|
Re: كمال الجزولي: القَوْسُ المُوَشَّى (Re: sultan)
|
البيان 23/3/2004
إضاءة سودانية تبسيط القضية
بقلم :كمال الجزولي
أبرزنا، في ما تقدم، تفسير الامام الصادق المهدي لمتاعب (الديمقراطية المعيارية) بأربع حالات «موروثة عن الاستعمار»، من بينها، برأيه، عدم حماس الشيوعيين لدعمها، كونها لم تتح لأطروحاتهم فرصة فخططوا للاطاحة بها! وقلنا إننا، مع تثميننا العالى لمجاهدات الرجل الفقهوفكرية في توطين (الديمقراطية المعيارية) في تربة الاسلام، لا نغفل أيضاً وضعه كرئيس حزب عينه على السلطة، وهذا من حقه، وسعيه لدعم مقوِّمات (الديمقراطية العملية)، الأمر الذي نوافقه عليه. غير أن هذه، برأينا، هي النقطة التي «يختلط القوس المُوَشى» عندها، حين تجرف أمواج (السياسة السياسويَّة) منطق التاريخ إلى سواحل يضحى فيها غريب الوجه واليد واللسان! هكذا وجدنا الورقة تنحو لتبسيط قضية ذات طابع شديد التركيب، فتصادم جملة معطيات لا يمكن بدونها إعطاء تقييم موضوعي لسيرورة الحزب الشيوعي التاريخيَّة والفكريَّة، كمقاومته، مثلاً، لمفاهيم الديمقراطية الثورية، الشعبية، الجديدة.. الخ التي سادت بتأثير التجربتين السوفييتية والصينية على حركة اليسار والتحرر الوطني عموماً، ونزوعه للديمقراطية الليبرالية، بمضمونها القائم في الحريات والحقوق، كبيئة أصلح لحضانة وتطوير مشروعه الاشتراكي. وفيما يلى نواصل:
(6) ولعل من المهم، بإزاء الحجة القائلة بأن الأمية تشكل عائقاً دون نجاح التجربة الديمقراطية، إستصحاب دلالات الموقف الفكرى للحزب في دحضها بأن شعبنا عرف مصالحه أكثر من بعض الشعوب الأوروبية التي تصوِّت للمحافظين، فانتخب أغلبية وطنية حققت الاستقلال في برلمان 1954م، ودحضه أيضاً لاتهام النظام الديمقراطي بالفساد بدليل استمراره في ظل الشمولية، وما خلص إليه من أن اجتثاث الفساد غير ممكن إلا برقابة الشعب إذا تمتع بالحريات والحقوق (ع. الخالق،2001م). وكان ذلك موقفه أصلاً عندما خاض أول انتخابات برلمانية عام 1953م لتوسيع المناهضة للاستعمار وتعميق الديمقراطية (ع. الخالق، 1987م).
(7) لا بد كذلك من قراءة دقيقة لوقائع دعمه في الفترة (فبراير 1953 ـ يناير 1956م)، لتحركات العمال والمزارعين والصحفيين والطلاب من أجل الحقوق والحريات، قبل أن تكتسى مقررات مؤتمره الثالث (فبراير 1956م) بالطابع الجبهوي العريض (الاتحاد الوطني الديمقراطي)، بتأكيدها على أن الحريات هي طريق النمو السلمى، وطرحها لمبدأ الشراكة العادلة في الحكم، للتخلص من أدواء التعصب الحزبى، ولمنع السيطرة المنفردة لأي قسم على جهاز الدولة في تلك الحقبة الجنينية من الاستقلال.
( ويلزم المحلل أيضاً قدر من الموضوعية لدى النظر إلى وقائع الفترة بين 1954م ـ 1958م كى يقف على جليَّة أوضاع قد تتراءى غريبة للوهلة الأولى: فعلى حين كانت تشتد بوضوح نزعة الحزب للاستمساك بالديمقراطية الليبرالية وتعميقها في الحركة الجماهيرية، كانت الخروقات تتوالى عليها من مواقع ذات القوى التي يفترض أنها أوثق انتساباً إليها وأقوى التزاماً بها! وكمثال، فعلاوة على تعريض استقلال البلاد للإجهاض بالانغماس في الصراعات غير المبدئية، تسببت حكومة الأزهرى الأولى في حادثة (عنبر جودة)، حيث قتل أكثر من 125 مزارعاً كانوا يطالبون بحقوقهم، ثم أعملت المزيد من عنف الدولة في حركة الاحتجاجات الشعبية على تلك الحادثة، في حين لم يستخدم المحتجون من العمال والمحامين والطلاب سوى الأساليب الديمقراطية المعهودة.
أما حكومة عبد الله بك خليل (حزب الأمة) فقد رفضت الاعتراف لا بالحزب ولا باتحاد العمال. وأبدت، إلى ذلك، قدراً كبيراً من العداء تجاه تعبيرات المعارضة السلمية لزيارة نائب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بغرض تسويق (مشروع أيزنهاور) الاستعماري، حيث اتهمت «حفنة من الشيوعيين بتهديد الأمن والاستقرار»، وأقدمت في يونيو 1958م على تعطيل البرلمان عندما بدأ ينذر بسحب الثقة منها، ثم أظهرت في 21/10/1958م رد فعلها العنيف بإزاء إضراب 42 نقابة تمثل 98% من القوى العاملة، بقياده اتحاد العمال ومؤازرة الحزب وتنظيمات المزارعين والتجار والطلاب، احتجاجاً على تغول الحكومة على الحريات النقابية، وللمطالبة ببعض الاجراءات الاقتصادية، كتخفيض المصروفات الحكومية وتنويع التجارة الخارجية وما إلى ذلك، فشنت (جردة) اعتقالات واسعة، وحظرت المواكب والتجمعات السياسية، مما اعتبرته الصحف نقطة تحول في نشاط الحركة النقابية (القدال، 1999م). وأخيراً توَّج حزب الأمة كلَّ تلك الخروقات لأسس الممارسة الديمقراطية بتسليم عبد الله خليل، أمينه العام ورئيس الوزراء وقتها، السلطة لكبار الجنرالات في 17 نوفمبر 1958م، وذلك، حسب إفادة عبود نفسه للجنة التحقيق بعد ثورة أكتوبر، بموجب «أوامر.. صادرة من رئيس لمرؤوس، وقد قبلتها ونفذتها على هذا الأساس.. عبد الله خليل هو مهندس الانقلاب، ولو طلب منا إلغاءه في أية لحظة لفعلنا فوراً» (ضمن تيم نبلوك، 1990م).
(9) والواقع أن الأحزاب التقليدية كانت قد عمدت لاختزال كل قيمة للاستقلال في محض (عَلَم) يُرفع، و(سلام جمهوري) يُعزف، و(عملة وطنية) أضحت دولة بين الأغنياء بخاصة! ولم يكن شعار (تحرير لا تعمير)، في تلك الفترة، غير صياغة شديدة الإحكام لتلك الرؤية الخرقاء. وكما لاحظ بعض الباحثين فقد «كان النظام البرلماني بالنسبة للأحزاب التقليدية وسيلة شرعية لفرض سيطرتهم، وليس أداة لتأسيس الديمقراطية في السودان. وقد تبين ذلك في المواقف غير المبدئية وتغيير التحالفات وتحوُّل النواب البرلمانيين من معسكر إلى آخر» (حيدر ابراهيم، 1996م).
(10) وربما كان من المفيد، في السياق، استدعاء أحد أهم استنتاجات الحزب من وقائع الصراع بعد الاستقلال بين نظريتي البناء الرأسمالي والتطور اللارأسمالي، بأن العامل الأساسي في تنامى قوى العنف البرجوازي هو اكتشافها أن الليبرالية السياسية تعيق مشروعها بما توفر من إمكانات مناهضته شعبياً، وهكذا اتجهت لخيار الديكتاتورية العسكرية السافرة، «فما عجزوا عنه بالصراع السلمي أرادوا تحقيقه بالصراع الدموى» (تقرير المؤتمر الرابع 1967م). لذلك، فإن تفسير السيد الصادق لإقدام حزب الأمة على تدبير انقلاب نوفمبر، وتبريره بمجرد (سوء تفاهم) و(خلاف) في الرأى بين أمينه العام المرحوم عبد الله خليل وبين رئيسه المرحوم الصديق المهدى (الصحافة، 10/4/2001م)، لهو من صنف التبسيط المخل الذي أشرنا إليه، والذي لا يُتصوَّر من مفكر في قامة السيد الصادق، لولا مقتضيات (السياسة السياسوية) التي يختلط عندها «القوس الموشى»!
(3) ولكون الانقلاب، من الناحية الشكلية، لم يسلب الحزب الشيوعي سلطة، بل لعله طمر الحكومة التي ناصبته والحركة الجماهيرية العداء، فإن مما يستوجب التأمل حقاً موقفه منه: بالانفراد بفضحه قبل وقوعه: «إفتحوا عيونكم جيداً: الاميركان يستعدون لتدبير الانقلاب المقبل في السودان» (الميدان، 3/11/1958م)، وبالانفراد بمناهضته من يومه الأول، حيث صدر بيان مكتبه السياسي في 18/11/1958م بعنوان: (17 نوفمبر انقلاب رجعى)، فكيف يمكن تفسير ذلك موضوعياً؟! http://www.albayan.ae/servlet/Satellite?pagename=Bayan%...le&cid=1051780162240 ======= السودان لكل السودانيين
|
|
|
|
|
|
|
|
|