|
|
 الحاج وراق ومسارب الضي والذكرى ال19 لاستشهاد الأستاذ محمود
|
مسارب الضي : يوم الفصل ـ الحاج وراق
نشر هذا المقال بجريدة الصحافة عدد 17 يناير 2004 وأعيد بها في عدد 19 يناير 2004
شكك المفكر البارز د. عبدالله علي ابراهيم في أهداف الذين يحتفلون بذكرى 18 يناير 1985 ـ يوم إغتيال الأستاذ محمود محمد طه ـ وقد أمر باغتياله ، كما هو معروف ، جعفر نميري أيام لوثة الهوس الديني التي انتابته آخر أيام حكمه ، وذلك بتحريض من السلفيين ـ داخلياً واقليمياً ، وبتواطؤ ملحوظ من غالبية الإسلاميين ، ومشاركة مباشرة من بعض أدعياء التصوف ، وهم قطعاً أدعياء لأن التصوف مشتق من صفاء النفس فيدفع المؤمنين به إلى الرحمة والتسامح ، أما أولئك من قساة القلوب وغلاظ الأكباد فإن صوفيتهم المدعاة إنما هي صوفية (أم قرون) تنطح ولا تدر .
شكك د. عبدالله في أن المحتفلين بالذكرى ربما يريدونها نكاية بالإسلاميين ، أو تكأة لمعارضة الإنقاذ ، واستطيع أن أطمئن د. عبدالله ، وقد كنتُ طوال الثلاث مرات التي تم بها الإحتفال في السنوات الأخيرة عضواً باللجنة القومية المنظمة للمناسبة ، أطمئنه بأن الذكرى وإن تضمنت بعض ما يخشاه فإن القائمين عليها ظلوا يريدون بها ماهو أجل وأعمق من ذلك
كان الأستاذ محمود مثالاً للسلام يوصي تلاميذه بألا يطأوا بأقدامهم على (النجيلة) وكانوا يلتزمون انصياعاً له واقتداءً به ، وفي ذلك أحد الأمثلة العديدة لفكرة الأستاذ القاضية بأن المسلم الحق هو ذاك الذي تسلم الأحياء والأشياء من إيذائه.. لم يرفع سلاحاً قط في مواجهة الأسلحة الكثيرة التي قعقعت في وجهه ، لم يجز السيئة بمثلها ، بل ولم يلوث قلبه بالضغينة أو البغضاء ، كان في سماحة ورضا يحيا قولة المسيح عليه السلام : ( أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ) .
وإذا كانت الآراء التي دعا إليها الأستاذ محمود غريبة على الناس ، فقد دعاهم إليها بسلام ، وفي حرية ، لم يدبر إنقلاباً ، ولم يدعم عملاً مسلحاً ، كما لم يدرب الأتباع أو يخزن السلاح ، فقدم بذلك أنموذجاً صافياً للفكر ، وبذا وضع سؤال الحرية بصورة صافية نقية لا يعتورها أدنى كدر ، والسؤال هو : هل الحرية للآراء التي نوافق عليها وحدها أم أن الموقف المبدئي يقضي بأنها مطلوبة ، أكثر ما تكون مطلوبة ، بإزاء الآراء التي نختلف معها ؟ وهو
ذاته السؤال ـ بصياغة أخرى ـ عن الموقف من إغتيال الأستاذ محمود .. وتشكل الإجابة عليه حداً فاصلاً بين دعاة الديمقراطية والإستنارة من جانب ، وبين سدنة الطغيان والظلامية من الجانب الآخر .
وهكذا فإن الإحتفال بيوم 18 يناير إنما يعني الإحتفاء بحرية الضمير وحرية التعبير ، وبكلمة يعني الإحتفاء بالديمقراطية وحقوق الإنسان.. وبمقدار ما تتناقض هذه القيم مع الإسلاميين ومع الإنقاذ بمقدار ما يكتسب الإحتفال طابع النكاية بالإسلاميين والمعارضة للإنقاذ وبمقدار ما يستشعر هؤلاء في المناسبة عملاً عدائياً موجهاً تجاههم .
ولأن حرية الإعتقاد (الضمير) هي بداية كل حرية أخرى فقد كانت الحد الفاصل بين الأزمنة القديمة والأزمنة الحديثة ، بين أزمنة الكهنوت والطغيان والظلامية ، وبين أزمنة المدنية والتحرر والإستنارة .. وبهذا المعنى فإن اغتيال الأستاذ محمود ( التعبيرالمقصود هنا استشهاد الأستاذ محمود ـ العبارة بين القوسين من وضعي أنا ) يشكل أهم أحداث القرن العشرين ، والحد الفاصل بين زمنين ، وكما شكلت ابتسامة الموناليزا عنواناً لنهضة أوروبا فإن ابتسامة الأستاذ محمود على منصة الإعدام ، كما قلت وأكرر دائماً ، ستظل عنواناً لحرية ونهضة وتمدن السودان .
وإضافة إلى مغزى الحرية فإن 18 يناير يتضمن كذلك مغزى السلام ، وكلاهما هدفان مترابطان حيث أن أهم مصادر العنف هو ذاك الذي تثيره الجماعات التي تود فرض قناعتها على الآخرين بالقسر والإكراه .. وفي المحيط الإسلامي فإن جماعات الهوس الديني ، والإسلام السياسي ، إنما تحركها قناعة إمتلاكها الحقيقة المطلقة ، وقناعة أن الآخر المختلف إما غفل غر فتفرض عليه الوصاية ، وإما ضال أو زنديق أو كافر مرتد ، ووسائل (هدايتها) لهؤلاء معروفة في ثنايا التاريخ الإنساني والسوداني .. لقد قاد إدعاء الحق المطلق دوماً إلى الوسائل الشريرة ، قاد إلى الطغيان ، وإلى تفتيش الضمائر ومحاكمة النوايا ، وإلى حرق العلماء والمفكرين ، وإلى المجازر والحروب الدينية .
وقد أكدت تجارب التاريخ قديماً وحديثاً أنه إذا انفتح باب قتل الآخرين ، بدعوى ارتدادهم ، فإن هذا الباب سينفتح واسعاً ، وعلى مصراعيه ، حيث أن كل جماعة دينية ترى في نفسها
تجسيداً للعقيدة القويمة ، وفي الآخرين عنواناً لفسادها ، وإذا كانت الوهابية ـ كمثال ـ محقة في موقفها من إغتيال الأستاذ محمود فإن الخليفي وعباس الباقر كذلك محقان في فتواهما التي كتبت بالرصاص عن الوهابية .. وعباس الباقر والخليفي ، رغم غلوائهما وقسوتهما اللتان دفعتهما إلى فتح النار على المصلين بالمسجد ، ليسا نهاية المطاف فهناك الكثيرون الذين يرون فيهما (رخاوة) إزاء (الكافرين)!! مما يعني في التحليل النهائي أن تدور طاحونة الإغتيالات والدم بلا قرار وبلا نهاية .
وهكذا فإن 18 يناير بما هي دعوة للحرية ولقبول الآخر وللتسامح فإنها في ذات الوقت دعوة للسلم الأهلي ، للمنافسة السلمية بين المعتقدات والآراء المختلفة .. وبمقدار ما تكون هذه القيم عزيزة لدى كل سوداني فإن ذكرى 18 يناير ستظل عزيزة بذات القدر .
الحاج وراق
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست