّهم من أين. والأشجار التي لم يستطيعوا الوصول إليها, التي كانت في المعاصي وفي قمم الجبال, أحرقوها وهم يرحلون. أما الجبال التي ترونها عارية الآن من المدينة البعيدة وحتى الطيبة, فقد رأيناها خضراء حين كنا صغارًا. كان الفارس يضيع في الغابات الكثيفة التي تملأ السهول القريبة من الطيبة).

    مثل هذه الأحاديث توقد في الأذهان صورًا لا نهاية لها, وأبناء الطيبة الذين سمعوها مرات كثيرة, كان يروق لهم أن يدفعوا المسنين لاستعادتها مرات ومرات, خاصة وهم يستقبلون ضيوفًا من المدينة. كانوا يريدون, بطريقة غامضة, أن يثبتوا ميزة خاصة لبلدتهم. وهذه الميزة, وإن كانت لا تظهر بالوضوح الذي يشتهون في الوقت الحاضر, فإنَّها تكمن في مكان ما, ولا بدَّ أن تظهر. ويضيفون بمكر وغموض: (ليس هناك أفضل من أن يقضي الإنسان أيامه الأخيرة في هذه البلدة المباركة). وبالمكر نفسه, يدفعون المسنّين لأن يتحدّثوا عن الأعمار. وهذا الحديث الذي يروق لبعض الرجال, كان يزعج النساء ويدفعهن إلى المقاطعة, وبعض الأحيان إلى الاستفزاز, لكن لا يكاد الحديث يأخذ مجرى جدّيًّا مرة أخرى, حتى يتحدث المسنّون عن نقاوة الهواء وعذوبة الماء, ويتحدثوا عن فوائد النوم المبكر واليقظة المبكرة, ثم نوع الأكل الذي يأكلونه, ويعزون الأمراض الجديدة والموت المبكر والمفاجئ, الذي يداهم المدينة, إلى مجموعة من الأسباب لم يألفوها ولم يسمعوا بها من قبل!

    وأحاديث السهر تبدأ دون منطق وبلا نظام, وقد يتخللها بعض الألعاب البريئة. وتلك الأمور تجري عفوًا للحظة, وبلا تخطيط سابق. ومهما تشعّبت وتباعدت, ومثلما بدأت بالغابات والأشجار والينابيع, فلا بدَّ أن يجري الحديث أيضًا عن أيام القحط والصعوبات التي عاشتها الطيبة خلال تلك السنين. وإذا كانت اللذة والأيام الرائعة المليئة بالخصب تحرّك المشاعر, فإن المصاعب التي عاشها البشر وتغلبوا عليها تحرك مشاعر أخرى, مشاعر تزخر بالقوة وبعظمة من نوع خاص, حتى أبناء الطيبة الذين سمعوا هذه الأحاديث مرات كثيرة, يلذّ لهم أن يسمعوها من جديد, وفي كل مرة تبدو لهم جديدة مليئة بالبطولة والعبر: (كنا نأكل الأعشاب وجذور النباتات. كنا نأكل الجرابيع. حتى الجراد الذي كثيرًا ما كان يأتي في سنوات المحل, أو الذي يسبّب المحل, كنا نأكله. صحيح أن الحياة آنذاك كانت في منتهى القسوة والصعوبة, لكن الرجال في تلك الأيام كانوا رجالاً, كانوا أقوياء وقادرين على الاحتمال والصبر, وكانوا قادرين على أن يأكلوا الصخر. أما رجال هذه الأيام...). ويبتسم بعض المسنّين, ويتذكر الآخرون. وينظرون بعضهم في وجوه بعض, وبعضهم في وجوه أبنائهم, ثم في وجوه الضيوف!

    هذا جزء مما تعنيه الطيبة في ذاكرة أبنائها. أما إذا جاء القحط فلا يبقي أحد من أهل الطيبة, سواء كان يعيش فيها أو كان بعيدًا عنها, إلاَّ ويحس بمرض من نوع ما, ولا يلبث هذا المرض أن يتحول إلى هاجس ثم إلى كابوس. وبرغم أن الأبناء البعيدين لا يحتاجون إلى مَن يحرّضهم لكي يجيئوا أو يبعثوا إلى البلدة بكل ما يستطيعون, فإنَّ هذه المساعدات لا تقوي على مواجهة الكرب والوقوف في وجه المصائب التي تتوالى بسرعة. فحين يبدأ النبع يتراخى والساقية تضمر, ثم تجف في نهايتها, يصبح المجرى مثل حيّة ماتت لتوّها وبدأت تتخلى عن قشرتها. وفي هذه الأوقات تبدأ الأشجار بالذبول, ثم الجفاف. كانت أشجار المشمش أولى الأشجار التي تموت, ثم تبدأ بعد ذلك الأشجار الأخرى. وتبور مواسم الجوز والزيتون, وتصبح الطيبة كالحة قبيحة, ويغلب عليها لون الصفرة. ومن ناحية الجنوب, بدل الفقع والكماء والحميض والأنواع الكثيرة من الفطر, تبدأ عواصف الرمال تهبّ لتغطي كل شيء, وتخيّم على سماء الطيبة موجة من الغبار الممرض, وتتكاثر أفواج الذباب والغربان على الفطائس وعلى بقايا البراز, وتتحوَّل الأصوات إلى دويّ مكتوم ينذر بشؤم ما. وفي هذه السنين لا بدَّ أن يموت عدد كبير من الناس. ولا بدَّ أن تحصل أشياء لم يقدّرها الكثيرون!

    لا تقتصر هذه الحالة على البشر, إذ تمتد إلى الحيوانات والطيور, فالحيوانات التي كانت تملأ منطقة شاسعة حول الطيبة وتسرح بلا مبالاة ورخاوة, وتقضي جزءًا من نهاراتها في سكينة أقرب إلى الدعة من الشبع والامتلاء, لا تلبث أن تتحول إلى حيوانات نزقة شديدة الجفلة كثيرة الحركة, بحثًا عن شيء تأكله, ثم تتحوّل إلى الشراسة والعناد, فتبدو هائجة, ويمكن أن تتصرف بجموح يصل درجة الأذى. وأخيرًا يضربها الهزال والمرض, وفي هذه الحالة يتراكض أصحابها بعصبية لكي يتخلصوا منها بالذبح أو البيع.

    أما الطيور التي تعبر سماوات كثيرة متجهة إلى حيث تجد رزقها, فقد كانت تعبر سماء الطيبة بسرعة ودون أن تتوقف, وكأنَّها بغريزة غامضة, ومنذ أزمان موغلة في القدم, وبتوارث فذ, تعرف كيف تتجاوز الطيبة وإلى أين تذهب, عدا تلك الطيور الصحراوية القاسية الملعونة, فقد كانت تترك أماكن كثيرة في هذا العالم وتتجه إلى الطيبة أو قريبًا منها, وتبدأ من هناك معركتها الأزلية مع البشر وبقايا الحب وقطرات الماء.

    وإذا كان لكل مدينة وبلدة وقرية جنونها ومجانينها, فإن جنون الطيبة أنواع كثيرة, لكن نوعًا خاصًّا, أكثر من غيره, يظهر في سنوات الجفاف. وهذا النوع يطغى على غيره ويكاد يكون الوحيد. إنه جنون الصيد. حتى الذين لا يمارسون هذه الهواية, وينظرون إليها نظرة تتراوح بين الزراية والرفض, ويفسرونها على أنها أقرب إلى الغفلة ورغبة الكسل, فإنَّهم يكتشفون فجأة في أنفسهم حنينًا موجعًا لأن يصبحوا صيادين بشكل ما. قد تدفعهم إلى ذلك الرغبة لتأمين الرزق, أو لطرد الطيور الجارحة والانتقام منها, لعل بعض الحبوب تبقي وتنبت في السنة التالية, أو لعل تلك الحبوب تتفتح عن بعض أوراق خضراء تأكلها الحيوانات الجائعة. وربما كان الدافع إلى ذلك كله الرغبة في الانتقام من عدوٍّ ما!

    كان مجانين الطيبة في هذه السنة أكثر عددًا وأكثر صخبًا من أي سنة سابقة. حتى في سنة المجاعة الكبيرة, التي أعقبت الحرب, لم يظهر مثل هذا العدد, ولم تظهر مثل هذه الحالة. إذ ما كاد موسم الصيد يبدأ حتى أخرج هؤلاء المجانين البنادق القديمة من مخابئها, مسحوا عنها الغبار, نظَّفوها جيدًا, وبدأوا يضعون الخطط ويتحدثون. لم يكتفوا بذلك, ابتدعوا وسائل صيد جديدة, وتفنَّنوا في تحضير الخرطوش واختراعه. ولكي ينتقم أولئك المجانين, المصابون بهذا المرض منذ وقت طويل, من أيام ماضية, حين كانوا سخرية أهل الطيبة, لجأوا إلى المكر والدهاء, فلم يتركوا أحدًا إلاَّ وأغروه بالصيد. وأكَّدوا أن هذه الطريقة وحدها يمكن أن تنقذ البلدة. ولكي ينجحوا في لعبتهم حتى النهاية وزّعوا على الكثيرين, مجانًا, عددًا من الخرطوش الذي يصنعونه بأيديهم وبوسائلهم البدائية, واتخذوهم مساعدين لهم في تحضير كل ما من شأنه أن يسهل مهمتهم, وقالوا بصوت واضح: (ليس أسهل من الصيد, ولكي يصبح الإنسان صيَّادًا يجب أن يمارس الصيد, تمامًا مثلما يتعلم السباحة). والذين استمعوا إليهم بانتباه لم يصدقوا آذانهم, أول الأمر, لكن الإغراء الخفي الماكر جرّ الكثيرين, فيومًا بعد يوم كان مجانين آخرون ينضمّون إلى مجانين البلدة, وكان الوافدون الجدد يمتلئون زهوًا حين تصيب طلقاتهم طيرًا من الطيور, وبين عشية وأخرى يتحولون إلى مهووسين لا يعرفون الراحة والهدوء إلاَّ بالقتل والركض وراء الطيور من مكان إلى آخر.

    هكذا بدأت اللعبة أول الأمر, وهي وإن بدأت صغيرة خفية, فقد أثارت حنق عدد كبير من المسنين, ومن الذين ينظرون إلى الصيد على أنه وسيلة للرزق والحياة.

    لقد كانت اللعبة أقرب إلى العبث ولا تناسب الرجال الذين يقدّرون مسؤولياتهم, ويجب أن ينشغلوا بالهموم الكبيرة التي أخذت تزداد يومًا بعد آخر. لكن اللعبة تكبر وتتسع كل يوم. والذين أبدوا بعض التردّد ما لبثوا أن تراجعوا, خاصة حين أخذوا يشاهدون طيور القطا محمولة بالعشرات. أما حين يقلبونها ليتأكدوا من كمية اللحم فيها فكانوا يقولون بصوت عال: - ضعيفة.. نعم إنها أضعف من أي سنة سابقة!

    ولكي يتأكدوا من أن ما يقولونه هو الحقيقة, كانوا يقلّبونها مرة أخرى, ويشدّون على صدورها. وبهذه الحركات الإضافية, وبضغط الأصابع على اللحم الطري, كانت مواقفهم تتغير ويحسّون برغبة مغرية. أمَّا حين يبدأون بعدّها فكان التردّد يتراجع مع كل رقم جديد, لكن دون إعلان, ودون كلمات, ويكون كل واحد منهم قد اتخذ قرارًا داخليًّا أن يبدأ اللعبة!

    والمسنّون الذين صرخوا بغضب, وعدُّوا هذا الهوس نوعًا من الفتنة أو الجنون, ولا يليق بالرجال في مثل هذه المحنة القاسية, ما لبثوا أن تراجعوا. صحيح أنهم لم يفعلوا ذلك سريعًا وبشكل علني, لكن اعتراضاتهم بدأت تقل وتتراجع يومًا بعد آخر, وبدأت كلماتهم تأخذ طابعًا ليّنًا أقرب إلى النصح:

    - اذهبوا إلى المدينة واعملوا هناك. أما أن تنتشروا في هذه الأرض الغبراء, وأن تتشردوا بين الجبال والصحراء, من أجل طيور جائعة, وليس فيها سوى العصب والريش, فإنَّ ذلك مضيعة للوقت.

    وحين يهزّ الشباب رؤوسهم إشارة إلى أنهم سمعوا ما قاله المسنّون, دون أن تعني الإشارة موافقة أو رفضًا, كان بعض المسنّين يضيف:

    - إذا جاءت المصائب فإنَّها تجيء مرة واحدة!

    وتستمرّ اللعبة تكبر, ويستمر الشباب في ترتيب لوازم الصيد لليوم التالي: يهيّئون الخرطوش, ينظّفون البنادق, يصنعون قطعًا من القماش الملون الملئ بالثقوب لاستدراج الطيور والاحتيال عليها. وحين يرى المسنّون ذلك, ويجدون لدى الشباب إصرارًا لا يتزعزع, كانت لهجة الكثيرين تصبح أكثر حنوًّا وخوفًا:

    - هذا البارود يأكل الأخضر واليابس, يجب أن تحذروا!

    ويرقب المسنّون بعناية الطريقة التي يُصنع بها الخرطوش ليتأكّدوا من أن الشباب يفعلون ذلك دون ما خطإ. فإذا تأكَّدوا كانت كلمة وحيدة تتكرر بلا انقطاع:

    - كل البلاء من المجنون الكبير عساف!

    عسّاف الرجل الذي يعرفه أهل الطيبة كلهم, نساءً ورجالاً, كبارًا وصغارًا, هو نفسه عساف الذي يبدو غامضًا ومجهولاً بالنسبة للجميع, وقلما يراه أو يجلس معه أحد.

    بين الأربعين والخمسين, طويل مع انحناءة صغيرة, ضامر لكنه قوي البنية, أعزب لأسباب يختلف فيها الناس كثيرًا. قيل إنه كان يريد ابنة عمه, لكن أباها رفض (لأن عسافًا بلا عمل ولا يستطيع أن يعول نفسه, فكيف إذا تزوَّج وجاءه أولاد)? وقيل إن الفتاة رفضت وهدَّدت أن تحرق نفسها إن هم أجبروها على الزواج به, وتعللت بغرابة الطبع والقسوة. وحين سئلت أمها, في وقت متأخر, أبدت استنكارها الشديد, وقالت إن حذاء ابنتها يعادل رأس هذا المتشرد الذي يعيش في البراري والمغارات, ووصفته بالمجنون أيضًا. ولو حاول أي إنسان التحري عن أسباب أخرى لوجد الكثير. إن هذه القضية التي شغلت الطيبة وقتًا ما انتهت بصمت وهدوء, ولم تعد تشغل أحدًا. أما ما خلّفته من نتائج فاسم جديد لعساف: أبو ليلى. وبعض الذين استمروا يبدون اهتمامًا بهذا الأمر, تحوَّل لديهم هذا الاهتمام مع الأيام إلى نوع من الطرافة والسخرية, خاصة وأن عسافًا يرفض الإجابة عن أي سؤال له علاقة بهذا الموضوع. وهكذا تعوَّد الناس أن يكون عساف بهذا الشكل, ولو ظهر بشكل آخر لبدا غريبًا!

    منذ كان صغيرًا شغلته قضية الصيد, وهذه القضية كبرت عامًا بعد عام ما دام عساف يكبر. وإذا كانت بسيطة وبدائية حين كان صغيرًا, ويفعل ما يفعله الصبيان في مثل عمره, فقد كان أكثرهم ولعًا وتعلقًا. أما حين مات أبوه, فقد استغرق في هذه الهواية الخطرة. لم يعد يكتفي بما يفعله الصغار. كان يقلد الكبار ويذهب حيث يذهبون, وكان يحاول باستمرار ابتداع وسائل جديدة للصيد. ونتيجة لهذا الوضع فقد اكتسب عادات خاصة أقرب إلى الغرابة. كان يقضي وقته في البساتين, بدأ التدخين في سنّ مبكرة, أصبح كثير التفكير والتأمل في كل ما حوله من طبيعة وبشر وحيوانات, وكان في أغلب الأحيان بعيدًا عن الناس, أما حين يكون بينهم فالصمت سلاحه تجاه الآخرين.

    ظلَّ يتطور بهذا الشكل, وحين ماتت أُمه, تغيّرت طباعه أكثر من قبل, فبدل أن يعود إلى البلدة ويصبح مثل الآخرين, يزرع ويحصد ويستقر, فقد اشترى بندقية صيد من النوع القديم. وبدا الأمر غريبًا أن يكون فتًى في الثالثة عشرة يقلد الكبار ويلاحق الطيور التي لا يفكّر فيها مَن كان في عمره, وأن يقضي وقته كله خارج البلدة وحيدًا ينتقل من وادٍ إلى آخر ومن جبلٍ إلى آخر.

    إن أجزاء كبيرة من حياة عساف بعد ذلك مجهولة, وحتى لو أراد هو نفسه أن يستعيد حياته, فلن يتذكر إلاَّ الشيء القليل, لن يتذكر أحداثًا كبيرة أو مهمة, سوى تلك التي لها علاقة بالصيد: أين ضرب الذئب? وكيف ضربه? كم مرة اضطر للنوم في المغارات خوفًا من الموت بردًا, بعد أن سقط الثلج وتراكم بكثافة ليسد الطرق ويجعل الحركة صعبة? ويتذكر عدد المرات التي رفض أن يضرب إناث الحجل لأنها كانت تسوق أمامها أفراخها الصغيرة. إن هذه الذكريات وما يشبهها لا تعني أحدًا غيره, وحتى لو أراد أن يتحدث فإنَّ حديثه يبدو غامضًا متداخلاً, ولا يستطيع أحد أن يتابعه!

    هذا النوع من البشر يتحول يومًا بعد آخر إلى حالة من الغرابة والانطواء, ويصبح بطبيعته أميل إلى الابتعاد عن الناس أو الاهتمام بهم, كما أن له عالمه الخاص وهمومه التي لا يشاركه فيها الآخرون. أما طريقته في التعبير فتكون قاسية فظة, وقد تؤذي إذا لم تفهم هذه الطبيعة ويحسن التعامل معها.

    والطيبة, التي عرفت أنماطًا كثيرة من البشر, تعوّدت على عساف كما تعودت على هذه الأنماط, ولم يعد مظهره الرثّ أو صمته, وحتى الشتائم التي يطلقها في بعض الأحيان, إذا حاصره أحد وانهالت عليه الأسئلة والاستفزازات, لم تعد هذه الأمور تثير حرجًا أو خصومات, إذ ما تكاد تبدأ حتى تأخذ شكلاً ساخرًا أوَّل الأمر ثم ضاحكًا في النهاية. وعساف الذي تعوَّد على هذه الحياة كان يجد صعوبة كبيرة في أن يغيرها. وفي المرات القليلة التي كان يضطر فيها إلى استبدال بعض من ملابسه يفعل أشياء لا تخطر على بال ولا يفعلها أي عاقل. فحين يبلي حذاؤه ويكون مضطرًّا لشراء حذاء جديد, لا يستطيع أن يستعمل الحذاء الذي يشتريه مباشرة; فكان يدخل عليه تعديلات كبيرة, تفسده في بعض الحالات. كان يلجأ إلى قصّ الجلد عند الأصبعين الصغيرين, وكان يضرب الحذاء ضربات قوية بعد أن يضعه في الماء. ولو سأله أحد عن ذلك لما كان لديه شيء يقوله, حتى هو لا يعرف لماذا يفعل ما يفعله. ولو اقتصر الأمر على الأحذية لهان وفُهم, لكنه كان يفعل بملابسه شيئًا مماثلاً, كان يمزق السراويل في مواضع كثيرة, وفي تلك المواضع يخيط عددًا من الرقع الملونة, وفي بعض الأحيان قطعًا من الجلد الطري. إن هذا شأن من شؤونه, ولا يستطيع أحد أن يناقشه أو يقنعه بغير ذلك. أما في أيام الأعياد, وحين يكون مضطرًّا إلى أن يمر على معظم بيوت الطيبة, كما هي العادة, فكان لا يغيّر شيئًا في مظهره, كما تعوَّد الناس أن يفعلوا, وقد يبالغ فيلبس أسوأ ما في غرفته الصغيرة, وهي الغرفة الوحيدة التي بقيت له بعد أن باع البستان أوَّل الأمر, ثم باع بعد ذلك جزءًا من الدار, ولم يبق إلاَّ على الغرفة الداخلية وحاكورة صغيرة.

    هكذا تعوَّد أهل الطيبة على عساف, ونتيجة الألفة والاستمرار, لم يعد يثير تساؤلاً أو استنكارًا. الشيء الوحيد الذي أثار اهتمام الناس ذات يوم, ولم يستمر هذا الشيء طويلاً, أن عسافًا اقتنى كلبًا. ولقد بالغ كثيرًا, حين سئل عن الكلب, في الحديث عن أهميته وأصله, وبالغ أكثر من ذلك في تحديد المبلغ الذي دفعه ثمنًا له. وقد قيل مرات كثيرة إن عسافًا وجد الكلب ضائعًا, ربما من صياد غريب, فجاء به. وتجرأ بعض الناس في الطيبة وقال إن عسافًا سرقه! وعساف الذي سمع بعض ما يقوله الناس, كان يبتسم دون اهتمام, ويطبطب على ظهر الكلب بمودة, ويقول له: (اسمع ما يقول الهبل). وخلال هذه الفترة قضى عساف وقتًا أطول مما تعوَّد في البيت, وقضى بعد ذلك أسبوعين في الطيبة, لم يخرج خلالهما إلى الصيد. وقد فسّر الأمر بالخوف . فالذين قالوا إنه سرق الكلب, كانوا متأكدين من ذلك أكثر من ذي قبل, لأن الأمر لو كان له سبب آخر لما خشي عساف الخروج إلى الصيد واصطحاب كلبه معه. أمَّا الذين قالوا إن عسافًا وجده, فقد كانوا على يقين أن الكلب سيعود إلى أصحابه حالما يخرج من الدار ويصبح حرًّا, ولن يستطيع عساف أن يفعل شيئًا لو هرب الكلب وعاد إلى أصحابه! أما الحقيقة فهي أن عسافًا لا يثق إلاَّ بما يفعله, ولا يتأكد إلاَّ إذا فعل الشيء بنفسه, ولذلك, وبعد أن رافق صيادين جاءوا إلى الطيبة من مكان بعيد, ونتيجة للجهد الذي بذله معهم, ولأنه دلّهم على أماكن مناسبة للحجل, ثم تنازل لهم عن الطيور الخمسة التي اصطادها, أعطوه ذلك الكلب. لكن عسافًا لم يكن واثقًا بالكلب ثقة كافية, وقد أجهد نفسه لفترة طويلة لكي يدرّبه, فأثار بذلك سخرية أهل الطيبة. ومن جملة ما فعله عساف في هذه الفترة, إضافة إلى المدة التي قضاها في البيت, أنه ربط الكلب بحبل وبدأ يتجول به في الأماكن القريبة, واشترى له كمية من (الحامض حلو), وحاول أن يعلمه عادات جديدة. والناس الذين رأوه يجرّ الكلب بالحبل ضحكوا طويلاً وأبدوا سخرية مريرة:

    - انظروا.. المجنون يربط كلب الصيد!

    - لا أحد يدري مَن يصيد لمَن, أو مَن يساعد مَن!

    لم يكتفوا بذلك وإنما انضموا إلى الذين اتهموه بسرقة الكلب, ولو لم يكن الأمر كذلك لما فعل ما يفعله الآن!

    - سبحان الخالق! ربما ولدتهما أُم واحدة . انظروا إنه يشبهه تمامًا.

    إن ذلك كله من تاريخ الطيبة الأقرب إلى النسيان. فبعد أن أصبح عساف والكلب متلازمين, بدت صورتا الاثنين واحدة, وتجرأ بعض الخبثاء, وقالوا إن هناك شبهًا قويًّا بين عساف والكلب, من حيث ضخامة الأنف وكبر الأذنين, ومن الصوت المكتوم الأقرب إلى الغرغرة. طبيعي لم يستطع أحد أن يقول هذا الكلام مباشرة لعساف, أو في أثناء وجوده, لكن أحدًا لا يسمِّي الكلب إلاَّ عسَّافا, ولا أحد ينظر إليه إلاَّ تلك النظرة!

    إن الطيبة مثل كل القرى والبلدان الأخرى التي تشبهها, من حيث القسوة والسخرية ورغبة التندر واختلاق بعض الأكاذيب, وفي اغتياب الناس أيضًا, خاصة إذا كان هؤلاء مثل عساف. إذ ما يكاد يظهر في غبش الصباح الأول ويراه أحد حتى يمتلئ وجه مَن يراه بابتسامة أقرب إلى السخرية, ويسأله تلك الأسئلة عن الصيد والكلب, وعن العجائب التي يراها في البرية! أمَّا إذا طالت السهرات وامتلأت بالأحاديث, فلا بدَّ أن يتبرع أحد ويقول شيئًا ساخرًا:

    - رأيت اليوم عسافًا يحمل الكلب على ظهره!

    ويقول آخر والضحكة تملأ حلقه:

    - رأيت اليوم عسافًا الحقيقي يحمل البندقية ويصيد.. ولا بدَّ أن يكون هو الصياد وليس هذا الكذوب.

    ويقول ثالث:

    - أطلق عساف النار على ديك حجل فلم يصبه, وأصاب الكلب, ولذلك فهو كلب أعور!

    إن شيئًا ما حصل في وقت من الأوقات, لكن طريقة الطيبة في نقل الأخبار تختلف عمَّا يجاورها, إذ لا بدَّ أن يكون في أي قصة يرويها أحد من أهل الطيبة مقدار من الصحة. فعين الكلب المطفأة كانت هكذا منذ اليوم الأول الذي وصل الكلب إلى الطيبة. وإذا كان عساف قبله هكذا ولم يسأل كيف عورت عينه أو متى, فقد قال ذات يوم إن ذلك ربما وقع في الصيد, ولم يضف شيئًا. أما الطيبة فروت ذلك على أنه وقع لعساف, ومع ذلك الكلب. وإذا كان عساف اضطر إلى حمل الكلب ذات مرة, فقد فعل ذلك بعد معركة مريرة بين كلبه وذئب, وكاد عساف ذاته يموت خلال تلك المعركة. أما الكلب فنُهش في أكثر من موضع, ولو تُرك لمات! أما حديث البندقية التي يزعم بعض أهل الطيبة أنه رأى الكلب يحملها ويصيد بها فلا أساس له البتة, وإنما هو وهم وحسد; لأنَّ الكلب, وبعد تدريب طويل, كان يساعد في حمل قسم من الصيد, كأن يحمل ديكًا من الحجل بين أسنانه!

    والطيبة التي تحب الفكاهة والسخرية, مثل غيرها من القرى, في أوقات الراحة والفرح, تتغير كثيرًا أيام الأحزان, وتتغير أكثر أيام تشحّ الأمطار وتأتي سنوات المُحْل. تصبح بلدة أقرب إلى السواد, تغطّيها الظلمة عند الغروب, وتمتد فوقها موجة من الصمت والأحزان, وتبدو لياليها طويلة ساكنة, عدا أصوات الكلاب المشرّدة الجائعة, وطلقات تائهة في بعض الأحيان. وفوق الطيبة, في مثل هذه الأيام, تنتشر رائحة ثقيلة منذرة, لكن لا يميز تلك الرائحة إلاَّ من عرفها أو تنشّقها ذات يوم!

    وفي هذه الأيام تتغيّر أشياء كثيرة!

    هذه السنة ليست مثل أي سنة سابقة. هكذا بدأت منذ الأيام الأولى للشتاء. فلم تهطل الأمطار المبكرة التي تنتظرها جميع القرى الواقعة على أطراف البادية, والتي تبشر بموسم خصب, وتحمل معها أعدادًا لا حصر لها من النباتات البرية, ويُقال إن تلك النباتات تنزل من السماء مع المطر. هذه السنة جاءت برياح باردة شديدة القسوة ولم تجئ بالأمطار. وأهل الطيبة الذين تعوّدوا على استقبال مثل هذه الشتاءات الباردة لم يستغربوا ولم يتبرموا, لأنهم ما زالوا في أوَّل الشتاء, ولأنَّ أيام الخير أمامهم لا تزال كثيرة وطويلة. لكن المسنّين الذين خبروا دورات الطبيعة, وعرفوا بشائر الخير من نذر القحط, دخل الخوف قلوبهم: كان خوفًا أقرب إلى الحزن, وارتفعت في ذاكرتهم أيام مثل هذه الأيام, ثم جاءت بعدها المصائب والأمراض وأخيرًا جاء الموت. ومع ذلك كتموا مشاعرهم في صدورهم وصمتوا. أمَّا الرجال الآخرون, الأصغر سنًّا والأقل دراية بالمواسم والطبيعة, فقد نظروا إلى السماء بتساؤل, وداخلهم الشك فيما يعرفون من أمور. وحين سألهم الصغار إن كان الكماء والفطر والحميض والخبيز وعشرات النباتات البرية الأخرى, ستأتي هذه السنة, نظروا إلى الصغار بارتياب, وكأنَّ مثل هذه الأسئلة تحمل لهم امتحانًا عسيرًا, واكتفوا بإجابات غامضة, أقرب إلى التحدي:

    - الشتاء في أوّله, وأنتم مرضى بشيء لم نعرفه عندما كنا في أعماركم. أنتم مرضى بالأسئلة التي لا جواب لها!

    والصغار الذين لم يكتفوا ولم يقتنعوا بإجابات الآباء, ذهبوا إلى الأمهات وأمطروهن بأسئلة لا تنتهي: (متى نذهب إلى التشوّل للفقع)?), (متى نذهب إلى الكماء?), (هل سنجد كميات كبيرة من الفطر هذه السنة, كما وجدناها في السنة الماضية?). وإذا كان الأبناء, في مثل هذه السن, لا يجرؤون على مناقشة الآباء أو الإلحاح بسؤالهم, فإنَّهم على الأمهات أكثر جرأة وأكثر إلحاحًا, والأمهات بطريقة غامضة, وتتميّز بمكر خفي, يحاولن بكل الوسائل أن يصرفن الأبناء عن مثل هذه الأسئلة, لكن الوعود تبقي قائمة, والرؤوس تشتعل بعشرات الرغبات والأحلام. أما إذا نظرت النسوة في وجوه الرجال, خاصة المسنين, فكنَّ يقرأن في تلك الوجوه مصاعب الأيام القادمة وآلامها التي لا يمكن أن تُنسى!

    هكذا بدأ الشتاء في هذه السنة. وإذن كان كل يوم يأتي ولا يأتي المطر, يحمل معه مزيدًا من العصبية للذين يذهبون إلى الحقول, وينظرون إليها بحزن, وقد تحجّرت التربة من البرودة, وعبثت بها العصافير الموسمية التي تأتي بأعداد كبيرة وتخلق في الجو دويًّا لا ينقطع منذ الفجر وحتى الغروب, ولا ترهب هذه العصافير الفزاعات السوداء التي تُنصب في أماكن عديدة من الحقول. إن كل يوم يمر يحمل نذيرًا جديدًا, ويضيف خوفًا جديدًا في قلوب الرجال, وهمًّا ثقيلاً أقرب إلى الحزن في قلوب النساء. أما حين يعصف الجو وتعربد الرياح الباردة, فإنَّ انتظارًا ممضًّا يشبه حد الموسى يسيطر على البلدة: (هل ستحمل هذه الرياح المطر? هل سينبت الزرع بعد هذا الجفاف الطويل? وإذا جاءت قطرة أو قطرتان, فمَن يضمن المطر في آذار ونيسان?). وتهوّم في الرؤوس أسئلة من نوع آخر: (ما دام الموسم قد انتهى, فقد كان على الله أن يبعث لنا بالأمطار الموسمية المبكرة. لو جاءت تلك الأمطار لأخرجت لنا البرية شيئًا نأكله ويعوضنا عن التعب والموت, لكن الموسم انتهى, وآذار لم تبقَ فيه إلاَّ أيام وينقضي دون قطرة مطر, ولا أحد يعرف كيف ستكون الحياة بعد ذلك!).
    وفي نهاية آذار تمامًا هطل المطر. كان مطرًا غزيرًا استمر يومين متواليين. وخلال هذين اليومين تغيّرت وجوه الناس وتصرفاتهم, حتى الذين لا علاقة لهم بالزراعة مباشرة بدوا أكثر فرحًا, وفي بعض الأحيان أقرب إلى الخفة في التعبير عن ذلك الفرح, وتجرأ الكثيرون وقالوا: (موسم هذه السنة, خاصة بالنسبة للصيفي, سيكون أحسن من جميع المواسم التي شهدناها من قبل). لكن الذين يزرعون, والذين عرفوا دورات الطبيعة, لم يتكلموا ولم يتفاءلوا, كانوا ينتظرون شيئًا آخر. وفي هذه الأيام, وبعد أن أشرقت الشمس وملأت الكون في اليوم الثالث, ما لبث الذين امتنعوا عن الزرع في بداية الموسم, أن حرثوا الأرض على عجل, واستعانوا بكل الوسائل, لكي يضمنوا لأنفسهم زرعًا وفيرًا مثل غيرهم!

    لكن مطر آذار بغزارته وجنونه لا يمكن أن يقنع المسنّين ولا يرضيهم. إن لهؤلاء مزاجًا يختلف عن غيرهم, وهذا المزاج ربما كوّنته الطبيعة والأيام الطويلة والمخاوف, وربما يتولّد لأسباب غامضة مجهولة! وقد تكون له علاقة بالأرض ذاتها, إذ يشعر أي واحد من هؤلاء بأن كل يوم جديد يقرّبه أكثر فأكثر من الأرض. وما دام الأمر هكذا, فإنَّ أمنية خفية تدفعه لأن يتمنى أرضًا من نوع ما يمكن أن تستقبل لحمه وعظامه, ويحس بنفس الخفاء أن هذا الجفاف الذي تسرّب عميقًا إلى الأرض, ثم تلك الرخاوة اللزجة التي جاء بها مطر آذار, لا يناسبان, ويتمنى لو أنه لا يغادر الحياة في مثل السنة القاسية. وحتى لو بلغ اليأس مبلغًا كبيرًا في قلوب المسنّين وأصابهم الغمّ والسأم من هذه الدورة العاتية للطبيعة, فقد كان كل واحد منهم يريد أن يموت موتًا كريمًا لائقًا, أن يموت في الوقت الذي أنهي كل ما يجب أن يفعله في هذه الحياة, وأن يغادر الدنيا بهدوء وسلام, دون جلبة, ولكن باحترام يناسب عمره. أما أن يموت مثلما يموت الصغار, أو مثلما تموت الدواب, بطريقة مفاجئة, ودون إنذار من أي نوع, فإن موتًا مثل هذا يدفعه إلى شعور عميق باليأس!

    ومثلما توقّع المسنّون حصلت الأمور بعد ذلك: فالزرع الذي اهتزَّ في أعماق التربة من الأمطار الغزيرة التي سقطت في نهاية آذار, ما لبث أن شقَّ الأرض وبدأ ينمو. كانت الزروع بنموّها الزاهي, رغم المسافات المتباعدة فيما بينها, نتيجة لهجوم العصافير وتقليب المحاريث, كانت بنموها قوية واثقة, وما كادت شمس نيسان تحتضنها بالدفء حتى انتعشت وتحرّكت أكثر من قبل. وإذا كان الفلاحون, بتفاؤل موهوم, يردّدون بإصرار أن ما يحتاجون إليه مطرة أو مطرتين في نيسان, الأولى في النصف الأول, والثانية في نهايته, ثم مطرة أخيرة في منتصف أيار, رغم هذا التفاؤل الذي يحاولون من خلاله أن يقنعوا أنفسهم قبل أن يقنعوا غيرهم, فقد كانت مثل هذه الأمنيات مستحيلة, لأن السنة من بدايتها كانت تنذر بالقحط. قال هذا المسنّون في داخلهم, وقال هذا عساف بصوت عال وأمام جميع الناس. ولو أن أحدًا سأل عسافًا عن السبب الذي يدعوه لأن يقول مثل هذا القول, لم يكن يملك جوابًا واضحًا أو مقنعًا. كان يكتفي بأن يقول:

    - انتظروا, هذا ما أقوله, وسوف ترون كل شيء بعيونكم!

    والناس حين يسمعون هذا الكلام من عساف تتملكهم العصبية ويصبحون سريعي الغضب, وأقرب إلى التحدِّي, لكن في قرارة أنفسهم يحسون أن ما يقوله هذا المجنون لا يشبه الكلام الذي يقوله غيره. إن فيه شيئًا من الحقيقة, حقيقة خفية غامضة, وربما مرتبطة بأمر لا يعرفونه.

    ومثلما أحسَّ المسنّون, ثم توقعوا, بدأت كلمات التحذير تتسرب من أفواههم, ثم كلمات الخوف, وفي وقت لاحق قالوا بوضوح شديد:

    - ستكون هذه السنة من أصعب السنين التي مرّت على الطيبة!

    وبعد لحظات من التفكير والتذكر الحزين يضيف أحد المسنّين:

    - لا أتذكر أن سنة مثل هذه مرّت على الطيبة من قبل.

    ومثلما توقع المسنّون, ومثلما قال عساف حصل كل شيء بعد ذلك!

    في هذا الغمّ الذي يلفّ الطيبة من كل جوانبها, ويزداد يومًا بعد آخر, كان عساف لا يهدأ ولا يستريح, إذ ما يكاد يعود بعد الغروب, حاملاً معه عشرات الطيور, حتى يبدأ يدقّ بعض الأبواب. كان يختار تلك الأبواب بعناية, ويفكّر في ذلك من قبل طويلاً. كان مع كل طلقة ينوي حتى قبل سقوط الطير: (أنت لأُم صبري), (وأنت لداود الأعمى), (وأنت لسعيد الذي لا يتقن في هذه الدنيا سوى إنجاب البنات)!

    هكذا كان يفعل وهو يطارد الطيور. وحين يدق الأبواب, ولكي لا يخلق ذلك الخوف الغامض المتربص في كل القلوب, والذي يعلن عن نهاية صديق أو قريب, كانت الكلمات التي يطلقها عساف في الهواء وقبل أن يفتح له الباب:

    - أنا عساف, جئت لأمسي عليكم!

    وقبل أن يسمع الكلمات التي تنهال عليه, يكون قد ألقى بعض الطيور ومشى!

    كان يفعل ذلك كل ليلة, ولا يبقي لنفسه إلاَّ طيرًا, وفي بعض الأحيان لا يبقي شيئًا. وحالما ينتهي من هذه المهمة, وعلى ضوء فانوس صغير يبدأ بتحضير خرطوش اليوم التالي. يبدأ مهمة لا تعرف التعب أو التوقف, ولا يكاد يأكل لقمة في نهاية السهرة حتى يغط في نوم عميق. وفي هذا النوم يرى أحلامًا لا حصر لها, كانت تتراءى له آلاف الصور: كيف كانت الطيبة وكيف هي الآن?! ويسأل نفسه: لماذا تصبح الحياة أكثر صعوبة يومًا بعد آخر?! أما حين تظهر له صور الأشجار والطيور, ثم صورة الماء الجاري دون توقف, وصورة الربيع يغطي مساحات لا نهاية لها, فكان يرى كل شيء يطير. كانت السماء تمتلىء بالطيور, وكان الصيادون لا يصيدون إلاَّ في المواسم والطيور التي يجب أن تُصاد. ثم تظهر له صور الذين ماتوا, أمَّا حين يبدأ المطر بالسقوط ويخاف أن توحل الأرض وتمنعه من العودة فكان يركض, وعند ذلك يفزع ويستيقظ من نومه وقد امتلأ خوفًا أن يكون الوقت قد فاته. وحين يحس برائحة الغبار تملأ جو الغرفة يفرك عينيه لكي يتأكّد من الوقت. كانت له ساعة في داخله لا تخطئ. لم تخطئ مرة واحدة طوال هذه السنين, لا تخطئ في الصيف ولا في الشتاء. حتى الذين كانوا يأتون إلى الطيبة من المدينة, ويستعدون كثيرًا من أجل رحلة الصيد مع عساف, وينصبون الساعات المنبّهة, ويصدرون الأوامر الصارمة إلى المسنّين لكي يوقظوهم في الوقت المناسب, لئلا يتركهم عساف ويمشي, بحجة أن الشمس ستشرق ويضيع اليوم, ولكي يكونوا في (المقوس) عند الشروق, حتى هؤلاء كانوا يخطئون وعساف لا يخطئ ولا تخطئ ساعته!

    وعساف الذي تعوّد خلال فترة طويلة أن يخرج إلى الصيد وحيدًا مع كلبه, كان يجد صعوبة في أن يردّ الذين يطلبون الخروج معه, خاصة من الضيوف, أو في سنة من سنوات القحط. كان يتمنى لو يبقي وحيدًا, لكن ماذا يستطيع أن يفعل وقد أمْحلت الأرض وابتعدت الغيوم ولم يعد عند الناس شيء يأكلونه? حتى أماكن الصيد التي خبأها لنفسه في فترات سابقة, وكان يردّد لنفسه بإصرار أنه لن يترك أحدًا يصِلها, ولن يدل أحدًا عليها, لا يستطيع أن يمتنع طويلاً في إخفائها, لكن كان ينبه بتأكيد حازم:

    - لا تقتلوا الإناث, إنَّها رزقنا الباقي!

    وحين لا يكون متأكدًا أنهم فهموا جيدًا يضيف:

    - الإناث, إناث الحجل, صغيرة ولونها واضح.

    أما إذا سألوه مزيدًا من التوضيح والمعلومات فكان يقول:

    - ديك الحجل, مثل بعض الرجال, جبان.

    وينظر في وجوههم ويضحك, ثم يتابع:

    - إنه يخاف على نفسه كثيرًا, وهو بلون زاهٍ, ملوَّن أكثر من الأنثى, ويطير قبلها!

    ويهزّون رؤوسهم دلالة المعرفة, لكن عسافًا يخاف هؤلاء الصيّادين, ويكره الجبناء والخبثاء منهم, ويخاف أكثر من ذلك أن يأتي يوم لا تجد الطيبة طيرًا تصيده. كان يقول بصوت ملئ بالأسى:

    - هذه الطيور لنا, اليوم أو غدًا, وستبقي لنا إذا حافظنا عليها. أما إذا قتلناها كلها, إذا طاردناها كثيرًا, فسوف تنتهي أو تبحث عن مكان آخر.

    ويصرخ بعصبية وقد تراءت له الأرض خالية تمامًا من طيور الحجل:

    - اسمعوا, إذا انتهت هذه الطيور وجاءت سنة من سنوات المحل, وإذا ظلَّت الحكومة تكذب سنة بعد سنة ولا تبني السدّ, فتأكّدوا أن أهل الطيبة سيموتون على بكرة أبيهم. أنا متأكد من ذلك, فهل يستطيع ابن حرّة أن يقتل البشر والطيور?

    هكذا كان الحديث يجري في بداية كل رحلة. ورغم ذلك يضطر عساف لقيادة قافلة الصيادين إلى أماكن الحجل, لكنه يلجأ إلى المكر أغلب الأحيان: كان يقودهم إلى الأماكن الصعبة, إلى الأماكن البعيدة والخطرة, وكان يعرف أن التعب أو الخوف إذا دخل قلب الصياد يفقده كثيرًا من قسوته ويجعله رحيمًا. هكذا كان يفعل في بداية الموسم. أما إذا قست الحياة على الطيبة أكثر من قبل وحاصرها الجوع وبدأ يفتك بها, فكان يتردّد في أن يتجاوز كثيرًا من القيود التي كان يفرضها على نفسه وعلى الآخرين, لكنه يتألم, يشتعل بالشتائم ويرتكب الكثير من الحماقات. كان يقول لنفسه لكي يبرّر هذه الخطيئة التي تعذّبه: (إذا لم يأكل الناس الحجل فسوف تأكله بنات آوى والذئاب, وحتى لو نجا بعض هذه المخلوقات الملعونة, فسوف يأتي الرعيان لكي يلتقطوا البيض. ويجب ألاّ يموت أهل الطيبة).

    إن له فلسفة خاصة تكوّنت مع الأيام ومن التجارب, حتى لو أراد أن يقول بضع كلمات لكي يفسر ما يدور في عقله فلن يستطيع. أما إذا سأله أحد لماذا يفعل هذا الشيء, ولماذا لا يفعل ذاك, فكان يشعر بالحيرة والعجز. كان يقول:

    - هذه هي طريقة الصيد, هكذا يفعل الصياد!

    ولا يضيف شيئًا آخر!

    بهذه الطريقة كان يتعامل مع الصيد, وبهذه الفلسفة الغامضة يتصرف, ويريد من الآخرين أن يتصرفوا. فإذا جاء موسم الطيور المهاجرة يشعر بغبطة داخلية عميقة. كان يقول بصوت عال واضح النبرات, ويريد من كل إنسان أن يسمعه:

    - ليشمّر كل واحد منكم عن زنده, وليثبت الصياد نفسه!

    كان يقول مثل هذا الكلام لكي يضلِّل الصيادين الآخرين ويصرفهم عن الحجل. وهؤلاء الصيادون الذين تعبوا كثيرًا من الحجل, وحفيت أقدامهم وهم يتسلقون الصخور العالية أو وهم يهبطون الأودية السحيقة, كانوا في قرارة أنفسهم يقبلون هذا الكلام ويوافقون عليه, وفي نطاق التبرير يقولون لأنفسهم ولبعضهم:

    - ما دام شيخ الصيادين, عساف, يقول هذا فيجب أن نصدّقه وأن نتبعه!

    وكي لا يترك الأمر مكرًا مجردًا, كان يسبقهم إلى أماكن الطيور المهاجرة وممراتها, وكان لا يبخل عليهم بأي معلومات تساعدهم وتمكّنهم من صيد أوفر. وهم بتقدير غامض يندفعون, يذهبون حيث يريد, إلى الأماكن التي يحددها وفي الأوقات التي يحدّدها. بهذه الطريقة يضمن أن بعض طيور الحجل لا تزال حية في المعاصي. كان يقول لنفسه بثقة: (حالما تشعر بالأمن وبابتعاد أصوات الطلقات لا بدَّ أن تنزل إلى أماكنها وتعيش مرة أخرى بسلام. ومرة أخرى ستفقس وتبدأ الفروخ الجديدة تملأ الجبال والوديان)!

    صحيح أن عسافًا في أعماقه يدرك أن كل حيوان وكل طير يعرف كيف يدافع عن نفسه وإلى أين يذهب, إلاَّ أنه حين يرى الصيادين الأغرار يزدادون قسوة ورعونة, ويخرقون كل قاعدة, كان يقول لنفسه بألم: (يقتلون الناس بهذه الطريقة. والحجل يعرف كيف يختفي ). ويضيف بعد فترة صمت طويلة: (حين طاردوا الغزلان وقتلوها كلها أصبحت الصحراء مثل قبر كبير, لا ترسل إلاَّ الغبار والموت, ويجب أن يكون أهل الطيبة أذكى من غيرهم فلا يقتلوا كل شيء).

    كان الحجل, في مثل هذه السنين, وبغريزة غامضة, حتى بالنسبة لعساف نفسه, يعرف كيف يختفي , حتى ليبدو وكأنه انقرض نهائيًّا, ولن يأتي شروق أو غروب في يوم من الأيام القادمة ويسمع صوته مثل دجاجات تائهة في سفوح الجبال الشرقية. عند ذاك كان الصيادون, حتى الأغرار العنيدون, يتحولون. والذي يساعد كثيرًا في هذا التحول المفاجئ أن طيور الصحراء, خصوصًا القطا, تبدأ بالاقتراب يومًا بعد آخر من الطيبة, وباندفاعها الأرعن بحثًا عن الحب والماء تعرّض نفسها للهلاك, حتى الأولاد الصغار, في أوقات معينة, وبتلك الوسائل البدائية التي يملكونها, يستطيعون الاحتيال عليها واصطياد عدد منها!

    لكن تبقي قوة الحياة هي الأقوى, إذ يتحول القطا, هذا الطائر الإبله, شيئًا فشيئًا إلى طائر جنّي, وبرغم الجوع والعطش فإنَّ قوة أخرى تسيطر عليه وتوجهه. فالقطا الطائش الذي يمكن أن يقتل بالعشرات والمئات في بداية الموسم, والذي لا يميز الصياد من الفلاح, لا يلبث أن يصبح طيرًا حذرًا. والصيادون الذين يبدون نوعًا من الترفع في بداية الموسم, ويصفون القطا بعشرات الأوصاف الرديئة, يصفونه بقسوة لحمه وغبائه, وبانعدام اللذة نهائيًّا في صيده, حتى هؤلاء يجدون أنفسهم يومًا بعد آخر وقد انساقوا إلى ملاحقته. وفي هذه الفترة, ولتبرير هذا السلوك, يقولون بصوت عال فيه تلك الكبرياء التي تميّز الصيادين المغرورين:

    - ضُرب وتنكّح, وأصبح أكثر حذرًا من الطيور الأخرى.

    ويضيف بعض هؤلاء بثقة كبيرة:

    - إن صيده الآن أصعب من صيد الحجل!

    هكذا تبدأ الدورة تتغير. والطيبة التي تعيش أيامًا صعبة مريرة, وتبحث عن طريقة لتواصل الحياة, تتغاضى عن أشياء كثيرة, بما فيها رعونة الشباب واندفاعهم إلى الصيد بهوس لم يتعوده أحد ولم يكن يميزهم من قبل.

    - هذا الجنون الذي يملأ عقولكم لا بدَّ أن يقضي على الصيد كله.

    وبكلمات قاسية, وفيها ذلك النزق الذي يميزه, يضيف:

    - الأيام الصعبة لم تأتِ بعد, وعلينا أن نستعد لتلك الأيام!

    فإذا سمع كلمات السخرية والتحدي, وإذا اتهموه أنه يريد التهرب, كان بانفعال يجيب:

    - إذا وفّرتم الخرطوش, إذا كنتم أكثر عقلاً وصبرًا, فالقطا سيصل إليكم, ولن تحتاجوا لأن تذهبوا إليه!

    لكن الشباب لا يسمعون, وتظل دوافع مشؤومة وقوية تدفعهم لأن ينتقموا, لأن يتباروا. وتحديات مثل هذه تدفع الطيبة ثمنها. فالطيور التي كانت تهجم برعونة في بداية الموسم, لا يلبث الخوف أن يتملكها, وتبدأ البحث عن أماكن أخرى, أو تغير مواعيد مجيئها وهربها. بكلمة; تغيِّر هذه الطيور طريقة حياتها, وتصبح الحياة لكل مخلوق أكثر قسوة وأكثر صعوبة. حتى عساف نفسه, الذي كان يعود بأعداد وفيرة من الطيور, يبدأ يواجه الصعوبة نفسها التي يواجهها الصيادون الأغرار, ويبدأ صيده يقل, ويصبح الصيد عملاً مضنيًا وأقرب إلى المغامرة.

    لكن عسافًا لا يهدأ ولا يتوقف!

    بدأت إذن الأيام الصعبة القاسية. ومثلما اختارت الطيبة أن تكون في هذا الموقع من العالم, على أطراف البادية, فقد اختارت الصيد والشجاعة, وعرفت كيف تتحمَّل كل ما يواجهها من مكاره وصعاب. وإذا كانت المجاعات تفرّق عادة بين الناس, وتجعل كل إنسان يبحث لنفسه عن طريقة يؤمِّن بها خبزه, فإنَّ المجاعات والأحزان تقرِّب بين الناس في الطيبة, وتجعلهم أُسرة واحدة وجسدًا واحدًا. وما عدا تلك الفئة الصغيرة التي جاءت من مكان بعيد, واختارت الطيبة سكنًا لها, وظلَّت تعمل وتتصرف بروح الغرباء وخوفهم, رغم ما قدَّم لها أهل الطيبة, فإنَّ البشر إذا واجهوا المصاعب بروح من التعاون والمشاركة, تبدو هذه المصاعب أقل قسوة, ويمكن التغلُّب عليها. وبهذه الطريقة الفذة المليئة بالبطولة الصامتة, لم يترك أحد يموت دون أن تقدم إليه أقصى المعونات, وأغلب الأحيان بشكل خفي لا يدركه أحد. فالأُسر الكبيرة العدد, والتي لا تقوي على مواجهة الحياة, كانت تفتح أبواب بيوتها, في ساعة من ساعات الليل أو النهار, ويُرمى داخلها بكمية من الحنطة أو قليل من السكر والشاي والصابون. والناس الذين فقدوا كل ما يملكون ثمنًا للبذار, ثم ثمنًا لبعض الأشياء التي اشتروها من المدينة, كان هؤلاء يجدون مساعدة لا تيسر للذين هم أكثر قدرة منهم. حتى المقعدون وذوو العاهات, قد تكفَّل بهم عدد من الشباب, وكانوا يقدّمون لهم الأكل المطبوخ, وغالبًا ما يكون حساء من الطيور أو الهريسة. أمَّا النساء الأرامل فقد كنَّ في هذه الفترة موضع رعاية كبيرة.

    لكن الطيبة التي تستطيع أن تطعم أبناءها أجزاء من لحمها لا تقوي على مواجهة مثل هذه المصائب سنة بعد أخرى بصدرها المكشوف وإمكاناتها المحدودة. وبرغم أن المسنِّين حذّروا كثيرًا من الإسراف, وطلبوا من كل بيت أن يقتصد ما وسعه الاقتصاد, وأن يَعُدَّ الأيام التي لا تزال الطيبة تعيشها الآن أيامًا رخية, وبعدها ستأتي المصائب الكبيرة كثيفة متلاحقة, فإنَّ الطيبة ظلت تعيش على أمل غامض, وظلت تنتظر شيئًا ما, لكن هذا الأمل لم يتحقق كما توهَّمه الكثيرون, وأصبح الانتظار طويلاً ممضًّا!

    والأبناء في المدن البعيدة لم ينتظروا صرخات الاستغاثة وإنَّما بادروا إلى تقديم كل ما يستطيعون. بعثوا بكميات من الحنطة والشعير, وبعثوا بالعدس والسكر والشاي والصابون, وبعثوا أيضًا يطلبون أن يأتي عدد من الأهل والأصدقاء, لينزلوا عندهم في المدينة. وأهل الطيبة, خصوصًا الذين تقدَّموا في العمر, لا يقوون على الاستجابة لمثل هذه الطلبات, ولا يتصورون أنفسهم يرحلون تاركين غيرهم للموت جوعًا وعطشًا. إن مجرد تصور شيء مثل هذا يولِّد في النفوس خجلاً لا يستطيعون احتماله, ولذلك لا يجيبون عن مثل هذه الرسائل, ولا يلبونها. والأبناء الذين رحلوا, وظلوا على صلة مع البلدة يعرفون جيدًا أن ما يطلبونه أقرب إلى المستحيل, ولن يستجيب إليه أحد, ولذلك بالغوا أول الأمر في إرسال كل ما يستطيعون, ثم بدأوا يتوافدون إلى البلدة, للزيارة أول الأمر, ثم للمشاركة بطريقة ما من أجل الوقوف في وجه هذا الكرب القاسي, لعلهم يستطيعون عمل شيء, أو أن يتعلموا شيئًا. كانت الزيارات تمتد أيامًا وتتكرّر في أوقات متقاربة, كما لا تقتصر على المشاركة الوجدانية أو الرغبة في تعذيب النفس, وإنما كانت ترافقها أشياء كثيرة: كميات إضافية من الحنطة والشعير, أثواب من الخام, وكانت تأتي معها الوعود والكلمات الكبيرة. وإذا كانت تلك الوعود أقسى الأشياء وأصعبها لكل إنسان في الطيبة, فقد أصبحت في هذه السنة عذابًا لا يطيق أحد أن يتحمله. (لم يبق إلاَّ القليل ويبدأ بعد ذلك بناء السد. والسد إذا قام لن تعطش الطيبة ولن تجوع. هكذا قال لنا الرجال المهمُّون في العاصمة), وقالوا أيضًا: (إنه قبل نهاية الخريف, وقبل موسم الأمطار, ستبدأ الآلات تشق التربة وتدفع أمامها الصخور, وسوف يأتي مئات العمال والمهندسين, وسترون ذلك بأعينكم!).

    وأهل الطيبة الذين يقبلون الأشياء التي تأتي ويوزعونها بعدالة مفرطة, كانوا يسمعون كلمات المدينة الكبيرة, ويسمعون عن السد الترابي الذي سينشأ قريبًا من الطيبة, ليجمع المياه التي تتدفق سيولاً جارفة في بعض المواسم, ثم تنتهي إلى باطن الأرض. ولا أحد يعرف كيف تغور هذه المياه أو إلى أين تذهب, ولا تبقي من تلك السيول غير تلك الكميات الكبيرة من الحصى والمجاري العميقة التي جرفت أجزاء من الأراضي والبساتين! ولا تبقي أيضًا سوى الكلمات الكبيرة والوعود!

    كان أهل الطيبة يسمعون ذلك بصمت حزين, ولا يدرون أيكذبون أبناءهم أو أولئك الرجال الرابضين هناك في الأبنية الكبيرة المغلقة? كانوا يقولون لأنفسهم: (لقد قيل لنا مثل هذا الكلام مرات كثيرة, وتنقضي السنوات, سنة وراء سنة, ولا شيء يتغير). وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا نسيان السد والطريق والكهرباء في مواسم الخير, ولم يفكِّروا يومًا واحدًا أن يحصلوا على مثل هذه الخيرات, فإنَّهم في مواسم القحط يتذكرون كلّ شيء, يتذكرون هيئات الرجال الذين أتوا, والكلمات التي قالوها, ويتذكرون أن بعض الذين جاءوا زائرين مع أبناء لهم إلى الطيبة في سنوات سابقة, سنوات الخصب والمواسم الطيبة, وذهبوا إلى الصيد أيضًا في المناطق المحيطة بالبلدة, ورجعوا وقد امتلأوا بنشوة, وتصرفوا في لحظات معينة مثل الأطفال, وبدوا صادقين- إن بعض هؤلاء أصبح في المدينة البعيدة كبيرًا مهمًّا, بحيث لا يذكر اسمه إلاَّ كما تذكر أسماء الأنبياء والأولىاء. إن هؤلاء لم يعودوا يتذكَّرون الطيبة, ونسوا أصدقاءهم, وانتهى الأمر. والطيبة تعض على جراحها في مواسم القحط والجفاف. أما في مواسم الخير فلا تكف عن أن تبعث بسلال المشمش في بداية الموسم, ثم بسلال العنب والتين في نهايته, وبين الموسمين تبعث اللبن والجبن والبيض والخراف الصغيرة أيضًا, ولا تنتظر شيئًا من المدينة. تبعث الطيبة كل هذا برضا أقرب إلى الحبور. ويتصور الآباء والأمهات, وهم يبعثون بالسلال وأكياس اللبن في السيارة الصغيرة التي تذهب في الصباح الباكر, أنَّهم لا يقومون بواجب فقط, وإنما يحسّون بالمرارة والحزن إن تأخَّروا عن موعد سيارة الموظفين, أو إن لم يستطيعوا قطف التين في الوقت المناسب! والطيبة التي لم تتنكر ولم تتغير, وظلَّت وفية لكل شيء فيها ولكل إنسان عاش فيها أو مرَّ بها في يوم من الأيام, خلقت هذا الوفاء الفذ في أبنائها, والذي لا يوجد مثيل له فيما جاورها من القرى, ولا يوجد أيضًا في القرى البعيدة.

    في هذه السنة القاسية الملعونة جاء عدد كبير من أبناء الطيبة, جاءوا دون طلب ودون إيعاز من أي نوع, وما كادت أرجلهم تطأ أرض الطيبة, وعيونهم تلامس بيوتها, حتى أحسُّوا بالحزن العميق, ولاموا أنفسهم كثيرًا على أنَّهم تأخروا حتى هذا الوقت, وشعروا بتأنيب الضمير حتى قارنوا حياتهم في المدينة بحياة الناس في الطيبة. لكن هذا الحزن وهذا الندم تراجعا بسرعة ليحل مكانهما الرغبة القوية في أن يفعلوا شيئًا, لعلَّ الطيبة تنجو هذه المرة, ولعلها تحيا وتستمر إلى أن يُبنى السد, أو يقع شيء ما في المدينة البعيدة, ويصبح من الممكن بعد ذلك مواجهة الطبيعة القاسية دون انتظار للوعود الكاذبة أو للمطر الإبله الذي يأتي سنة وينقطع سنوات.

    نزع الذين وصلوا لتوّهم ملابس المدينة, ولبسوا مثلما كانوا يفعلون حين كانوا في البلدة قبل سنوات. وخلال اليوم الأول مروا على أكثر بيوت الطيبة, وسألوا عن الرجال والنساء, وحزنوا كثيرًا على الذين ماتوا, وفكّروا في أمور واقتراحات كثيرة, وقرَّروا بينهم وبين أنفسهم عدة أمور, إن هم عادوا إلى المدينة مرة أخرى. لم يكتفوا بذلك, بل وزعوا ما جاءوا به, وكتبوا رسائل عديدة إلى أقرباء وأصدقاء في المدينة البعيدة وفي المهجر. وفي الليل سهروا طويلاً يفكّرون ويتكلمون, لكنهم كانوا يحسون في أعماقهم بالمرارة تكوي لهاتهم مع كل كلمة يقولونها, لأنَّهم لم يكونوا متأكدين من شيء!

    وإذا كانت الطيبة كثيرة الصبر والتسامح, وتغفر للغرباء مثلما تغفر لأبنائها, فإنَّها تعرف الغضب في مواسم الجفاف, وهذا الغضب الذي قد يأخذ شكلاً هينًا في بعض الأوقات يتحول في النهاية إلى جنون لا يطيقه ولا يتصوّره أحد.

    قال أحد القادمين, وكان شابًّا يدرس في مكان بعيد:

    - الناس هناك لا يفعلون كما تفعلون أنتم هنا, إنَّهم, هناك, يحوّلون الكلمات إلى قوة. قوة منظمة ومحاربة, ويجب أن نفعل مثلهم شيئًا عاجلاً قبل أن يلتهمنا الموت.

    قال رجل مسنّ, وهو يقلب شفتيه باستنكار, ويقلب نظراته بين الأرض والسماء:

    - وماذا تريدنا أن نفعل?

    وقبل أن يجيب الشاب تابع الرجل:

    - يجب أن تعرف, لا أحد يستطيع مقاومة الحكومة. علينا أن نكون عقلاء ونفكِّر فيما نستطيع عمله.

    قال الشاب بعصبية:

    - القحط إذا جاء تنامون سنةً كاملة, وإذا لم يجئ ترسلون الدعاء والرسائل ولا شيء غير ذلك, وبهذه الطريقة لن تبقي الطيبة!

    قال والد ذلك الشاب:

    - الطيبة, يا ولدي, باقية, لقد مرَّت سنوات صعبة كثيرة مثل هذه, تحمَّل الناس تلك السنوات وعاشوا بعد ذلك, وظلَّت الطيبة.

    ردَّ الشاب بسخرية:

    - الموت والحياة في مثل هذه الظروف متساويان. انظروا إلى الأرض والأشجار والدواب. وانظروا في وجوه البشر, إن كل شيء يموت, وإذا جاءت سنة مثل هذه السنة فلن يبقي شيء!

    كان يمكن لهذا الحديث أن يستمر وأن يتطوّر لكن حين دخل الضيوف, الذين جاءوا عصر ذلك اليوم, إلى المضافة, تغيَّر الجو فجأة.
    في عصر ذلك اليوم, في نهاية فصل الصيف تقريبًا, جاء أربعة من الضيوف, جاءوا مع أصدقاء لهم من أهل الطيبة, جاءوا في سيارتين, إحداهما سيارة جيب والأخرى فولكس فاكن صغيرة رمادية. وعلى الرغم من أن أبناء الطيبة, المقيمين والراحلين, يتميَّزون برهافة الحس ودماثة الخلق, ويعرفون كيف يعضُّون على جراحهم بصمت ويكتمون أحزانهم بصبر عجيب, حتى يخطئ الكثيرون في فهمهم أو تحديد مشاعرهم, فإنَّ الكثير من المتاعب والمشاكل التي يريدون بحثها والحديث فيها حين يخلون لأنفسهم, يتركونها جانبًا, ويتحدَّثون بطريقة مختلفة حين يأتي الضيوف. والمسنُّون الذين تعوَّدوا على كتم مشاعرهم وانتظار الأوقات المناسبة للحديث, يختلفون عن الرجال الأصغر سنّا, إذ يُصاب هؤلاء بنوع من الحمى ولا يقوون على كتم الأفكار والمشاعر التي تملأ صدورهم, خاصة في موسم مثل هذا الموسم.

    كانت هناك رغبة لأن يتحدث بعض الرجال للمرة الأخيرة, أمام الضيوف. وإذا كان الكثيرون من أهل الطيبة قد انتظروا بصبر فارغ مجيء الأبناء من المدينة, لكي يتحدّثوا للمرة الأخيرة, في أمر السد, متى يجب أن يقوم وماذا فعلوا من أجل قيامه, وأنهم لم يعودوا قادرين على الانتظار أكثر مما فعلوا, وإذا صبروا وتحمَّلوا السنين الماضية بصمت فلن يستطيعوا بعد اليوم احتمال ذلك, وسوف يلجأون إلى وسائل جديدة لإقناع الكبار هناك في المدينة, بمدى القدرة التي يمتلكونها.

    إذا كان أهل الطيبة قد انتظروا طويلاً, فقد خاب ظنُّهم تمامًا حين رأوا عصر ذلك اليوم سيارتين غريبتين تدخلان الضيعة. أمَّا حين تعانق الآباء والأمهات مع أبنائهم العائدين, فقد طغت للحظات قوة الحب على قوة العتاب, وجاشت الدموع في العيون وغلبت جميع المشاعر الأخرى. ونتيجة ذلك تراجعت الأفكار والكلمات الغاضبة لتحل مكانها مشاعر المودة وكلمات الترحيب. والضيوف الذين لم يروا الطيبة قبل هذه المرة, لم يروا فيها شيئًا مختلفًا, ولم يحسوا بذلك الدوي الداخلي الذي يولّده الجفاف. أمَّا حين قابلتهم الابتسامات الواسعة والترحيب الحار فقد أحسُّوا بدفء داخلي وحسدوا هؤلاء الناس على هذا الرضا الذي يمتلكونه!

    بهذه الطريقة تأجَّلت أُمور كثيرة وحلَّت أخرى مكانها. فالأشياء التي حملها الأبناء من المدينة وُزِّعت بعناية, واختلى بعض المسنِّين لينصحوا بعضهم بعضًا أن يتصرفوا بحكمة, ولكي يطلبوا من الشباب احترام الضيوف مثلما تعوَّدوا دائمًا, دون إثارة لأي أحزان أو مشاكل. وقالوا في أنفسهم: (سيبقى الضيوف يومًا أو يومين ثم يرحلون, وبعد ذلك سوف نقلب الدنيا على رؤوس هؤلاء الأبناء العاقّين, الذين لا يعرفون شيئًا في الدنيا سوى إرسال بعض الحاجات في مواسم الجفاف, وكأن الطيبة أصبحت مأوى للمتسوّلين والجياع, ويجب أن تبقي كذلك). أما الوعود الكثيرة عن المياه التي ستتدفق طوال أيام السنة, أمَّا عن الأسماك التي ستزرع في البحيرة, عن القنوات التي ستمتد إلى مسافات بعيدة, فقد انتهى الأمر كله, ولم يبق إلاَّ صدى الكلمات يتردّد كل بضع سنين, شفقة أو حسرة على هذه البلدة التي تموت يومًا بعد يوم.

    هكذا كانت الساعات الأولى, وهكذا كانت مشاعر الناس, وأبناء الطيبة الذين أحسُّوا بغريزتهم أن كل شيء قد تغيَّر في البلدة, وأن الأيام التي يعيشها أهلها من القسوة إلى درجة لم يكونوا يتصورونها, ورأوا التغيُّرات العميقة التي دخلت في كل شيء يلمحونه. شعروا أنهم أذنبوا كثيرًا, وأن أي كلمات تقال الآن لا بدَّ أن تكون عاجزة ولا تعبِّر عمَّا تفيض به قلوبهم. ولأنَّ الضيوف قد أتوا, ولأنَّهم تعوَّدوا على شكل معين من التصرفات, فقد فهموا من النظرات, من الإشارات, وحتى من لمسات الأيدي, أن الطيبة تغلي ولا بدَّ أن تنفجر بشكل أو آخر, لكن هذه المشاعر تُركت جانبًا, لأنَّ الضيوف بدا لهم كل شيء غريبًا وطريفًا!

    أمَّا حين انعقد مجلس السمر فقد تركَّز الحديث على الصيد, لأنَّ الضيوف جاءوا لهذه الغاية. وما دام الضيوف يريدون هذا, فإنَّ هذا ما حصل!

    وأهل الطيبة الذين كانوا قادرين على التحدِّي والغضب في أوقات معينة, كانوا قادرين أيضًا على الصبر, ويلجأون إلى كل الوسائل لمواجهة الجوع والموت. وحين يُذكر الصيد وسيلة لمواجهة المجاعة, وإنقاذ ما يمكن إنقاذه, تتردّد كلمة واحدة, وكأنَّها كلمة السر: أين عساف? ودون عناء كبير يتبرع الكثيرون لمناداته, لإحضاره. وفي غمرة الحزن والجوع والتحدِّي ومواجهة الموت, ومن أجل التغلُّب على الحزن والجوع والموت, تفلت كلمة ساخرة, أقرب إلى الدعابة. يقول أحد الحاضرين, ليتغلب على المناقشة الحادة التي بدأت ولا يعرف كيف ستنتهي:

    - نريد عسافًا, احضروا عسافًا حيًّا أو ميتًا!

    دخل عساف عصبيّا مخطوف الوجه, وبغمغمة لا تكاد تُفهم, ألقى التحية, وجلس قريبًا من الباب. وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا على عساف, وقبلوا جنونه, رفضوا بكثير من الإصرار أن يصطحب كلبه معه إلى سهراتهم وإلى مجالسهم. وهذا الرفض الذي آذي عسافًا كثيرًا, قابله برفض أشد قسوة وأشد إصرارا, حتى انتهى الأمر إلى ذلك الاتفاق الضمني بأن يدخل عساف إلى المجلس دون أن يصافح أحدًا, وأن يبقي كلبه قريبًا من الباب. وإذا كان عساف قد قَبِلَ هذه الشروط مكرهًا, فإنَّ علاقته بمجالس البلدة وأحاديثها قليلة إلى درجة أن الناس لا يرونه إلاَّ نادرًا. أما إذا جاء ضيف إلى البلدة من أجل الصيد, فقد كان أوّل الذين يجب دعوتهم وحضورهم هو عساف. وعساف الذي لا يحب حضور المجالس, يكره أيضًا هؤلاء الضيوف, ويًعُدُّهم, في أغلب الأحيان, ثقلاء شديدي البلادة والخور, لكن مثلما علّمته الطيبة, كان مضطرًّا إلى مصاحبتهم وإلى مجاملتهم, ومن أجل ذلك كان يتحمَّل الكثير!

    في هذه الأمسية, وحين أتوا بعساف, أحسَّ أن الأمر غير عادي. أمَّا حين جلس قرب الباب وأجلس كلبه إلى جانبه, فقد سمع أكثر من صوت يدعوه إلى صدر المجلس, وإزاء رفضه, نهض واحد من أبناء الطيبة القادمين مع الضيوف, ومدَّ يده يحيِّي عسافًا بحرارة أول الأمر, ثم يسحبه بقوة لكي يغيِّر مكانه. استمر الأمر بعض الوقت, بين القبول والرفض, إلى أن اقترح أحد المسنِّين انتقال عساف وبقاء الكلب حيث كان.

    إن في حياة كل إنسان لحظات من الخصوبة لا يدركها, ولا يعرف متى أو كيف تأتيه أو كيف تنفجر في داخله. إنَّها تندفع فجأة, تعربد مثل الرياح أو مثل الأمطار الغزيرة المفاجئة, وتطغى على كل شيء, ومثلما تأتي فجأة تنتهي كذلك, وكأنَّها مياه غارت لتوّها في أرضٍ رملية عطشى!

    هذه اللحظات لا يخطط لها أحد ولا يدبرها أحد, حتى لو أراد. وعساف الذي جاء مكرهًا, ليلتقي ببعض الوجوه التي لم يرها من قبل, وقد لا يراها مرة أخرى بعد أن تغادر الطيبة, والذي أغضبته كلمة أحد المسنِّين حين طلب منه أن يُبقي كلبه عند وصيد الباب, وجد نفسه فجأة في عالم من الوجد وأقرب ما يكون إلى التجلِّي, إذ ما كاد يُسأل عن الصيد, وعن عدد الطيور التي صادها ذلك اليوم, وكيف كان الموسم بصورة عامة, حتى أحسَّ بالاختناق, وتمنَّى لو أنه لم يأتِ, وتمنَّى أكثر من ذلك لو يستطيع مغادرة المجلس. لكنه كان يعرف أهل الطيبة, يعرف مقدار الود القاسي الذي يكنُّونه له, ويحس أن رابطة عمرها مئات السنين تربطه بكل ما حوله من أرض وبشر وأشجار ومياه, وأن هذه الرابطة تكون أشد وأقوى حين تمر سنة صعبة مثل هذه السنة التي تمر على الطيبة.

    كان مصممًا, أول الأمر, ألاّ يتكلم, فإذا حاصروه بالأسئلة, ولم يجد مجالاً للهرب, فلا أقل من بضع كلمات يقولها, لكن فجأة امتلأ بشعور الألفة والتحدِّي معًا, وأحسَّ أن قلبه يخفق بضربات سريعة أكثر مما تعوّد حين يكون في مثل هذا الموقف, وقرَّر أن يفعل شيئًا لم يفعله من قبل.

    يتذكّر هو نفسه, ويتذكّر كل مَن كان موجودًا, أنه لأول مرة في حياته, قرَّر أن يخوض معركة لم يخض مثلها من قبل, رغم ما يُقال دائمًا من أن حياته منذ بدأت معركة متصلة, إذ ما كادت الأسئلة تنهال عليه, وكلها عن الصيد, حتى صرخ بتحدِّ:

    - تعال... تعال يا حصان!

    وانتفض الكلب فجأة, ومثل حية ملساء, انسل ليجلس عند أقدام عساف.

    كانت الحركة مفاجأة, لم يتوقعها أحد, وللحظات خيَّمت الدهشة وعمَّ الذهول. والمسنّون الذين يملكون, أغلب الأحيان, الحق بالأمر والنهي, أحسُّوا أن صوت عساف, وهو يدعو كلبه, غير مألوف, ولا يمكن مقاومته. تبادلوا النظرات فيما بينهم, ونظروا إلى عساف, لكن لأول مرة في حياتهم الطويلة الحافلة يكتشفون في عينيه بريقًا قاسيًا وحشيًّا, ودون وعي أو إرادة, تراجعت كلمات الاعتراض لتحل مكانها هزات الرؤوس تعبيرًا عن الأسف وشيء من العتاب.

    لم ينتظر عساف, اعتدل في جلسته, أجال نظرة طويلة في وجوه الناس الذين خيَّم عليهم الصمت, وبطريقة مليئة بالمحبة والحنان معًا, امتدَّت يده إلى الكلب, مسَّد على ظهره أكثر من مرة, ودون أن ينظر إلى أحد, وكأنَّه يخاطب نفسه, بدأ:

    - ماذا تظنُّون يأهل الطيبة? هل تظنّون أن هذه السنة مثل السنين القاسية التي مرَّت عليكم? هل تظنون أنَّكم ستواصلون الحياة حتى تأتي الأمطار مرة أخرى? إن مَن يظن ذلك أقرب إلى الجنون.

    توقف لحظة. عبَّ نفسًا عميقًا من سيجارته, وتطلع في وجوه الرجال مرة أخرى, ثم تابع:

    - قلت لكم ألف مرة: لم يبقَ بيننا وبين الموت إلاَّ ذراع, وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن نوفره حين تأتي الأمطار مرة أخرى. قلت لكم مئات المرات وأنتم لا تسمعون هذا الكلام, وبدل ذلك تزدادون حماقة يومًا بعد يوم. قلت لكم: اتركوا إناث الحجل للسنوات القادمة, إنها رزقنا الباقي. قلت لكم: وفّروا الخرطوش ولا تُفزعوا الطير, وعندها سيأتي إليكم بدل أن تذهبوا إليه, لكنكم يومًا بعد آخر تزدادون عنادًا وتحدّيًا. قلت لكم: انقلوا من النبع حِمْل حمارين أو ثلاثة حمير وارموا بها في الخوابي القريبة, ثم اربضوا هناك حتى تأتي الطيور, فامتلأت وجوهكم بالابتسامات الساخرة, وقلتم: عساف انهبل, لأنه يطلب منا أن نبذر ما تبقَّى لنا من الماء ونرميه في الصحراء. والآن تأتون بهؤلاء الأفندية وتتظاهرون بالنبل والكرم وتطلبون من عساف أن يصطحبهم إلى الصيد, وأن يجعلهم يصيدون! ماذا يستطيع أن يصيد هؤلاء أو غيرهم ما دمتم ملأتم الدنيا بالطلقات المجنونة تبذرونها في الهواء, حتى لم يبق طير من طيور السماء أو حيوان من حيوانات الأرض إلاَّ وسمع عددًا لا حصر له من الطلقات?

    وحرَّك يديه بطريقة يائسة, وتطلّع في وجوه الضيوف, ثم تابع بلهجة جديدة:

    - يا سادة, كان الحجل يصل إلى أبواب البيوت. كانت الغزلان والأرانب تملأ السهل كله. كانت ممرات الترغل كثيرة إلى درجة أن عسافًا نفسه يحتار إلى أين يذهب وأي الممرات يفضّل. هكذا كان الأمر في الأوقات السابقة, وأهل الطيبة بدل أن يحافظوا على هذه النعمة, لم يتركوا أي ابن عاهرة ولمسافة ألف كيلو إلاَّ ودلُّوه على الطيبة. اعذروني, أنا لا أقصد أي واحد منكم, أنتم على عيوننا وعلى رؤوسنا, لكني أقصد الصيادين الآخرين الذين يأتون من كل مكان, وكأن ليس في الدنيا سوى الطيبة, وهؤلاء الذين يأتون لا يعرفون سوى شيء واحد: القتل. كانوا يقتلون كل ما تقع عليه أعينهم. كانوا يقتلون إناث الحجل قبل ذكورها, لأن الذكور وهي تجفل وتطير من الخوف, كانت تخلّف في قلوب هؤلاء الصيادين خوفًا كبيرًا, وبعد أن يستعيدوا شجاعتهم تطير الإناث فيضربونها. والشيء نفسه يفعلونه بالغزلان والأرانب وكل الحيوانات الأخرى, وحين يعودون محملين بالصيد الكثير لا يكتفون بأن يعودوا إلى هنا مرة أخرى. إنهم يدلّون أصدقاءهم وأصدقاء أصدقائهم, إلى عاشر جدّ, ويحضرون معهم أنواعًا من السلاح لا يتصورها عقل ولا يقاومها صخر. وبهذه الطريقة, وسنة بعد أخرى, أقفرت الطيبة. والآن تريدون من عساف أن يستولد لكم الطيور والحيوانات ولا أعرف أي عفاريت أخرى? ماذا يستطيع عساف أن يفعل? هل هو مسيح جديد? هل هو الذي يبيض ويفقس?).

    ومن جديد امتدَّت يده لتستقرَّ على ظهر الكلب, وينظر إلى الوجوه التي اعترتها الدهشة وخيَّم عليها الصمت:

    - لم يخلق الصيد للأغنياء أو الذين يقتلهم الزهق والشبع. لقد خلق للفقراء, وللذين لا يملكون خبز يومهم. وعساف الذي قضى حياته كلها في البرية لا يصيد في مواسم الخير إلاَّ ما يملأ معدته ومعدة هذا الحيوان. أمَّا في مواسم الجفاف, ولكي لا يموت الناس في الشوارع, فيمكن أن يكون الصيد حلاً, كما هو الحال ونحن نستبدل بخبز القمح خبز الشعير, لكن لا أحد يفهم في الطيبة وفي غيرها من المدن والقرى. إن الإنسان في هذه الأيام يمتلك روحًا شريرة لا تمتلكها الذئاب أو أي حيوانات أخرى, ولهذا السبب نواجه اليوم الجوع, وسيكون الجوع غدًا أشد وأصعب. إنَّني أرى ذلك كما أراكم الآن. وإنَّني أخاف من الغد أكثر مما أخاف اليوم الذي أعيش فيه. هذا ما صنعناه بأيدينا!
    وبطريقة أقرب إلى الفظاظة واليأس تحرَّك عساف يريد أن ينهض ليمشي. وإذا كان كلامه قد خلق جوّا متوترًا, شديد الحرج, خاصة لأهل الطيبة تجاه ضيوفهم, فإنَّ حركة غير عادية سرت في الجميع. كانت حركة سريعة غامضة, وفيها ذلك الاحتجاج اللذيذ الذي يشيع الاعتراف الضمني بأن ما قاله ذلك المجنون هو الحقيقة ذاتها, ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتنكر لها, وأن ما قاله كان يجب أن يُقال!

    قال نعيم, وقد جاء مع الضيوف من المدينة, وتحدَّث معهم كثيرًا عن الصيد في الطيبة, وعن عساف ومقدرته الفائقة في الصيد, وتحدّث أيضًا عن غرابة طبعه, قال ليخفف من كلام عساف:

    - ما قلته, يا عم عساف, هو الحقيقة, لكن أنت تعرف أي جنون يعيش في قلب الصياد!

    قال أحد الضيوف, بلهجة مستسلمة, وكأنَّه يدافع عن نفسه:

    - لقد انقطع الصيد في كل المنطقة, وليس في الطيبة وحدها!

    ولأول مرة يقهقه عساف, كما لم يفعل ذلك في حياته إلاَّ مرات قليلة, وقال بصوت مليء بالسخرية:

    - ومَن قال إن الطيبة وحدها يسكنها المجانين?!

    ولكي تفهم كلماته جيدًا أضاف:

    - لقد وصل الجنون إلى كل مكان. وهذه الأسلحة الجديدة ما كان لها أن توجد, حتى لو صنعها بعض المجانين في الأماكن البعيدة, ما كان لها أن تصل, أو أن تستعمل في الصيد. إنَّها تقتل كل شيء, ولا تبقي شيئًا!

    ومن جديد عاد إلى لهجة السخرية:

    - إذا كانت المناطق الأخرى تنعم بالمياه والخضرة, وتحصل على ما تريده دون عناء, لأنَّ منها الحكام والعسكر, فإنَّ الطيبة بلدة مسكينة, إذا أمطرت الدنيا وجدت لقمتها, وإذا أمْحَلت مات الناس جوعًا!

    ومرة أخرى تغيَّرت لهجته:

    - فيما مضى, قبل سنوات كثيرة, كنا نحارب الجوع ونتغلب عليه بالطيور التي تأتي, بالحيوانات التي تقترب من البلدة, وكنا نقاوم الجوع حين نأكل الجراد والجرابيع, أمَّا هذه الأيام فلم يبقَ شيء. فإذا استمرت الحال هكذا فلن تمضي فترة قصيرة حتى تصبح الطيبة مأوى للبوم والوطاويط!

    قال ضيف آخر بلهجة خجولة وهو يستعرض صورة الطيبة:

    - سمعت أن سدًّا سيُبنى عندكم, وأن هذا السد سيروي مساحات واسعة, أليس كذلك?

    قال أحد المسنِّين:

    - مثلما سمعت, يا ولدي, سمعنا. الفرق بيننا وبينك, أننا سمعنا هذا منذ وقت طويل, ولقد قال لنا ذلك الكبار في المدينة, لكن مَن يدري!

    وضحك الرجل بنوع من السخرية وهزَّ رأسه بأسف.

    قال مختار الجهة الشرقية:

    - اتركوا الآن هموم القرية. المهم أن ترتبوا مشوارًا مناسبًا للصيد, وهؤلاء الكرام لن ينسوا الطيبة, ولن يوفروا أي جهد من أجل إقناع المسؤولين لبناء السدّ بسرعة!

    وتحوَّل الجو فجأة. هجم أحد القادمين على عساف, وقبَّله على رأسه, وقال بطريقة مغرية:

    - ستكون قائد الحملة يا بطرس, وسوف نعود بصيد وفير غدًا!

    قال أحد المسنِّين مازحًا:

    - يجب أن تصيدوا صيدًا كبيرًا. إن الصيد وحده يمكن أن ينقذ الطيبة من الموت!

    وتحلقت المجموعة, بمَن فيهم الضيوف, حول عساف, وبدأ الإعداد لمشوار الغد.

    قال عساف ليؤكِّد اتفاق الليلة الفائتة:

    - لو ذهبنا إلى الحجل فسوف نرجع بأيدٍِ فارغة. قتلوا الحجل لمسافة ألف كيلو. أمَّا الكدري فقد تنكّح, أصبح يخاف من الرجال والأشباح, ويطير من مسافات بعيدة. لذلك يجب أن نذهب إلى أقصى مكان, وما دام معنا سيارات فسوف تطيّر كل مجموعة للأخرى.

    توقف قليلاً وأجال عينيه في الوجوه حوله. كانت العتمة تملأ كل شيء, ولا تبيّن من خلالها سوى برقات سريعة للعيون أو توهج السجائر المشتعلة حين تمصّها الشفاه, قال عساف وهو يتحرّك:

    - أنتم وحظّكم, أنتم وشطارتكم!

    في غبشة الليل المتأخر كانت رياح ناعمة تملأ الكون وتخلّف نوعًا من البرودة اللذيذة, والرجال الذين انحشروا في السيارتين, كانوا أميل إلى الصمت والتأمل. صحيح أنهم تبادلوا بعض الأحاديث السريعة, لكنها كانت في مجملها للتغلب على الصمت والسأم, وفي محاولة لخلق تحريض متبادل, وبدافع الأمنيات قبل أي شيء. وعساف الذي جلس في سيارة الجيب, وكانت في المقدمة, كان شديد الصمت, ولم يجب عن الأسئلة التي وُجِّهت إليه إلاَّ بكلمات قليلة, كان يكتفي بأن يقول:

    - اصبروا وسوف نرى!

    بين فترة وأخرى, ولأن عسافًا هو الذي يعرف الطريق, كان يحدّد ويصدر الأوامر:

    - يمين.

    - يسار.

    - مرة أخرى إلى اليسار!

    والسائق الذي يستجيب بطاعة ودون اعتراض, كان يخطئ بعض الأحيان, فبدل أن يستدير إلى اليسار, كما طلب منه عساف, كان يستدير إلى اليمين, لكن ما يكاد يفطن إلى خطئه حتى يستدير بقوة ليأخذ الاتجاه الصحيح. والسيارة الخلفية, التي كانت تسير على مسافة بعيدة نسبيًّا, لتتجنب الغبار الكثيف المتطاير من الجيب, كانت ترى في كل حركة, في كل التفاتة, مفاجأة أو صيدًا, وكانت تتوقع باستمرار شيئًا. لكن عسافًا الذي عرف هذه الأرض بشكل جيد, كان هادئًا. وحين سأله أحد الجالسين في المقعد الخلفي إن كان الوقت قد حان لإعداد البنادق, أجاب بعصبية:

    - الصبر مفتاح الفرج. اصبر!

    - ألا يحتمل أن نجد أرنبًا أو ذئبًا?

    - وهل بقيت أرانب?

    - أتصور أن هذه الأرض أرض أرنب!

    - لا تتصور!

    وانقطع الحديث مرة أخرى. لم يكن يسمع خلال هذا الصمت سوى الدويّ الصاخب لسيارة الجيب, ولم تكن ترى إلاَّ المساحة التي يولدها النور القوي المنبعث من أضوائها.

    إنَّها إحدى المرات القليلة التي يتوغل أبناء الطيبة وضيوفهم إلى هذه المسافة البعيدة في الصحراء. ومع كل ميل جديد تتغير طبيعة التربة ويتغير الهواء. فالمنطقة المحيطة بالطيبة متنوعة التضاريس, متفاوتة أشد التفاوت, إذ تبدأ ببعض الصخور السوداء, وكأنَّها حدود الطيبة من هذه الناحية, ثم تليها الكثبان الترابية التي تتخللها بعض الصخور الكلسية, ثم الأرض الحصبة الشديدة التنوع. وتتساوى في هذه الأرض قطع الحجارة الصغيرة مع التربة. وتظل هكذا, مع تفاوت بسيط, مسافة طويلة, حتى يقطعها وادٍ, وهذا الوادي يصبح خلال فصل الشتاء مجرًى للسيول والأمطار, ولا يكاد الإنسان يتجاوزه, وينعطف فجأة ناحية الغرب, ولمسافة ميل أو اثنين, حتى تبدأ الصحراء تظهر.

    تبدأ الصحراء أوّل الأمر بخجل, وكأنَّها تكوَّنت في التو واللحظة, إذ ما تزال تحمل بعض ملامح الأرض التي تجاورها, لكن تدريجيًّا تتغير الأرض, لتصبح نسيجًا واحدًا متشابهًا وأقرب ما تكون إلى راحة اليد, من حيث الاستقامة, مع التواءات صغيرة ومتفرقة, وكثبان رملية تظهر وتغيب, بين فترة وأخرى.

    حين بدأت الصحراء, قال عساف بصوت واضح:

    - الذين على الشبابيك يمكن أن يملأوا بنادقهم. هنا يمكن أن نجد أرنبًا ضائعًا لم تصله بعد طلقات المجانين!

    وبطريقة آلية, شديدة الاستجابة, سُمعت أصوات البنادق وهي تُفتح, ثم سمعت أصوات الخرطوش وهي تستقر. قال عساف, وهو يلتفت إلى الخلف, ويكلم الرجل الذي جلس في وسط المقعد الخلفي:

    - حين نصل إلى مكان الصيد الحقيقي سوف تجلس مكاني ... هنا!

    سأل نعيم, وهو يسوق السيارة, وقد شعر بالخوف أن يتخلَّى عساف عنهم في هذه الصحراء الرهيبة:

    - وأنت, يا عم عساف?

    لأول مرة, منذ بداية الرحلة, ابتسم عساف, ونظر إلى السائق, ثم إلى الرجال الذين يجلسون في المقعد الخلفي. كانت بداية أضواء الفجر تنتشر بهدوء وتتسرب إلى داخل السيارة. وبعد أن تملَّى من وجوههم قال:

    - أنا وكلبي على الأرض, وأنتم في السيارة.

    سأله أحد الثلاثة, وكان جالسًا في الخلف:

    - وكيف سنصيد?

    قال عساف بسخرية:

    - السيارة هي التي تصيد!

    ولما أحسَّ أن أحدًا لم يفهم كلامه أضاف بلهجة مختلفة:

    - بعد أن طارد الصيادون الطير وأتعبوه, بدأ يخاف من كل شيء, ولا يمكن أن يُصاد الآن إلاَّ بالسيارة.

    توقف قليلاً, تطلع حواليه, وقال بلهجة جديدة:

    - حين ترون رفًّا من الكدري أو القطا يجب أن تغيروا عليه بأقصى سرعة, وقبل أن يطير كله, قبل أن يبتعد, يمكن أن تأخذوا منه بعض الطيور!

    سأل نعيم, ومقود السيارة يضطرب بين يديه حين أمسك البندقية:

    - وأنت يا عم عساف?

    نظر إليه عساف نظرة مشجعة وأجاب.

    - لا تخف, سنبقي أنا والكلب على الأرض, والذي يفلت منكم, الذي يطير باتجاهي ويقترب, سوف يكون نصيبي!

    بعد فترة من السير, ولما أحسَّ عساف أنه وصل المكان المناسب, نظر إلى الأفق نظرة دائرية واسعة ليتأكَّد. وبحركة من يده, مع غمغمة غير واضحة, طلب من نعيم أن يقف. ظنَّ الجميع أن عسافًا رأى صيدًا, لأنَّ الوقفة السريعة التي وقفها نعيم خلقت شعورًا قويّا بالمفاجأة, لكن عسافًا وهو يفتح الباب, ويطلب من الكلب النزول, قال بهدوء وكأنَّه يلقي موعظة:

    - يجب أن نبقي في دائرة, وهذه الدائرة قد تتسع وقد تضيق, لكنها تبقي دائرة, والطير لن يبعد كثيرًا. ما عليكم إلاَّ أن تعرفوا كيف تساعدون بعضكم بعضًا, ويجب أن يفهم جماعة السيارة الثانية هذا.

    بعد قليل وصلت السيارة الثانية, ووقفت بهدوء إلى جانب الجيب, ولكي لا يترك عساف الأمر غامضًا, قال بصوت عال:

    - سنبقي أنا والكلب على الأرض, وأنتم, كل في اتجاه تطاردون الطير, والكدري في مثل هذا الوقت لا
    يخاف وهو بطيء الطيران, ويمكن أن تصل السيارة إلى وسط الرف ولا يطير, وإذا كنتم صيادين فسوف يكون الصيد كثيرًا!

    وأضاف كأنَّه يخاطب نفسه:

    - أعتقد أن أحدًا غيرنا لم يصل هذا المكان منذ فترة طويلة, وما دام الطير غير مضروب فإنَّه لا يجفل, وسيكون الصيد كثيرًا!

    قال أحد أبناء الطيبة:

    - الأفضل أن تبقي معنا يا أبا ليلى, السيارة واسعة ويمكن أن نتصيد على مراحل.

    - الأفضل أن أبقي على الأرض.

    توقف لحظة ثم أضاف:

    - والأخ يجلس هنا.

    وأشار إلى الشخص الذي يجلس في وسط المقعد الخلفي, يطلب منه أن يتحوَّل ليجلس مكانه!

    وبعد فترة صمت قصيرة, ولكي لا يترك مجالاً لأي مناقشة, تابع:

    - الأفضل أن تكونوا في السيارات, وأن تساعدوا بعضكم بعضًا: كل سيارة تطيّر للسيارة الثانية, وأنا على الأرض, لأنَّني بهذه الطريقة أعرف كيف أصيد!

    وخلال بضع دقائق, وبتوضيحات عديدة ومتزايدة, خاصة من أبناء الطيبة الذين يرافقون الضيوف, وبمشاركة قصيرة, لكنها حاسمة وشديدة الوضوح من عساف, تمَّ الاتفاق على كل شيء. وقبل أن تتحرك السيارتان, كل واحدة باتجاه, مدَّ نعيم إلى عساف بعلبة من الخرطوش, وأطفأ أنوار السيارة.

    وبدأت رحلة الصيد!
    هواء الصباح الطري يملأ الكون بنعومة خائفة أقرب إلى اللذة الراعشة, وهذه اللذة تتسرب إلى العظام مباشرة. أمَّا المدى الفسيح, بلا نهاية, فيولد رهبة خاصة لا تولدها إلاَّ حالات ولحظات معينة في الكون والطبيعة. الصحراء المترامية, بذلك اللون الرصاصي في غبش الصباح, لا يماثلها إلاَّ البحر. أمَّا الشعور بالضآلة والانتهاء, ثم الاندماج مرة أخرى, فلا يتولد إلاَّ في عصف الرياح المجنون وفي الأمطار الغزيرة التي تبدأ لكي لا تنتهي. وشعور الظلمة الذي يلف كل شيء, ويجعل المخلوق, خاصة إذا كان بشرًا, ضئيلاً متلاشيًا, فإنَّه يطغى على الإنسان في الصحراء أكثر مما يطغى في أي مكان آخر, حتى ليشعر الإنسان أنه متروك ووحيد, إلى درجة لا تخطر على باله. ومن شعور الوحدة يتولّد الخوف والرهبة والانتظار ورغبة التخفي والصراخ والاتحاد مع شيء ما وآلاف المشاعر الأخرى التي تعجز عنها كل الكلمات.

    حتى في الأوقات التي يكون الإنسان مع الآخرين, يحس أنه في الصحراء وحيد, وأنه يواجه عدوًّا أقوى منه آلاف المرات. وهذا العدو لا يمكن أن يقاوم, لكن من الضروري مصادقته, أو الاحتيال عليه, والإذعان إلى شروطه.

    هكذا كان شعور الصيادين وهم يواجهون هذا العالم لأول مرة. حتى الذين جاءوا برغبة لا تقاوم للصيد, وضمن أي شروط, داخلهم الخوف واستقرت في قلوبهم رهبة غامضة, (ماذا لو ضعنا?), (ماذا لو غرزت السيارات في الرمال الصاخبة الملعونة?), (وهذه الطيور, ألم تجد مكانًا غير هذا المكان البائس لتعيش فيه?).

    وفي مثل هذه الظروف يصبح الإنسان, مهما امتلك من القوى, ومهما عربدت فيه التحدّيات, أقرب إلى الضآلة. يتمنى لو كان أكثر عقلاً ولم يدخل هذه التجربة. حتى الصيد في هذا المكان الفسيح الموحش له طعم مختلف, يصبح أقرب إلى المغامرة الخطرة يمارسها الإنسان برغبة إثبات القدرة والتأكُّد من الوجود, أكثر مما تحمل من لذة المطاردة والانتظار والانقضاض. ففي الصحراء يمتلك صفات تنفجر في داخله فجأة. يمتلك صفات التواضع ومحاولة التعرُّف والصبر. ويتطلع إلى كل ما حوله بحيرة أقرب إلى التساؤل.

    أمَّا إذا انفجرت رفوف الكدري كما تنفجر القنابل بين الأرجل, فإنَّ الإنسان نفسه يصبح مخلوقًا آخر يتحوّل فجأة إلى إبله يطارد ظله, إلى إنسان يعارك نفسه ويريد أن يقضي عليها قبل أن يقضي على الغير, فيغادره الخوف وتزول منه الرهبة ويتحوّل بين لحظة وأخرى إلى وحش من نوع خاص. فإذا تجاوز هذه اللحظة, ومضى عليها زمن طويل, فإنَّه ينظر إليها بنوع من الإعجاب يصل حد الغرور, ويتساءل بزهو: (هل دخلت هذه التجربة وخرجت منها سالمًا?). (هل يشبه صيد الصحراء أي صيد آخر في الكون?).

    هكذا بدأت الرحلة. وأي محاولة لاستعادة تلك اللحظات تقف عاجزة بائسة أمام هذا الملكوت الشامخ الذي يملأ كل شيء.

    فالسيارتان حين بدأتا الحركة تملَّك كل مَن فيهما خوف مفاجئ, ولم يستطع أي إنسان من البشر السبعة الذين كانوا محشورين فيهما أن يقول شيئًا ذكيًّا أو أن يتصرف تصرفًا واضحًا مقصودًا.

    كانت حركة السيارتين بطيئة أول الأمر, وبلا اتجاه. وكان السائقان, وكل واحد في أي من السيارتين, ينظر إلى الآخرين, ينظر إلى الذين حوله وينظر إلى السيارة الأخرى, ولقد امتلأ بمشاعر الخوف والانتظار, وتملكته في لحظات معينة مشاعر الندم أنه جاء إلى هذا المكان, وإلى هذا النوع من الصيد. وبرغم أن المسافة بين السيارتين لم تكن بعيدة. ولا تزيد على بضع مئات من الأمتار, فإنَّ حالة أقرب إلى العجز سيطرت على الجميع في الوقت الذي ظلَّ فيه عساف مزروعًا في الصحراء وشبحه يبتعد ويختفي كل لحظة. أمَّا كلبه الذي كان واضحًا خلال بعض الوقت, فقد أخذ يبتعد ويصغر حتى تلاشى تمامًا!

    في إحدى اللحظات العمياء, وعلى غير انتظار, انفجر رفّ من الكدري. بدا في عتمة النور الأولى أشبه بالطيور الأسطورية. كان لانفجاره دوي هائل, وظلَّ هذا الدوي وقتاً طويلاً, لا يملأ الآذان والعيون فقط, بل أيضًا يستقر في القلوب ويسيطر عليها. أمَّا الطلقات الخائرة المرتجفة التي توالت, الواحدة بعد الأخرى, فلم تخلف شيئًا سوى موجة من الدخان الأزرق تلاشى تدريجيًّا مع رياح الصباح.

    إنَّها المفاجأة الأولى. وإذا كان كل واحد من الصيادين الذين كانوا في سيارة الجيب, والذين التقوا بهذا الرفّ, قد امتلأ إصرارًا وتملكته مشاعر الخيبة, فقد قال الجميع كلمات بائسة لتبرير الفشل. أمَّا صيادو السيارة الأخرى فنظروا بحسرة وحقد, وقرَّروا في أعماقهم ألاّ يكونوا خائبين بهذا المقدار. والكلمات العرجاء التي تبادلها ركاب السيارة الجيب, فيما بينهم, لتبرير هذه الخيبة, قابلتها شتائم وتحديات من ركاب السيارة الأخرى!

    إنَّها التجربة الأولى. ومثل كل التجارب الفاشلة, وفي جميع المجالات, يتولّد في الإنسان نوع من الإصرار أقرب ما يكون إلى الرعونة, إذ ما كاد ذلك الرفّ يتلاشى في الأفق مبتعدًا حتى أسرعت السيارتان معًا, وخيَّم التحفّز الحذر على الجميع. امتدت البنادق أكثر من السابق, وبرقت العيون بالحقد.

    وأبناء الطيبة الذين عرفوا أنماطًا كثيرة من الصيادين, وكانوا شديدي الحذر والدقة في أن يطلقوا أي كلمات أو أوصاف لتقييم الصيادين الآخرين, كانوا متأكّدين من شيء واحد: مَن لا يعرف الصحراء, مَن لم يرَ هذا الطير, لا بدَّ أن يُصاب بالخيبة بعد الرحلة الأولى. لم يقولوا هذا الكلام مباشرة, لكنَّهم كانوا واثقين بهذا الاقتناع, خاصة وأن أغلب الضيوف الذين جاءوا, وادَّعوا كثيرًا, وأسرفوا في الحديث عن الطيور التي صادوها, وعن الأماكن التي ذهبوا إليها, أثبتت التجربة شيئًا مختلفًا. إذ كثيرًا ما ادَّعى الصيادون أن جبال الطيبة أقسى من أي جبال رأوها, وأن حجل الطيبة ملعون إلى درجة أنهم لم يروا حجلاً آخر مثله. كانوا يقولون ذلك حين يصعدون إلى الجبال. أمَّا إذا ذهبوا إلى ممرات الترغل, وعادوا بصيد قليل, فكانوا يعزون ذلك إلى أسباب وهمية وأقرب إلى الغباء. الآن, في هذه الصحراء الفسيحة, هذا الطير الذي يرونه ينفجر أمامهم ويثير استفزازهم, لا يعرفون أي أكاذيب يمكن أن يقولوها لتفسير هذه الخيبة! ولكنها عادة من عادات الصيادين, حين يندفعون برعونة زائدة إلى التحدي, ثم إلى التبرير, وأخيرًا إلى الكذب!

    بعد الرفّ الأول طار رفّ ثان. ومثلما واجهت سيارة الجيب عددًا من الرفوف وطار بعضها حول السيارة, وكأنَّه كان داخل قفص ثم انفلت فجأة, فإنَّ السيارة الأخرى قابلت عددًا مماثلاً, وربما أكثر قليلاً. وإذا كان لصيادي هذه السيارة بعض المعاذير, حول ضيق الشبابيك, وعدم إمكانية التحرُّك بسهولة, فإنَّ صيادي سيارة الجيب كانوا أقل قدرة على التبرير.

    كانت السيارتان, وهما تبحثان عن دائرة لتدورا فيها, تمتلئان بنوع من الحرج أقرب إلى الخجل, وفي بعض اللحظات أقرب إلى الخوف. فبعد أكثر من ساعة, وبعد أن طارت عشرات الرفوف من الكدري, وكانت الحصىلة ثلاثة طيور في الفولكس فاكن, وطيرين في سيارة الجيب, تملكت الجميع رغبة في توسيع قطر الدائرة, في محاولة لاكتشاف مجال واسع والعودة بصيد أوفر. كانوا يشعرون بنوع من الخجل, وكان كل واحد متأكدًا أنهم لو عادوا إلى عساف بهذه الحصىلة, بعد كل الطلقات المجنونة التي ملأت الفضاء, فسوف يسخر منهم. وهذا الشعور لم يقتصر على ركاب سيارة واحدة, أو على واحد من الصيادين فقط. كان شعورًا ضمنيًّا صامتًا, لم يستطع أحد أن يقوله, لكن كل واحد تصرَّف بدافع منه وتحت تأثيره. حتى الرغبة أو الكلمة, التي يقولها أي واحد في الذهاب إلى هذا المكان أو ذاك لم تكن تجد اعتراضًا من أحد. كان الجميع يمتلئ خوفًا, خاصة وأن كل واحد قدَّر أن عسافًا قد اصطاد مئات الطيور!

    وعلى الرغم من قوة هذه المشاعر وسيطرتها الغامضة, فإنَّ مشاعر أخرى كانت ترفع رأسها بين لحظة وأخرى: الخوف من الصحراء, والتيه في هذا البحر القاسي الذي ليس له بداية وليس له نهاية!

    حين ارتفعت الشمس في السماء بضعة أذرع, وارتفعت معها الحرارة وارتفع الغبار, شعر الجميع برغبة اللقاء مرة أخرى, مهما بدا هذا اللقاء قاسيًا مريرًا, خاصة وأن عسافًا كان قد نبَّههم إلى أن الكدري مع تقدم النهار يرحل, وأنه يذهب إلى أماكن بعيدة بحثًا عن الماء والطعام. وأن الصيد خلال النهار من الصعوبة وعدم الجدوى إلى درجة كبيرة.

    وبطريقة غامضة مليئة بالتردُّد, بدأت السيارتان تتجهان إلى منتصف الدائرة. وإذا كان لكل مكان في الدنيا دائرة, ولها منتصف, فإنَّ الصحراء ملعونة إلى درجة الرجم, لأنَّ كل ذرة منها دائرة, ولأنَّ كل مكان منتصف الدائرة. ومع ذلك, وبمعرفة أبناء الطيبة باتجاه الريح, وتذكّرهم أن ريحًا غربية كانت في بداية الرحلة, بدأت الدائرة تضيق تدريجيًّا, وبعد ساعة من البحث, ومن النظر المدقق, رأت سيارة الجيب زوالاً بين السواد والزرقة, ودون تردُّد قال أحد أبناء الطيبة:

    - عساف... ذاك هو عساف!

    وبلهفة أقرب إلى الوجد, ودون تساؤل أو انتظار, اتجهت السيارة نحوه, وبعد دقائق كانت السيارة الأخرى قد وصلت.

    كان عساف منبطحًا على الرمل, والكلب قريبٌ منه, وكانت البندقية ملقاة إلى جانبه, وكأنَّها لا تعنيه. كان يعبث بالرمل ويبتسم ابتسامة خفيفة, أمَّا الطيور التي اصطادها فقد كوَّمها مثل تل صغير إلى جانبه, وكانت مناقيرها باتجاه واحد...

    حين نظروا إلى تل الطيور أُصيبوا بذهول حقيقي, كانت بالنسبة لهم تلاًّ مستحيلاً, رقمًا مستحيلاً. أمَّا حين بدأوا بإنزال الطيور من السيارتين فقد نظر إليها عساف بدهشة أقرب إلى الاستغراب, لكنه بسرعة لملم دهشته, وقال بطريقة أبوية للتخفيف عنهم:

    - الصيد في السيارة يحتاج إلى التعوُّد, والرفوف التي كانت تطير من عندكم كانت تأتي إلى هنا!

    أمَّا حين سأله أحد الضيوف عن عدد الطيور التي صادها فقد قال بتواضع:

    - حوالى العشرين, لم أعدّها.

    ولم يسأل عن العدد الذي صادوه, كان همَّه الأساسي أن يتأكّد إذا قابلوا رفوفًا كثيرة أم لا? وإذا كانت قريبة أم بعيدة, وهل ضُربت من قبل أم أنها طارت بعد أن وصلوا إليها?

    عند هذا الحد كان من الممكن أن تنتهي رحلة الصيد. ولو ترك الأمر لأبناء الطيبة أو لعساف لاقترح أن يعودوا, وإلى جانب صخرة في الوادي الذي اجتازوه يمكن أن يستريحوا, وأن يأكلوا, وكان من الممكن أن يقال إن هذا الصيد كافٍ, وسوف تنظّم رحلة صيد ثانية, في مرة أخرى. لكن الأمور, في أغلب الأحيان, تسير بطريق لا يقدره الإنسان ولا يتوقعه. وإذا كان الضيوف هم الذين يحكمون, وهم الذين يقرّرون, فإنَّ أهل الطيبة امتلكوا خلقًا رفيعًا بحيث لا يمكن أن يفصحوا عمَّا يريدونه مباشرة. وعساف الذي قال مجاملة ولكي يبعد أي إمكانية للبقاء:

    - الصيد انتهى, فمنذ الآن وحتى الغروب, لن نجد رفًّا واحدًا, وإذا وجدنا أي رفّ فسوف يطير من مسافة بعيدة, ولا يمكن لأي إنسان أن يأخذ منه طائرًا واحدًا.

    وبعد أن تبادل أبناء الطيبة النظر فيما بينهم, ومع عساف, نظروا في وجوه الضيوف, ثم اقترح أحدهم اقتراحًا وجد هوًى عند الضيوف دون تردُّد:

    - يمكن أن نذهب الآن حيث يريد عساف, وبعد أن نتغدى ونستريح نقوم بمشوار صغير قبل الغروب, وبعدها نعود إلى الطيبة.
    لم تكن الجلسة, في الوادي, تحت ظلال الصخور, مريحة, إذ رغم رطوبة المكان, كانت ريح الصحراء شديدة اللفح والحرارة, وكانت تحمل معها, بين فترة وأخرى, ذرات من الرمال تسفّ وتتكوّم على المنحدرات الواطئة, غير المنتظمة, والتي تشكل مجرى السيول أيام الشتاء.

    في هذه الجلسة, والتي شرب خلالها الجميع, وتحدّثوا عن أشياء لا حصر لها, كان عساف في البداية أقرب إلى الصمت. وفي المرات القليلة التي تكلم فيها, تحدّث بشكل غير مفهوم, وكأنَّه يحدّث نفسه. أما عندما سُئل عن الحيوانات التي صادها, وفي أي أماكن, فقد اكتفى بأن يقول:

    - ما فائدة الحديث عن الأشياء الماضية, ما دام الإنسان غير قادر الآن على أن يصطاد أي حيوان?!

    وحين ألحُّوا عليه أن يحدِّثهم عن أكثر مرة صاد فيها, وعن عدد الطيور والأرانب التي صادها, قال بحدّة:

    - لا تنظروا إليّ كوحش, أنا إنسان, نعم إنسان مثلي مثلكم, وليس بيني وبين أي مخلوق عداء من أي نوع. فإذا كانت الطيور والحيوانات تغريني وأُطاردها, فلأنَّني أشعر بحاجة أكثر مما أشعر بلذة. وحتى لو كانت هناك لذة, فإنَّها لا تصل بالإنسان إلى حدود الإبادة والفتك. حتى الذي يرغب في امرأة, ويريد أن يعتصرها بين يديه إلى الأبد, فإنَّه غير قادر على أن يفعل ذلك بلا حدود. أمَّا إذا كان أحمق, وإذا فعل شيئًا لا يناسب الطبيعة البشرية, فلا بدَّ أن ينتهي بشكل ما. وأنا... عساف الذي لا يعرفه أهل الطيبة إلاَّ تائهًا في البراري, ولا يلاحق إلاَّ الطيور والحيوانات, أنا عساف الفهد, لا أرغب في الصيد لمجرد القتل ولا أصيد أكثر ممّا يجب إلاَّ في الأوقات الضرورية.

    كان يريد أن يتحدث أكثر, وبطريقة أفضل, لكنه لم يستطع. أمَّا الأفكار التي دارت في رأسه وملأت عقله وهو مستلق على جنبه, وكلبه بقربه, فقد كانت كثيرة إلى درجة لا يستطيع أن يحاصرها, أن يقولها. وحتى لو أراد أن يتكلم فإنَّ كلماته تبدو غامضة فجة, وقد لا يفهمها أحد. وحين شرب كأسًا جديدة وامتلأ نشوة شعر بأنه يستطيع أن يتكلم بشكل أفضل, خاصة وأن الآخرين قد تكلموا دون أن يطلب منهم أحد ذلك, ودون أن يكون لكلامهم أي معنى أو ضرورة. لقد تكلموا بتلك الطريقة الفخمة المليئة بالأكاذيب, والتي لا يتقنها إلاَّ المتعلمون وأبناء المدن. فكَّر أكثر من مرة في أن يصرخ, أن يضحك بسخرية, لكنه ابتلع أكثر ما كان يريد أن يقوله, واكتفى بأن ينظر إلى الوجوه, وأن يراقب التصرفات.

    كان عساف في ذلك اليوم حزينًا إلى درجة لا يتذكر معها أنه حزن بهذا المقدار, وشعر بأن ثقلاً أقرب إلى الصخرة يجثم على صدره. وإذا كان قد تعوّد أن يصدر الأوامر إلى الصيادين الأغرار, وأن يقودهم في المسارب الضيقة ويتقدّمهم في المعاصي, ليثبت لهم بطريقة ما أنهم ما زالوا بحاجة إلى وقت طويل لكي يتعلموا معنى الصيد, وأن يتصرفوا بطريقة مليئة بالحكمة والذكاء, ويميزوا بين الطيور التي تُصاد وتلك التي يجب أن تُترك لتعيش, إذا كان قد تعوَّد ذلك ومارسه بمكر, ولأسباب غامضة في بعض الأحيان, فلقد كان في هذا اليوم أقرب إلى الاستسلام واليأس, وكان مستعدًّا لأن يفعل ما يريده الآخرون.

    لو أن عسافًا تماسك في لحظة معينة, لو أنه رفض بإصرار, مثلما تعوّد, الاستجابة إلى رعونة الشباب وخفتهم, لو أن الحزن فارقه واليأس لم يسيطر عليه, لو أن الخمرة لم تتصاعد أبخرتها القوية الحادة إلى الرؤوس في هذا اليوم الصيفي, لو أنَّ المكان كان غير هذا المكان, لما حصل شيء. لكن قوة خفية, أقرب إلى البلاهة, ولعلَّها حكيمة بمقدار لا يدركه عقل الإنسان, هي التي قرَّرت كل شيء!

    فقبل أن ينتصف النهار, وبعد أن استراحت القافلة أكثر من ساعتين بدا الزمن لضيوف الطيبة الذين أتوا من المدينة, شيئًا مختلفًا عمّا يحسّه أهل الطيبة, ومًن عاش في مثل هذه الأماكن. إذ ما كاد أحدهم يقترح العودة إلى الصيد, حتى استجاب الآخرون بسرعة وسهولة. وكأنَّهم اتفقوا على ذلك من قبل. وعساف الذي نظر إلى أبناء الطيبة نظرة تساؤل, وجد في عيون هؤلاء استسلامًا حائرًا, وبدا أنهم غير قادرين على اتخاذ أي قرار, وأنهم يمثلون دورًا أقرب إلى الحماقة, ويستجيبون لأي رغبة يطلبها هؤلاء الأفندية.

    بعد تردُّد لم يطل, نهض عساف وبلهجة مليئة بالسخرية والتحدِّي, قال يخاطب كلبه:

    - لا يتعلم الإنسان إلاَّ بالتجربة, أمَّا الحيوانات فإنَّها تتعلم أشياء كثيرة ثم تورّثها إلى أولادها وحًفًدتها, وبهذه الطريقة تدافع عن نفسها وتواصل الحياة. أمَّا الإنسان...

    وضحك بسخرية, وبلا مناقشات طويلة اختار عساف مكانًا جديدًا, قال ليقنع نفسه:

    - قد لا تكون الطيور هناك مضروبة, وقد نجد بعض الأشواك تستظل بها, ونحن وما قُسِم لنا!

    وبالطريقة نفسها, وبالإصرار نفسه, حين وصل إلى المكان الذي يراه مناسبًا للصيد, أوقف السيارة وأنزل كلبه, ثم نزل.

    لم يتكلم هذه المرة أي كلمة, لم يكرز بأي موعظة. أمَّا حين قال أحد أبناء الطيبة بصوٍت عالٍ لينبّه الجميع:

    - سنلتقي هنا بعد ساعة وأقصى حد ساعتين, لأنَّ الطريق إلى الطيبة طويل, ويجب أن نصل مبكرين.

    حين قال الرجل هذه الكلمات, هزَّ عساف رأسه دلالة الموافقة, ولوَّح بيده بطريقة دائرية, وقد فُهمت تلك الحركة على أنَّه سيبقى في منتصف الدائرة, وفهمت على أنَّها تحية.

    الشمس تنزلق من السماء مثل رصاص مصهور, والرمل أكثر سخونة من الجمر, حتَّى الكلب وهو ينقل أقدامه تصدر عنه أصوات ضعيفة أقرب إلى الاستغاثة أو الاحتجاج, أو كأنَّه يمشي على أشواك حادة أو زجاج مكسور. وحين أقلعت السيارتان بسرعة خلفتا وراءهما سحابة كبيرة من الغبار, لفَّت عسافًا فبدا جزءًا من الصحراء الممتدة بلا انتهاء. أمَّا الكلب فقد عوى احتجاجًا وركض لمسافة وراء إحدى السيارتين, ثم عاد ببطء.

    وإذا كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود, في البحار والمحيطات, على قمم الجبال وفي أعماق الأودية, في الأصقاع المتجمدة وفي ظلمة الغابات- إذا كانت الطبيعة في كل هذه الأماكن تنذر بالتحول وتبعث بإشارات من نوع ما, بأن ذلك العنفوان الداخلي لم يعد يقوي على الاحتمال وسوف يقلب جلده في اللحظة التالية, فالصحراء الغامضة القاسية الموحشة المفاجئة تتجاوز قوانين الطبيعة لتثبت هذه القوانين. فلم تمض ساعة حتى جُنَّت الدنيا: هبَّت ريح قوية عاصفة غيَّرت كل شيء. كانت الزوابع تدفع الكثبان الرملية وتسفّها كما تفعل الرياح بالأمواج, فتتدحرج الرمال بسرعة كما لو أنها كتل من القطن الهش أو بقايا أوراق محترقة, حتى إن الإنسان ما أن يستدير قليلاً ليتَّقي هذا الجنون المفاجئ حتى يمتلئ حلقه وتمتلئ عيناه بذلك الجمر الصغير الناعم وكأنَّه سقط من نار لا تعرف التوقف أو الانطفاء.

    إن ما حصل في ذلك اليوم الصيفي, في أعماق الصحراء, وعلى مسافة غير قصيرة من الطيبة, لا يمكن أن يستعيده أحد دون أن يبكي. فالخوف الذي ملأ الدنيا خلال تلك الساعات كان من القوة والذهول إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يتذكر ما حصل. حتى الكلمات تبدو باهتة عاجزة, ولا تعبِّر عن أي شيء. وأبناء الطيبة الذين كانوا يعرفون بغريزتهم طبيعة الصحراء وقسوتها, من رائحة الهواء, من لمعان السماء القاسي, من الزوابع التي تجاوزت الوادي وعبرت السهل كله حتى وصلت إلى الطيبة... إن هؤلاء لم يصدقوا الهول الذي يرونه أمام عيونهم. إنَّه شيء لم يشهدوا مثله طيلة حياتهم. والضيوف الذين أصابهم الهلع, والذين فقدوا القدرة على التصرُّف, تحولوا إلى مجموعة من الدمى المتوسلة الباكية. كانوا يريدون شيئًا واحدًا: ألاّ يموتوا!

    وفي غمرة الخوف يفقد البشر القدرة على التصرُّف, فبدل أن يوقفوا السيارات وينتظروا, كانت العواصف الرملية القاسية هي التي تحرّكهم, هي التي تقودهم. وفي المرات القليلة التي توقفوا فيها وجاءت الزوابع حاملة الرمال الساخنة, صرخوا برعب, وشعروا بالموت يطبق على رقابهم. ودون انتظار وبدوافع غريزية حاولوا الهرب. وإذا كانت الجيب قد ظلت محتفظة بقوتها وقدرتها على السيطرة, فإنَّ السيارة الأخرى بدت مثل سلحفاة ضالة لا تعرف إلى أين تذهب أو متى تموت. وحين قال أحد أبناء الطيبة بأنَّ الأمر أصبح خطيرًا إلى درجة تتطلب بقاء السيارتين معًا, فقد شعر الجميع بنوع من الراحة. ولم يكتف سائق الفولكس فاكن بأن يبقي قريبًا, بل أصرَّ على أن يمشي قبل الجيب, وعلى مسافة أمتار قليلة منها.

    انتظار الموت في هذه الصحراء أصعب من الموت آلاف المرات. فالموت هنا لا يأتي فجأة, لا يأتي متنكرًا, ولا يأتي بسرعة ويقضي على كل شيء, وإنَّما يكشر عن أنيابه في البداية ثم يقف على شبابيك السيارات, وبين لحظة وأخرى يعربد, يصرخ, يلطم الوجوه, يسفّ حفنة من الرمال في الأفواه والعيون. وبعد أن يمل من هذا المزاح يتراجع قليلاً, ليُقعي مثل ذئب, انتظارًا لجولة أخرى. والجولة الأخرى لا تنتظر طويلاً, إذ تصعد مثل البخار مسرعة جارفة قوية, فتولد يبوسة في الحلوق, هلعًا في العيون, انتظارًا آخر قاسيًا ممضًّا, بالخشونة الكاوية نفسها, بالجبروت نفسه الذي لا يعرف التراجع, يدقّ الشبابيك مرة أخرى دقّات قوية متواصلة.

    وبين انتظار وانتظار يموت الإنسان, يموت ألف مرة, يفقد الثقة, تتلاشى إرادته, يسقط, ينهض, يترنح, يمتلئ حلقه بأدعية خائفة لا يعرف كيف أتت, يصرخ دون صوت, ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه, يتذكّر, يقاوم, ينهار, يسقط. يموت مرة أخرى, ينهض من الموت, يتأمل الأمتار القليلة التي يمكن أن تُرى عبر الشبابيك, يلامس حبات الرمل المتسربة في كل مكان, يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيها لأطول فترة لعلَّها تمدّه بمزيد من القوة على المقاومة, على الصمود, يفقد القدرة على الحديث, يفقد القدرة على ابتلاع الماء, يتحوّل الماء إلى ملح, يتحول الزبد إلى زبد, يريد أن يصرخ, أن يموت تمامًا, يريد أن تنشقّ الأرض فجأة وتبتلعه, يريد ماءً, ظلاًّ, وينتظر!

    حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر, يتحوّل إلى ذرات صغيرة, الثانية, والدقيقة هي كل الزمن. ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية, كالصحراء بلا نهاية, ويطبق كالخيط المبلول القاسي, يشدّ دون توقف على الرقبة, يحزّها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها, ويظل هكذا موتًا مؤكّدًا منتظرًا ساخرًا مؤجّلاً, فيحسّ الإنسان بالاختناق, وتتصاعد ضربات القلب, وترتفع درجات الحرارة, ويتحوّل لون الوجوه إلى الزرقة, ولا يستطيع الواحد أن ينظر إلى الآخر خوف الانفجار أو العويل.

    والحرارة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس السماء المتوحشة لا تترك للإنسان لحظة من التوازن والتفكير. فالظلمة حين تطبق تجعل الإنسان يحس بضآلةٍ متناهية, ويتضاعف رعبه مئات المرات.

    فبعد انتظار طويل طويل, لعل الريح تهدأ وتصبح الرؤية ممكنة, بدت الشمس تميل نحو الغروب, لم يرها أحد تفعل ذلك, لم يرها أحد تنزلق مثلما تفعل في البحر, لكن من النور الباهت المتداخل مع ذرات الرمال, من ذلك الانكسار التدريجي في الحرارة, يتولّد شعور بأن الشمس أخذت هذا السمت بعد أن ظلّت مثل حبل المشنقة فوق الرؤوس طوال ساعات النهار.

    أي حوار في مثل هذه اللحظات مستحيل, لأن الصراعات داخل قلب كل إنسان كانت من الكثافة والتناقض إلى درجة يمكن ان تولد الشيء ونقيضه, وتدفع الإنسان لأن يفعل الشيء ونقيضه. فالحرارة المنبعثة من الشمس, والتي كانت أشد الأعداء, بدت حنونًا مضيئة حين أخذت الشمس ذلك الميل منذرة بالانتهاء. أمَّا النور الوهاج الذي كان ينفجر من كل الأشياء خلال ساعات النهار كلها, فقد أصبح حلمًا ضائعًا والظلمة تطبق تدريجيًّا. والرياح التي كانت تحدّد الاتجاهات, ويمكن أن تقود الإنسان إلى مكان معين, تحوَّلت في ظلمة المساء الأولى إلى عويل ولطمات عمياء.

    إنه الموت ولا شيء غيره, هكذا قال كل واحد في نفسه. والإنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شيء, حتى على الموت, فإنَّه يريده صاعقًا كاملاً نهائيّا, أما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شيء, الدمار الذي يفتّت الخلايا بقسوة تشبه النهش, فإنَّ هذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراء في الليل, وفي فيضان الرياح الذي لا يعرف التوقُّف أو الراحة.

    هذا هو الإنسان, ذلك المخلوق الضئيل المتلاشي, في مواجهة قوة غاشمة لا تدمّره ولا تتركه!

    قال أحد أبناء الطيبة بصوت مخنوق:

    - الله يساعدك يا عساف.

    قال الذي جلس إلى جانب السائق مكان عساف:

    - صحيح, أين عساف?

    وغاصت الكلمات في الأفواه مرة أخرى, وخيَّم الصمت, لكنه ذلك الصمت المدوي الذي ينفجر في كل لحظة, في كل شيء, والذي تسمع ولولته في كل الخلايا.

    في وقت ما, ولا أحد يمكن أن يحدّد متى كان ذلك الوقت, وكم من الزمن قد مرَّ, بدأت الريح تتراجع, وبدأ عصف الرمال يخف شيئًا فشيئًا, وإن ظلّت السماء مكتنزة بذلك السواد الثقيل القاهر, وحين بدأ سائق السيارة الجيب يشعل الأضواء ويطفئها, فقد بدت حركة ذكية مليئة بالمعاني. قال الجالس إلى جانبه:

    - لا بدَّ أن يرانا أحد ويأتي لإنقاذنا!

    قال ابن الطيبة الذي يجلس في المقعد الخلفي وراء السائق:

    - يجب أن تشغل السيارة وتدور عدة مرات لعلَّ عسافًا يرانا أو نراه فنذهب إليه أو يأتي إلينا!

    دون مناقشة ودون تساؤل, بدأت السيارة تدور مثل حيوان مربوط. وبين لحظة وأخرى, كان السائق يشعل النور ويطفئه, لعلَّ شيئًا يحصل وتكون فيه النجاة.

    قال ابن الطيبة:

    - إذا وجدنا عسافًا يمكن أن ينقذنا ونعود إلى الطيبة بسهولة, أما إذا لم نجده...

    وسكت. تطلعت إليه العيون دون أن تراه. وإذا كانت الظلمة قد خلقت خوفًا من نوع جديد, وإذا كان الشعور بالنجاة بدا مثل خفقات قلب مريض, فإنَّ هذه الكلمات انفجرت داخل السيارة وكأنَّها نهاية كل شيء!
    يقول الذين وصلوا عصر اليوم التالي في ثلاث سيارات, إحداهما لسلاح البادية, وعثروا على السيارتين, إنهم وجدوا أغلب الرجال بين الحياة والموت. كان عدد منهم فاقدًا الوعي, وكان الآخرون في حالة من الإعياء الشديد. أمَّا سيارة الفولكس فاكن فقد انغرزت إطاراتها الخلفية في الرمال وأصبحت في حالة من الإنهاك إلى درجة أنها لم تعُدْ قادرة على الحركة, ووجدوا الحبل الذي حاولت الجيب استعماله لسحبها قد تقطّع في عدة مواضع, أمَّا كمية المياه التي كانت في السيارتين فقد نفدت تمامًا, ولم تبقَ إلاَّ أوان فارغة يخشّ فيها الرمل, ويقول هؤلاء إنهم لو تأخروا ساعة أو أقل لمات جميع مَن كان في السيارتين. أمَّا حين بدأوا يرشّون على وجوه الرجال الماء, وبدأوا يكلمونهم, لم يستطع أي من الرجال السبعة أن يتكلم كلامًا واضحًا, كانت غمغمات أقرب إلى أصوات الحيوانات. ولقد بكى اثنان من الرجال السبعة, أحدهما من أبناء الطيبة, ولم تعرف أبدًا أسباب ذلك البكاء, وهل كانت تعبيرًا عن فرح أو عن شيء آخر!

    وبعد بضع دقائق, ورغم الإلحاح في السؤال عن عساف, لم يستطع أحد أن يجيب.

    لكن قائد الرجال الذين كانوا في السيارة العسكرية قال بلهجة لا تقبل المناقشة:

    - ابقوا في أماكنكم, لا تتحركوا أبدًا, وسوف نجد عسافًا.

    قال أحد رجال البادية وكأنَّه يطمئن الجميع:

    - لا بدَّ أن يكون قريبًا, وسنجده!

    وبخفة متناهية قفز إلى البيك آب, دون أن يحس أحد, مختار المنطقة الشرقية, وأخذ مكانًا حصينًا قريبًا من القمرة, وأمسك بالحديد الأمامي بقوة.

    كانت الصحراء الممتدة بصفرتها المائلة إلى زرقة مثل حلقة لا أفق لها ولا نهاية. وحين انطلقت السيارة بدوي مفاجئ صرخ الذي بكى من الضيوف, وركض وراءها, ثم سقط على الأرض وأخذ بالعويل, وحتى حين حُمل وأُعيد إلى السيارة وأُعطي قطرات من الماء, ظلَّت دموعه تتساقط دون توقف, ثم غطَّى وجهه بيديه وأجهش, وظلَّ كذلك فترة طويلة.

    كان الحشد الكبير ينتظر, وكان الأمل لا يزال قويًا في العثور على عساف. وإذا كان الصمت, في حالات كثيرة, أفضل وسيلة للتعبير, فقد ظلَّت أسئلة الرجال الذين جاءوا من الطيبة بلا إجابة, وإن كانت إجابتها واضحة قوية في الوجوه, في الحركات, في الشفاه المتشقّقة المفطورة. أمَّا حين سقطت بعض الدموع فقد كفَّ الجميع عن الكلام. وانشدّت العيون إلى كل الاتجاهات لعلَّها ترى بشرًا أو زوالاً, وكان أمل واحد, مثل نسمة باردة, يخفق في كل صدر, وارتفعت ابتهالات لا تخطر على بال ولا نهاية لها, وكانت أقرب إلى التمتمة وتشبه الدعاء, أن يكون عساف حيًّا وأن يجدوه.

    لقد انبثقت في تلك اللحظات آلاف الصور في أذهان الرجال الذين ينتظرون. وتلك الصور, وإن بدت متداخلة مضطربة, وأقرب إلى الحلم, فإنَّ صورة عساف كانت أشدها وضوحًا وأكثرها بياضًا: حين كان يعود بعشرات الطيور ويوزّعها بمهارة لا تخطئ. حين كان يمزّق بعض المواضع من أحذيته وثيابه. حين كان يجمع الخرطوش الفارغ من الصيادين الأغرار ويتأمله بعناية ثم يحضره بعناية أكثر ليستعمله في اليوم التالي ويتأكّد بنفسه من قوته. ثم لمَّا تخلَّى نهائيًّا عن الخرطوش المصنوع من الورق المقوي واستعاض عنه بخرطوش النحاس, وكيف كان يحتفظ ببعض هذه الخراطيش في جيب جلدي صغير لصقه على صدره, كيف كانت الطلقات تبدو شديدة اللمعان ولا يستعملها, كما يقول ويؤكِّد, إلاَّ (لقتل الوحوش) - إن هذه الصور, وعشرات غيرها, تمرّ في هذه اللحظات مثل شريط طويل, وكل إنسان متأكّد أنَّ عسافًا ستنشقّ عنه الأرض وينفجر فجأة كما تنفجر الطلقة. وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا على عساف وغياباته التي قد تطول يومين أو ثلاثة, حين تحاصره الثلوج أو يفيض الوادي, إذا كانوا قد تعوَّدوا عليه وألِفوا كل شيء يصدر عنه, فقد كانوا متأكّدين تمامًا من شيء واحد: سينفجر عساف بينهم, وأن السيارة حين تعود يائسة مثقلة بالخيبة والحزن ستجده وسط المجموعة, يتحدّث بتلك الطريقة المبهمة, الحافلة بالأصوات غير المفهومة, عن رياح البارحة وعن جنون الطبيعة وغدر الصحراء, ويجب أن يضيف في النهاية: الإنسان أقوى من الطبيعة, ويعرف كيف يروّضها أو يحتال عليها!

    كانت الأفكار والصور تتلاحق, وكانت النسمات الطرية التي بدأت تهب مع ميلان الشمس نحو الغروب تولد أملاً يقوي كل لحظة, وتولد يأسًا يقوي كل لحظة. وفي خضم الأفكار والصور, ومع كل نسمة جديدة كانت العيون تدور, والصمت يقوى, إلى أن جاءت تلك الصرخة المفاجئة المدوية:
    هذه هي السيارة!

    لحظات قاسية من التوتر أقسى من أي لحظات أخرى وأشد عذابًا من عمر بأكمله. لم يبقَ أحد في مكانه, حتى أولئك الرجال المتعبون, والذين لفَّت على رؤوسهم الخرق المبللة, شعروا بنوع من التحدِّي والقوة, فمَن لم يستطع النهوض والركض مع الآخرين تجاه السيارة, تحرَّك في مكانه أو غيَّر جلسته ليشهد عسافًا وهو ينزل.

    كانت وجوه الرجال وهي تطل من فوق شديدة القسوة والصرامة, وللحظات والسيارة تقترب ثم تتوقف, تأكَّد الجميع أنهم لم يجدوا عسافًا. لقد غمرته الرمال وابتلعته الأرض ولم يبقَ منه أثر, لكن فجأة, والمختار يمسك الحديد الأمامي, ويهزه بعصبية أول الأمر, ثم يصرخ ويشير إلى الخلف.
    ترك الرجال يستديرون حول السيارة. التفت بصلابة وبطء, حتى إذا نظروا ورأوا عسافًا هكذا, صرخ, كان صراخه أقرب إلى الشتيمة:

    - راح عساف ... ونحن الذين قتلناه. راح الغالي.

    كان منظرًا مفجعًا مليئًا بكآبة خرساء وأقرب إلى عدم التصديق.

    كان عساف في قاع البيك آب, كان هناك, كان يابسًا متخشبًا وقد تقلَّصت عضلات وجهه وبدت على أطراف الشفتين ابتسامة هي مزيج من الألم واليأس والسخرية, وبدا كأنَّه يريد أن يتكلم! وحين استمر المختار في الهياج ثم البكاء, واتضحت الصورة حادة نازفة متجبرة, سمعت أصوات نشيج مكتوم, وتساقطت الدموع. كان لسقوط الدموع رنين قوي موجع وكأنَّه نهاية لفترة طويلة من الزمان!

    كيف يمكن للبشر أن يصمتوا بهذا المقدار ولهذه الفترة الطويلة? كيف يستطيعون نسيان جميع الكلمات والأصوات التي بدأوا الحياة بها وهم ينقذفون من الأرحام?

    كيف, كيف يمكن ذلك?

    طوال الطريق الذي استمر أكثر من ساعتين, ظلُّوا صامتين!

    والمختار الذي ظلَّ واقفًا في مكانه, قابضًا بقوة على حديد القمرة, وناظرًا إلى الأمام باستمرار, طلب من قائد السيارة العسكرية التابعة لقوة البادية, بكلمات متلجلجة, لكن واضحة أيضًا, أن يذهب الجميع إلى بيته. حصل ذلك حين توقَّفت السيارة في مدخل الطيبة, وحين بدت جموع الناس وهي تنتظر, وتحاول أن تعرف أي شيء حصل.

    قال المختار, في الظلمة التي تخيّم على كل شيء, ولا يستطيع الإنسان أن يميِّز الآخرين إلاَّ من أصواتهم:

    - تعالوا إلى بيتي, هنالك سوف نلتقي.

    وبطريقة خفية حافلة بالحنان والعذوبة والخوف والتقديس, حُملت جثة عساف إلى الداخل. وُضعت في صدر المضافة, ووضع إلى جانب الرأس فانوس, وقريبًا من يده اليمنى وضعت البندقية, وبحركات آلية, كأنَّها رُتِّبت منذ وقت طويل, وبعد أن تمَّ ذلك بهدوء وإتقان, طلب المختار من الجمع أن يجلسوا.

    الصمت, الصمت, ولا شيء غير الصمت, وما عدا النظرة الثقيلة الحافلة بالحزن, والمرتسمة على تلك الوجوه الملهوفة المتسائلة, فإنَّ الطيبة من أعجب الأماكن وأكثرها غرابة, لا تستطيع أن تفضح عواطفها بسهولة, وحتى لو أرادت أن تقول شيئًا فإنَّها كثيرًا ما تقول ذلك الشيء بطريقتها الخاصة, والتي قد لا تبدو مألوفة أو مفهومة!

    لم يتجرأ أحد أن يسأل المختار, أمَّا رجال البادية الذين ساعدوا في حمل الجثة, فقد قال العريف الذي يقودهم:

    - سوف نذهب ونجهز التقرير لرفعه غدًا صباحًا.

    ودون انتظار تحرَّكت السيارة, وغادرت المكان!

    والمختار الذي كان بادي العصبية, ومحمرّ العينين, والذي كان يتحرَّك في بعض الأحيان حركات طائشة لا تعني شيئًا, كان يقاوم في نفسه ذلك الكابوس الذي لا يطيق أن يحتفظ به ولا يقوي أن يعبِّر عنه. وهو إذ كان قد برع في كل الأوقات على أن يدير الحديث, وأن يتكلم بطريقة لا يحسنها غيره في الطيبة, والذي كان يوصف بأنَّه قادر على أن يرشّ على الموت سكرًا, ويقدم أصعب الأمور وأكثرها مشقة, بأيسر الوسائل وأكثرها قبولاً, بدا تائهًا ضائعًا خائفًا, وبدا شديد العصبية بحركات يديه ووجهه. أمَّا حين انتظم مجلس الطيبة, كما لم يحصل ذلك من قبل, ووسط الصمت القاسي الذي خيَّم على كل شيء, انفجر صوت المختار, دون أن يطلب إليه أحد, ودون مقدّمات من أي نوع:

    - هذا عساف... إنه أمامكم, انظروا إليه.

    وهزَّ رأسه بلوعة, دون أن يلتفت, ثم تابع بلهجة يخنقها البكاء:

    - عساف الحصان, عساف الغيمة, أبو الفقراء, الذي لا ينام ساعة في الليل من أجل أن تعيش الطيبة وتبقى... عساف الذي يحب الجميع, ويقتل نفسه حتى يستمرّ الناس... عساف زينة الرجال, ترككم الآن, ترككم وحيدين تحاربون (...) العسكر والجراد, ولا أحد يعرف أي قوي أخرى, وماذا سيحصل!

    كاد أن يواصل, خاصة وأن كلماته نزلت إلى قلوب الرجال وكأنَّها السكاكين الملتهبة, فحركت الرؤوس ودفعت حبات من الدموع لكي تتساقط بصمت, لكن فجأة تغيّرت أفكاره واضطربت:

    - ما فائدة الكلمات الآن? يمكن أن نكرز من هذه اللحظة وحتى يوم القيامة, لكن كل يوم يسقط منا الرجال, وتسقط البيوت فوق رؤوسنا وتقطع الأشجار بأيدينا, ولا يتغيّر شيء!

    قال رجل مسنّ يريد أن يغيِّر الموضوع:

    - حتى هذه الساعة لا أصدّق أن الرجل مات.

    قال المختار:

    - انتظر, وسوف ترانا, واحدًا بعد آخر, نهوي على وجوهنا وتطمرنا الرمال, وقد لا نجد مَن ينقّط في حلوقنا قطرة ماء.

    وقَهقَهَ المختار بطريقة تختلط فيها السخرية بالنشيج, وبالحزن الكاوي, ثم أضاف:

    - تمامًا كما حصل مع هذا الحصان!

    قال رجل وهو يصوِّب عينيه إلى عساف ولا يرفعهما:

    - لكن كيف مات? كيف حصل ما حصل?

    قال المختار وهو يغيِّر جلسته, لأن الموضوع يحتاج إلى بعض الحركات والإشارات, ولكي يخلق في نفوس الناس التأثير المناسب:

    - اسمعوا, كدنا نعود, يئسنا من البحث, درنا في كل مكان, بحثنا في كل الأمكنة التي تصوّرنا أنَّ عسافًا ذهب إليها, خاصة وأن السيارات لم تذهب بعيدًا, ومقبل, الذي يعرف الصحراء شبرًا شبرًا, قال إن هذه هي أماكن الصيد, وعساف باعتباره صيادًا يعرف أين يذهب, ولا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك. بحثنا, بحثنا, وقائد البادية, وقف أكثر من مرة على ظهر قمرة السيارة وتطلع في كل الاتجاهات مستعملاً ذلك المنظار الذي يرى الإبرة من مسافة طويلة, لكن لا شيء. ومقبل, الذي يملك عيون صقر, تطلع في كل الاتجاهات, ولكن لا شيء. كدنا نعود. كنا متأكّدين أن عسافًا دُفن تحت الرمال ولا يمكن لأحد أن يراه. لكن فجأة بدأ مقبل يخبط قمرة السيارة بقوة.

    توقَّفت السيارة, نزل القائد, ونزل السائق, ومقبل ظلَّ ينظر باتجاه معين. بدا متردّدًا أوّل الأمر, لكن فجأة صرخ:
    يجب أن نتجه إلى الناحية اليسرى, لأنَّني أرى نسرًا, لست متأكِّدًا تمامًا, ولكني رأيت نسرًا يحوم, وما دام هذا الطير يعلو وينقضّ بهذه الطريقة فلا بدَّ أن هناك شيئًا!

    وقبل أن يكمل مقبل كلامه, وضع القائد المنظار المقرّب على عينيه, حيث أشار مقبل, وهزَّ رأسه دلالة الشك أوّل الأمر, ثم بدا متأكّدًا, وبسرعة طلب من السائق أن يتوجه ناحية اليسار.

    لمسافة كبيرة بدت الأرض مثل راحة الكف, لا شيء أبدًا. والنسر الذي لم يكن يرى أوّل الأمر, بدا مثل نقطة سوداء في الفضاء البعيد, كان يصعد ويهبط. وحين رأيناه أوّل مرة, غاب ثانية. تصوّرنا الأمر كله وهمًا, وأن مقبلاً لم يرَ شيئًا, لكن والسيارة تتجه حيث يريد, والسكون يخيِّم على كل شيء, والأرض خاوية لا تظهر شيئًا أبدًا, بدا على مسافة بعيدة زوال. قال مقبل بتأكُّد جازم:

    - (هذا النسر حطَّ على شيء, ويجب أن نصله لنتأكّد!).

    وأسرعت السيارة, وتعلَّقت عيوننا حيث يشير مقبل, وفي كل دقيقة نقترب أكثر فأكثر حتى تأكِّدنا من وجود النسر. كان من مسافة بعيدة يبدو جالسًا مثل رجل. كان بسواده القاتم شديد الوضوح, وترتفع قامته شيئًا فشيئًا ما دمنا نقترب. وحين أصبحت المسافة بيننا لا تزيد على مئات الأمتار طار. بدا ضخمًا مهولاً, وبان البياض في لونه إلى جانب السواد.

    ومع كل خطوة تقتربها السيارة, حيث كان النسر يربض, بدت لنا الصورة أكثر وضوحًا وقسوة مما كنا نتصور.

    كان عساف مدفونًا في الرمل, لم يكن يظهر إلاَّ رأسه, وفوق الرأس تمامًا كان الكلب رابضًا, وكان الجزء الأكبر من جسد الكلب مدفونًا بالرمل أيضًا, لكن بطريقة غريبة للغاية: كان يشكل سياجًا حول جسد عساف, خصوصًا رأسه. كان يحتضنه.

    ولما وصلنا رأينا كل شيء واضحًا.

    قال مقبل بثقة:

    - عساف مات قبل الكلب, ولا بدَّ أن بعض الطيور, ربما هذا النسر أو غيره, أحسَّت وعرفت بذلك, وجاءت لتأخذ نصيبها منه, لكن الكلب, وفي محاولة لحماية عساف صارعها حتى صرعته. انظروا إلى الدماء المتجمدة فوق رأس الكلب, لقد مزَّقته بمناقيرها لتصل إلى عساف, وفيما هو يدافع عن نفسه, وعن عساف, تهشَّم, ولا بد أن يكون قد مات من العطش أو من النهش).

    قال مقبل ذلك وامتدَّت يده إلى الرمال تزيحها وتسحب جثة عساف. الجثة مدفونة بالرمل تمامًا. المطرة فارغة, وعساف يقبض على البندقية بقوة, ولا بدَّ أن يكون قد قام وسقط عدة مرات, لأنَّ يده اليسرى ملتوية ومزرقّة. ومن حسن حظه أنه سقط على وجهه, لو كان في وضع آخر لأَكَل النسر عينيه وهشِّم وجهه, والكلب حين رأى عسافًا يسقط نام فوقه: لا بدَّ أنه حاول إنقاذه بشكل أو بآخر, لكن العاصفة كانت أقوى من الاثنين!

    بهذه الطريقة انتهى عساف.

    سكت المختار, وضع يديه تحت صدغيه, كأنَّه يحاول أن يمنع رأسه من السقوط أو كأنَّه يتذكر. وخيِّم صمت ثقيل. وبصوت مختلف تمامًا, صوت من عالم آخر, أضاف:

    - كان بودِّي لو حملنا الكلب معنا, كان يستحق ذلك, لكن لم أجرؤ على طرح الفكرة, بدت لي لا تناسب الموقف ولا يمكن أن يفهمها أحد. أمَّا حين حملنا الجثة ووضعناها في البيك آب, فقد ظللت على الأرض لبعض الوقت, وكنت أنظر إلى الكلب. لم أستطع أن أرفع نظري عنه, لكن قائد السيارة العسكرية, قال بصوت عصبي, وإن كان فيه بعض القسوة: (لم تنته مهمتنا بعد, علينا أن نصل إلى الجماعة...). ولما صعدت إلى السيارة ومررت إلى جانب الجثة, نظرت إليها بإمعان, بدا لي وجهه شديد الحزن, ولا أعرف كيف سمعت صوت عساف, سمعته يقول: (والكلب...?! هل تتركون الكلب?) وبسرعة, وبخوف اقتربت من الجنديين اللذين كانا في مقدمة السيارة, ولم أستطع أن أنظر بعد ذلك إلى الخلف. كنت خائفًا, كنت خائفًا تمامًا من أن أرى عسافًا, أو أن أسمع كلماته, وسيطر عليّ الخوف أكثر عندما مالت الشمس إلى المغيب, وتصوّرت الذين ينتظرون, وتصوّرت الطيبة والبشر ولا أعرف أي أحزان أخرى).

    قال أحد المسنّين, وقد بدت في لهجته رنَّة حزن لم يتعوّدها الكثيرون:

    - كان من الواجب أن تهيلوا عليه التراب لكي لا تأكله الطيور!

    رد المختار بعصبية:

    - كان الواجب أن نأتي به.

    قال الرجل المسن:

    - لا يمكن أن تحمل الحيوانات حين تموت, لكن الأكرم لها أن يُهال عليها التراب.

    هزَّ المختار رأسه وقد بدت عليه علائم الحزن الشديد والندم, ولم يتكلم.

    قال صاحب الفرن:

    - أعجب شيء في هذه الدنيا العلاقة بين الإنسان وما حوله من أشياء, من حيوانات وأشجار وبيوت وأنهار, حتى الصحراء التي لا تبعد كثيرًا عن الطيبة يتعلّق بها الإنسان في حالات كثيرة, لأنَّ فيها نجاته, ولولا ذلك لما ذهب عساف إلى هناك. كان يريد أن يخلص الطيبة, ويخلّصني أنا بالذات, لأنَّ الأرغفة القليلة التي أصبحت تخرج من الفرن لم تعد تكفي أحدًا.

    قال رجل ظلَّ صامتًا, لكن دمعة سقطت حين بدأ يتكلم:

    - في الطيبة, كما في أي مكان آخر من هذا العالم, ما يحتاج إلى تغيير هو الإنسان.

    وصمت لحظة, جفَّف دموعه التي كانت تتساقط دون إرادة على خدّيه وأضاف:
    - لو أننا فهمنا ما كان عساف يقوله لكانت حالنا الآن أفضل
    قال أحد المسنّين:

    - لقد رحل عساف, ذهب ولن يعود.

    توقَّف قليلاً, ابتسم بحزن وكاد أن يتابع, لكن واحدًا آخر قال بعصبية:

    - أغلب الأحيان تأتي الأشياء متأخرة!

    قال شاب صغير لم يفطن أحد لوجوده طيلة الوقت:

    - إذا ظلَّت الطيبة تنتظر المطر, ولا تفعل شيئًا سوى انتظار المطر, فسوف يموت الجميع كما مات عساف, وربما أسوأ!

    قال المختار:

    - أكبر ظلم لعساف أنَّنا تركناه يحارب وحده, حتى الكلب كان أحسن منا, لقد حاول إنقاذه, ونحن لم نفعل.

    قال أحد الرجال:

    - والله الأكثر ظلمًا أن نترك البشر, أمَّا الكلب فانظروا, هذه هي الدنيا! وتنهَّد بحزن ثم أضاف:

    - كنت أعرف أنَّ عسافًا يريد أن يموت, وأنه سيقتل نفسه بشكل ما, إذا لم يكن في هذه الرحلة ففي رحلة غيرها, إذا لم يكن في الصحراء فتحت أكوام الثلج, وأنتم تتذكرون حياته كلها, تذكرون كم مرة ضاع وكم مرة بحثنا عنه.

    كان يريد أن يواصل الحديث, لكن أحد المسنّين قال فجأة:

    - يستغرب الإنسان أنه في حالات كثيرة لا يمكن التفريق بين الحيوانات والبشر. وربما كانت الحيوانات أفضل من بشر كثيرين. لكنَّني منذ جاء هذا الكلب إلى الطيبة تشاءمت وقلت لا بدَّ أن يقتل هذا الكلب.

    قال المختار بحدة:

    - الكلب لم يقتل عسافًا, نحن الذين قتلناه.

    - لا يهم مَن قتل الآخر, المهم الآن أن عسافًا, الذي يرقد هنا, لا يسمع ولا يحس بوجودنا.

    - قال المختار بحدة:

    - لا, إنه يسمع. نعم إنه يسمع كل شيء, ويفهم كل ما يُقال!

    قال أحد المسنّين:

    - يا أبناء الطيبة, لا تكونوا حمقى أكثر مما يجب. الرجل انتهى الآن, ولا يمكن لأي قوة على الأرض أن تعيده, وليس غير الله قادرًا على ذلك, وإذا أردتم أن تكرموا عسافًا فدعوه نائمًا بسلام, واسهروا حتى الصباح, ومع أول أضواء الفجر نحمله إلى الأرض لنعيده اليها.

    وبطريقة أقرب إلى الغموض والتحدي بدأت السهرة. بدأت بنوع من التكريم الذي لم تتعوده الطيبة من قبل, ربما نتيجة للخوف أو لبقايا اقتناعات ومواقف تجاه الموت. وبرغم أن شعورًا بالرهبة خيَّم على الجميع, وأن عددًا من الناس, بمَن فيهم الضيوف, كان يتمنَّى لو أن الأمر لم يأخذ هذا الشكل, لكن إزاء إصرار مبهم, وفي لحظة من لحظات الانفعال الشديد, قال المختار بعصبية:

    - يجب أن تبقي معنا يا عساف لتشهد كل شيء.

    وأدار رأسه, وعيناه مغمضتان, ويداه ترتفعان بطريقة تحمل معاني لا حصر لها, وتابع كأنَّه يخاطب نفسه:

    - أنت لم تمُتْ, يا عساف, وستبقي معنا.

    قال رجل من مكان بعيد:

    - الحياة والموت بمشيئة الله يا جماعة, والآن انتهى كل شيء!

    قال شاب بعصبية:

    - عساف لن يموت, وهو الآن أكثر حياة منا جميعًا!

    قال رجل مسن:

    - لا تكفر يا ولدي, إن الملائكة ترفرف فوقنا الآن.

    قال أبو زكور, الذي يبني كل شيء في الطيبة, حتى القبور, وبدا كلامه مليئًا بالذكاء والمكر, لكي يخرج الخوف من القلوب:

    - يا جماعة, الصباح لا يزال بعيدًا, وعلينا واجب ثقيل غدًا, فإمَّا أن تقرأوا القرآن وتتحدثوا, أو ليذهب كل واحد إلى بيته ونعود في الصباح.

    قال المختار بعصبية:

    - مَن يريد الذهاب, فالباب مفتوح.

    ونظر في وجوه الناس ليرى وقع كلماته وتابع:

    - أما أنا فلن أنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانب الرجل, حتى يطلع النور ونحمله إلى قبره!

    - أما أنا فلن أنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانب الرجل, حتى يطلع النور ونحمله إلى قبره!

    وبهذه الطريقة العجيبة بدأت سهرة من نوع لم تألفه الطيبة قط. تحدَّث أكثر الموجودين, تحدّثوا عن أشياء كثيرة, حتى الضيوف رووا قصصًا لم يفهمها أهل الطيبة جيدًا.

    في تلك السهرة قيلت أشياء وأشياء, وعساف مسجًّى ووجهه مكشوف, والضوء يتراقص على وجهه وعلى وجوه الآخرين فيخلق جوًّا من الغرابة والخوف, والجنون أيضًا, والناس لا يريدون أن يتوقفوا لحظة واحدة.

    وإذا كانت هذه الأحاديث قد توالت دون منطق, وربما دون ضرورة واضحة, ودون مغزًى أيضًا, فقد كانت الرغبة تسيطر على الجميع, أن يقاوموا الصمت, أن يقهروه.

    تحدّثوا عن الكلاب والغزلان والحمير, تحدّثوا عن فيضان الوادي, وعن جفاف النبع, وتحدّثوا عن عساف وعن البشر, وتجرأ واحد وقال أبياتًا من الشعر, وكاد أحد الرعيان أن يستعمل نايه, لولا أن رجلاً مسنًّا انتزعه منه بقوة ونظر إليه نظرة تختلط فيها القسوة بالعتاب!

    لا أحد يتذكّر بدقة الأشياء التي قيلت أو مَن قالها, لكن حين تذكر الطيبة, وحين تهجم الأحزان, وإذا جرى الحديث في وقت من الأوقات عن نهايات البشر والحيوانات, وحتى الأشجار, فلا بدَّ أن ترتد صورة تلك الليلة العجيبة لتذكّر بشيء واحدّ: بالنهاية!

    حتى الضيوف الذين تخشَّبوا في بداية السهرة, وتقيّأ واحد منهم بعد أن نظر إلى الجثة الممدَّدة أكثر من مرة, فإنَّهم بطريقة غريزية أقرب ما تكون إلى حالة من حالات التطهر التي يلجأ إليها الإنسان في أوقات معينة, نسوا كل شيء, أو هكذا أوحوا لأنفسهم, وانساقوا في الدهاليز المظلمة التي قادهم إليها أهل الطيبة, وظلُّوا يسمعون ويتحدثون. لكن الخوف كان يربض في كل حركة, حتى حركة الأجسام وهي تستدير لتقاوم التعب والخدر, وحتى السعال الذي يأتي فجأة, ثم قطرات الدموع التي تتساقط دون إرادة, كانت تخلق الخوف والجفلة. ثم جاءت القصص التي قيلت تلك الليلة لتجعل الحزن ملتصقًا بالجلد والعظام, ولتحفر في القلوب مجرى عميقًا لا يتوقف عن النزف كلما ذكرت الطيبة, وكلما جرى الحديث عن الحيوانات, وحتى عن البيوت حين تتهدم, حتى عن الغبار المتخلف من كل شيء كانت له رائحة خاصة تذكّر بأحزان لا حدود لها


    انتهت
                  

10-22-2005, 11:08 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    الريح كودي

    ازيك ومشتاقين وشكرا علي هذا الكتاب الرائع للكاتب الرائع


    منيف وهو يحفر عميقا في ذهنية البدو والمابدو له ايضا ملحمة


    عن ارض السواد ثلاثة اجزاء عن عراق الامس وتشوف فيه عراق اليوم


    كما صور ارض الحجاز في خماسية مدن الملح وايضا كتب مع


    جبرا ابراهم جبرا عالم بلا خرائط ولا تفوتني رائعته


    شرق المتوسط او الاشجار واغتيال مرزوق وشرق المتوسط مرة


    اخري او الان هاهنا وسلام له في العالمين وله الرحمة ولك


    الشكر لي رجعه سلام لاسرتك في كندا والسودان
                  

10-25-2005, 09:47 PM

الريح كودى
<aالريح كودى
تاريخ التسجيل: 09-10-2005
مجموع المشاركات: 641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: Sabri Elshareef)

    العزيز Sabri Elshareef
    تحياتى

    كنت اعرف تماما انك اول من يمرون بهذا المكان واى مكان يوجد فيه امثال منيف
    لك كل الشكر على المرور والتعليق

    تقبل تحيات جميع الاهل هنا وهناك


    لك اللاحترام والتقدير
    الريح كودى
                  

10-22-2005, 05:02 PM

3mk-Tango

تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 2374

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    تحياتي الريح .. وصبري ..

    طبعا لن نسقط من الذاكرة ايضا " قصة حب مجوسية "
    فهي من اوائل و اجود اعمال منيف ..

    له الرحمه .. واكيد هو كاتب لم ياتي زمانه بعد ..
                  

10-25-2005, 10:02 PM

الريح كودى
<aالريح كودى
تاريخ التسجيل: 09-10-2005
مجموع المشاركات: 641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: 3mk-Tango)

    العزيز خالد
    تحياتى

    لقد اصبحت الزاكرة فى غاية الاعيا من جرا هذا الزمن اللعين يا عزيزى
    لك كل الشكر على المرور والتعليق

    ولك هنا شى كم هو مرتبط بالزاكرة
    لك الود والتقدير
    الريح كودى





    رواية "رجال في الشمس"
    غسان كنفانى .......

    أبو قيس
    أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه... في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال ، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقاً قاسياً إلى النور قادماً من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات، أجابه ساخراً:

    "هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض "، أي هراء خبيث! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهومة في عروقه؟. كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلق فوقها خيل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد.. الرائحة إياها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيباً .. الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورا صغيراً.. الأرض الندية - فكر- هي لا شك بقايا من مطر أمس.. كلا، أمس لم تمطر! لا يمكن أن تمطر السماء الآن إلا قيظاً وغباراً ! أنسيت أين أنت؟ أنسيت؟





    دور جسده واستلقى على ظهره حاضنا رأسه بكفيه وأخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر أسود يحلق عالياً وحيدا على غير هدى، ليس يدري لماذا امتلأ، فجأة بشعور آسن من الغربة، وحسب لوهلة أنه على وشك أن يبكي.. كلا، لم تمطر أمس، نحن في آب الآن.. أنسيت؟


    كل تلك الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود.. أنسيتها؟ ما زال الطائر يحوم وحيدا مثل نقطة سوداء في ذلك الوهج المترامي فوقه.. نحن في آب ! إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ إنه الشهد ! ألست تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك ؟

    - " وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات، يشكلان نهرا واحدا اسمه شط العرب يمتد من قبل البصرة بقليل إلى...

    الأستاذ سليم، العجوز النحيل الأشيب، قال ذلك عشر مرات بصوته الرفيع لطفل صغير كان يقف إلى جانب اللوح الأسود، وكان هو ماراً حينذاك حذاء المدرسة في قريته.. فارتقى حجراً وأخذ يتلصص من الشباك: كان الأستاذ سليم واقفاً أمام التلميذ الصغير وكان يصبح بأعلى صوته وهو يهز عصاه الرفيعة:

    - ".. وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات.. "

    وكان الصغير يرتجف هلما فيما سرت ضحكات بقية الأطفال في الصف.. مد يده ونقر طفلا على رأسه فرفع الطفل نظره إليه وهو يتلصص من الشباك:

    -"... ماذا حدث؟

    ضحك الطفل وأجاب هامساً:

    - " تيس !"

    عاد، فنزل عن الحجر وأكمل طريقه وصوت الأستاذ سليم ما زال يلاحقه وهو يكرر:

    - " وحين يلتقي النهران الكبيران... "

    في تلك الليلة شاهد الأستاذ سليم جالساً في ديوانية المختار يقرقر بنرجيلته : كان قد أرسل لقريتهم في يافا كي يعلم الصبية، وكان قد أمضى شطراً طويلاً من حياته في التعليم حتى صارت كلمة أستاذ جزءاً لا يتجزأ من اسمه، وفي الديوانية سأله أحدهم، تلك الليلة:

    - ".. وسوف تؤم الناس يوم الجمعة.. أليس كذلك؟ "

    وأجاب الأستاذ سليم ببساطة:

    - " كلا، إنني أستاذ ولست إماماً... "

    قال له المختار:

    - " وما الفرق؟ لقد كان أستاذنا إماماً.. "

    - " كان أستاذ كتاب، أنا أستاذ مدرسة.. "

    وعاد المختار يلح:

    - " وما الفرق؟."

    لم يجب الأستاذ سليم بل دور بصره من وراء نظارتيه فوق الوجوه، كأنه يستغيث بواحد من الجالسين، إلا أن الجميع كانوا مشوشين حول هذا الموضوع مثل المختار..

    بعد فترة صمت طويلة تنحنح الأستاذ سليم وقال بصوت هاديء:

    - " طيب، أنا لا أعرف كيف أصلي.. "

    - " لا تعرف؟ "

    زأر الجميع، فأكد الأستاذ سليم محدداً:

    - " لا أعرف ! "

    تبادل الجلوس نظرات الاستغراب ثم ثبتوا أبصارهم في وجه المختار الذي شعر بأن عليه أن يقول شيئاً، فاندفع دون أن يفكر:

    - ".. وماذا تعرف إذن؟ "

    وكأن الأستاذ سليم كان يتوقع مثل هذا السؤال، إذ أنه أجاب بسرعة وهو ينهض:

    - " أشياء كثيرة.. إنني أجيد إطلاق الرصاص مثلا.. "

    وصل إلى الباب فالتفت، كان وجهه النحيل يرتجف:

    - " إذا هاجموكم أيقظوني، قد أكون ذا نفع.. "

    ***


    ها هو إذن الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات ! ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم !.. يا رحمة الله عليك ! لا شك أنك ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود.. ليلة واحدة فقط.. يا الله ! أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟.. صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك.. ولكنك على أي حال بقيت هناك.. بقيت هناك ! وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار .. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم .. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما أفعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي " تجد لقمة خبز؟

    نهض، واستند إلى الأرض بكوعيه وعاد ينظر إلى النهر الكبير كأنه لم يره قبل ذلك. إذن هذا هو شط العرب: " نهر كبير تسير فيه البواخر محملة بالتمر والقش كأنه شارع في وسط البلد تسير فيه السيارات.. " هكذا صاح ابنه، قيس، بسرعة حين سألة تلك الليلة:

    - " ما هو شط العرب؟ "

    كان يقصد أن يمتحنه، إلا أن قيس صاح الجواب بسرعة، وأردف قائلا:

    - ".. لقد رأيتك تطل من شباك الصف اليوم.. "

    التفت إلى زوجه فضحكت، أحس بشيء من الخجل، وقال ببطء:

    - " إنني أعرف ذلك من قبل.. "

    - " كلا، لم تكن تعرفه.. عرفته اليوم وأنت تطل من الشباك.. "

    - " طيب ! وماذا يهمني أن أعرف ذلك أو أن لا أعرفه، هل ستقوم القيامة؟ "

    رمقته زوجته من طرف عينيها ثم قالت:

    - " اذهب والعب يا قيس في الغرفة الأخرى... "

    وحين صفق الباب خلفه قالت لزوجها:

    - " لا تحكي أمامه بهذا الشكل، الولد مبسوط لأنه يعرف ذلك، لماذا تخيب أمله؟ "

    قام واقترب منها ثم وضع كفه على بطنها وهمس:

    - " متى ؟ "


    -" بعد سبعة أشهر "

    - " أوف !"

    - " نريد بنتا هذه المرة.. "

    - " كلا ! نريد صبياً ! صبياً ! "


    ولكنها أنجبت بنتاً سماها "حسنا " ماتت بعد شهرين من ولادتها وقال الطبيب مشمئزاً: " لقد كانت نحيلة للغاية ! "

    كان ذلك بعد شهر من تركه قريته ، في بيت عتيق يقع في قرية أخرى بعيدة عن خط القتال :

    - " يا أبا قيس، أحس بأنني سألد ! "

    - " طيب، طيب، اهدئي "

    وقال في ذات نفسه :

    وربما نبني غرفة في مكان ما ..

    - " بودي لو تلد المرأة بعد مئة شهر من الحمل ! أهذا وقت ولادة ؟ "

    - " يا إلهي ! "

    - " ماذا؟ "

    - " سألد "

    - " أأنادي شخصاً ؟ "

    - " أم عمر"

    - " أين أجدها الآن؟ "

    - " ناولني هذه الوسادة.."

    - " أين أجد أم عمر؟ "

    - " يا إلهي.. ارفعني قليلا، دعني أتكىء على الحائط.. "

    - " لا تتحركي كثيراً، دعيني أنادي أم عمر.. "

    - " أسرع... أسرع.. يا رب الكون ! "

    هرول إلى الخارج، وحين صفق وراءه الباب سمع صوت الوليد، فعاد وألصق أذنه فوق خشب الباب..

    صوت الشط يهدر، والبحارة يتصايحون، والسماء تتوهج والطائر الأسود ما زال يحوم على غير هدى.

    قام ونفض التراب عن ملابسه ووقف يحدق إلى النهر..

    أحس، أكثر من أي وقت مضى، بأنه غريب وصغير، مرر كفه فوق ذقنه الخشنة ونفض عن رأسه كل الأفكار التي تجمعت كجيوش زاحمة من النمل.

    وراء هذا الشط، وراءه فقط ، توجد كل الأشياء التي حرمها.



    هناك توجد الكويت.. الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصور يوجد هناك.. لا بد أنها شيء موجود، من حجر وتراب وماء وسماء، وليست مثلما تهوم في رأسه المكدود.. لا بد أن ثمة أزقة وشوارع ورجالاً ونساء وصغاراً يركضون بين الأشجار.. لا.. لا.. لا توجد أشجار هلاك.. سعد، صديقه الذي هاجر إلى هناك واشتغل سواقا وعاد بأكياس من النقود قال إنه لا توجد هناك أية شجرة.. الأشجار موجودة في رأسك يا أبا قيس.. في رأسك العجوز التعب يا أبا قيس.. عشر أشجار ذات جذوع معقدة كانت تساقط زيتونا وخيرا كل ربيع.. ليس ثمة أشجار في الكويت، هكذا قال سعد.. ويجب أن تصدق سعدا لأنه يعرف أكثر منك رغم أنه أصغر منك.. كلهم يعرفون أكثر منك.. كلهم. في السنوات - العشر الماضية لم تفعل شيئاً سوى أن تنتظر.. لقد أحتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق أنك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها.. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مقع ككلب عجوز في بيت حقير.. ماذا تراك كنت تنتظر؟ أن تثقب الثروة سقف بيتك.. بيتك؟ إنه ليس بيتك.. رجل كريم قال لك: أسكن هنا ! هذا كل شيء وبعد عام قال لك أعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياسا مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد..

    وبقيت مقعيا حتى جاءك سعد وأخذ يهزك مثلما يهز الحليب ليصير زبداً.. "

    - " إذا وصلت إلى الشر بوسعك أن تصل إلى الكويت بسهولة، البصرة مليئة بالأدلاء الذين يتولون تهريبك إلى هناك عبر الصحراء.. لماذا لا تذهب؟ "

    سمعت زوجته كلام سعد فنقلت بصرها بين وجهيهما وأخذت تهدهد طفلها من جديد.

    - " إنها مغامرة غير مأمونة العواقب؟ "

    - " غير مأمونة العواقب؟ ها ! ها ! أبو قيس يقول، غير مأمونة العواقب.. ها ها " !

    ثم نظر إليها وقال:

    - " أسمعت ما يقول زوجك؟ غير مأمونة العواقب ! كأن الحياة شربة لبن ! لماذا


    لا يفعل مثلنا ؟ هل هو أحسن؟..

    لم ترفع بصرها إليه، وكان هو يرجو أن لا تفعل..

    - " أتعجبك هذه الحياة هنا؟ لقد مرت عشر سنوات وأنت تعيش كالشحاذ..

    حرام ! ابنك قيس، متى سيعود للمدرسة؟ وغدا سوف يكبر الآخر.. كيف ستنظر إليه وأنت لم... "

    - " طيب ! كفى ! "

    - لا ! لم يكف ! حرام ! أنت مسؤول الآن عن عائلة كبيرة، لماذا لا تذهب إلى هناك . ما رأيك أنت ؟

    زوجته ما زالت صامتة وفكر هو: " غدا سيكبر هو الآخر.. " ولكنه قال:

    - " الطريق طويلة، وأنا رجل عجوز ليس بوسعي أن أسير كما سرتم أنتم.. قد أموت .. "

    لم يتكلم أحد في الغرفة زوجته ما زالت تهدهد طفلها ، وكف سعد عن الإلحاح ولكن الصوت ! انفجر في رأسه هو :

    - " تموت؟ هيه ! من قال أن ذلك ليس أفضل من حياتك الآن ؟ منذ عشر سنوات وأنت تأمل أن تعود إلى شجرات الزيتون العشر التي امتلكتها مرة في قريتك... قريتك ! هيه ! "




    عاد فنظر إلى زوجته :

    - " وماذا ترين يا أم قيس؟ "

    حدقت إليه وهمست:

    " كما ترى أنت.. "

    " سيكون بوسعنا أن نعلم قيس.. "

    - " نعم " ..

    - " وقد نشتري عرق زيتون أو اثنين.. "

    - " طبعاً ! "

    - " وربما نبني غرفة في مكان ما.."

    - " أجل "

    - " إذا وصلت.. إذا وصلت.."

    كف، ونظر قليلا ثم ستنساب دمعة واحدة تكبر رويداً رويداً ثم تنزلق فوق خدها المغضن الأسمر.. حاول أن يقول شيئاً، ولكنه لم يستطع، كانت غصة دامعة تمزق حلقه.. غصة ذاق مثلها تماما حين وصل إلى البصرة وذهب إلى دكان الرجل السمين الذي يعمل في تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، وقف أمامه حاملا على كتفيه كل الذل وكل الرجاء اللذين يستطيع رجل عجوز أن يحملهما.. وكان الصمت مطبقاً مطنا حين كرر الرجل السمين صاحب المكتب:

    - " إنها رحلة صعبة، أقول لك، ستكلفك خمسة عشر ديناراً ".

    - " وهل تضمن أننا سنصل سالمين؟

    - " طبعاً ستصل سالماً، ولكن ستتعذب قليلا، أنت تعرف، نحن في آب الآن، الحر شديد والصحراء مكان بلا ظل.. ولكنك ستصل.."

    كانت الغصة ما تزال في حلقه، ولكنه أحس أنه إذا ما أجل ذلك الذي سيقوله فلن يكون بوسعه أن يلفظه مرة أخرى:

    - " لقد سافرت آلافا من الأميال كي أصل إليك، لقد أرسلني سعد، أتذكره؟ ولكنني لا أملك إلا خمسة عشر ديناراً، ما رأيك أن تأخذ منها عشرة وتترك الباقي لي؟ "

    قاطعه الرجل:

    - " إننا لا نلعب.. ألم يقل لك صديقك أن السعر محدود هنا؟ إننا نضحي بحياة الدليل من أجلكم.. "

    - " ونحن أيضا نضحي بحياتنا.. "

    - " إنني لا أجبرك على هذا "

    - " عشرة دنانير؟ "

    - " خمسة عشر ديناراً.. ألا تسمع؟ "

    لم يعد بوسعه أن يكمل، كان الرجل السمين الجالس وراء كرسيه، المتصبب عرقاً، يحدق إليه بعينين واسعتين وتمني هو لو يكف الرجل عن التحديق، ثم أحس بها، ساخنة تملأ مؤقه وعلى وشك أن تسقط.. أراد أن يقول شيئاً لكنه لم يستطع، أحس أن رأسه كله قد امتلأ بالدمع من الداخل فاستدار وانطلق إلى الشارع، هناك بدأت المخلوقات تغيم وراء ستار من الدمع. اتصل أفق النهار بالسماء وصار كل ما حوله مجرد وهج أبيض لا نهائي. عاد، فارتمى ملقيا صدره فوق التراب الندي الذي أخذ يخفق تحته من جديد.. بينما انسابت رائحة الأرض إلى أنفه وانصبت في شرايينه كالطوفان

    أسعد


    وقف أسعد أمام الرجل السمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت ، ثم انفجر :

    - خمسة عشر ديناراً سأدفعها لك ؟ .. لا بأس ولكن بعد أن أصل وليس قبل ذلك قط ..

    حدق إليه الرجل من وراء جفنيه السمينين وسأل ببلاهة :

    - لماذا ؟

    - لماذا ؟ ها ! لأن الدليل الذي سترسلونه معنا سوف يهرب قبل أن نصل إلى منتصف الطريق ! خمسة عشر ديناراً ، لا بأس .. ولكن ليس قبل أن نصل ..

    طوى الرجل أوراقا صفراء أمامه وقال بلؤم :

    - أنا لا أجبرك على أي شيء .. أنا لا أجبرك .

    - ماذا تعني ؟

    - أعني أنه إذا لم تعجبك شروطنا فبوسعك أن تستدير ، وتخطو ثلاث خطوات ، وستجد نفسك في الطريق .

    الطريق ! .. أتوجد بعد طرق في هذه الدنيا ؟ ألم يمسحها بجبينه ويغسلها بعرقه طوال أيام وأيام ، كلهم يقولون ذلك : ستجد نفسك على الطريق ! .. قال له أبو العبد الذي هربه من الأردن إلى العراق :

    - " ما عليك إلا أن تدور حول الإتشفور ، لا بأس أن تضرب قليلا إلى الداخل . أنت ما زلت فتى وبوسعك أن تتحمل قليلا من القيظ .. ثم عد ، وستجدني بانتظارك على الطريق ..

    - " ولكن هذا لم يكن ضمن الشروط .. لقد قلت لي ، ونحن في عمان أنك ستأخذني إلى بغداد ودفعت لك عشرين دينارا كاملا .. لم تقل لي أنني سأدور حول الإتشفور .. "

    وضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر فعلمت أصابعه الخمسه وبان من تحتها لون السيارة الأحمر الفاقع .. كانت السيارة الضخمة واقفه إلى جانب البيت قرب جبل عمان حين تفاوض معه ، وهو يذكر تماما كل الشروط التي قيلت :

    - " إنها مهمة صعبة ، وسوف يأخذونني إلى السجن لو أمسكوك معي ، ورغم ذلك فسوف أقدم لك خدمة كبرى لأنني كنت أعرف والدك ، رحمه الله .. بل إننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات .. "

    صمت أبو العبد قليلا .. كان قميصه الأزرق ينضح بالعرق وأعطاه وجهه الحاد شعورا بأنه أمام واحد من أولئك الرجال الذين يعتقدون أن اجتراح معجزة ما هو واجب من واجبات رب العائلة :

    - " سأخذ منك عشرين دينارا .. وسوف تجد نفسك في بغداد "

    - " عشرون ديناراً ؟ "

    - " نعم ! وعليك أيضا أن تساعدني طوال الطريق . سنبدأ بعد غد ، على أن أشحن سيارة صغيرة لرجل ثري في بغداد كان قد أمضى شطرا من الصيف في رام الله ثم أراد أن يعود إلى بغداد بالطائرة .."

    - " ولكن .. عشرين دينار ؟ "

    نظر إليه أبو العبد بإلحاح ، ثم انفجر :

    - " إنني أنقذ حياتك بعشرين ديناراً .. أتحسب أنك ستمضي عمرك مختفيا هنا ؟ غدا يلقون القبض عليك .."

    - " ولكن من أين .. من أين أحضر لك عشرين ديناراً ؟ "

    - " استدن .. استدن ، أي صديق بوسعه أن يعطيك عشرين دينارا إذا عرف بأنك ستسافر إلى الكويت .. "

    - " عشرون .. عشرون .. "

    - " إلى بغداد ؟ "

    - مباشر !

    ولكنه كذب عليه ! استغل براءته وجهله ، خدعه ، أنزله من السيارة ، بعد رحلة يوم قائظ ، وقال له أن يدور حول الإتشفور كي يتلافى الوقوع في أيدي رجال الحدود ، ثم يلتقيه على الطريق !

    لكنني لا أعرف هذه المنطقة .. أتفهم أنت معنى أن أسير كل هذه المسافة حول الإتشفور ، في عز الحر ؟

    ضرب أبو العبد جناح سيارته المغبرة مرة أخرى ، كانا واقفين منفردين قبل ميل من الإتشفور وصاح :


    - ماذا تعتقد ؟ أن اسمك مسجل في كل نقاط الحدود ، إذا رأوك معي الآن ، لا جواز سفر ولا سمة مرور .. ومتآمر على الدولة ماذا تعتقد أنه سيحدث ؟ كفاك دلالا .. أنك قوي كالثور بوسعك أن تحرك ساقيك .. سألاقيك وراء الإتشفور على الطريق .



    كلهم يتحدثون عن الطرق .. يقولون : تجد نفسك على الطريق ! وهم لا يعرفون من الطريق إلا لونها الأسود وأرصفتها ! وها هو الرجل السمين ، المهرب البصراوي يكرر القصة نفسها .

    - ألا تسمع ؟ أنني رجل مشغول جدا ً ، قلت لك : خمسة عشر دينار وسأوصلك إلى الكويت ، طبعا عليك أن تمشي قليلا ولكنك فتى في غاية القوة ، لن يضرك هذا .


    - ولكن لماذا لا تصغي إلى ؟ قلت لك أنني سأعطيك المبلغ إذا ما وصلنا إلى الكويت .

    - ستصل ! ستصل !

    - كيف ؟

    - إنني أقسم لك بشرفي أنك ستصل إلى الكويت !

    - تقسم بشرفك ؟

    - أقسم لك بشرفي إنني سألتقيك وراء الإتشفور! ما عليك إلا أن تدور حول تلك المنطقة الملعونة وستجدني بانتظارك !

    لقد دار دورة كبيرة حول الإتشفور ، كانت الشمس تصب لهبا فوق رأسه ، وأحس فيما كان يرتقي الوهاد الصفر ، أنه وحيد في كل هذا العلم .. جرجر ساقيه فوق الرمل كما لو أنه يمشي على رمل الشاطئ بعد أن سحب زورقا كبيرا امتص صلابة ساقيه .. اجتاز بقاعا صلبة من صخور بنية مثل الشظايا ثم صعد كثبانا واطئة ذات قمم مسطحة من تراب أصفر ناعم كالطحين .. تراهم لو حملوني إلى معتقل الجفر الصحراوي .. هل سيكون الأمر أرحم مما هو الآن ؟ عبث .. الصحراء موجودة في كل مكان ، كان أبو العبد قد أعطاه كوفية لف بها رأسه ، ولكنها لم تكن ذات جدوى في رد اللهب بل خيل إليه أنها آخذة ، هي الأخرى ، في الاحتراق .. كان الأفق مجموعة من الخطوط المستقيمة البرتقالية ، ولكنه كان قد عقد عزمه على المسير بجد .. وحتى حينما انقلب التراب إلى صفائح لامعة من ورق أصفر ، لم يتباطأ .. وفجأة بدأت الأوراق الصفر تتطاير فانحنى يلمها :

    شكرا..شكرا.. إن هذه المروحة الملعونة تطير الأوراق من أمامي، ولكن دونها ليس بوسعي أن أتنفس.. ها! ماذا قررت؟.

    - هل أنت متأكد من أن الدليل الذي سترسله معنا لن يهرب؟

    كيف يهرب أيها الغبي؟ ستكونون أكثر من عشرة أشخاص.. لن يكون بوسعه أن يهرب منكم ..

    - وإلى أين سيوصلنا؟

    حتى طريق الجهرة، وراء المطلاع، وهناك ستكونون داخل الكويت..

    هل سنمشي كثيرا؟.

    - ست أو سبع ساعات فقط...



    بعد أربع ساعات وصل إلى الطريق، كان قد خلف الإتشفور وراءه، وكانت الشمس قد سقطت وراء التلال البنية إلا أن رأسه كان ما يزال يلتهب وخيل إليه أن جبينه يتصبب دماً.. لقد اقتعد حجرا وألقى بصره بعيدا إلى رأس الطريق الأسود المستقيم، كان رأسه مشوشا تخفق فيه آلاف الأصوات المتشابكة ، وبدا له أن بروز سيارة كبيرة حمراء في رأس تلك الطريق أمر خيالي وسخيف .. وقف، حدق إلى الطريق من جديد، لم يكن بوسعه أن يرى بوضوح بعد ، تراه الغسق أم العرق؟.. كان رأسه ما يزال يطن مثل الخلية وصاح بملء رئتيه :

    - أبو العبد .. يلعن أبوك.. يلعن أصلك..

    - ماذا قلت ؟

    - أنا ؟ لا شيء.. متى ستبدأ الرحلة؟


    - حال يصير عددكم عشرة.. أنت تعرف، ليس بوسعنا أن نرسل دليلاً مع كل واحد منكم ، ولذلك فنحن ننتظر حتى يرتفع العدد إلى عشرة أشخاص ونرسل معهم دليلا واحداً.. هل ستعطيني النقود الآن؟

    - شد على النقود في جيبه وفكر: سوف يكون بوسعي أن أرد لعمي المبلغ في أقل من شهر.. هناك في الكويت يستطيع المرء أن يجمع نقودا في مثل لمح البصر..

    لا تتفاءل كثيرا، قبلك ذهب العشرات ثم عادوا دون أن يحضروا قرشاً..

    ورغم ذلك سأعطيك الخمسين ديناراً التي طلبتها، وعليك أن تعرف أنها جنى عمر..

    - إذن لماذا تعطيني النقود إذا كنت متأكدا من أنني لن أعيدها لك؟

    - أنت تعرف لماذا.. ألست تعرف؟ إنني أريدك أن تبدأ.. أن تبدأ ولو في الجحيم حتى يصير بوسعك أن تتزوج ندى.. إنني لا أستطيع أن أتصور ابنتي المسكينة تنتظر أكثر هل تفهمني؟

    أحس الإهانة تجترح حلقه ورغب في أن يرد الخمسين ديناراً لعمه يقذفها بوجهه بكل ما في ذراعه من عنف وفي صدره من حقد، يزوجه ندى ! من الذي قال له إنه يريد أن يتزوج ندى؟ لمجرد أن أباه قرأ معه الفاتحة حين ولد هو وولدت هي في يوم واحد؟ إن عمه يعتبر ذلك قدراً، بل إنه رفض مئة خاطب قدموا ليتزوجوا ابنته، وقال لهم إنها مخطوبة ! يا إله الشياطين ! من الذي قال له أنه يريد أن يتزوجها؟ من قال له أنه يريد أن يتزوج أبداً ؟ وها هو الآن يذكره مرة أخرى ! يريد أن يشتريه لابنته مث لما يشرى كيس الروث للحقل، شد على النقود في جيبه وتحفز في مكانه.. ولكنه حين لمسها هناك، في جيبه، دافئة ناعمة، شعر بأنه يقبض على مفاتيح المستقبل كله، فلو أتاح الآن لحنقه أن يسيطر عليه ليرجع النقود إلى عمه، إذن لما تيسرت له قط فرصة الحصول على خمسين دينار بأي شكل من الأشكال.. هدأ غضبه مطبقا فمه بأحكام وشد أصابعه على النقود الملتفة في جيب بنطاله، ثم قال:

    - لا، لا، سأسلمك النقود حالما تجهز الرحلة تماماً.. سوف أراك مرة كل يوم.. إنني أنزل في فندق قريب..

    ابتسم الرجل السمين، ثم تطاولت ابتسامته فانفجر ضاحكاً بصخب:

    من الخير لك أن لا تضيع وقتك يا بني .. كل المهربين يتقاضون نفس السعر، نحن متفقون فيما بيننا.. لا تتعب نفسك.. وعلى أي حال: احتفظ بنقودك حتى تجهز الرحلة، أنت حر.. ما اسم الفندق الذي تنزل فيه؟

    - فندق الشط..

    - آه ! فندق الجرذان !

    نط جرذ الحقل عبر الطريق فلمعت عيناه الصغيرتان في ضوء السيارة وقالت الفتاة الشقراء لزوجها المنهمك بالسياقة:

    - إنه ثعلب ! أرأيته؟

    قال الزوج الأجنبي ضاحكاً:

    - أف منكن أيتها النساء ! تجعلن من الجرذ ثعلبا !

    كانا قد التقطاه بعد الغروب بقليل بعد أن لوح لهما وهماً في سيارتهما الصغيرة، فلما أوقف الزوج السيارة، أطل هو من النافذة.. كان يرجف من فرط البرد، وكانت الزوجة خائفة منه.. إلا أنه جمع في ذهنه ما تعلمه من اللغة الإنكليزية وقال:

    - لقد اضطر صديقي أن يعود إلى الإتشفور بالسيارة وتركني..

    قاطعه الرجل:

    - لا تكذب.. أنت هارب من هنالك، لا بأس، اصعد.. سأوصلك إلى بعقوبة.

    كان المقعد الخلفي مريحا وناولته الفتاة بطانية التفح بها وكان لا يستطيع أن يعرف بالضبط، هل هو يرجف بسبب البرد الصحراوي، أم بسبب الخوف، أم بسبب التعب.. وقال الرجل:

    - هل مشيت كثيراً؟

    - لست أدري.. ربما أربع ساعات..

    - لقد تركك الدليل.. أليس كذلك؟ إن ذلك يحدث دائما.

    التفتت إليه الفتاة وسألت:

    - لماذا تهربون من هناك؟

    - أجابها زوجها:

    إنها قصة طويلة.. قل لي.. هل تجيد قيادة السيارات؟

    - نعم

    - بوسعك أن تأخذ مكاني بعد أن تستريح قليلا.. قد أستطيع أن أساعدك على عبور مركز الحدود العراقي... سنصل هناك في الثانية بعد منتصف الليل، وسيكون المسؤولون نياما..

    لم يكن يستطيع أن يركز رأسه على محور واحد، كان مشوشا ولم يكن بوسعه أن يهتدي إلى أول طريق التساؤلات كي يبدأ، ولذلك حاول جهده أن ينام ولو لنصف ساعة..

    - من أين أنت؟.

    - من فلسطين.. من الرملة.

    - أوف .. أن الرملة بعيدة جدا.. قبل إسبوعين كنت في زيتا.. أتعرف زيتا؟ لقد وقفت أمام الأسلاك الشائكة، فاقترب مني طفل صغير وقال بالإنكليزية أن بيته يقع على بعد خطوات وراء الأسلاك..

    - هل أنت موظف؟

    - موظف ؟ ها ! أن الشيطان نفسه تأبي عليه براءته أن يكون موظفاً.. كلا يا صديقي .. أنا سائح..

    - " انظر، إنه ثعلب آخر.. ألم تر إلى عينيه كيف تتقدان؟ "

    - " يا عزيزتي إنه جرذ.. جرذ.. لماذا تصرين على أنه ثعلب؟ هل سمعت ما حدث أخيرا هناك، قرب زيتا؟. "

    - " كلا .. ماذا حدث؟ "

    - " الشيطان لا يعرف ماذا حدث ! هل ستستقر في بغداد؟ "

    - " كلا "

    - " أوف ! إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟ "

    أجاب بهدوء:

    - جرذانا أصغر منها.. "

    قالت الفتاة :

    - حقا ؟ إنه شيء مرعب! الجرذ نفسه حيوان مرعب كريه... "

    قال الرجل السمين صاحب المكتب:

    - " الجرذ حيوان كريه.. كيف بوسعك أن تنام في ذلك الفندق؟ "

    - " أنه رخيص ".

    نهض الرجل السمين صاحب المكتب واقترب منه ثم وضع ذراعه الثقيلة فوق كتفيه :

    - تبدو متعبا أيها الفتى.. ماذا حدث ؟ هل أنت مريض؟ "

    - " أنا ؟ كلا ! "

    - " إذا كنت مريضا قل لي .. قد أستطيع أن أساعدك. لي كثير من الأصدقاء يعلمون أطباء .. واطمئن ، لن تدفع شيئا ..

    - بارك الله فيك ، ولكنني تعب قليلا .. هذا كل ما في الأمر .. هل سيتأخر إعداد الرحلة ؟

    - " كلا ، نحمد الله أنكم كثر .. خلال يومين ستجد نفسك على الطريق .. "

    أدار ظهره واتجه إلى الباب ، ولكن قبل أن يتجازه سمع الرجل السمين يقهقه من وراء كتفيه :

    - " .. لكن حاذر أن تأكلك الجرذان قبل أن تسافر .. "



    مروان

    خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة التمر وسلال القش الكبيرة.. لم تكن له أية فكرة محددة عن وجهته الجديدة.. فهناك، داخل الدكان، تقطعت آخر خيوط الأمل التي شدت، لسنوات طويلة، كل شيء في داخله.. كانت الكلمات الأخيرة التي لفظها الرجل السمين حاسمة ونهائية، بل خيل إليه أنها كانت مصبوبة من رصاص:

    - خمسة عشر ديناراً.. ألا تسمع؟

    - ولكن..

    - أرجوك ! أرجوك ! لا تبدأ بالنواح ! كلكم تأتون إلى هنا ثم تبدأون بالنواح كالأرامل !.. يا أخي، يا روحي لا أحد يجبرك على الالتصاق هنا، لماذا لا تذهب وتسأل غيري، البصرة مليئة بالمهربين !

    طبعاً سيذهب ويسأل غيره، لقد قال له حسن. الذي اشتغل في الكويت أربع سنين . أن تهريب الفرد الواحد من البصرة إلى الكويت يكلف خمسة دنانير فقط لا غير، وأنه يجب أن يكون - حين يمثل أمام المهرب - أكبر من رجل وأكثر من شجاع وإلا ضحك عليه وخدعه واشتغل سنيه الست عشرة وجعل منه ألعوبة.

    - قالوا إن سعر الواحد خمسة دنانير.

    - خمسة دنانير؟ ها ها ها! كان ذلك قبل أن تزف حواء إلى آدم.. يا بني، استدر، واخط ثلاث خطوات، وستجد نفسك في الطريق غير مطرود !

    جمع شجاعته كلها وحشدها في لسانه، كل ما تبقي في جيبه لا يزيد عن السبعة دنانير، ولقد كان يحسب قبل هنيهة أنه غني.. أما الآن.. أتراه يستصغره؟

    - سوف تأخذ مني خمسة دناينر وأنت مبسوط .. وإلا..

    - وإلا ماذا؟

    - وإلا فضحتك في مخفر الشرطة !

    قام الرجل السمين ودار حول مكتبه ثم وقف أمامه وهو يلهث ويتصبب عرقاً..

    حدق فيه هنيهة قاسه فيها من رأسه حتى قدميه ثم رفع يده الثقيله في الهواء..

    - تريد أن تشكوني إلى الشركة يا ابن الـ...

    وهوت اليد الثقيلة فوق خده ، فضاعت الكلمة في طنين شيطاني أخذ يدور بين أذنيه .. لم يستطع أن يحتفظ بتوازنه للحظة فخطا إلى الوراء خطوتين صغيرتين ، ووصله صوت الرجل السمين مبحوحا بالغضب :

    - اذهب وقل للقواويد أنني ضربتك .. تشكوني للشرطة ؟

    تحفز في مكانه لبرهة وجيزة ، ولكنها كانت كافية ليكتشف فيها عبث أية محاولة يقوم بها لترميم كرامته ، بل إنه أحس . حتى عظامه ، بأنه قد أخطأ خطأ لا يغتفر ، فأخذ يمضغ ذله وعلامات الأصابع فوق خده الأيسر تلتهب ..

    - ماذا تراك تنتظر هنا ؟

    دار على عقبيه ، واجتاز الباب إلى الخارج فصفعت أنفه روائح التمر وسلال القش الكبيرة .. تراه ماذا سيفعل الآن ؟ لم يكن يريد أن يسأل السؤال لنفسه

    قط.. ولكنه ليس يدري لماذا كان يحس بنوع من الارتياح.. ترى ما السبب في ذلك ؟ لقد أحب أن يشغل نفسه بالتقصي عن السبب.. ثمة شعور يملأ جانبا من ، رأسه ويوحي له بالارتياح والسعادة، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفصله عن كل الأحداث المؤسية التي احتشدت في صدره خلال نصف الساعة الماضي.. وحين انتهت كل محاولاته إلى الفشل اتكأ على الحائط.. كانت جموع الناس تعبر حواليه دون أن تلتفت إليه، ربما يحدث هذا للمرة الأولى في حياته: أن يكون منفردا وغريبا في مثل هذا الحشد من البشر.. ولكنه كان يريد أن يعرف سبب ذلك الشعور البعيد الذي يوحي له الاكتفاء والارتياح، شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد أن ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي فيحس بأن الحياة كبيرة وواسعة وأنه سوف يكون في المستقبل واحداً من أولئك الذين يصرفون حياتهم لحظة إثر لحظة وساعة أثر ساعة بامتلاء وتنوع مثيرين.. ولكن ما السبب في كونه يحس الآن مثل ذلك الشعور رغم أنه لم يشاهد منذ زمن بعيد لما من ذلك النوع، ورغم أن خيوط الأمل التي نسجت في صدره أحلاما كباراً قد تقطعت، قبيل لحظات، داخل دكان الرجل السمين؟

    لا فائدة.. يبدو أنه لن يستطيع اختراق الحجاب الكثيف من خيبة الأمل الذي ارتفع دونه ودون ذلك الشعور الملتف على نفسه في مكان ما من رأسه.. وقرر، فيما بعد، أن لا يرهق رأسه قط.. وأن يشغل نفسه بالمسير.. ولكنه ما أن ترك جدار وبدأ يمشي في الزحام حتى شعر بيد تربت على كتفه..

    لا تيأس إلى هذا الحد.. إلى أين ستذهب الآن؟

    كان الرجل الطويل قد بدأ يسير إلى جانبه بألفة، وحين نظر إليه خيل له أنه قد شاهده في مكان ما من قبل، ولكنه رغم ذلك، ابتعد عنه خطوة وصب فوق وجهه عينين متسائلتين، فقال الرجل:

    - إنه لص شهير.. ما الذي قادك إليه ؟

    أجاب بعد تردد قصير:

    - كلهم يأتون إليه..

    اقترب الرجل منه وشبك ذراعه بذراعه كأنه يعرفه منذ زمن بعيد:

    - أتريد أن تسافر إلى الكويت؟

    - كيف عرفت؟

    - لقد كنت واقفاً إلى جانب باب تلك الدكان، وشهدتك تدخل ثم شهدتك تخرج.. ما اسمك؟

    - مروان.. وأنت؟

    - إنهم ينادونني " أبو الخيزران ".

    لأول مرة منذ رآه لاحظ الآن أن منظره يوحي حقا بالخيزران، فهو رجل طويل القامة جدا، نحيل جداً، ولكن عنقه وكفيه تعطي الشعور بالقوة والمتانة وكان يبدو لسبب ما، أنه بوسعه أن يقوس نفسه، فيضع رأسه بين قدميه دون أن يسبب ذلك أي إزعاج لعموده الفقري أو بقية عظامه.

    - حسناً، ماذا تريد مني؟

    - تجاهل أبو الخيزران السؤال بسؤال من عنده

    - لماذا تريد أن تسافر إلى الكويت؟

    - أريد أن أشتغل.. أنت تعرف كيف تجري الأمور هنالك. منذ شهور طويلة.

    وأنا ..

    صمت فجأة ووقف.


    الآن، فقط، عرف منشأ ذلك الشعور بالارتياح والاكتفاء الذي لم يكن بوسعه، قبل دقائق، أن يكتشفه.. إنه ينفتح أمام عينيه بكل اتساعه وصفائه، بل إنه هدم، بشكل رائع، كل سدود الكآبة التي حالت بينه وبين معرفته.. وها هو الآن يتملكه من جديد بسطوة لا مثيل لها قيد.. كان أول شيء فعله ذلك الصباح الباكر هو كتابة رسالة طويلة إلى أمه.. وإنه يشعر الآن بمزيد من الارتياح لأنه كتب تلك الرسالة قبل أن تخيب آماله كلها في دكان الرجل السمين فيضيع صفاء الفرح الذي صبه في تلك الرسالة.. لقد كان بديعا أن يعيش بعض ساعة مع أمه.



    نهض باكرا جدا ذلك الصباح.. كان الخادم قد رفع السرير إلى سطح الفندق لأن النوم داخل الغرفة في مثل ذلك القيظ وتلك الرطوبة أمر مستحيل.. وحينما أشرقت الشمس فتح عينيه " كان الجو رائعاً وهادئاً وكانت السماء ما زالت تبدو زرقاء تحوم فيها حمامات سود على علو منخفض ويسمع رفيف أجنحتها كلما اقتربت - في دورتها الواسعة - من سماء الفندق.. كائن الصمت مطبقا بكثافة، والجو يعبق برائحة رطوبة مبكرة صافية...مد يده إلى حقيبته الصغيرة الموضوعة تحت السرير فأخرج دفتراً وقلماً ومضى يكتب رسالة إلى أمه وهو مستلق هناك.

    كان ذلك أحسن ما فعله خلال شهور، لم يكن مجبرا على فعله، ولكنه كان يريد ذلك بملء رغبته وإرادته.. كان مزاجه رائقاً، وكانت الرسالة تشبه صفاء تلك السماء فوقه.. ليس يدري كيف أجاز لنفسه أن يصف أباه بأنه مجرد كلب منحط ولكنه لم يشأ أن يشطب ذلك بعد أن كتبه، لم يكن يريد أن يشطب أي كلمة في الرسالة كلها.. ليس لأن أمه تتشاءم من الكلمات المشطوبة فقط، بل لأنه كان لا يريد ذلك أيضا، وببساطة.

    ولكنه - على أي حال- لا يحقد على أبيه إلى ذلك الحد.. صحيح أن أباه قام بعمل كريه، ولكن من منا لا يفعل ذلك بين الفينة والأخرى؟ إنه يستطيع أن يفهم بالضبط ظروف والده، وبوسعه أن يغفر له.. ولكن هل بوسع والده أن يغفر لنفسه تلك الجريمة؟

    " أن يترك أربعة أطفال. أن يطلقك أنت بلا أي سبب، ثم يتزوج من تلك المرأة الشوهاء.. هذا أمر لن يغفره لنفسه حين يصحو، ذات يوم، ويكتشف ما فعل. أنني لا أريد أن أكره أحداً، ليس بوسعي أن أفعل ذلك حتى لو أردت.. ولكن لماذا فعل ذلك، معك أنت؟ أنا أعرف أنك لا تحبين لأحد منا أن يحكي عنه، أعرف.. ولكن لماذا تعتقدين أنه فمل ذلك؟

    لقد مضى كل شيء الآن وراح ولا أمل لنا بأن نستعيده مرة أخرى.. ولكن لماذا فعل ذلك؟ دعينا نسأل، لماذا؟

    أنا سوف أقول لك لماذا.. منذ أن انقطعت عنا أخبار أخي زكريا اختلف الوضع

    نهائيا.. كان زكريا يرسل لنا من الكويت، كل شهر حوالي مئتي روبية.. كان هذا المبلغ يحقق لأبي بعض الاستقرار الذي يحلم به.. ولكن حين انقطعت أخبار زكريا. نرجو أن يكون ذلك خيراً

    - ماذا تعتقدين أنه فكر؟

    لقد قال لنفسه. بل قال لنا كلنا. إن الحياة أمر عجيب.. وإن الرجل يريد أن يستقر في ، شيخوخته لا أن يجد نفسه مجبرا على إطعام نصف دزينة من الأفواه المفتوحة.. ألم يقل ذلك؟ زكريا راح.. زكريا، ضاعت أخباره، من الذي سيطعم الأفواه؟ من الذي سيكمل تعليم مروان ويشتري ملابس مي ويحمل خبزاً لرياض وسلمى وحسن؟ من؟

    إنه رجل معدم، أنت تعرفين ذلك.. لقد كان طموحه كله.. كل طموحه، هو أن يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم منذ عشر سنوات ويسكن تحت سقف من إسمنت، كما كان يقول.. الآن، زكريا راح.. آماله كلها تهاوت.. أحلامه انهارت.. مطامحه ذابت.. فماذا تعتقدين أنه سيفعل؟

    لقد عرض عليه صديقه القديم والد شقيقة أن يتزوجها.. قال له أنها تمتلك بيتا من ثلاث غرف في طرف البلد، دفعت ثمنه من تلك النقود التي جمعتها لها منظمة خيرية.. وأبو شفيقة يريد شيئا واحدا: أن يلقي حمل ابنته. التي فقدت ساقها اليمنى أثناء قصف يافا - على كاهل زوج ! إنه على عتبة قبره ويريد أن يهبطه مطمئناً على مصير ابنته التي رفضها الجميع بسبب تلك الساق المبتورة من أعلى الفخذ.. لقد فكر والدي بالأمر: لو أجر غرفتين وسكن مع زوجته الكسحاء في الثالثة إذن لعاش ما تبقي له من الحياة مستقرا غير ملاحق بأيما شيء.. وأهم من ذلك.. تحت سقف من إسمنت.. ".

    - أتريد أن تبقي واقفا هنا إلى الأبد؟

    نفض رأسه وسار.. كان " أبو الخيزران " ينظر إليه من طرف حدقيته، وخيل إليه أنه على وشك أن يبتسم ساخراً.

    - ما بالك تفكر بهذا الشكل؟ أن التفكير غير ملائم لك يا مروان، ما زلت صغير السن.. والحياة طويلة..

    وقف مرة أخرى وألقى برأسه إلى الوراء قليلا:

    - والآن .. ماذا تريد مني؟.

    واصل " أبو الخيزران " المسير فلحق به من جديد:

    - أستطيع أن أهربك إلى الكويت.

    - كيف ؟

    - هذا شأني أنا. أنت تريد أن تذهب إلى الكويت أليس كذلك؟ ها هو ذا إنسان بوسعه أن يأخذك إلى هناك.. ماذا تريد غير ذلك؟

    - كم ستأخذ مني ؟

    هذا ليس مهما في الواقع ...

    - إنه المهم .

    ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فانشقت شفتاه عن صفين من الأسنان الكبيرة الناصعة البياض ثم قال:

    - سأخبرك الأمر بكل صراحة.. أنا رجل مضطر للذهاب إلى الكويت، قلت لنفسي : لا بأس من أن أرتزق فأحمل معي بعض من يريد أن يذهب إلى هناك .. كم بوسعك أن تدفع؟

    - خمسة دنانير..

    - فقط ؟

    - لا أملك غيرها.

    - حسناً، سأقبلها..

    وضع أبو الخيزران يديه في جيبه ومضى يسير بخطوات واسعة حتى أوشك مروان أن يضيعه، فاضطر إلى اللحاق به مسرعاً، إلا أن أبا الخيزران وقف فجأة وهز أصبعه أمام فمه:

    -.. ولكن ! لا تقل ذلك لأي إنسان.. أعني إذا طلبت من رجل آخر عشرة دنانير فلا تقل له إنني أخذت منك خمسة فقط..

    - ولكن كيف تريدني أن أثق بك؟

    فكر أبو الخيزران قليلا ثم عاد فابتسم تلك الابتسامة الواسعة وقال:

    - معك حق ! ستعطيني النقود في ساحة الصفاة في الكويت.. في العاصمة في منتصف العاصمة، مبسوط؟

    - موافق !

    - ولكننا سنحتاج إلى عدد آخر من المسافرين.. وعليك أن تساعدني، هذا شرط.

    - إنني أعرف واحدا ينزل معي في الفندق ويرغب في السفر.

    - هذا رائع، أنا أعرف واحداً آخر.. إنه من بلدتي في فلسطين أيام زمان قابلته صدفة هنا.. ولكنني لم أسألك.. ماذا تريد أن تفعل في الكويت.. هل تعرف أحدا؟

    وقف مرة أخرى، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فعاد يخب إلى جانبه..

    - إن أخي يعمل هناك.

    هز أبو الخيزران رأسه فيما كان يسير متعجلا ثم رفع كتفيه فغاصت عنقه وبدأ أقصر من ذي قبل..

    - وإذا كان أخوك يشتغل هناك.. فلماذا تريد أنت أن تشتغل؟ الذين في سنك ما زالوا في المدارس !..

    - لقد كنت في المدرسة قبل شهرين، ولكنني أريد أن أشتغل الآن كي أعيل عائلتي ...

    وقف أبو الخيزران ثم رفع كفيه من جيبه وثبتهما على خصريه وأخذ يحدق إليه ضاحكاً:

    - ها ! لقد فهمت الآن.. أخوك لم يعد يرسل لكم نقوداً، أليس كذلك؟

    هز مروان رأسه وحاول أن يسير، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فأوقفه..

    - لماذا؟ هل تزوج ؟

    حدق مروان إلى أبي الخيزران مشدوها ثم همس:

    - كيف عرفت؟

    - ها ، الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق، كلهم يكفون عن إرسال النقود إلى عائلاتهم حين يتزوجون أو يعشقون..

    أحس مروان بخيبة أمل صغيرة تنمو في صدره، لا لأنه فوجئ، بل لأنه اكتشفت أن الأمر شائع ومعروف، لقد كان يحسب أنه يخنق صدره على سر كبير لا يعرفه غيره: حجبه عن أمه وأبيه طوال شهور وشهور.. وها هو الآن يبدو على لسان أبي الخيزران كأنه قاعدة معروفة وبديهية:

    - ولكن.. لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يتنكرون لـ...

    صمت فجأة، كان أبو الخيزران قد بدأ يضحك:

    - أنا مبسوط أنك ستذهب إلى الكويت لأنك ستتعلم هناك أشياء عديدة.. أول شيء ستتعلمه. هو أن: القرش يأتي أولا، ثم الأخلاق.

    حين تركه أبو الخيزران على أمل لقاء بعد الظهر كان قد فقد. من جديد. كل تلك المشاعر الرائعة التي كانت تغسله، من الداخل، طوال الصباح.. بل أنه استغرب كيف تكون تلك الرسالة التي كتبها لأمه قد أعطته الشعور الرائق الذي جعل خيبة أمله تبدو أقل قيمة مما هي في الواقع.. رسالة سخيفة كتبها تحت وطأة الشعور بالوحدة والأمل على سطح فندق حقير مرمي في طرف الكون.. ما هو الخارق في الأمر؟ أيحسب أن أمه لا تعرف القصة كلها؟ ماذا كان يريد أن يقول ؟ أكان يريد أن يقنعها بأن هجران زوجها لها ولأولادها أمر رائع وطبيعي؟ إذن لماذا كل تلك الثرثرة؟ أنه يحب والده حبا خارقا لا يتزعزع.. ولكن هذا لا يغير شيئا من الحقيقة الراعبة.. الحقيقة التي تقول أن أباه قد هرب.. هرب.. هرب.. تماما كما فعل زكريا الذي تزوج وأرسل له رسالة صغيرة قال له فيها أن دوره قد أتى، وأن عليه أن يترك تلك المدرسة السخيفة التي لا تعلم شيئا وأن يغوص في المقلاة مع من غاص..

    كل عمره كان على طرفي نقيض مع زكريا.. بل إنهما كانا. في الواقع. يكرهان بعضهما.. زكريا لم يكن يستطيع أن يفهم قط لماذا يتوجب عليه أن يصرف على العائلة طوال عشر سنوات بينما يروح مروان ويجيء إلى المدرسة مثل الأطفال.. وكان هو يريد أن يصبح طبيباً.. كان يقول لأمه إن زكريا لن يفهم قط معنى أن يتعلم الإنسان لأنه ترك المدرسة حين ترك فلسطين وغاص، منذ. ذاك، في المقلاة، كما يحب أن يقول.

    وها هو الآن قد تزوج دون أن يقول ذلك لأحد غيره، كأنه كان يريد أن يضعه أمام ضميره وجها لوجه.. ولكن ماذا ترك له ليختار؟ لا شيء سوى أن يترك المدرسة ويعمل، يغوص في المقلاة من هنا وإلى الأبد !

    لا بأس ! لا بأس.. أيام قليلة ويصل إلى الكويت.. إذا ساعده زكريا كان ذلك أفضل، إذا تجاهله فلسوف يعرف كيف يهتدي إلى أول الطريق كما اهتدى الكثيرون.. ولسوف يرسل كل قرش يحصله إلى أمه، سوف يغرقها ويغرق إخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة إلهية.. ويجعل أباه يأكل أصابعه ندماً !

    ورغم ذلك، فإنه لا يكره أباه إلى هذا الحد، لسبب بسيط هو أن أباه ما زال يحبهم جميعاً.. لقد تأكد من ذلك تماما حين ذهب إليه يودعه قبل أن يسافر، لم يقل لأمه أنه سيذهب إلى بيت شفيقة وإلا لكانت جنت.. قال له أبوه هناك:

    - أنت تعرف يا مروان بأن لا يد لي في الأمر، هذا شيء مكتوب لنا منذ بدء الخليقة.

    قالت شفيقة:

    - قلنا لأمك أن تأتي وتسكن هنا لكنها لم تقبل.. ماذا تريدنا أن نفعل أكثر من ذلك؟

    كانت جالسة فوق بساط من جلد ماعز، وكان العكاز ملقى إلى حانبها، وفكر
    هو: ترى أين ينتهي فخذها؟ " كان وجهها جميلا ولكنه حاد الملامح مثل وجوه كل أولئك المرضى الذين لا يرجى لهم الشفاء، وكانت شفتها السفلى مقوسة كأنها على وشك أن تبكي..

    قال أبوه:

    - خذ ، هذه عشرة دنانير.. قد تنفعك.. واكتب لنا دائما.

    حين قام رفعت شفيقة ذراعيها في الهواء ودعت له بالتوفيق، كان صوتهـا فاجعا وحين التفت إليها قبل أن يجتاز الباب بدأت تشهق بالبكاء. وقال له أبوه:

    - وفقك الله يا مروان يا سبع.

    وحاول أن يضحك إلا أنه لم يستطع فأخذ يربت بكفه الكبيرة الخشنة على ظهره بينما تناولت شفيقة عكازها واستوت واقفة بحركة سريعة، كانت قد كفت عن البكاء.

    صفق الباب وراءه وسار. كان ما زال يسمع صوت عكاز شفيقة يقرع البلاط برتابة، وعند المنعطف تلاشى الصوت.



    الصفقة



    اقتاد مروان زميله أسعد إلى موعده مع أبي الخيزران، وصلا متأخرين قليلا فوجد أبا الخيزران، بانتظارهما، جالساً مع أبي قيس فوق مقعد إسمنت كبير على رصيف الشارع الموازي للشط.

    - لقد اجتمعت العصابة كلها الآن أليس كذلك؟

    صاح أبو الخيزران ضاحكا وهو يضرب كتف مروان بكفه ويمد الأخرى ليصافح أسعد.

    - هذا هو صديقك إذن.. ما اسمه؟

    أجاب مروان باقتضاب:

    - أسعد.

    - دعيني إذن أعرفكما على صديقي العجوز. " أبو قيس.. " وبهذا تكون العصابة قد اكتملت.. لا بأس أن تزداد واحداً.. ولكنها الآن كافية أيضا.

    قال أسعد:

    - يبدو لي أنك فلسطيني.. أأنت الذي سيتولى تهريبنا؟


    - نعم، أنا.

    - كيف؟

    - هذا شأني أنا..

    ضحك أسعد بسخرية ثم قال ببطء شادا على كلماته بعنف:

    - لا يا سيدي.. أنه شأننا نحن.. يجب أن تحكي لنا كل التفاصيل، لا نريد متاعب منذ البدء.

    قال أبو الخيزران بصوت حاسم:

    - سأحكي لكم التفاصيل بعد أن نتفق، وليس قبل ذلك..

    قال أسعد:

    - لا يمكن أن نتفق قبل أن نعرف التفاصيل، ما رأي الشباب؟

    لم يجب أحد، فأكد أسعد من جديد:

    - ما رأي العم أبو قيس؟

    - الرأي رأيكم..

    - ما رأيك يا مروان؟

    - أنا معكم.

    قال أسعد بعنف:

    - إذن، دعونا نختصر الوقت.. يبدو لي أن العم أبو قيس غير خبير بالأمر، أما مروان فإنها تجربته الأولى.. أنا عتيق في هذه الصنعة، ما رأيكم أن أتفاوض عنكم ؟

    رفع أبو قيس كفه في الهواء موافقاً، وهز مروان رأسه، فالتفت أسعد إلى أبي الخيزران..

    - لقد رأيت: الشباب سلموني الأمر، فدعني أقول لك شيئا: إننا من بلد واحد.

    نحن نريد أن نرتزق وأنت تريد أن ترتزق، لا بأس، ولكن يجب أن يكون الأمر في منتهى العدل.. سوف تحكي لنا بالتفصيل كل خطوة، وسوف تقول لنا بالضبط كم تريد، طبعا سنعطيك النقود بعد أن نصل وليس قبل ذلك قط ..

    قال أبو قيس:

    - الأخ أسعد يحكي الحق يجب أن نكون على بينه من الأمر ، وكما يقول المثل :

    ما يبدأ بالشرط ينتهي بالرضا .

    رفع أبو الخيزران كفيه من جيبه ووضعهما على خصريه ، ثم نقل بصره فوق الوجوه جميعا ببطء وببرود حتى قرقراه فوق وجه أسعد :

    - أولا كل واحد منكم سيدفع عشرة دنانير .. موافقون ؟

    قال أبو قيس..

    - أنا موافق

    قال أسعد:

    - أرجوك .. لقد سلمتني الأمر إذن دعني أحكي ... عشرة دنانير مبلغ كبير ، أن المهرب المحترف يأخذ ، عشر دينارا .. ثم ..


    قاطعه أبو الخيزران:

    - لقد اختلفنا إذن قبل أن نبدأ، هذا ما كنت أخشاه .. عشرة دنانير لا تنقص فلساً.. السلام عليكم.

    أدار ظهره وخطا خطوتين بطيئتين قبل أن يلحقه أبو قيس صائحا :

    - لماذا غضبت ؟ الموضوع سؤال وجواب والاتفاق أخو الصبر ..

    - حسنا ، نعطيك عشرة دنانير .. ولكن كيف ستأخذنا ؟

    ها ! نحن الآن في شغل الجد .. اسمع .

    جلس أبو الخيزران على مقعد الإسمنت ووقف الثلاثة حواليه ومضى يشرح مستعيناً بيديه الطويلتين،


    - لدي سيارة مرخصة لاجتياز الحدود.. ها ! يجب أن تنتبهوا: أنها ليست سيارتي.. أنا رجل فقير أكثر منكم جميعا وكل علاقتي بتلك السيارة أنني سائقها ! صاحب هذه السيارة رجل ثري معروف، ولذلك فإنها لا تقف كثيرا على الحدود، ولا تتعرض للتفتيش، فصاحب السيارة معروف ومحترم، والسيارة نفسها معروفة ومحترمة وسائق السيارة، تبعا لذلك، معروف ومحترم.

    كان أبو الخيزران سائقاً بارعاً، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنين، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفا بأنه أحسن سائق للسيارات الكبيرة يمكن أن يعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدو الطيرة ليقود مصفحة عتيقة كان رجال القرية قد استولوا عليها إثر هجوم يهودي.. ورغم أنه لم يكن خبيرا في قيادة المصفحات إلا أنه لم يخيب آمال أولئك الذين وقفوا على جانبي الطريق يتفرجون عليه وهو يدخل من الباب المصفح الصغير ويغيب لحيظات، ثم يهدر المحرك بالضجيج وتمضي المصفحة تدرج في الطريق الرملي الضيق. إلا أن المصفحة ما لبثت أن تعطلت، ولم تجد كل المحاولات التي بذلها أبو الخيزران لإعادتها إلى سيرتها السوية.. وإذا كانت خيبة أمل الرجال كبيرة، فإن خيبة أمله كانت أكبر، ولكن أبا الخيزران - على أي حال- أضاف إلى تجاربه في عالم المحركات تجربة أخرى، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن هذه التجربة لم تنفعه حين انضم إلى سائقي سيارات الحاج رضا في الكويت؟

    لقد استطاع ذات يوم أن يقود سيارة ماء جبارة أكثر من ست ساعات في طريق ملحى موحل دون أن تغوص في الأرض وتتعطل مثلما حدث لجميع سيارات القافلة.. كان الحاج رضا قد خرج مع عدد من رجاله إلى الصحراء ليغيبوا عدة أيام في القنص.. إلا أن الربيع كان خادعاً، وأثناء عودتهم كانت الطريق تبدو بيضاء صلدة، وهذا ما دفع سائقي السيارات لاقتحامها دون وجل، وهناك بدأت السيارات، الكبيرة والصغيرة، تغوص في الوحل واحدة أثر الأخرى..إلا أن أبا الخيزران، الذي كان يقود سيارته الجبارة خلف الجميع واصل السير ببراعة ودون أن يتعطل ثانية واحدة.. وحين شارف سيارة الحج رضا الرمادية الغارقة حتى ثلاثة أرباع عجلاتها الورائية في الوحل، أوقف سيارته وهبت ثم اقترب من الحج وقال له:

    ما رأي عمي الحج رضا أن يصعد إلى سيارتي؟ أن انتشال هذه السيارات يستلزم أكثر من أربع ساعات، وفي هذا الوقت سيكون عمي الحج رضا قد وصل إلى بيته.

    قال الحج رضا:

    - تمام ! أن صوت محرك سيارتك أرحم من الوقوف هنا مدة أربعة ساعات. وقاد أبو الخيزران سيارته الضخمة طوال ست ساعات فوق تلك الأرض الخادعة التي تبدو بيضاء صلدة بسبب طبقة رقيقة من الملح الذي جف على السطح، وكان أبو الخيزران، طوال الطريق، يحرك مقود سيارته حركات خفيفة وسريعة ذات اليمين وذات اليسار كي تستطيع العجلتان الأماميتان أن تفتحا طريقاً أوسع قليلا من حاجتهما..

    لقد سر الحج رضا للغاية من براعة أبي الخيزران وتحدث بذلك لكل أصدقائه طوال شهور.. وقد سر الحج أكثر حين نما إليه أن أبا الخيزران رفض عروضا عديدة للعمل عند سواه، بعد أن تفشت هذه الأخبار، واستدعاه وأثنى عليه ثم زود راتبه قليلا.. ما هو أهم من ذلك أن الحج رضا بات يشترط أن يكون أبو الخيزران رفيقا ضرورياً لكل رحلة قنص أو سفر بعيد.

    منذ أسبوع خرج الحج رضا في قافلة من سياراته إلى رحلة قنص أقامها خصيصا من أجل ضيوف ينزلون عنده، وقد كلف أبو الخيزران بقيادة سيارة الماء الكبيرة، التي سترافق القافلة طوال الرحلة وتؤمن الماء الوفير للرجال أثناء الرحلة التي قد تستغرق أكثر من يومين.. لقد ضربت القافلة بعيدا في الصحراء حتى أن الحج رضا فضل أن يسلك في طريق عودته دروباً أخرى تصل به إلى الزبير، ومن الزبير يستطيع أن يسلك الطريق الرئيسي الذي يعود إلى الكويت.. كان من الممكن أن يكون أبو الخيزران الآن في الكويت، مع بقية القافلة لو لم يصب سيارته الكبيرة عطل صغير يضطره للبقاء في البصرة

    يومين آخرين حتى يصلحه، ثم يلحق بمن سبق.

    - أنت تريد إذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟

    - بالضبط ! لقد قلت لنفسي: لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا، وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟

    نظر مروان إلى أبي قيس، ثم إلى أسعد فنظرا إليه بدورهما متسائلين:

    - اسمع يا أبا الخيزران.. هذه اللعبة لا تعجبني ! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟

    - لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة.. هل تعرف ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين متراً، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترا ستصعدون إلى فوق.. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب ! ستجدون أنفسكم في الكويت !

    هز أسعد رأسه ثم حدق إلى الأرض لبرهة وقد قلب شفته السفلى، أما مروان فقد أخذ يتلهي بقصف عود جاف، وواصل أبو قيس التحديق إلى السائق طويل القامة.. وفجأة قال مروان:

    - هل يوجد ماء في الخزان؟.

    انفجر أبو الخيزران ضاحكاً وابتسم أسعد:

    - طبعاً لا .. ماذا تعتقد ؟ هل أنا مهرب أم معلم سباحة؟.

    وكأنما راقت الفكرة لأبي الخيزران فقد مضى يقهقه ويضرب فخذيه بكفيه ويدور حول نفسه..

    - ماذا تعتقد؟ هل أنا معلم سباحة؟ أيها الصغير: إن الخزان لم ير الماء منذ ستة شهور !

    قال أسعد بهدوء:

    - حسبت أنك كنت تنقل الماء في رحلة قنص قبل أسبوع؟

    - أوف.. أنت تعرف، تعرف ماذا أقصد.

    - لا، لا أعرف.

    - أقصد منذ ستة أيام.. إن المرء يبالغ أحياناً.. والآن، هل اتفقنا؟.. دعونا ننهي هذا الاجتماع الخطير !

    وقف أبو قيس مهيئا نفسه للقول الفصل ولكنه قبل أن ينطق دور بصره على الجميع وتوقف هنيهة وهو ينظر إلى أسعد كأنه يرجوه العون، ثم اقترب من أبي الخيزران..

    - اسمع يا أبا الخيزران.. أنا رجل درويش ولا أفهم بكل هذه التعقيدات.. ولكن قصة رحلة القنص تلك، لم تعجبيني.. تقول أنك حملت للحج رضا، ماء، ثم تقول الآن إن خزان سيارتك لم يشم رائحة الماء منذ ستة أشهر. سأقول لك الحقيقة وأرجو أن لا تغضب : أنا أشك في أنك تملك سيارة ..

    التفت أبو قيس للبقية ومضى يكمل بصوت حزين:

    - أنا أفضل أن أدفع خمسة عشر ديناراً وأذهب مع مهرب عن طريق الصحراء..

    لا أريد مزيدا من المشاكل.

    ضحك أبو الخيزران وقال بصوت عال:

    - اذهب وجرب.. أتحسب أنني لا أعرف هؤلاء المهربين ؟ سيتركونكم في منتصف الطريق ويذوبون مثل فص الملح ! وأنتم بدوركم ستذيبون في قيظ آب دون أن يشعر بكم أحد.. اذهب اذهب وجرب.. قبلك جرب الكثيرون.. تريد أن أدلك ؟ لماذا تحسب أنهم يأخذون منكم المبلغ سلفا؟

    - " ولكنني أعرف كثيرين وصلوا إلى هناك من طريق المهربين ".

    - "عشرة بالمئة على الأكثر.. ثم اذهب واسألهم وسيقولون لك أنهم أكملوا الطريق بلا مهرب وبلد دليل، وأن حظهم قد ساعدهم على النجاة. "

    - جمد أبو قيس في مكانه، وبدا للحظة أنه موشك على السقوط. ولاحظ مروان أن أبا قيس يشبه والده إلى حد بعيد، فأشاح بوجهه عنه، لم يعد بوسعه أن يركز رأسه على موضوع واحد.. فيما مضى أبو الخيزران صائحا:

    - يجب أن تقرروا بسرعة ! ليس لدى مزيد من الوقت لأضيعه، أقسم لكم بشرفي...

    قال أسعد مقاطعا بهدوء:

    - اترك موضوع الشرف في ناحية أخرى . الأمور تمضي بشكل أفضل حين لا يقسم المرء بشرفه..

    التفت. أبو الخيزران إليه وقال:

    - والآن يا سيد أسعد، أنت رجل ذكي ومجرب.. ما رأيك؟

    رأيي بماذا؟

    بكل شيء..

    ابتسم أسعد ولاحظ أن أبا قيس ومروان ينتظران أن يسمعا قراره، فمضى يحكي ببطء وسخرية:

    أولاً، أعفينا من تصديق قصة رحلة القنص ! يبدو لي أن الحج رضا وجنابك تعملان بالتهريب.. عفوك قليلا، دعني أكمل.. الحج رضا يعتقد أن تهريب الأشخاص في طريق العودة أمر تافه، لذلك يتركه لك، أما أنت فتترك له بالمقابل تهريب الأمور الأهم.. وبنسبة من الأرباح المعقولة، أم تراه لا يعرف أنك تهرب أشخاصا في طريق العودة؟

    ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فبانت أسنانه البيضاء النظيفة من جديد وبدا أنه لا يريد أن يجيب أسعد.. قال مروان فجأة:

    وقصة القنص؟

    أوه ! قصة القنص معدة لرجال الحدود، ليس لنا.. ولكن أبا الخيزران لا يجد بأسا من أن يرويها..

    اتسعت ابتسامة أبي الخيزران أكثر من قبل وأخذ يبادل الرجال النظر دون أن يتكلم.. وبدا، للحظة، أنه غبي.

    قال أبو قيس:

    ولكن ماذا يهرب الحج رضا؟ لقد قلت أنه رجل ثري !.

    نظر الجميع إلى أبي الخيزران الذي كف، فجأة، عن الابتسام وعاد وجهه يكتسي بطابع اللامبالاة والتسلط ثم قال بحزم:

    - والآن كفوا عن الثرثرة.. يجب أن لا تعتقد يا سيد أسعد أنك ذكي إلى هذا الحد .. ماذا قررتم؟

    قال أسعد بهدوء:

    - أنا شخصياً لا أهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت، أما ما عدا ذلك فإنه لا يعنيني .. ولذلك فإنني سأسافر مع أبي الخيزران .

    قال مروان بحماسة .

    - وأنا سأسافر معكما .

    قال أبو قيس :

    - هل تعتقدون أنه بوسعي أن أرافقكم أنا رجل عجوز ..

    ضحك أبو الخيزران بعنف ثم شبك ذراعه بذراع أبي قيس .

    - له ! له ! يا قيس .. من الذي أوهمك أنك عجوز إلى هذا الحد ؟ ربما أم قيس ! له ! يجب أن تأتي معنا ..

    كانا قد سارا خطوات قليلة معا وتركا مروان وأسعد واقفين إلى جانب مقعد الإسمنت الكبير ، التفت أبو الخيزران من قوف كتفه وصاح :

    - سينام أبو قيس معي في السيارة .. وسأزمر لكل صباح غدا الباكر أمام الفندق .


    الطريق

    لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجاً كثيراً. فرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هواده فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب عليهما بسبب سرعة السيارة خفف من حدة الحر.. كان أبو قيس قد صعد مع مروان إلى فوق وجلسا على حافة الخزان متجاورين أما أسعد فقد رست عليه القرعة ليجلس إلى جانب السائق في الفترة الأولى من الرحلة.

    قال أسعد محدثاً نفسه:

    - " سوف يأتي دور العجوز أخيراً ليستظل هنا.. ولكن لا بأس، على أي حال، فإن الشمس تبقي محتملة الآن... أما عند الظهيرة فسيكون حظ العجوز حسناً .."

    قال أبو الخيزران فجأة، بصوت عال ليسمع عبر هدير المحرك:

    - هل تتصور؟.. إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالسراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار.. فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة.. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود !

    انفجر أبو الخيزران ضاحكاً: كأنه لم يكن هو الذي قال ذلك، ثم أخذ يضرب المقود بكلتا يديه ويهز رأسه..

    أتعرف؟ أنني أخاف أن تفطس البضاعة، هناك..

    أشار بعنقه إلى حيث يجلس العجوز مروان فوق الخزان ومضى يضحك بعنف ..

    قال أسعد بهدوء:

    - قل لي يا أبا الخيزران.. ألم تتزوج أبدا؟

    - أنا؟

    سأل بعجب، واكتسى وجهه الهزيل بالأسى كأنه لم يكن يضحك قبل هنيهة..

    ثم قال ببطء:

    - لماذا تسأل؟

    - لا لشيء معين.. كنت أقول لنفسي أن حياتك رائعة.. لا أحد يشدك من هنا ولا أحد يشدك من هناك.. وتطير أنت منفردا حيث شئت، تطير.. تطير.. تطير..

    هز أبو الخيزان رأسه ثم ضيق جفنيه كي يتلافى ضوء الشمس الذي انصب، فجأة، فوق زجاج الواجهة.. كان الضوء ساطعاً بحدة حتى أنه لم يستطع، بادئ الأمر، أن يرى شيئاً.. إلا أنه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه، ثم استطاع أن يتبين، بعد لأي، أن ساقيه مربوطتان إلى حمالتين ترفعانهما إلى فوق، وأن عدداً من الرجال يدور حوله.. أغمض عينيه برهة ثم فتحهما، مرة أخرى، على وسعيهما. كان الضوء المستدير الموضوع فوق رأسه يحجب عنه

    السقف ويعشي بصره. ولم يستطع أن يتذكر، وهو مقيد هناك على ذلك الشكل المحكم والغريب، أكثر من شيء واحد حدث له منذ برهة، ليس غير.. كان يركض مع عدد من الرجال المسلحين حين تفجرت جهنم أمامه فسقط على وجهه.. هذا كل شي، والآن، الألم الفظيع ما زال يغوص بين فخذيه والضوء المستدير الضخم معلق فوق عينيه وهو يحاول أن يرى إلى الأمور والأشخاص مضيقاً جفنيه قدر ما يستطيع.. وفجأة خطر له خاطر أسود فبدأ يصيح بجنون، ليس يذكر ما الذي قاله حينذالك، ولكنه أحس بيد تطبق فوق فمه بعنف، كانت تلبس قفازا لزجاً.. ووصله الصوت، كأنما عبر قطن:

    - كن عاقلا.. كن عاقلا.. إن ذلك على أي حال أفضل من أن تموت !..


    ليس يدري هل استطاعوا أن يسمعوه وهو يصيح من بين أسنانه واليد اللزجة مطبقة فوق فمه ؟ أم أن صوته ضاع في حلقه، أنه، على أي حال، ما زال يسمع الصوت نفسه كأن إنسانا آخر كان يصيح في أذنيه:

    - لا .. الموت أفضل.


    والآن.. مرت عشر سنوات على ذلك المشهد الكريه.. مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يوما وراء يوم وساعة أثر ساعة، مضغه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوات العشر ورغم ذلك فإنه لم يعتده قصد، لم يقبله قط.. عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبا لكل شيء في هذا الكون الملعون...

    كلا إنه لم يقبل، بعد عشر سنوات أن ينسى مأساته ويعتادهما. بل أنه لم يقبل ذلك حتى حين كان تحت المبضع يحاولون أن يقنعوه بأن فقدان الرجولة أرحم من فقدان الحياة. يا إله الشياطين، إنهم لا يعرفون ذلك قط، لا يعرفون شيئا ثم يتنطحون لتعليم الناس كل الأشياء.. أتراه لم يقبل أم إنه كان عاجزا عن القبول؟ منذ اللحظ ات الأولى كان قد قرر أن لا يقبل، نعم، هذا هو الصحيح بل أنه كان عاجزا عن تصور الأمر بتمامه حتى أنه، بعد وعي، هرب من المستشفى قبل أن يشفى نهائيا .. كأن هروبه كان قادرا على تسوية الأمور من جديد، لقد احتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد مجرد الحياة.. ولكن تراه اعتادها؟ ليس بعد.. كلما سئل بشكل عابر:"لماذا لا تتزوج؟ " عاد إليه الإحساس الكريه بألم يغوص بين فخذيه كأنه مازال ملقى تحت الضوء المستدير الساطع وساقاه مرفوعتان إلى فوق.

    كان الضوء متوهجاً وساطعاً حتى أن عينيه بدأتا تدمعان، عندها، مد أسعد يده فأنزل حاجبة الشمس المستطيلة ليقع الظل على وجه أبي الخيزران:

    - " نعم، إن هذا أفضل.. شكرا.. أتعرف؟ إن إبا قيس رجل محفوظ " أحس أسعد بأن أبا الخيزران يريد تغيير موضوع الزواج الذي أثاره بسؤاله فاستجاب لذلك ببساطة:

    - لماذا؟

    - لو قدر له أن يذهب مع المهربين لكان وصوله إلى الكويت بمثابة أعجوبة لا أكثر ولا أقل.

    كتف أبو الخيزران ذراعيه على المقود واتكأ بصدره فوقهما..

    - أنت لا تعرف كيف تجري الأمور هنا.. كلكم لا تعرفون.. اسألني أنا.. اسألني، انني أعرف قصصا يبلغ عددها عدد شعر القط!

    - إن الرجل السمين يبدو طيباً.. لقد ملت إليه.

    أنزل أبو الخيزران رأسه ومسح عرق جبينه بكمه المتكئ على المقود وقال:

    - هه ! إن الرجل السمين لا يذهب معلم عبر الحدود وهو لا يعرف ماذا يحدث..

    - ماذا يحدث ؟

    - لي ابن عم يدعى حسنين، هرب مرة عبر الحدود، وبعد مسير أكثر من عشر ساعات حل، الظلام. عندما أشار المهرب إلى مجموعة من الأضواء البعيدة وقال: تلك هي الكويت.. تصلونها بعد مسيرة نصف ساعة.. أتدري ما الذي حدث؟ لم تكن تلك الكويت .. كانت قرية عراقية نائية ! أستطيع أن أروي لك آلافا من القصص المشابهة. قصص رجال تحولوا إلى كلاب وهم يبحثون عن نقطة ماء واحدة يغسلون بها ألسنتهم المشققة.. وماذا تحسب أنه حدث حين شاهدوا خيام البدو؟ لقد اشتروا جرعة الماء، بكل ما يملكون من نقود أو خواتم زواج أو ساعات... يقولون أن حاتم كان بدوياً.. ولكنني أعتقد أنها مجرد كذبة،.. ذلك زمن راح يا أبا السعد.. راح.. ولكنكم لا تدركون ذلك تحسبون أن الرجل السمين بوسعه أن يعمل كل شيء.. أعرف رجلا عاش في الصحراء وحيداً مدة أربعة أيام، وحين التقطته سيارة على طريق الجهرة كان على وشك أن يلفظ آخر أنفاسه.. أتدري ماذا فعل ؟ كان يريد شيئا واحدا من كل هذه الحياة.. كان يريد أن يعود إلى البصرة فور أن يسترد صحته، ويعود إليها عبر الصحراء أيضاً إذا لزم الأمر.. أتعرف لماذا ؟ قال لي أنه يريد العودة إلى هناك كي يطبق بكفيه حول عنق الرجل السمين ويخنقه، ثم لتقم القيامة.. كان قد بدأ رحلته مع صديقين من أصدقاء شبابه، من غزة، عبر إسرائيل، عبر الأردن، عبر العراق .. ثم تركهم المهرب في الصحراء، وهم لما يعبروا حدود

    الكويت.. لقد دفن صديقيه بتلك الأراضي المجهولة وحمل معه هويتيهما على أمل أن يصل إلى الكويت، فيرسلهما إلى أهليهما. لم يكن يريد لأحد أن ينصحه.. كان يقول أنه لا يريد أن ينسى ولا يريد أن يغفر.. وبعد مرور أقل من شهر عاد أدراجه إلى العراق، ولكنهم ألقوا القبض عليه.. وهو الآن يمضي سنته الثمانية في سجن حقير.. ماذا تراك تحسب؟ تأتون إلينا من المدارس مثل الأطفال وتحسبون أن الحياة هينة أتحسب أن أبا قيس لم يكن يقامر بحياته.. وسوف يكون هو الخاسر ! أنا متأكد من ذلك تأكدي من الشمس الملعونة هذه !ٍ غدا حين تصل إلى الكويت ستتذكرني بالخير وتقول : كان أبو الخيزران يحكي الصحيح، ثم تحمد ربك ألف مرة لأنني أنقذتك من أظافر الرجل السمين.. هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟

    - ماذا قلت؟

    - سألتك : هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟

    - كلا...

    دور أبو الخيزران مقود سيارته بعنف ليتجاوز حفره واسعة في الرمل، ثم بدأت السيارة تخب. وترتجف فوق طريق تشبه الدرج المنبسط، وأحس أسعد بأن أمعاءه على وشك أن تقفز من بين أسنانه المصطكة .

    - كنت سترى الكثير منها. لو مشيت مع المهربين .. وعلى أي حال ، سوف لن يعني ذلك شيئا ...

    - لماذا ؟

    - لأنك ستكون مشغولا عن التفكير به .. أو ، مثلما قال حسنين ، لأنك لا تريد أن تفكر به

    ابتسم أسعد ببلاهة ، لمجرد أنه لا يعرف ماذا يتعين عليه أن يفعل ، ثم سأل وهو يلكز أبا الخيزران في خاصرته،

    - لماذا تعمل إذن في التهريب

    - أنا ؟ أنا لا أعمل في التهريب

    ضحك أسعد وضرب كفه فوق فخد أبي الخيزران :

    إذن ماذا تسمي هذا؟

    - أقول لك الحقيقية؟ أنني أريد مزيداً من النقود .. مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.. ولقد اكتشف أنه من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب ... أترى هذا المخلوق الحقير الذي هو أنا ؟ إنني أمتلك بعض المال ! وبعد عامين سأترك كل شيء وأستقر.. أريد أن أستريح .. أتمدد.. أستلقي في الظل وأفكر أولا أفكر.. لا أريد أن أتحرك قط.. لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف ! إي والله، أكثر من كاف

    أطفأ أبو الخيزران المحرك بسرعة، يفتح الباب ثم قفز إلى الأرض .. وأخذ يصيح:

    - لقد بدأ الجد.. هيا.. سأفتح لكم باب الخزان.. هاها سيكون الطقس كالآخرة، هناك في الداخل..

    صعد بخفة فوق السلم الحديدي الصغير وأخذ يعالج باب الخزان المستدير وفكر مروان ببطء: " أن ذراعيه قويتان.. " كانوا يتصببون عرقا ، إلا أن قميص أبي الخيزران كان مبتلا تماما وكان وجهه ويبدو كأنه مطلي بالوحل.

    انفتح الباب مقرقعا ورفع أبو الخيزران طرف القرص الحديدي إلى فوق فاستوى واقفا فوق مفصله وبدا باطنه أحمر من فرط الصدأ .. جلس أبو الخيزران إلى جانب الفوهة موسعا ما بين ساقيه المدلاتين وأخذ يمسح عرقه بالمنديل الأحمر الذي يلفه على مؤخرة رقبته، تحت قبة القميص الأزرق، وكان يلهث:

    - أنصحكم أن تنزعوا قمصانكم .. الحر خانق ومخيف هنا وسوف تعرقون كأنكم في المقلى . ولكن.. لخمس دقائق أو سبع، وسوف أقود بأقصى ما أستطيع من السرعة.. توجد. في الداخل عوارض حديدية.. في كل زاوية عارضة.. أنني أفضل أن تمسكوا بها جيدا وإلا تدحرجتم كالكرات.. طبعاً ستخلعون أحذيتكم..

    بقي الجميع واقفين على الأرض دون حراك، نهض أبو الخيزران ثم قفز إلى تحت وكان يحاول أن يضحك:

    - بوسع المرء أن ينام في الداخل لو كان الطقس أرحم قليلا..

    نظر أبو قيس إلى مروان ثم نظر كلاهما إلى أسعد.. الذي خطا - تحت تأثير تلك النظرات - خطوتين صغيرتين إلى الأمام، ثم عاد، فوقف من جديد، وكان أبو الخيزران يراقبه.

    - أنصحكم أن تعجلوا قليلاً .. إننا ما زلنا في مطلع النهار وبعد قليل سيصبح الخزان من الداخل فرناً حيقيقياً.. بوسعكم أن تأخذوا معكم مطارة ، ولكن لا تستعملوها حين تحسون أن السيارة واقفة..

    حسم مروان رأيه فاقترب متسرعاً من السلم الحديدي، إلا أن أسعد سبقه فتسلق العجل ثم انحنى فوى الفوهة المفتوحة وأسقط رأسه داخل الخزان لبرهة وجيزة، ثم عاد فرفعه:

    - هذه هي جهنم ! إنها تتقد !

    قال أبو الخيزران وهو يفرش كفيه الكبيرتين :

    - لقد قلت لكم ذلك من قبل ..

    كان مروان قد وصل هو الآخر ودس رأسه داخل الفوهة ثم عاد فرفعه وقد ارتسمت على وجهه علائم الاشمئزاز والرعب . أما أبو قيس فقد وصل إلى جانبهما لا هنا .. وصاح أبو الخيزران من تحت :

    - أتعرفون ماذا تفعلون إذا راود أحدكم العطاس؟

    ابتسم أسعد ابتسامة باهتة بينما نظر مروان إلى تحت وبدا أن أبا قيس لم يفهم السؤال ..

    ليضع إصبعه تحت منخريه مستقيما .. هكذا ..

    مثل أبو الخيزران الحركة فبدا وجهه مضحكا وقال أسعد وهو يخطو إلى الأمام :

    - لا أعتقد أن أحدنا سيعطس في هذا الفرن .. لا تقلق من هذه الناحية ..

    وضع أسعد كفيه على خاصرتيه ووقف إلى جانب الفوهة مطأطئاً رأسه وكأنه يريد أن يرى ماذا يوجد في الداخل.. بينما خلع أبو قيس قميصه ولفه باعتناء تحت إبطه. وبدا صدره مستعرا شائباً وعظام كتفيه بارزة إلى الأمام.. جلس على حافة الفوهة مدليا ساقية داخلها . رمى بقميصه أولاً ، ثم بدأ ينزلق بطيئاً مستقيماً معتمداً على ذراعيه المشدودتين فوق حافة الفوهة حتى إذا ما لمست قدماه أرض الخزان أرخى ذراعيه وجعل ينساب باعتناء، فغاص رأسه ثم توارت ذراعاه..

    قوس أسعد جسده وصاح:

    - كيف ترى الأمور؟

    ودوى صوت عريض من الداخل كأنه آت من عمق سحيق:

    - إنه بئر ملعونة.. تعال.

    نظر أسعد إلى مروان الذي خلع قميصه ووقف ينتظر بينما بدأ أبو الخيزران يتسلق السلم الحديدي من جديد.

    - دور من؟

    - دوري.

    توجه مروان إلى الفوهة وأدار لها ظهره.. أنزل ساقيه أولا جاعلا بطنه فوق الحافة ثم انزلق الجسد ببراعة، وبقيت الكفان متمسكتين بإطار الفوهة لبرهة، ثم اختفتا.

    لحق أسعد بزميليه دون أن يخلع قميصه، وحين وارته الفوهة انحنى أبو الخيزران محاولا أن يرى الوضع في الداخل إلا أنه لم ير شيئا، في كل مرة كان يطل بها كان جسده يحجب الضوء المتسلل من الفوهة فتتعذر الرؤيا، وأخيراً صاح:

    - ها ؟

    وأجابه صوت عريض:

    - ماذا تنتظر؟ عجل، إننا على وشك الاختناق !

    أغلق أبو الخيزران الغطاء بسرعة ودور يده المضلعة دورتين ثم انحدر راكضاً إلى مقعده، وبدأت السيارة، قبل أن ينغلق الباب، تلتهم الطريق.. !

    في تلك الدقائق القليلة كانت، ثمة، فكرة واحدة تحوم في رأس أبي الخيزران، ليس غير

    إن الطريق المحفرة ، التي تشبه درجا منبسطاً تهز السيارة وترجفها بلا هوادة وبلا إنقطاع .. إن هذا العزيز جدير بأن يجعل البيض عجة في وقت أقل مما تستطيع الخفاقة الكهربائية أن تفعل.. لا بأس بذلك بالنسبة لمروان فهو فتى، ولا بأس بذلك بالنسبة لأسعد فهو قوي البنية.. ولكن، ماذا عن أبي قيس؟ لا شك أن أسنانه تصطلك مثل إنسان على وشك أن يموت من شدة الصقيع، ولكن الفرق أنه ليس ثمة صقيع هنا.

    بوسع أبي الخيزران أن يتلافى بعض هذا الهزيز لو زاد من سرعته أكثر.. لو جعل هذه الدبابة الجهنمية تسير بسرعة مئة وعشرين بدل التسعين التي يشير لها المؤشر الآن .. ولكن إذا فعل ذلك من يضمن أن لا تنقلب السيارة فوق مثل هذه الطريق الملعونة ؟ لا بأس أن تنقلب السيارة فهي ليست له ، ولكن ماذا لو استقرت على قفاها؟ ثم من قال أن محرك السيارة يتحمل مثل هذه السرعة في مثل هذا الجو وهذه الأرض؟ إنهم يضعون دائمًا على المؤشر أرقاماً عالية ليس من الحكمة أن يبلغها السائق الماهر..

    لم يخفف السرعة حين وصل إلى صفوان ، بل إنه - حين دور في الساحة متجهاً إلى اليسار حيث يقوم المخفر لم يرفع قدمه عن مضغط البنزين قيد شعرة بل جعلها دورة واسعة نثرت الغبار في حلقة واسعة.. ولم يرفع قدمه إلا حين ضغط المكبح أمام باب المخفر بعنف، ومرق كالسهم إلى الداخل.




    ساحة الجمرك ساحة رملية واسعة في صفوان تتوسطها شجرة كبيرة يتيمة تتهدل أوراقها المتطاولة فترمي ظلا واسعاً في الساحة.. وعلى الأطراف تنتصب حجرات ذات أبواب خشبية واطئة في داخلها مكاتب مكتظة ورجال مشغولون دائماً.. لم يلحظ أبو الخيزران، وهو يقتحم الساحة بقده المديد، سوى بعض النسوة الجالسات في ظل الشجرة ملتفعات بالعباءات. كان ثمة طفل أو طفلان يقفان إلى جانب صنبور المياه وكان الحاجب نائماً فوق كرسي القش العتيق.

    أبو الخيزران متعجل اليوم !

    - نعم.. الحج رضا ينتظر.. إذا تأخرت طردني.

    - الحج رضا لن يطردك ، لا تخف.. لا يمكن أن يعثر على شاب مثلك.

    - هه ! الشباب يملأون الأرض كالفقع.. لو أشار بيديه لتهاووا فوقه كالذباب.


    - ماذا تحمل معك؟

    - أسلحة ! دبابات! ومصفحات ! وست طائرات ومدفعين..

    انفجر الرجل ضاحكاً من أعماقه وتناول أبو الخيزران الأوراق من تحت يديه بخفة وانطلق إلى الخارج .. قال في ذات نفسه وهو يدخل إلى غرفة أخرى : " أصعب المراحل انتهت " بعد دقيقة واحدة خرج من الغرفة الأخرى.. وبأقل من لمح البصر كان يدور المحرك فيمزق السكون الضارب فوق صفوان وينطلق إلى الطريق من جديد.

    فيما كانت السيارة تنطلق كالسهم تاركة وراءها خطاً من غيوم الغبار كان أبو الخيزران ينزف عرقاً غزيراً يصب في وجهه ممرات متشعبة تلتقي عند ذقنه.. كانت الشمس ساطعة متوهجة وكان الهواء ساخناً مشبعاً بغبار دقيق كأنه الطحين: " لم أر في حياتي مثل هذا الطقس اللعين.. " فك أزرار قميصه فلامست أصابعه شعر صدره الغزيز المبتل.. كانت الطريق قد استوت، ولم تعد السيارة ترجف شأنها من قبل فزاد من سرعته - كان المؤشر يندفع إلى الأمام ككلب أبيض مربوط إلى وتد.

    نظر إلى الأمام بعينيه الغارقتين في عرقه فتبين نهاية الهضبة الصغيرة.. وراء هذه الهضبة تحتجب صفوان، وهناك يتعين عليه أن يقف.

    زود ضغط قدمه فوق المضغط كيما تتسلق السيارة الهضبة دون أن تتباطأ، وأحس بأن عضلة ساقه قد تكورت حتى أوشكت أن تتمزع، الأرض تنطوي والسيارة تزأر، والزجاج يتوهج والعرق يحرق عينيه، وما تزال قمة الهضبة تتراءى له بعيدة كالأبد.. يا إلهي العزيز العلى القدير، كيف يمكن لقمة هضبة ما أن تعني كل هذه المشاعر التي تموج في شرايينه وتصب لهبها على جلده الملوث بالوحل عرقا، مالحا ؟ يا إلهي العلى الذي لم تكن معي أبداً، الذي لم تنظر إلى أبداً، الذي لا أؤمن بك أبداً. أيمكن أن تكون هنا هذه المرة؟ هذه المرة فقط؟


    رف عينيه رفات سريعة ليغسل العرق عن جفنيه، وحين فتحهما آخر مرة كانت قمة الهضبة قد صارت أمامه..

    وصل إلى أعلاها فأطفأ المحرك وترك " السيارة تنزلق قليلا ثم أوقفها وقفز من الباب إلى ظهر الخزان.

    خرج مروان أولاً : رفع ذراعيه فانتشله أبو الخيزران بعنف وتركه مفروشا فوق سطح الخزان.. أطل أبو قيس برأسه ثم حاول أن يخرج إلا أنه لم يستطع، عاد فأخرج ذراعيه وترك أبا الخيزران يساعده.. أما أسعد فقد استطاع أن يتسلق الفوهة. كان قد خلع قميصه.

    جلس أبو الخيزران فوق سطح الخزان الساخن. كان يلهث وبدا أنه قد كبر عن ذي قبل.. بينما انزلق أبو قيس ببطء فوق العجلات واستلقى في ظل السيارة منبطحا على وجهه . وقف أسعد هنيهة يتنشق بملء صدره. كان يبدو؟ أنه يريد أن يتكلم إلا أنه لم يستطع .. وأخيراً قال لاهثاً :

    أووف ! الطقس هنا في غاية البرودة !

    كان وجهه محمرا ومبتلا، وكان بنطاله مغسولاً بالعرق أما صدره فقد انطبعت عليه علائم الصدأ فبدا وكأنه ملطخ بالدم.. نهض مروان وهبط السلم الحديدي بإعياء.. كانت عيناه حمراوين وكان صدره مصبوغاً بالصدأ وحين وصل إلى الأرض وضع رأسه فوق فخذ أبي قيس ومدد جسده ببطء إلى جانب العجل.. بعد لحظة تبعه أسعد ثم أبو الخيزران فجلسا واضعين رأسيهما فوق ركبهما المطوية.. قال أبو الخيزران بعد فترة:

    - هل كان الأمر مخيفاً ؟

    لم يجبه أحد.. فدور نظره فوق وجوههم فبدت له وجوهاً صفراء محنطة، ولولا أن صدر مروان كان يرتفع ويهبط، ولولا أن أبا قيس كان يتنفس بصفير مسموع، لخيل إليه إذن أنهما ميتان..

    - قلت لكم سبع دقائق.. ورغم ذلك لم يستغرق الأمر أكثر من ست.

    نظر إليه أسعد ببرود بينما فتح مروان عينيه دون أن ينظر إلى شيء معين ودور أبو قيس وجهه إلى الناحية الأخرى.

    - أقسم لك بشرفي. ست دقائق ! انظر إلى الساعة يا أسعد. ست دقائق بالضبطا انظر ! لماذا لا تريد أن تنظر؟ لقد قلت لكما ذلك، قلته منذ البدء، وأنتم تعتقدون الآن أنني أكذب عليكم.. ها هي الساعة انظر.. انظر.

    رفع مروان رأسه ثم استند على عضديه وأخذ ينظر، ملقياً رأسه بعض الشيء إلى الوراء، باتجاه أبي الخيزران.. لم يكن يبدو أنه يراه بوضوح..

    - هل جربت أن تجلس هناك ست دقائق؟

    - لقد قلت لكم..

    - ثم إنها لم تكن ست دقائق.

    - لماذا لا تنظر إلى ساعتك.. لماذا ؟ إنها في رسغك، هيا انظر.. انظر.. وكف عن التحديق بي كالمجنون..

    قال أبو قيس:

    - إنها ست دقائق.. كنت طوال الوقت أعد .. من الواحد إلى الستين: دقيقة، هكذا حسبت.. عددت ست مرات.. في المرة الأخيرة عددت ببطء شديد..

    كان يتكلم بصوت منخفض وببطء.. فقال أسعد:

    - ماذا بك يا أبا قيس، هل أنت مريض؟

    - أنا؟ أنا؟ أوف، كلا.. لكنني أتنفس حصتي من الهواء.

    وقف أبو الخيزران ونفض عن بنطاله الرمل ثم ثبت كفيه فوق خاصرتيه وأخذ ينقل بصره بين الرجال الثلاثة:

    - هيا بنا.. يجب أن لا نضيع وقتا أكثر.. أمامكم حمام تركي آخر بعد فترة وجيزة.

    نهض أبو قيس واتجه إلى غرفة السائق بينما تسلق أسعد السلم الحديدي وبقي مروان جالساً في الظل.

    قال أبو الخيزران:

    - ألا تريد أن تنهض

    - لماذا لا نستريح قليلا؟

    صاح أسعد من فوق:

    - سنستريح كثيرا بعد أن نصل وليس قبل ذلك.. هيا..

    ضحك أبو الخيزران بصوت عال.. ثم ضرب بكفه فوق كتف مروان وقال:

    - تعال اجلس إلى جانب أبي قيس، إنك نحيل ولن تضايقنا كثيراً. ثم إنك، كما يبدو متعب جدا.

    صعد مروان فجلس إلى جانب أبي قيس بينما صاح أبو الخيزران بصوت عال قبل أن يغلق الباب:

    - البس قميصك يا أسعد وإلا شوتك الشمس..

    قال مروان لأبي الخيزران بصوت موهن:

    - قل له أن يترك باب الفرن مفتوحا عله يبترد.

    صاح أبو الخيزران جذلا :

    - واترك باب الخزان مفتوحاً..

    هدر المحرك ومضت السيارة الكبيرة ترسم في الصحراء خطاً من الضباب، يتعالى، ثم يذوب في القيظ..

    الشمس والظل


    شق العالم الصغير الموهن طريقه في الصحراء مثل قطرة زيت ثقيلة فوق صفيحة قصدير متوهجة.. كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرة متوهجة براقة، ولم يعد أحد منهم يهتم بتجفيف عرقه .. فرش أسعد قميصه فوق رأسه وطوى ساقيه إلى فخذيه وترك للشمس أن تشويه بلا مقاومة.. أما مروان فقد اتكأ برأسه على كتف أبي قيس وأغمض عينيه.. وكان أبو قيس كدق إلى الطريق مطبقاً شفتيه بإحكام تحت شاربه الرمادي الكث.

    لم يكن أي واحد من الأربعة يرغب في مزيد من الحديث.. ليس لأن التعب قد أنهكهم فقط بل لأن كل واحد منهم غاص في أفكاره عميقاً عميقاً.. كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وأمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم.. كما لو أنها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول.. وكانت العيون كلها معلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية.

    سوف يكون بوسعنا أن نعلم قيساً وأن نشتري عرق زيتون أو عرقين، وربما نبني غرفة نسكنها وتكون لنا، أنا رجل عجوز قد أصل وقد لا أصل.. أو تحسب إذن أن حياتك هنا أفضل كثيراً من موتك؟ لماذا لا تحاول مثلنا؟ لماذا لا تنهض من فوق تلك الوسادة وتضرب في بلاد الله بحثاً عن الخبز؟ هل ستبقي كل عمرك تأكل من طحين الإعاشة الذي تهرق من أجل كيلو واحد منه كل كرامتك على أعتاب الموظفين؟

    وتمضي السيارة فوق الأرض الملتهبة ويدوي محركها بلا هوادة..

    شفيقة إمرأة بريئة.. كانت صبية يافعة حين طوحت قنبلة مورتر بساقها فبترها الأطباء من أعلى الفخذ.. وأمه لا تحب أن يحكي إنسان عن أبيه. زكريا راح.. هناك، في الكويت، ستتعلم كل شيء. ستعرف كل شيء.. أنت ما زلت فتى لا تفهم من الحياة إلا قدر ما يفهم الطفل الرضيع من بيت ! المدرسة لا تعلم شيئاً. لا تعلم سوى الكسل فاتركها وغص في المقلاة مثلما فعل سائر البشر

    السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويدوي محركها بهدير شيطاني..

    ربما كانت قنبلة مزروعة في الأرض تلك التي داس عليها فيما كان يركض، أو

    ربما قذفها، أمامه، رجل كان مختبئاً في خندق قريب، كل ذلك لا يهم الآن.

    ساقاه معلقتان إلى فوق وكتفاه ما زالتا فوق السرير الأبيض المريح والألم الرهيب يتلولب بين فخديه.. كانت، ثمة، امرأة تساعد الأطباء. كلما يتذكر ذلك يعبق وجهه بالخجل.. ثم ماذا نفعتك الوطنية ؟ لقد صرفت حياتك مغامراً ، وها أنت ذا أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة ! وما الذي أفدته ؟ ليكسر الفخار بعضه. أنا لست أريد الآن إلا مزيداً من النقود.. مزيداً من النقود. السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة.. ويدوي محركها بالهدير.

    دفعه الشرطي أمام الضابط فقال له: تحسب نفسك بطلا وأنت على أكتاف البغال تتظاهرون في الطريق ! بصق على وجهه ولكنه لم يتحرك فيما أخذت البصقة تسيل ببطء نازلة من جبينه، لزجة كريهة تتكوم على قمة أنفه.. أخرجوه، وحينما كان في الممر سمع الشرطي القابض على ذراعه بعنف يقول بصوت خفيض: " يلعن أبو هالبدلة ".. ثم أطلقه فمضى يركض. عمه يريد أن يزوجه ابنته ولذلك يريده أن يبدأ.. لولا ذلك لما حصل الخمسين ديناراً كل حياته.

    السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويهدر محركها مثل فم جبار يزدرد الطريق...

    الشمس في وسط السماء ترسم فوق الصحراء قبة عريضة من لهب أبيض،

    وشريط الغبار يعكس وهجاً يكاد يعمي العيون.. كانوا يقولون لهم إن فلاناً لم يعد من الكويت، لأنه مات، قتلته ضربة شمس، كان يغرس معوله في الأرض حين سقط فوقه وفوقها، وماذا،؟ ضربة شمس قتلته، تريدون أن تدفنوه هنا أو هناك؟ هذا كل شيء، ضربة شمس ! هذا صحيح، من الذي سماها ضربة؟ ألم يكن عبقريا ؟ كأن هذا الخلاء عملاق خفي يجلد رؤوسهم بسياط من نار وقار مغلي. ولكن أيمكن للشمس أن تقتلهم وتقتل كل الزخم المطوي في صدورهم ؟ كأن الأفكار كانت تسيل من رأس إلى رأس وتخفض بهواجس واحدة، لقد التقت العيون فجأة : نظر أبو الخيزران إلى مروان ثم إلى أبي قيس فوجده يحدق به، حاول أن يبتسم ولكنه لم يستطع فمسح عرق جبينه بكمه وقاله بصوت خفيض:

    - هذه جهنم التي سمعت عنها.

    - جهنم الله؟

    - نعم.

    - مد أبو الخيزران يده فأطفأ المحرك، ثم نزل ببطء فتبعه مروان وأبو قيس بينما بقي أسعد معلقاً فوق.

    جلس أبو الخيزران في ظل السيارة وأشعل لفاقه ثم قال بصوت خفيض:

    - لنسترح قليلاً قبل أن نبدأ التمثيلية مرة أخرى.

    قاله أبو قيس :

    - لماذا لم تتحرك بنا مساء أمس فتوفر علينا برودة الليل كل هذه المشقة؟

    قال أبو الخيزران دون أن يرفع بصره عن الأرض:

    - الطريق بين صفوان والمطلاع تمتلئ بالدوريات في الليل.. في النهار لا يمكن لأية دورية أن تغامر بالاستطلاع في مثل هذا القيظ..

    قال مروان:

    - إذا كانت سيارتك معصومة عن التفتيش.. فلماذا لا نبقي خارج ذلك السجن

    الرهيب؟

    قال أبو الخيزران بحدة :

    - لا تكن سخيفاً .. هل أنت خائف إلى هذا الحد من البقاء خمس أو ست دقائق في الداخل ؟ لقد اجتزنا أكثر من نصف الطريق ولم يبق إلا الأسهل..

    نهض أبو الخيزران واقفاً ثم اتجه، إلى المطارة المعلقة خارج الباب وفتحها:

    - سوف أقيم لكم حفلة غداء رائعة حين نصل.. سأذبح دجاجتين..

    رفع المطارة وصب في فمه الماء فبدأ يسيل من ركنيه مزرزبا إلى ذقنه ثم إلى قميصه المبتل ، وحين ارتوى صب ما تبقي في المطارة فوق رأسه وترك الماء يسيل على عنقه وصدره وجبينه وبدا شكله عجيباً. علق المطارة من جديد خارج الباب وفرش كفيه الكبيرتين وصاح:

    - هيا بنا.. لقد تعلمتم الصنعة جيدا.. كم الساعة الآن ؟ إنها الحادية عشرة والنصف.. احسبوا.. سبع دقائق على الأكثر وأفتح لهم الباب.، تذكروا ذلك جيدا .. الحادية عشرة والنصف..

    نظر مروان إلى ساعته وهز رأسه ، لقد حاول أن يقول شيئاً إلا أنه لم يستطع، فمشى خطوات قليلة إلى السلم الحديدي وبدأ يتسلقه.

    طوى أسعد قميصه وغاص في الفوهة.. تردد مروان قليلا ثم تبعه متكئاً ببطنه فوق الحافة منزلقاً ببراعة وقسوة بينما هز أبو قيس رأسه وقال :

    - سبع دقائق؟

    ربت أبو الخيزران على كتف أبي قيس ونظر مباشرة في عينيه ، كانا واقفين هناك معاً يتصببان عرفاً، ولكنهما لم يستطيعا الكلام.

    تسلق أبو قيس السلم بثبات ثم أسقط ساقيه داخل الفوهة فأعانه الشابان على النزول.

    أغلق أبو الخيزران الباب ودور الذراع المضلعة دورتين ثم قفز إلى الأرض متعجلا وانطلق إلى مقعده.

    بعد دقيقة ونصف فقط اجتاز أبو الخيزران بسيارته الباب الكبير المفتوح في الأسلاك الشائكة المشدودة حول مركز المطلاع وأوقف سيارته أمام السلم . العريض الذي يرقى إلى البناء المقرمد ذي الطابق الواحد، والذي تمتد على جانبيه غرف صغيرة ذات شبابيك واطئة مغلقة، بينما تقوم بضعة عربات لبيع المأكولات قبالته، وكانت أصوات مكيفات الهواء تملأ الساحة بالضجيج.

    لم يكن ثمة، غير سيارة أو سيارتين واقفتين في طرف الساحة الكبيرة بالانتظار، كان الصمت مطبقا بكثافة إلا من أصوات هدير مكيفات الهواء المثبتة على كل الشبابيك المطلة على الساحة، ولم يكن هناك سوى جندي واحد واقف في كوخ خشبي صغير يقع إلى جانب الدرج العريض.

    ارتقى أبو الخيزران الدرج مسرعاً واتجه إلى الغرفة الثالثة إلى اليمين، وفور أن فتح الباب ودخل أحس، نتيجة للنظرات التي انصبت عليه من قبل الموظفين، أن شيئاً ما سوف يحدث، إلا أنه لم يتباطأ ودفع أوراقه أمام الموظف السمين الذي كان يجلس في صدر الغرفة.

    - ها ! أبو خيزرانة !

    قال الموظف وهو ينحي الأوراق من أمامه بلا مبالاة متعمدة ويكتف ذراعيه فوق الطاولة الحديدية..

    - أين كنت كل هذا الوقت؟

    قال أبو الخيزران لاهثاً :

    - في البصرة.

    - سأل عنك الحاج رضا أكثر من ست مرات.

    - كانت السيارة معطلة.

    ضج الموظفون الثلاثة الذين يشغلون الغرفة ضاحكين بصخب فالتفت أبو الخيزران حواليه حائراً ثم ثبت نظره على وجه الرجل السمين :

    - ما الذي يضحككم في هذا الصباح ؟

    تبادل الموظفون النظر ثم انفجروا ضاحكين من جديد.. قال أبو الخيزران متوتراً وهو ينقل قدماً ويضعها مكان الأخرى :

    - والآن يا أبو باقر .. لا وقت لدي للمزاح.. أرجوك . مديده فقرب الأوراق إلى أمامه، إلا أن أبا باقر عاد فنحى الأوراق إلى طرف الطاولة وكتف ذراعيه من جديد وهو يبتسم ابتسامة خبيثة:

    - سأل عنك الحاج رضا ست مرات..

    - قلت لك: كانت السيارة معطلة.. ثم إنني والحج رضا نستطيع أن نتفاهم حين نلتقي.. وقع الأوراق رجاء، إنني على عجل..

    قرب الأوراق من جديد إلا أن أبا باقر نحاها مرة أخرى.

    - كانت سيارتك معطلة؟

    - نعم ..أرجوك إني مستعجل.

    نظر الموظفون الثلاثة إلى بعضهم وضحكوا بخبث - ولكن بصوت خفيض - كانت طاولة أحدهم فارغة تماماً إلا من كأس شاي زجاجي صغير، وكان الآخر قد كف عن عمله وأخذ يتابع ما يحدث.

    قال الرجل السمين المسمى أبو باقر وهو يتجشأ:

    - والآن.. كن عاقلا يا أبو خيزرانة.. لماذا تتعجل السفر في مثل هذا الطقس الرهيب ؟ الغرفة هنا باردة وسوف أطلب لك استكانة شاي.. فتمتع بالنعم !

    حمل أبو الخيزران الأوراق ثم تناول القلم من أمام أبي باقر ودار حول الطاولة حتى صار إلى جانبه فانحنى ودفع له القلم وهو يدفع، بذراعه، كتف أبي باقر:

    - في طريق عودتي سأجلس عندك ساعة، ولكن الآن دعني أمشي كرامة لباقر وأم باقر.. خذ.

    إلا أن أبا باكر لم يمد يده وبقي يحدق إليه بعينين بلهاوين وهو على وشك أن ينفجر بالضحك.

    - آه يا ملعون يا أبا خيزرانة ! لماذا لا تتذكر أنك على عجلة حين تكون في البصرة ؟ ها ؟

    - قلت لك أن السيارة كانت في الكاراج :

    دفع له القلم مرة أخرى إلا أن أبا باقر لم يتحرك :

    - لا تكذب يا أبو خيزرانة.. لا تكذب.. الحج رضا حكى لنا القصة من الألف للياء..

    - أية قصة؟

    نظر الجميع إلى بعضهم فيما انقلب وجه أبي الخيزران الهزيل فصار مبيضاً من فرط الرعب وأخذ القلم يرتجف في يده.

    قصة تلك الراقصة.. ما اسمها يا علي؟

    أجاب على من وراء الطاولة الفارغة:

    كوكب.

    ضرب أبو باقر طاولته بيده واتسعت ابتسامته:

    كوكب ! كوكب ! يا أبا خيزرانة يا ملعون.. لماذا لا تحكي لنا قصصك في البصرة ؟ تمثل أمامنا أنك رجل مهذب، ثم تمضي إلى البصرة فتمارس الشرور السبعة مع تلك الراقصة.. كوكب.. آه.. كوكب هذا هو الاسم.

    طاح أبو الخيزران محاولا أن لا يتجاوز حد المزاح.

    أي كوكب وأي بطيخ ! دعني أمضى قبل أن يطردني الحج..

    قال أبو باقر:

    - لا يمكن ! حدثنا عن تلك الراقصة.. الحج يعرف قصتك كلها وقد رواها لنا.. هيا.

    - إذا رواها الحج لكم.. فلماذا تريدونني أن أرويها مرة أخرى .

    وقف أبو باقر وصاح كالثور:

    - إذن.. إنها قصة حقيقية !.. قصة حقيقية !

    دار حول الطاولة حتى صار في منتصف الغرفة. كانت القصة الفاجرة قد هيجته.

    لقد فكر بها ليل نهار، ركب فوقها كل المجون الذي خلقه حرمانه الطويل الممض، كانت فكرة أن صديقاً له قد ضاجع عاهرة ما، فكرة مهيجة تستحق كل تلك الأحلام:

    - تذهب إلى البصرة وتدعي أن السيارة قد تعطلت.. ثم تمضي

    مع كوكب أسعد ليالى العمر! يا سلام يا أبو خيزرانة.. يا سلام يا ملعون..

    ولكن قل لنا كيف أحبتك؟ الحج رضا يقول أنها من فرط حبها لك تصرف نقودها عليك وتعطيك شيكات.. آه يا أبو خيزرانة يا ملعون !

    اقترب منه، كان وجهه محمرا وكان من الواضح أنه أمضى وقتاً طيباً وهو يتفكر في القصة كما رواها الحاج رضا له على الهاتف.. انحنى فوق أذنه وهمس بصوت مبحوح:

    أتراها فحولتك؟ أم قلة الرجال؟

    ضحك أبو الخيزران ضحكة هستيرية ودفع الأوراق إلى صدر أبي باقر الذي تناول القلم دون وعي وأخذ يوقعها وهو يرتج بالضحك المكبوت، ولكن حين مد أبو الحيزران يده ليتناولها خبأها أبو باقر وراء ظهره ومد ذراعه الأخرى بينه وبين أبي الخيزران.

    في المرة القادمة سأذهب معك إلى البصرة.. أتوافق؟ تعرفني على كوكب هذه.. الحج رضا يقول إنها جميلة حقاً.

    قال أبو الخيزران راجفاً وهو يمد ذراعه محاولاً أن يصل إلى الأوراق:

    - موافق..

    - بشرفك؟

    - بشرفي..

    ضج أبو باقر بالضحك من جديد وأخذ يهز برأسه المدور وهو يعود إلى مكتبه بينما اندفع أبو الخيزران بأوراقه إلى الخارج وصوت أبي باقر يلاحقه:

    - يا ملعون يا أبا خيزرانه ! خدعنا أكثر من سنتين، وانكشف الآن.. آه يا ملعون يا أبا خيزرانه.

    اقتحم أبو الخيزران الغرفة الأخرى وهو يحدق إلى ساعته، كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا ربعاً.. توقيع الأوراق الأخرى لم يستغرق أكثر من دقيقة.. وحين صفق وراءه الباب لسعه القيظ من جديد ولكنه لم يهتم بالأمر وقفز الدرج العريض مثنى مثنى حتى صار أمام سيارته، حدق إلى الخزان لحظة وخيل إليه أن حديده على وشك أن ينصهر تحت تلك الشمس الرهيبة، استجاب المحرك لأول ضغطة، وطوى الباب في لحظة دون أن يلوح للحارس.. الطريق الآن معبدة تماماً وأمامه دقيقة أو دقيقة ونصف ليتجاوز أول منعطف يحجبه عن مركز المطلاع، لقد اضطر إلى تخفيف السرعة قليلا حين التقى سيارة شحن كبيرة، ثم عاد فأطلق لسيارته كل العنان الممكن وحين وصل إلى المنعطف صفرت العجلات صفيراً متواصلا كأنه النواح وكادت أن تمس الرصيف الرملي وهي تقوم بدورتها الشيطانية الواسعة.. لم يكن في رأسه أي شيء سوى الرعب وخيل إليه أنه على وشك أن يقع فوق مقودة مغمياً عليه.. كان المقود ساخناً وكان يحسه يحرق كفيه الخشنتين ولكنه لم يخفف من تمسكه به، كان المقعد الجلدي يلتهب تحته وكان زجاج الواجهة مغبراً يتوهج ببريق الشمس.

    أزيز عريض ترسله العجلات كأنها تسلخ الإسفلت سلخاً من تحتها، أكان من الضروري أن تتفلسف يا أبا باقر؟ أكان من الضروري أن تقيء كل قاذوراتك على وجهي وعلى وجوههم؟ يا لعنة الإله العلى القدير عليك، يا لعنة الإله تنصب عليك يا أبا باقر! وعليك يا حاج رضا يا كذاب ! راقصة؟ كوكب؟ يا لعنة الله عليكم كلكم..

    أوقف السيارة بعنف وتسلق فوق العجل إلى سطح الخزان.. وحين لامست كفاه السطح الحديدي أحس بهما تحترقان ولم يستطع أن يبقيهما هناك فسحبهما واتكأ بكميه - عند الكوعين - فوق حديد السطح ثم زحف إلى القفل المضلع، وأمسكه بطرف قميصه الأزرق ودوره فانفتح مقرقعاً واستوى القرص الحديدي الصدىء مستقيماً فوق مفصله.


    حين ترك القرص لمح عقارب الساعة الملتفة على زنده: كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا تسع دقائق. وكان زجاجها المدور قد تشقق - شقوقاً مضلعة صغيرة. الفوهة المفتوحة بقيت تخفق بالفراغ لحظة، كان وجه أبي الخيزران مشدوداً إليها متشنجاً وشفته السفلى ترتجف باللهاث والرعب، سقطت نقطة عرق عن جبينه إلى سطح الخزان الحديدي وما لبثت أن جفت.. وضع كفيه على ركبتيه وقوس ظهره المبتل حتى صار وجهه فوق الفوهة السوداء وصاح بصوت خشبي يابس:

    - أسعد !


    دوى الصدى داخل الخزان فكاد أن يثقب أذنيه وهو يرتد إليه، وقبل أن تتلاشى دوامة الهدير التي خلقها نداؤه الأول صاح مرة أخرى:

    - يا هوه..

    وضع كفين صلبتين فوق حافة الفوهة واعتمد على ذراعيه القويتين ثم انزلق إلى داخل الخزان.. كان الظلام شديداً في الداخل حتى إنه لم يستطع أن يرى شيئاً بادئ الأمر، وحين نحى جسده بعيداً عن الفوهة سقطت دائرة ضوء صفراء إلى القاع وأضاءت صدرا يملؤه شعر رمادي كث أخذ يلتمع متوهجاً كأنه مطلي بالقصدير.. انحنى أبو الخيزران ووضع أذنه فوق الشعر الرمادي المبتل : كان الجسد بارداً وصامتاً. مد يده وتحسس طريقه إلى ركن الخزان، كان الجسد الآخر ما زال متمسكاً بالعارضة الحديدية. حاول أن يهتدي إلى الرأس فلم يستطع أن يتحسس إلا الكتفين المبتلين ثم تبين الرأس منحدراً إلى الصدر، وحين لامست كفه الوجه سقطت في فم مفتوح على وسعه.

    أحس أبو الخيزران أنه على وشك أن يختنق، كان جسده قد بدأ ينزف عرقاً بشكل مريع حتى بات يشعر أنه مدهون بالزيت الثقيل ولم يدر، أهو يرتجف بسبب إطباق هذا الزيت على صدره وظهره، أم بسبب الرعب؟ تحسس طريقه منحنياً إلى الفوهة وحين أخرج رأسه منها لم يدر لماذا سقطت في ذهنه صورة وجه مروان دون أن تبرح. لقد أحس بالوجه يلبسه من الداخل مثل صورة ترتجف على حائط فأخذ يهز رأسه بعنف وهو ينسل من الفوهة فتحرق رأسه شمس لا ترحم.. وقف هنيهة يتنشق هواء جديداً، لم يكن ليستطيع أن يفكر بأي شيء، كان وجه مروان يطغي في رأسه مثل نبعة انبثقت هادرة من الأرض شامخة إلى علو رهيب.. وحين وصل إلى كرسيه تذكر أبا قيس، كان قميصه ما زال موضوعاً على المقعد إلى جانبه فتناوله بأصابعه وقذف به بعيداً.. ودور محرك سيارته فبدأ يهدر من جديد، ومضت السيارة تدرج فوق المنحدر ببطء وجبروت.

    التفت وراءه، عبر النافذة المشبكة الصغيرة، فشاهد القرص الحديدي مفتوحا مستويا فوق مفصله يأكل باطنه الصدأ.. وفجأة غاب القرص الحديدي وراء نقاط من الماء المالح ملأت عينيه. كان الصداع يتآكله وكان يحس بالدوار إلى حد لم يعرف فيه.. هل كانت هذه النقاط المالحة دموعاً ؟ أم عرقاً نزفه جبينه الملتهب؟

    القبر


    قاد أبو الخيزران سيارته الكبيرة حين هبط الليل متجهاً إلى خارج المدينة النائمة.. كانت الأضواء الشاحبة ترتعش على طول الطريق، وكان يعرف أن هذه الأعمدة التي تنسحب أمام شباك سيارته سوف تنتهي بعد قليل حينما يغرق في البعد عن المدينة.. وسوف يعم الظلام.. فالليلة لا قمر فيها، وأطراف الصحراء ستكون صامتة كالموت.

    انحرف بسيارته عن الطريق الأسفلت ومضى يتدرج في طريق رملي إلى داخل الصحراء. لقد قر قراره منذ الظهيرة على أن يدفنهم، واحداً واحداً، في ثلاثة قبور... أما الآن فإنه يحس بالتعب يتآكله فكأن ذراعيه قد حقنتا بمخدر.. لا طاقة له على العمل.. ولن يكون بوسعه أن يحمل الرضا ساعات طويلة ليحضر ثلاثة قبور.. قبل أن يتجه إلى سيارته ويخرجها من كاراج الحاج رضا. قال في ذات نفسه أنه لن يدفنهم، بل سيلقي بالأجساد الثلاتة في الصحراء ويكر عائداً إلى بيته.. الآن، لم تعجبه الفكرة، لا يروقه أن تذوب أجساد الرفاق في الصحراء ثم تكون نهباً للجوارح والحيوانات.. ثم لا يبقي منها بعد أيام إلا هياكل بيضاء ملقاة فوق الرمل.

    درجت السيارة بصوت هزيل فوق الطريق الرملي، ومضى هو يفكر.. لم يكن يفكر بالمعنى الصحيح، كانت أشرطة من مشاهد مقطعة تمر في جبينه بلا أي توقف أو ترابط أو تفسير.. وكان يشعر بإرهاق مر يتسرب في عظامه كقوافل مستقيمة من النمل.

    هبت نسمة ريح فحملت إلى أنفه رائحة نتنة.. قال في ذات نفسه :"هنا تكوم البلدية القمامة " ثم فكر: " لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصباح،

    ولدفنت بإشراف الحكومة " دور مقود سيارته وتتبع آثار عجلات عديدة حفرت طريقها قبله في الرمل ثم أطفأ فانوسي سيارته الكبيرين وسار متمهلاً على ضوء الفانوسين الصغيرين، وحين لاحت أمامه أكوام القمامة سوداء عالية أطفأ الفانوسين الصغيرين.. كانت الرائحة النتنة قد ملأت الجو حواليه ولكنه ما لبث أن اعتادها.. ثم أوقف سيارته وهبط.

    وقف أبو الخيزران إلى جانب سيارته لحيظات ليتأكد من أن أحداً لا يشاهده ثم صعد ظهر الخزان: كان بارداً رطباً.. دور القفل المضلع ببطء، ثم شد القرص الحديدي إلى فوق فقرقع بصوت متقطع.. اعتمد ذراعيه وانزلق إلى الداخل بخفة.. كانت الجثة الأولى باردة صلبة، ألقى بها فوق كتفيه، أخرج الرأس أولاً من الفوهة ثم رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فوق وسمح صوتها الكثيف يتدحرج فوق حافة الخزان ثم صوت ارتطامها المخنوق على الرمل، لقد لاقى صعوبة جمة في فك يدي الجثة الأخرى عن العارضة الحديدية، ثم سحبها من رجليها إلى الفوهة وقذفها من فوق كتفيه.. مستقيمة متشجنة وسمع صوت ارتطامها بالأرض.. أما الجثة الثالثة فقد كانت أسهل من أختيها..

    قفز إلى الخارج وأغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفاً مطبقاً وأحس بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه ، جر الجثث - واحدة واحدة - من أقدامها وألقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها كي تتيسر فرصة رؤيتها لأول سائق قادم في الصباح الباكر.

    صعد إلى مقعده ودور المحرك ثم كر عائدا إلى الوراء ببطء محاولاً قدر الإمكان أن يخلط آثار عجلات سيارته بالآثار الأخرى، كان قد اعتزم أن يعود إلى الشارع الرئيسي بذلك الشكل الخلفي حتى يشوش الأثر تماماً.. ولكنه ما لبث أن تنبه إلى أمر ما بعد أن قطع شوطاً فأطفاً محرك سيارته من جديد ثم وعاد يسير إلى حيث ترك الجثث فأخرج النقود من جيوبها؟ وانتزع ساعة مروان وعاد أدراجه إلى السيارة ماشياً على حافتي حذائه.

    حين وصل إلى باب السيارة ورفع ساقاً إلى فوق تفجرت فكرة مفاجئة في رأسه.. بقي واقفاً متشنجاً في مكانه محاولاً أن يفعل شيئاً، أو يقول شيئاً.. فكر أن يصيح إلا أنه ما لبث أن أحس بغباء الفكرة، حاول أن يكمل صعوده إلى السيارة إلا أنه. لم يشعر بالقوة الكافية ليفعل.. لقد شعر بأن رأسه على وشك أن تنفجر، وصعد كل التعب الذي كان يحسه فجأة، إلى رأسه وأخذ يطن فيه حتى أنه احتواه بين كفيه وبدأ يشد شعره ليزيح الفكرة.. ولكنها كانت ما تزال هناك.. كبيرة داوية ضخمة لا تتزعزع ولا تتوارى ، التفت إلى الوراء حيث ألقى بالجثث، إلا أنه لم ير شيئاً، ولم تجد النظرة تلك إلا بأن أوقدت الفكرة ضراماً فبدأت تشتعل في رأسه.. وفجأة لم يعد بوسعه أن يكبحها داخل رأسه أكثر فأسقط يديه إلى جنبيه وحدق في العتمة وسع حدقتيه.


    انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:

    - " لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟... "

    دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:

    - لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:

    - لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟


    انتهت
                  

11-01-2005, 01:42 AM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    up
                  

11-02-2005, 02:04 AM

الريح كودى
<aالريح كودى
تاريخ التسجيل: 09-10-2005
مجموع المشاركات: 641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: rani)

    العزيز ود السمانى
    سلامات
    كل سنه وانت وهم طيبين

    لك الحب والاحترام
    كودى
                  

11-01-2005, 05:37 AM

Mohammed Elhaj
<aMohammed Elhaj
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1670

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    تحايا الريح كودي
    و كل سنة و انت طيب
    "رجال تحت الشمس"
    غسان طنفاني
    منذ أعوام
    كنت أقرأها في الغابة
    مختبأ من صاحبتها
    أذكر انها كانت ضمن
    مجموعة من القصص الأخرى
    لا أذكر عنوانها

    أما النهايات فلم أقرأها
    و يبدو أنها ستدخل ضمن برنامجي
    للأيام القادمات

    بالمناسبة من أين أتيت بهذه النصوص الطويلة
    لن يكفي أن يشكرك كل من يدخل هنا لمدة طويلة
    إذا كنت قد قمت بطباعتها

    كان لي مسعى لنقل أولاد حارتنا الى هنا
    و واجهتني بعض الصعوبات،،،
    يمكن التنسيق بهذا الصدد ،، فهي موجودة علي الانترنت اساساً
    تحياتي،،

    بالمناسبة تعجبني دماثة مشاركاتك و ابتعادك عن المهاترات
    ودي
                  

11-02-2005, 01:59 AM

الريح كودى
<aالريح كودى
تاريخ التسجيل: 09-10-2005
مجموع المشاركات: 641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: Mohammed Elhaj)

    عزيزى Mohammed Elhaj
    سلامات
    كل سنه وانت بخير وعافية
    عيد سعيد ربنا يحقق الامانى القديمة والجديدة

    لك الشكر على المرور والاضافى اللذيذة
    Quote: بالمناسبة من أين أتيت بهذه النصوص الطويلة
    لن يكفي أن يشكرك كل من يدخل هنا لمدة طويلة
    إذا كنت قد قمت بطباعتها


    لم اقم بطباعتها وياريت كلن لدى وقت كنت
    لدى الكثيرة من الكتب الجميلة والرويات
    كم كنت اتمنى ان يشاركنى الكثير هنا فى قراتها والاستفادة والاستمتاع بها
    وهنا الموقع سوف تجد فيه كثير من لاشيا الجميلة
    http://www.art4freedom.com/home/modules.php?name=Content&pa=showpage&pid=63
    حاول راسلنى على هذا الميل فلدى الكثير الذى يمكننا مقاسمته
    [email protected]
    Quote: كان لي مسعى لنقل أولاد حارتنا الى هنا
    و واجهتني بعض الصعوبات،،،
    يمكن التنسيق بهذا الصدد ،، فهي موجودة علي الانترنت اساساً
    تحياتي،،

    اكيد من الممكن ان نقوم بهذا العمل سويا فرواية الكاتب الفلته نجيب محفوظ تستحق ان يقراها الجميع
    لك الشكر على هذا المبادة الجميل

    Quote: بالمناسبة تعجبني دماثة مشاركاتك و ابتعادك عن المهاترات

    لك الشكر على هذا .. بينى وبينك انا ما بحب المشاكل
    لنختلف انا وانت وهم .. وليبقى الاحترام

    هامش : تراودنى فكرة (ليها زمن)
    وهى بوست بعنوان كتاب الاسبوع (رواية-ديوان شعر...الخ)
    يتناقش حوله المهتمين (رايك شنو تشاركنى ونعمل كده كل اسبوع)
    اذا راقت لك الفكرة يمكننا ان ننسق عن طريق الميل)

    لك ودى بلا حدود او قيود
    الريح كودى
                  

11-02-2005, 04:20 AM

Mohamed Adam
<aMohamed Adam
تاريخ التسجيل: 01-21-2004
مجموع المشاركات: 5195

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    لكل المتداخلين بهذا البوست:
    كل عــام وأنتم بخيًر.
    نتمني لكم العفو والعـــافيًه.
                  

11-02-2005, 04:38 AM

ABDELAZIZ MAHADY
<aABDELAZIZ MAHADY
تاريخ التسجيل: 07-13-2005
مجموع المشاركات: 549

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: Mohamed Adam)

    يا ليت كل من تتوفر له نصوص لكتاب عظماء مثل عبدالرحمن منيف أن يجود علينا بها .. فنحن نقاسي أزمة الكتاب و (أزمة سعر الكتاب) فنصوص مثل هذه توفر الكثير ...
    وحبذا لو أن في البورد من يملك نصوص ( لواسيني لاعرج - رشيد بوجدرة)
    وعيد سعيد للجميع
                  

11-02-2005, 05:34 AM

Mohamed Adam
<aMohamed Adam
تاريخ التسجيل: 01-21-2004
مجموع المشاركات: 5195

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    عبدالعزيز مهدي.
    الماده أدناها مهداه لك وإعتبرها عيًديًه مني.
    هذا رابطها:
    http://www.alsakher.com/vb2/showthread.php?t=79716
    Quote: عبد الرحمن منيف قراءة الواقع عبر مرآة التاريخ
    "عندما بدأت كلماته تحفر أخاديداً في الوجدان العربي؛ غاب المنيف عبد الرحمن. انسالت معاناته الإنسانية والعربية أعمالاً رائعة رسمت صورة شخص أرادته الأقدار أن يجمع في هويته عراقة النجديين وشآمة العراقيين، حيث أنه كان نجدي الأب عراقي الأم، ولم يكتف بذلك، بل هو جمع بين حناياه واستمهل في ذاكرته أيام قضاها في عمّان بين جدران مدارسها ومقاعد صفوفها. لترسو به مركبة الحياة على شاطئ الأمان في دمشق العتيقة التي حضنته مشفقة على غربة زادت في آلام وعذابات نأيه عن الوطن، فجعلت دمشق نفسها موطناً له، فجاد هناك في استرسالاته الأدبية الروائية معبراً عن تجارب شتى، سياسية اجتماعية، فكرية، عاطفية، إنسانية أعطت تلك التجارب ببعدها الفلسفي الذي ران على أعمال عبد الرحمن منيف سمة أدبية رائعة الأبعاد والمنحنيات.
    فها هو يكتب "قصة حب مجوسية" والمنيف عندما يكتب قصة حب فإن للحب عنده مدائنه وللقصة خيالاتها.. وأية قصة حب.. عشق ووله فاق الحسابات.. واجتاز المعشوق بوجه حبيبته؛ الآفاق والأمكنة، وحتى نفسه، ففي وجه الحبيبة ألق، وفي عيونها أرق.. وفي سمات وجهها عذاب انغرس بعيداً في أعماقه حتى غدا هو قطعة منها. أهو الحب العاثر فوق النصوص يحكيه عبد الرحمن منيف قصته تلك.. أم هو لغز حلم الإنسان وفلسفته في هذه الحياة.
    وكما في قصص الحب برع المنيف في تصوير الواقع العربي في مرحلته النفطية، مصوراً قضاياه ومشاكله الاجتماعية في خماسيته مدن الملح التي أتت لتؤرخ ولتروي ولتصور وتسطر، في شبه أسطورة تلك المدائن التي انزاحت في عالم الصحراء لتضحي عالماً آخر تنبعث فيه ومنه رائحة النفط التي تخدر أحلام ساكنيه وتنقلهم نقلات متسارعة يتخبطون عبرها بين الوهم والحقيقة. في عمله ذاك اجتاز عبد الرحمن المنيف أدبيات الرواية إلى أدبيات الأسطورة التي قلّ من أبدع فيها، ولعله الوحيد في عصرنا هذا الذي أخذ عمله فيها هذا المنحى.
    وإلى هناك ننتقل إلى "النهايات" عمل روائي من أعمال المنيف. ففي هذه النهايات تتحرك الأحداث ضمن خطوط تتوازى فيها الوقائع والرموز، واقع العودة إلى الجذور.. ورمز الحياة والموت. ومن واقع المأساة العراقية كان له عمل سطّر من خلاله تاريخ العراق ضمن بعدين اجتماعي وفلسفي. ولم تنأ السياسة عن أعمال عبد الرحمن المنيف، وكيف لا وقد كانت في صميم حياته، وأضحت جزءاً بل كل معاناته وسبباً من أسباب غربته، كتب عن الديموقراطية فأبدع، لأن كتابته عنها كانت ليست كغيرها، إنها كتابة جمعت في سطورها عطاءات سياسي، أديب مفكر، فيلسوف، وإلى ذلك كله عطاءات إنسان شحنته الحياة السياسية والإنسانية بفكر خلاق أبدع أدباً سياسياً متميزاً.
    وماذا عن "شرق المتوسط"!!! إنها عمل روائي حمل رسالة أرادها عبد الرحمن منيف صغيرة، لأمنية كبيرة في أن يكون على الأرض العربية شعب حر. هل هذا يكفي لمعرفة معاناة عبد الرحمن منيف؟!! ربما إلى حد ما، ولكن الذي لا يكفي تلك المساحة الصغيرة التي يمكن أن تعطى للحديث عن روائع عبد الرحمن المنيف الأدبية... ذاك الغريب عن دياره، الذي حول بين جنباته شجناً... وفي نفسه أملاً... وفي خياله حلماً... وفي فكره إبداعات.. ضنت الأقدار علينا بالاستمتاع بما سيتفجر منها في الآتي من الأيام.. فغيبت صاحبها.. لتنطلق روحه المعذبة من اسارها، ويحتضن جسده التراب.
    --------------------------------------------------------------------------------
    أرض السواد
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    رواية عبد الرحمن منيف الجديدة . رواية واحدة في ثلاثة أجزاء. داوود باشا آخر الولاة المماليك للعراق، راوده حلم محمد علي بالاستقلال بدولة قوية، فقرر مواجهة القنصل الانكليزي الذي كانت لمكائده الكلمة الفصل في تنصيب وعزل الولاة. ضمن هذا الجو يرسم عبد الرحمن منيف صورة مفصلة للشخصية العراقية، حياتها اليومية، هويتها، حزنها وفرحها. إنها رواية العراق بأشخاصه الذين يخصونه ويرسمون صورته....
    --------------------------------------------------------------------------------
    الآن... هنا
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    "الآن... هنا" أوراقاً سطر أحداثها الخارج من الموت وأرادها أن تكون شهادة صادقة ومحايدة قدر الإمكان، وأن تجعل من يقرأها يزداد قوة ورغبة في تدبير القمع وهدم السجون، والمساهمة في خلق وضع إنساني يمكن أن يعيش فيه الناس دون أن يقتل بعضهم بعضاً، ودون أن يصبح الدم لغة الحوار الوحيدة وهكذا... بين التعرية والتحريض، وبين النمنمة الفنية والوعي التاريخي، بنى عبد الرحمن منيف "الآن... هنا". هي رواية ولكنها كانت ك...
    --------------------------------------------------------------------------------
    الاشجار واغتيال مرزوق

    تأليف: عبد الرحمن منيف
    كانت العبارة صغيرة وواضحة: إشارة إلى معروضكم الخاص بنشر كتاب "كومونة باريس" نشعركم بعدم الموافقة! هل تريدون أن أموت جوعاً، أن أتسلل عبر الحدود وأهرب؟ ماذا تريدون مني بالضبط؟... لا عمل، لا جواز سفر... وحتى كتاب أريد أن أطبعه لا توافقون؟... والكتب التي تتراكم مثل التلال، ونتحدث عن الانحرافات الجنسية، وعن عشيقات نابليون... وعن ... وعن، كلها يسمح بها وكتاب ترجمة العبد الفقير مصور عبد السلام لا يوافقون...

    --------------------------------------------------------------------------------
    الديمقراطية أولاً... الديمقراطية دائماً
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    ما جعلني لا أتردد طويلاً في جمع موضوعات هذا الكتاب ونشرها، أن هذه الموضوعات تشكل هموماً بالنسبة للكثيرين، خاصة بعد الانهيارات والخيبات التي ولدتها حرب الخليج وبداية انهيار الاتحاد السوفياتي، وانعكاس ذلك على وضع المنطقة والعالم، والآثار المحتملة نتيجة ذلك.

    إن أغلب الموضوعات المطروحة خلافية وتحتمل الكثير من الحوار وتبادل الرأي، خاصة وإن القناعات التي كانت سائدة وراسخة في فترات سابقة لم تعد كذل...

    -------------------------------------------------------العراق هوامش من التاريخ
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    إن العراق من البلاد النفطية القليلة التي خاضت معارك كبيرة وهامة مع المستعمر، منذ بداية وصوله ومحاولته السيطرة. فثورة العشرين مثلاً التي انفجرت مع بداية الحكم البريطاني للعراق أكدت، ومنذ البداية، أن هذا البلد لا يمكن أن يحكم حكماً استعمارياً مباشراً، الأمر الذي اضطر الإدارة الاستعمارية إلى البحث عن واجهة وطنية تحكم من ورائها أو من خلالها، ولأن هذه الصيغة المموهة لا بد أن تنكشف بمرور الوقت، فقد عانت...
    --------------------------------------------------------------------------------
    القلق وتمجيد الحياة: كتاب تكريم جبرا إبراهيم جبرا
    تأليف: عبد الرحمن منيف وآخرون
    باقة ورد يحملها الأصدقاء "لجبرا إبراهيم جبرا بمناسبة اقترابه من الخامسة والسبعين، كانت الرغبة أن يتحلق هؤلاء الأصدقاء حوله بهذه المناسبة، ليقولوا له الكلمات الدافئة الصادقة يكنونها له، لكن طبيعة الأوضاع العربية، في ذلك الوقت، جعلت احتفالاً من هذا النوع صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، ولذلك تمت الاستعاضة عن الاحتفال بالكتابة بعضها من وراء الأسلاك الشائكة، وبعضها الآخر من المنافي البعيدة، القريبة، تأكيدا...

    -------------------------------------------------------------------------------
    النهايات
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    عالم النهايات أحداث تتحرك في خطوط تتوازى فيها الوقائع والرموز هي على مستواها الوقائعي تعود بك إلى تجربة أهل الطيبة، انتمائهم إلى الجذور، وذهولهم الدائم ازاء الحب والموت. وهي على مستواها الرمزي تعود بك إلى اكتشاف الإنسان، أينما كان، انتماءه إلى هذه القوى الغامضة في الكون التي تجعل من الحب والموت أعنف وأخصب ما في الطبيعة كلها. والنهايات مرتبة عميقة الأنغام للجنّة التي بقيت حاضرة في أذهان القرية. وال...
    --------------------------------------------------------------------------------
    بين الثقافة والسياسة
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    أمام إخفاقات الماضي والحيرة التي تسم حركة التغيير في الحاضر، تطرح اليوم تساؤلات تزيد من حدتها الوتيرة المتسارعة للتغيرات التي تحصل في العالم. مشاكل كثيرة تطرح أمام المثقفين العرب، بدءاً من النقاش الدائر حول المثقف الاجتماعي والسياسي، وصولاً إلى محاولة تجاوز الإنكسارات الناتجة عن تراجع قوة الحركات الوطنية، وسقوط الاتحاد السوفياتي، وتنصيب الولايات المتحدة الأميركية لنفسها زعيمة للعالم وحامية للنظام...
    --------------------------------------------------------------------------------
    جبر.. موسيقا الألوان
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    إن الرحلة مع ألوان جبر من خلال هذه الصفحات بمقدار ما تولد متعة بصرية، فإنها تطرح أسئلة بالغة الأهمية، لأنها تجعلنا نعيد النظر بالألوان التي حولنا، أو تجعلنا نراها بشكل مختلف عما تعودنا رؤيتها. والفنان الذي يستطيع أن يعود الناس على رؤية الأشياء بطريقة مختلفة عما تعودوا عليه، إذ يجعلهم يرون الألوان جديدة، يكون فناناً أضاف لأبصارنا بصيرة جديدة، وهذا أقصى ما يحلم به فنان. هذا الدفق بالألوان، هذه الخصو...
    --------------------------------------------------------------------------------
    ذاكرة للمستقبل
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    إن الدافع الأساسي وراء معظم ما ورد في هذا الكتاب هو تعزيز دور الذاكرة، بتسليط الأضواء على عدد من الظواهر الأدبية ومبدعيها، كمساهمة في توفير مادة تساعد وضع سياق، ومن ثم تاريخ أدبي، دون تحيّز ودون تأثير اللحظة الراهنة، خاصة وأن معظم الذين تمّ التطرق لأعمالهم غادروا هذه الدنيا، وأصبح من الممكن التعامل مع ما أنجزوه بموضوعية. وهذه المادة ليست تاريخاً للأدب أو قولاً نهائياً: وإنما رحلة في عدد من النصوص،...
    --------------------------------------------------------------------------------
    رحلة ضوء
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    تواجه الرواية العربية مجموعة من التحديات التي بقدر النجاح في مواجهتها، يكون النجاح في إبداع رواية عربية لها حضورها العالمي. أبرز هذه التحديات: لغة الحوار، أي لغة نختار؟. والشخصية كيف يتمّ اختيارها، كيف ستحيا وتموت؟ إن الشخصية في الرواية لا تتلخص بالإنسان البطل، بل وأيضاً بالطبيعة والحيوان، وهي ما إن تبدأ خطواتها في الرواية حتى تصبح حيّة، وتحكم على سلوكها وخياراتها. كذلك فغن التاريخ أيضاً، ليس مجرد...
    --------------------------------------------------------------------------------
    مدن الملح
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    تتضمن هذه السلسلة الكتب التالية: تقاسيم الليل والنهار، بادية الظلمات، المنبت، التيه، الأخدود. وتأتي هذه الخماسية لتؤرخ، لتروي، التصور وتسطر، في شبه أسطورة، لمدن الملح؛ تلك المدائن التي انزاحت من عالم الصحراء لتضحي عالماً آخر تنبعث فيه رائحة النفط التي تخدر أحلام ساكنيه وتنقلهم نقلات متسارعة يتخبطون عبرها بين الوهم والحقيقة. مساحات طويلة يعبرونها بأزمان قصيرة ينتقلون خلالها من عالم البداوة إلى عالم...
    --------------------------------------------------------------------------------
    سيرة مدينة
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    لا يزال عبد الرحمن منيف يكتب مخططاته بالقلم، وأن اليد ذاتها انتقلت من رسم الحرف إلى رسم الشكل، وهكذا يكون الخط امتداداً لإيقاعات الحسّ وتنقلات العقل والنفس يسير الخط نحو الشكل ويسير الحرف نحو القصد، وهما يقدمان للمتلقي في هذه الأخاديد البصرية متعة للعين وسلوى للنفس. وهما من مادة واحدة مختلف في مسارها وتتمدد في غاياتها.
    لقد اكتشف الفنان مروان قصاب باشي بطريق الصدفة والفصول رسوم عبد الرحمن مني...
    --------------------------------------------------------------------------------
    سيرة مدينة-عمان في الاربعينات
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    إن الكتابة عن مدينة الماضي التي يحبها الإنسان تحول هذه المدينة إلى كلمات، والكلمات ذاتها مهما كانت بارعة، زلقة، خطرة، ماكرة، وغالباً لا تتعدى أن تكون ظلالاً باهتة لحياة، أو في أحسن الحالات ملامسة لها من الخارج، أو مجرد اقتراب، علماً بأن الحياة ذاتها كانت أغنى، أكثر كثافة، ومليئة بالتفاصيل التي يصعب استعادتها مرة أخرى. لأنه من أصعب المواقف أن يكون الإنسان شاهداً، وأن يكون مطمئناً. "وسيرة مدينة" هي ...
    --------------------------------------------------------------------------------
    شرق المتوسط
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    "شرق المتوسط" رواية... وعبد الرحمن مينف أرادها رسالة صغيرة، لأمنية كبيرة في أن يكون على الأرض العربية شعب حر، لأن حال وجود الحرية يمكن أن ينام الحاكم والمحكوم ملء الجفون، أما إذا كان الحاكم وحده "حراً" فإن دولاب الزمن لا يتوقف عن الدوران، وقد يجد نفسه من افترض أنه مالك القوة والحرية أكثر الناس ضعفاً وعبودية ولن يفيد الندم إن جاء متأخراً. من واقع تجربة السجن السياسي تجري أحداث الرواية في عالم جديد ...
    --------------------------------------------------------------------------------
    عالم بلا خرائط
    تأليف: جبرا ابراهيم جبرا
    "كنت أحار في تفسير أي الرجال أكون، إذ بمقدار ما أملك من أمي من أبي ومن السوالمة الأوائل... وربما من أشخاص آخرين مجهولين، تختلط الأمور في رأسي لدرجة لا أعرف عندها ماذا أريد أو ماذا أقول. كنت أريد أن أتحدث عن أيام طفولتي، عن أيام قديمة، ليس لأن في هذه الطفولة أو تلك الأيام شيئاً خارقاً يستحق أن يروى، وإنما لأن وضوحها الحاد، والوقائع الكثيرة التي حصلت خلالها، جعلتها تبدو لي عملاً روائياً كاملاً، بل ج...
    --------------------------------------------------------------------------------
    عروة الزمان الباهي
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    هذا الكتاب فرضه الموت وأملاه الغياب، فلو أن الباهي محمد بقي حياً، أو لم ينته بتلك الطريقة المفاجئة السريعة، لما فكر عبد الرحمن المنيف أن يكتب عنه. فقد كان الأكثر أهمية بالنسبة له هو رصد حياته العارمة، متابعتها، التماسّ بها، وأيضاً انتظار محطته التالية... وكان يهيئ نفسه لمرحة الكتابة الحرة التي هي المذكرات السياسية... ولكنه حمل الكثير من الأسرار والأشواق ومضى... فكان لعبد الرحمن المنيف أن يملأ هذا ...
    -----------------------------------------------------
    قصة حب مجوسية
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    "والآن... وقد انتهيت أشعر أن الكلمات والحروف يائسة لدرجة أنكر أن تكون ليليان في مثل هذه الكلمات... ليليان أكثر رقة... أكثر فرحاً وحزناً من كل ما ذكرته لكم، لكن ماذا أفعل أزاء هذه اللغة البائسة الذليلة... لا أملك شيئاً، ما زالت ليليان شامخة، راكضة في ذاكرتي... تتسلق دمي في كل لحظة، تبكيني، تفرحني... إنها تنتظرني في المحطة القادمة... في مكان ما تنتظر... سألتقي بها".
    عندما يكتب عبد الرحمن منيف ...
    --------------------------------------------------------------------------------
    لوعة الغياب
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    الفرح والسعادة لحظات نحصل عليها اقتناصاً، فتعطينا شعوراً قوياً وممتداً، أما الحزن والتعب والأسى واليأس فلها الأوقات الطوال. وهي كذلك لدى الشعوب العربية، ربما أكثر من شعوب أخرى. لذا نتعلق بالأمل ونفرد له مساحة واسعة، وبقدر ما يحزننا غياب الأشخاص الذين نحبهم نبحث في ما تركوه عن الآمال التي سعوا إليها وحضروا نحوها مسارات للحلم والضوء وذلك لتخليدهم ولتخليد آثارهم في ذاكرة الشعوب وحتى لا ينسى ذلك المبد...
    --------------------------------------------------------------------------------
    سباق المسافات الطويلة
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    "الحياة الشرقية مليئة بالسرية والتلون، ولا يقتصر الأمر على البشر وسلوكهم بل يتعداه إلى الحيوانات والطبيعة: برد قارس في الشتاء، وربيع يتفجر بشكل مباغت ودون تمهيد أو إنذار، وصيف لاهب مشتعل تنبع فيه الشمس في الأرض والجدران والأشجار".
    في ذلك الشرق عاش بيتر لفترة، راقب فيها انهيار سلطة الامبراطورية التي طالما اعتبرت السيطرة على الشرق رمزاً لقوتها. شيرين، عباس، ميرزا؛ شخصيات نراها قريبة منا، نقارن...
    -----------------------------------------------------
    مروان قصاب باشي: رحلة الحياة والفن
    تأليف: عبد الرحمن منيف
    ليست الطفولة بالنسبة للفنان مجرد مرحلة من مراحل العمر، تثير الذكريات والحنين كما هي لمعظم الناس، إنها تصبح للفنان معيناً يغرف منه وجزءاً من موضوعات العالم التي يغرق فيها وقد تصبح في مرحلة متأخرة أسلوباً في العمل، وغالباً ما يحصل ذلك مع تقدمه الفنان بالعمر، أي بعد النضوج وبعد أن يكون امتحن احتمالات كثيرة، وصولاً إلى روح الأشياء، وبنفس المقدار تلعب البيئة، الحيز الجغرافي و العلاقات الانسانية، دوراً ...
    ------------------------------------------------------
    وهو غيض من فيض لهذا العملاق.
                  

11-02-2005, 08:02 PM

الريح كودى
<aالريح كودى
تاريخ التسجيل: 09-10-2005
مجموع المشاركات: 641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    الاعزاء

    صبرى الشريف
    خالد
    رانى
    محمد الحاج
    محمد ادم

    كل سنة وانتم كما تودون

    الريح كودى
                  

11-08-2005, 04:04 AM

Mohammed Elhaj
<aMohammed Elhaj
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1670

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    الأعزاء
    الريح كودي
    و المتداخلين

    كل عام و أنتم بخير
    و الأحلام استحالت أماني
    و الأماني استحالت حقيقة،،،



    i'd sent you an E-mail elraiah, plz check your e-mail

    تحايا و ود
                  

11-08-2005, 06:53 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: النهايات – عبد الرحمن منيف (Re: الريح كودى)

    في حضرت منيف نقف له اجلا لا ووفاءا لانه ادخل البهجه والسرور لي

    يا ربي ارحمه باكتر من عدد الحروف التي جادت يده للتبصره

    والمعرفة منيف فارس للرواية العربية لم تتسع له دار ابائه

    البلاد الطاردة لاهلها السعودية ولا دار اخواله وخالاته عراق

    الخير في زمن الشؤم المريض بداء العظمة صدام لكن اتسع ل منيف

    قلوب القراء والقارئات وهذا افضل سكن سلام لمنيف في روضته

    التي انتقل اليها دفاعا عن الفكر وحرية التفكير
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de