|
جون قرنق... إليك تُسري كل دروب السلام والمعارج
|
جون قرنق... إليك تُسري كل دروب السلام والمعارج
قالت له إحدى البنيّات, إذ كان هادئاً يغط في غفوته الأبدية الأخيرة: الآن يا مليك السلام, متوجاً بالحقول؛ هل جلست إلى حزننا.. تحللت فيه من الأمنيات, من تشكي الحبايب والمتعبين؟ هل علوت على نارنا وهي تعلو؟ هل عبرت إلينا حارقاَ مثل حلم خافقاً مثل نسر؟ جائلاً للأبد أعالي الإماتونج هذا المهيب العابث السعيد...
أواه من تلك الأماني الهاربة.. أواه من تلك الشموس الغاربة, قبل انبلاج الفجر.. هنيهة من حلول الغسق. آه من وجع السودان وحسرته! وما بين السياسة والشعر أو لنقل الإبداع عموماً, هناك ثمة قاسم مشترك, هو الشفافية والعبقرية, والقدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء ولمس كبد الحقيقة. كان هكذا جون قرنق, ما سدت رؤيته أدغال الغابة ولا كثافة الأشجار, ولا أزيز الرصاص والبنادق, ولا سحائب الدخان الكثيفة التي سدت أفق السلام, على امتداد ما يشارف ربع القرن من الزمان! كان في نفاذ رؤيته وبصيرته, شبيهاً بانفلات عبقرية النحات الإيطالي العظيم مايكل أنجلو, إذ كان يرى تمثاله الذي يريد في قلب الصخر والحجر الأخرس الأصم, قبل أن يشرع فيه إزميله ويبدأ بنحته وتشكيله على الهيئة التي رآها وتصورها مسبقاً! ومثله وقبله كان القائد الإفريقي العظيم نيلسون مانديلا, يوم أن ومضت عبقريته السياسية, وهو لم يزل وراء القضبان, لنحو ربع قرن من الزمان أيضاً, باستشراف تداعي وانهيار نظام الفصل العنصري البغيض, الذي استمر يجثم على صدر بلاده لما يناهز الثلاثة قرون من الزمان, ويوم أن رأى وطنه وهو في صيرورة التحول إلى ديمقراطية يتساوى فيها البيض والسود, وإلى دولة لحكم القانون واحترام التعدد وتقديس حقوق الإنسان. وقد خط كل ذلك في كتابه الملهم الثمين " ليس الطريق سهلاً إلى الحرية". فهل كانت رؤية قرنق واستشرافه للديمقراطية والسلام أقل, وهل كان طريقه –بل طريق السودان كله- سهلاًَ إلى السلام والديمقراطية من توريت إلى نمولي .. إلى نيفاشا؟ وإذ كان يشق طريقه الطويلة عبر أدغال الغابة وسحائب الدخان واللهب, إنما كان يرى في السلام خطوة أولية لا غنى عنها, لفتح الباب على مصراعيه, أمام تحول سياسي غير محدود ولا مسبوق, في تاريخ السودان قديمه وحديثه. محور هذا التحول هو وحدة التراب السوداني, شمالاً وجنوباً, غرباً وشرقا. أداة هذه الوحدة ومفتاحها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية, ورفع الغبن والمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية, وإحقاق الحقوق على أساس المواطنة .. والمواطنة وحدها, دونما اعتبار لجنس أو لدين أو لعرق. كما كانت أداتها التنمية الشاملة لكافة أرجاء الوطن, ومحو عار التخلف والأمية والجهل ومكافحة واستئصال جرثومة الفقر. كان إلى سماء الفقراء و"أهل الهامش" ينتمي, وكان شاعرهم وحادي ركبهم, ما في ذلك أدنى شك. وعن ساسة الجنوب وقادته, لطالما ساد الانطباع النمطي الدارج في الشمال, عن نزعة الانفصال عندهم, وعن ميلهم إلى تفتيت وحدة السودان وتمزيق أوصاله, وعن المساومة على الجنوب, لصالح قوى خارجية ما. وقد طال هذا الاتهام جون قرنق نفسه, وظل الإعلام الرسمي يدمغه باتهاماته الرخيصة المبعثرة يميناً وشمالاً. فظل ينعته مرة بالعمالة, وأخرى بالنعرة الانفصالية, وثالثة بكونه طابوراً خامساً, لقوى أجنبية ذات أطماع ومآرب في أرض السودان وثروته. وكان ذلك بعض الذي عاناه قرنق, مثل غيره من كثير من الوطنيين السودانيين, الذين عشقوا بلادهم وتفانوا في دفاعهم عنها, بوجدان صوفي معذب مولَه. وما بين الصورة النمطية الزائفة التي رسمها عنه الإعلام الرسمي, وشخص الرجل وأصله ومعدنه ونواياه, انبلجت وتكشفت شمس الحقيقة ساطعة, منذ لحظة أن وطئت قدماه مطار الخرطوم, لأول مرة إثر اندلاع الحرب التي شنها باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان, في عام 1983. شمساً وأي شمس كان, قائداً وأي قائد! وهل تصلح هنا ترجمة الكلمة اللاتينية الأصل المعربة إلى "كاريزما" إلى مقابل عربي أكثر إبانة من قبيل "سحر القيادة" لا سيما وأن الكلمة تشير في الأصل إلى رقية أو تعويذة سحرية خارقة –قادرة على شفاء الداء العضال- وهي تمنح عادة من قبل روح علوية مقدسة, إلى كائن بشري ما, اصطفته وخصته الأرواح المقدسة بتلك الميزة؟ ألم يكن قرنق خير طبيب لأمراض السودان السياسية, وأدوائها العضال؟ وأي صورة أزهى وأبهى مما قالته حفيدته الشمالية "نجلاء" شعراً في هذا المعنى؟ ولما أخذت بك الطرق هرول السجع من أغانينا لشفتيك؛ انشقت غيمة الفضة عن قروحنا كلها وإذ رأيت كم نحن فقراء للعدل كم نحن ناحلين بكيت؛ لمحنا عيونك بين ألفي يمامة بين مئات الجسور. أيها الطفل الذي ننتظر؛ أنت بيننا يا أخي مستدركاً صوتنا في اللغات القديمة بضحكة. كنت أجمل مما ظننا وأقوى. وبقدر ما جلجلت في أرواحنا وآذاننا ضحكتك, وتهللت فينا الأسارير, بقدر ما انقبضنا وغصت الحلوق والعيون بحنظل رحيلك المباغت الحزين. إلى أين ذاهب أنت في الزمان الخطأ؟ متى حللت أهلاً وسهلاً؟ ألا تستجم قليلاً من عناء الحرب والترحال والسفر؟ لقد لحت في سمائنا نجمةً وضاءةً وسنى... وكنت فينا وبيننا أملاً للشمال وفألاً للجنوب.. زهرة للتقدم والتنمية. فأي شؤم اصطفاك.. أي نحس شقّ سماء الوطن, أي طائر؟ وداعاً أخي إلى لقاء قريب. ففي عيون "ربيكا" في أحزانها نلتقيك, في استنارة أنجالك وأحفادك الكثر نراك، في بسمة ميري ومهيرة... وفي ثبات شعبك ورفاقك على الدرب والمبادئ، وفي سيرنا جميعاً على طريق السلام يحلو لك المقيل والمقام، تحلو لك القهوة. ومن نمولي إلى نيفاشا.. إليك تؤدي كل الدروب والمعارج. وبيننا ستبقى بشرى للجنوب، أملاً للشمال... زهرة للتقدم والتنمية.
عبد الجبار عبد الله Email: [email protected]
|
|
|
|
|
|