|
د. صلاح الزين - " الصـلع " وما بعـد الحداثـة
|
نص قصـصي
" الصـلع " وما بعـد الحداثـة صلاح الزين
"Nothing is poorer as a thought expressed as it was thought" W. Benjamin
هل تحتاج الشعوب إلى حكومات ؟ ألقت بالسؤال ، كفضيحة ، إلى الحاضرين المشدودين بخيوط خفية نحوها ، لكل خيط لون وجغرافيا . بالخيط الأحمر ، مدلوق هكذا على ربلة ساقها ، انتعل خياله صعداً نحو أسفل جسدهـا وبقى ، لحين ، هناك فقد ولد في منتصف الستينات ــ ثلاث أو أربعة أعـوام قبل أيار 68 (هذه "أل أو" لا تعني مدلولها الدارج وإنما كالفصول تختار أوقاتهـا) . لا يهم ، فيما أعتقد كثيراً متى ولدت هي ولكن ، ومن البروز الطفيف لأسنانها الأمامية ، يمكن أن تكون من مواليد أوائل الستينيات . كلاهما مواليد مرحلة كان التاريخ فيها "يتقدم من جانبه المتعفن" والشعوب تتلو خطاباتها على مكامن الاسرار والترهل الممطوط بالمرايـا و الفسيولوجيا الزائدة . برونق ، أشبه بصمت السائرين في جنازة ، تزوق الطاولة والجالسين حولها بالسؤال : هل تحتاج الشعوب إلى حكومات ؟ قبل أيار بثلاث أو أربع سنوات كانت تنمية القطاع العام شعارات تتلو على ريح التاريخ بعض من مواضعات تحرر الأشجار من سبي الوقوف على حافات دروب مضجرة ومتربة . لا أحد ، بالطبع ، يدري إن كانت الرياح هي نفسها أم لا ، ولكنه ولد في ذاك الزمن . ذكريات الطفولة وأصدقاء الدراسة إنسلخوا من مرابعهم تلك وصاروا فتياناً وصباياً: لكل شعار ولون .
“There have been men who loved the future like a mistress” (1)
هو : بشارب كاشواك القنافذ ، يتقافز عند الطرفين منسحباً من الوسط المبهوم بظلال شعيرات إنقصف نموها أو تحجر ، بهكذا شارب يعطيك إحساساً بمؤامرة مـا ، ولكنه ، متآمر صغير ، صغير لضالات المؤامرات ذاتها . الساقين مسلولتين ضعاف كأرجل شبح منهوك يبدان بقدمين ، مجوفتين من الوسط ، هكذا مجوفتان ، بنعلين إنسهكتا بفائض علاقات سابق ، سابق ومقيم . صعداً ، نحو أعلى الساقين ، مروراً بركبتين متكورتين و بارزتين كأنهما غبناً سافر ، نسيتان يوماً ما هناك ، ينسقف المشهد بحوض مفعوص كجنبات وجه أرملة قد هرمت وهرمت . على الحوض ، الحوض المبري كقبر قديم ، تندلق بطن تكرشت أسافلها وفاضت عن حافة الحوض الأمامية كأنها تحية لم تكتمل أو يوم زائد في حياة محارب قد من معارك ونزال . أعلى البطن وبداياتها ، كنميمة لا توفر المسافة والعبور ، تنغرس عند أسافل الصدر ، كخائن يلثِّم أقدام ملك زنيم . المساحة الفاصلة بين أيمن الصدر وأيسره ، والمشبوحة كأثر غشيته ريح عجولة ، المساحة هذه تغطيها شعيرات رهيفة تتناثر في صمت وضيع . منظوراً له من أمام ، أمـام بعيداً أو قريب ، يبدو الصدر كجرف تتطاول حوافه بزاوية قائمة مع وسط متراجع كطعم خبر مفاجئ . على المشهد ، المشهد الذي يشبه جيشاً أطبق عليه من الوسط ينغرس عنق دوار بتفاحة " آدم " ببروز حاد كمنقار صقر . تعلو وتهبط التفاحة تلك عند الإلتذاذ ، فيزيقياً أو معنوي . فوق العنق ، مباشرة ، العنق الدوار بنقاط إرتكاز متعددة كرادار حدودي ، فك يتسع عند الأطراف ويستدق ويتراجع عند الوسط ، يشف و ينبري ، ككذبة متداولة . أيمن الفك وأيسره ، وكدخان رغبة مطفأة ، يعلوهما زغب شفاف نحيل بلون رمادي تخاف عليه من التساقط حال تحرك الفك بكلام وحديث ـ كلام وحديث سليل أيار وما قبله . ينثلم الفك من وسطه ، كشق على جدار ، بفم تطوقه شفتان مشحوذتان ينطبقان ، عند الصمت والتأمل ، كطرفي رمس غيباً أمي إلى الأبد . الشفة السفلى تغطي أسنانآ سوَّدها التبغ والخمر الرخيص وبعض من همس لم يبلغ مقام الكلام . الضحكة المقذوفة عند إفترار الشفتين لا تحيل ، كلولب إسطواني ، إلا لذاتها وهي تطقطق وتتناثرفى فضاء تموجها حرة، فى إلتزام ، من مرجعيات وغمام. هكدا تتناثر الضحكة ، المبروم وسطها ، كخصر قديم ، وهي تتلو رغبات إنثيال الغمام مطراً يسح . الرذاذ ، الرذاذ الذي يسكن ، أحياناً ، حواف الضحكة المتطايرة ، الرذاذ هذا تنافذه فتحتي أنف تسند أرنبته عوينات طبية بعدسات سميكة ذات بياض متسخ و غائـم . في قلق مزنر برغبات متنافرة كقطار ذخيرة يتسلق سفحاً ما تتعجن العيون بحراك لا يقيم وزناً للعدسات السميكة ولا حدود المشهد . مقدمة الرأس ، والمتراجعة إلى الوراء ، كفرس مذعور ، تزوق المشهد بحضور متواطئ لا يحفل بخفوت الإضاءة أو إرتباك الرؤيا وفقرها . ينغلق المشهد ، المشهد كله ، الممتد من أظافر الرجلين وحتى ما فوق العينين ، ينغلق المشهد هذا برأس جالس ، في طمأنينة ويقين ، منذ ثلاث أو أربع سنوات قبل أيار 68 . وككل الرؤوس ، الجالسة منذ ذاك التاريـخ ، يتكاثف ، عند الأطراف ، شعرها وينشبك ويتراجع وينمحي عند الوسط ، كمغامرة أنهكها الوقوف (2) . هكذا ، هكذا هو ، ستيني الملامح ، أياري النزوات ، بجمال وهيئة نموذجية ، بحسرة متوارثة وشبق متغضن خصب خصوبة تاريخ مضى بضحايا بغير سراويل و غطاء .
هـي : من شعار و Feminism و مؤتمرات (3) وأسرة مهاجرة و منديل معطر وحلقة مفاتيح . هي هي . هي كتلة من أنثى بحبائل يشف عنها الساق الأسمر الزائد عن بياض تنورة أنهكها الصعود إلى أعلى فاستراحت ، في مكان ما ، أسفل تكور النهدين ، فانطلق الفكر والشعار الأملس ينثران البياض والرغبة المستعجلة . منذ زمن ، تقول ، لفت " ماركس " بقطن طمثها السادس عشر وألقت به في براميل النفاية ومن حلم ليلة سـعيدة أراحت عجيزتها ، بترف ، على رأس " فوكو " الأملس ، وظلت هناك ، تقول ، ترقب أيار المقدود من تذكير تؤنثه ، الان ، مرور الأحداث وتبدل الطبقات . وظلت ، و ظلت تنتظر .
المكـان : العمايا ، المجلوبون من حجارة خضراء وظلام مستريب ، بأيدي بأصابع بدربه تخلط البايولوجيا والثرثرات بملصقات الدعاية و حقائب السفر المطلية بحنين وبكاء ، العمايا هؤلاء ، يتناثرون ، كوصايا ميت ، في زوايا الشارع الخلفي ذاك وقرب بيوت الهاتف ، ترى ، هل يرون ، فيما يرون ، الكلام المحمول على هواء سري وأسلاك ناعمة ؟ ليس أقل من ذلك فتنة زجاجة الويسكي التي ترشد ، في صدق حمي ، إلى أصابع العمايا التي تدلك الأشباح على سقوف سقفها من سماء . و النساء ، النساء الراكضات في روائح الطعام ، يشففن ، يترقرقن ، كضوء قمر ، على شارع خلفي يلفه ليل محزوم بشبق يتيم .
المـرأة البيضاء : بياض آسـيوي ولكنة تربك البيبلوغرافيا . هكذا ، هكـذا هي على دراية بالغة بكاتالوجات الـ Handphone و لا يعنيها ، كثيراً أو قليل ، تماسك فرضية ماجستيرهـا ، تعدد السلط ، إنتخابات برلمان السـودان و لا إندثـار الصومـال . هي بيضاء بيـاض آسـيوي ولا ترى ثمـة مبرر لوجود مكاتـب الـ UNHCR على مقربة من ذاك المساء والعمايا المضجرون بظلام أخضر وحديث لا يرى . آسيوية تخاف سائق التاكسي وتلصصات الجيران .
هو وهـي : " ماركس " بصلعة و " فوكو " بشعر غزير . أيار وآخر، أمراض إنكسارات وتاريخ تلف . بروز أسنانها الأمامية الطفيف يعطي للرحيلات معنى وبطولة هشة معها يثابر الإنتصاب و الشبق المجلو كمرايا معلقة في الفراغ . فيما ، لو قليلاً ، أراحت يدها ، يدها المستديرة تلك ، والتي تسند خدها الأيمن ، لأعطت لذاك المجري ، المجري الفاصل بين النهدين ، قدراً من إندياح يرشد العمايا للهواء السري ولون الكلام إذ لا ضرورة لإختلاف معنى وحدانية السلطة عند " ماركس " وتعددها عند " فوكو " . وفيما ، لو مرة أخرى ، أعـاد إصلاح وضع حذاءه ورجليه المشبوكتين تحت الطاولة ، لعدلت من قناعتي بأن الـ Feminism مقولة مدينية . تتسع المدن فتضيق المجاري وتذبل ويمكن نقل خط الإستواء بطقسه المتمائل إلى أمكنة بمواسم أمزجة شتى و ريح بلونين . في كرم عريق تنهمر زجاجة الويسكي وترعف النساء بالوان وأطوال تنورات متشاكلة ، ترعفهن بروزاً طفيف في أسنان أمامية . وتلك التي بالبياض الآسيوي لا يعنيها حتى وإن تشظت الزجاجة نثارات على عيون العمايا ، بعيدة آسيا ، بعيدة وخط الإستواء بريح ولون واحد وتاريخ الملايو إحصاءات وأرقام حسابية . الأعميين ذينك ، بعصاهما التي تتلف خضرة الظلام ، لو ، وهما متخاصرين هكذا ، كدودتي قز ، لو يقتربان ، قليلاً يقتربان من هذا النتوء الذي يحاذي الطاولة ، الجالسون نحن حولها ، هكذا ، وكأنهما مقودين بسحر لون الكلام المدلوق على المكان ، وكسحابة ، سحابة مثقلة بماء ونوء طفيف ، وهكذا ، هكذا ينهاران على الطاولة ، ونخف نحن ، نحن الجالسون حول الطاولة والموصولون بخيوط غامضة بما تبقى من ويسكي وبروز عضلي لطبقة أنثها أيار وإنهيارات حلم حديث ( و لنقل إنهيار أقاليم الإشتراكية وتحرر أرتريا) ، هكذا ، هكذا إنهارا ، الأعمى القصير ، وبمقدمة صدره المرضوض بإستياءات و إستشعار ، ينهار فوق طرف الطاولـة الأيمن ويطيح بكأسها ، المنديل المعطر ، حلقة المفاتيح ومقولة ل " فوكو " ، مطولة ، مقتبسة من " تاريخ الجنسانية " (4) تلحق بها ولاعة حمراء في أعقاب منفضة سيجائر بها نثـارات ثلج خفيف وبعض من غواية . الطويل ، الأعمى الطويل كضوء بلا مصدر ، ينهار على طرف الطاولة الأيسر و بعصاه ، عصاه التي تنفلت من يده ، تطيح بالزجاجة ، وعـاء الثلج ، النظارة المسنودة بصحن حمص ومقولة ، موازية ، فيما أعتقد ، تنقر جدران ذاكرة صلبها شبق رعف ووقـع حوافر حلم بعيد ، جد بعيد . جانباً ، جانباً سأزيح بالأعمى الطويل المردوم ، كهيولي بخس ، من على كتفي ، ولا ألقي بالاً للقصير ، الأعمى القصير الذي يسند جسده ، جسده المفتون بإثارة المكامن والخبايا ، يسنده ، كله يسنده ، و في براعة نادرة ، بفكه ، وكأنه يود إمتصاص الطاولة . أخف نحوها ، نحوها هي ، المسجية ، كشهداء حلمنا ، و المقذوفة على بعد متر ونصف من حقيبتها اليدوية ، أخف ، هكـذا أخف ، كنعي بجرح وحسرة ، متجاوزاً ، وفي إصرار بليغ ، عصا الظلام ، منفضة السيجائر ، " فوكو " وبروز وجنتيه ، المقولة الكونية والنظارة بنصفها المفصول عن بعضه الآخر ، أتجاوز كل شيئ وأخف نحوها ، كموجة ، نحوها هي ، برجليها المتصالبتين وتنورتها المنحسرة ، كاهة تتلاشى ، عن ساقين : يا الله !!!!! ساقين يصلحان لمضاءات صدأ سري . أسندها ، يدي اليمنى تحت خصرها ، خصرها المبروم كأنحناءة نهر ، وباليسرى أصلح تصالب الرجلين وشحوبات " فوكو " ، غير المعني ، في كثير أو قليل ، بالبيضاء الآسـيوية المعنية ، بعمق كثيف ، بتاريخ الأرقام والحساب ، و التي ، من على بعد ليس بالبعيد ، ترقب إرتباك المشهد وبيوت الهاتف و دخان الطعام . هكذا ، أريح جسدها ، جسدها الخفيف كضوء وفكرة عابرة ، أريحه على ساعدي و أركض بها نحو تاكسي وسائق .
سـرد النص / الحكايـة :
هل تحتاج الشعوب إلى حكومات ؟ ألقت بالسؤال ، كفضيحة ، إلى الحاضرين المشدودين بخيوط خفيفة نحوها ، لكل خيط لون وتاريخ . الخيط الأحمر مدلوق هكذا على ربلة ساقها ، إنتعل خياله ، صعداً ، نحو أسفل جسدها وبقى ، لحين ، هناك ، فقد ولد في منتصف الستينات ـ ثلاث أو أربعة أعوام قبل أيار 68.
مراجـع :
1- Kenzaburo Oe . 2- للمقارنة والتأكد يمكن معاينة صورة " مغارة هرقل " في طنجة المنشورة في مجلة العربي ، عدد 444 بتاريخ نوفمبر 1995م . 3- كمؤتمر السكان ، القاهـرة ، سبتمبر 1994م . 4- أحـد مؤلفات ميشيل فوكو .
|
|
|
|
|
|
|
|
|