|
Re: اين انتم ولا كلمه واحده اليوم عن ذكرى الاستقلال (Re: Abdel Aati)
|
الحصاد المر : السودان بعد 46 عاما من الاستقلال فى ذكرى الاستقلال ؛ يحتاج كل منا الى الوقوف لحظة لاستخلاص العبر من هذه الذكرى الجليلة ؛ وللسؤال ماذا حقق السودان بعد حوالى النصف قرن من استقلاله ؛ وما هو حصاد الشعب من تحقيق استقلال بلادنا الوطنى ؛ ومن الحكم " الوطنى " ؛ وهل توازنت التضحيات الجمة ؛ التى قدمها اجدادونا وآبائنا ؛ مع الثمار التى جمعناها ؛ والتى نمت على ارض مروية بعرقهم ودمهم . ان نظرة سريعة تكفى للاشارة الى الواقع البائس الذى تعانى منه بلادنا ؛ بعد 46 عاما من الاستقلال ؛ فلا يزال الدخل الوطنى واحدا من ادناها وسط شعوب العالم ؛ ولا يزال حظ الفرد من هذا الدخل واحدا من اقل الدخول ؛ ولا تزال الحرب الاهلية مستمرة ؛ تحرق الاخضر و اليابس ؛وتستنزف مواردنا البشرية والاقتصادية ؛ ولا تزال مؤسساتنا السياسية غارقة فى مستنقعات التسلط وعدم الاستقرار والفساد؛ ولا تزال الامية جاثمة على صدر نصف شعبنا ؛ ولا يكاد اسم السودان يذكر فى المحافل العالمية الا مقرونا بالكوارث والالام ؛ ولا يزال شعبنا ممزقا ووحدتنا الوطنية مهددة ونحن فى حالة من الاحتراب الداخلى وانعدام الثقة المتبادل . هذا الواقع ؛ يفرض علينا طرح حزمة من الاسئلة حول مسؤولية القوى والنخب المختلفة فى السودان الحديث عن هذا الفشل ؛ والى اى مدى تحكمت الظروف والمفاهيم والنخب التى انتجت الاستقلال ؛ فى توليد الفشل اللاحق ؛ وهل كان هناك طريق آخر ؛ يمكن ان يؤدى الى الرخاء وتحقيق السلام الاهلى وتعزيز الحكم الدستورى ؛ وهل هناك من منافذ للحل اليوم ؛ نحاول من خلالها ان نوقف هذا السير الانحدارى الى الهاوية ؛ ؛ الخ الخ من الاسئلة المصيرية . الاسئلة التى نطرحها ؛ لا تقلل بحال من احتفالنا بالمناسبة ؛ بل وقد تكون هى الاحتفال الافضل بذكرى الاستقلال ؛ فالتجربة التى لا تورث حكمة ؛ تكرر نفسها ؛ والتغاضى عن واقع السودان المر اليوم ؛ لن ينتج الا المزيد من الدمار والتفتت لبنية الوطن ؛ والا المزيد من الفاقة والعذاب لساكنيه . لماذا خسر السودان استقلاله ابتداءا : الحديث عن الاستقلال ؛ لا بد ان يبتدى بالحديث عن الاستعمار ؛ ولماذا خسر السودان استقلاله منذ البدء ؛ واى ظروف حكمت على بلادنا ان ترزح تحت النفوذ الاجنبى لاكثر من نصف قرن ؛ طوال القرن العشرين . اننا لا نتحدث هنا عن الحكم المصرى – التركى فى القرن التاسع عشر ؛ باعتباره قد انهزم تحت ضربات الثورة المهدية ؛ بل نتحدث عن السودان على تخوم القرن العشرين ؛ وتحديدا فى العام 1898؛ عام دخول وانتصار القوات الاستعمارية . ان الاستعمارالثنائى ؛ هذا الشكل الغريب والفريد للادارة الاستعمارية ؛ قد جاء كشكل مباشر لانهيار الدولة المهدية ؛ هذه الدولة التى تاسست على قاعدة من ثورة حركت ساكن الحياة فى كل السودان التركى - المصرى ؛ وخلقت مفاهيما جديدة وواقعا اجتماعيا جديدا ؛ تبلور بتحرير الخرطوم فى يناير من العام 1885 ؛ وانشاء الدولة المهدية ؛ بقيادة الامام محمد احمد المهدى ؛ كدولة سودانية مستقلة ؛ ضمت معظم حدود السودان الحالى ؛ وشكلت خطوة جديدة فى بناء الامة السودانية والوطن السودانى . الا ان الدولة المهدية ومنذ بدايتها ؛ وخصوصا بعد رحيل الامام المهدى ؛ ورغم العديد من ايجابياتها ؛ قد تميزت بعدد من المسالب ؛ والتى ما كان يمكن الا ان تؤدى الى انهيارها ؛ نذكر منها : · حكم الفرد الغاشم وانعدام المؤسسات : ففى مقابل القيادة الجماعية والشورى التى قام بها الامام المهدى ؛ فان الخليفة عبد الله قد ابعد عن مركز القرار اغلب قواد المهدية ؛ وادخلهم السجون ؛ ومارس سلطته بصورة فردية غاشمة وعشوائية ؛ واعتمد بشكل مباشر على اقاربه وابناء قبيلته . · حالة الاحتراب الداخلى والنزاعات الخارجية : فقد دخلت المهدية فى حروبات داخلية ؛ منها حروبها ضد الكبابيش ؛ وحروبها ضد التمردات القبلية فى دارفور وجبال النوبة ؛ ومحارتها لقواتها من الجهادية ؛ وحالة الاحتراب التى خلقتها ما بين اولاد البحر واولاد الغرب ؛ والحروب الخارجية التى شنتها ضد مصر وضد الحبشة . · الفوضى الاقتصادية والتخلف التقنى : فقد ادت الهجرات الواسعة من الغرب الى ام درمان ؛ وتجييش اعداد ضخمة فى جيوش نظامية ؛ وحالة الاحتراب السائدة فى اقاليم واسعة ؛ الى الفوضى الاقتصادية ؛ والى ضعف الانتاج ؛ والتى كانت من نتائجها سياسة المصادرة لاحتياجات الجيش ؛ الامر الذى زاد الطين بلة ؛ وقلل من التفاف الشعب ( الرعية ) تجاه الدولة . · التطرف الدينى ؛ والذى ظهر فى الغاء الطرق الصوفية كافة ؛ وفرض المهدية وتعاليم الامام المهدى كايدولوجية رسمية للدولة ؛ والتضييق على الجماهير فى عادتها وتقاليدها الاجتماعية ؛ وفرض نوع من السلفية القاسية الى تعارضت مع الطابع المنفتح والشعبى لاسلام معظم القبائل السودانية . ادى كل هذا ان تتحول قيادة الدولة المهدية الى عامل تفريق ؛ وليس عامل توحيد ؛ وان تنفر عنها جماهير واسعة ؛ وان تهدر امكانياتها المتواضعة فى مغامرات حربية لا طائل من ورائها ؛ وان تغرق البلاد فى ازمات من المجاعة والفوضى ؛ حتى قيل " انت قايل الدنيا مهدية " كناية عن حالة من الفوضى و التسلط والقرار العشوائى الغاشم . فاذا اضفنا الى ذلك ؛ اذدياد التنافس الاستعمارى حول افريقيا ؛ وكون معظم القارة قد خضعت حينها للنفوذ الاوروبى ؛ فاننا لا نستغرب ان تنهار الدولة المهدية بكل مشاكلها وصراعاتها المبررة وغير المبررة ؛ وقيادتها المغامرة ؛ امام قوة اجنبية منظمة ؛ تتفوق عليها تقنيا وعسكريا ؛ رغم البطولة التى حارب بها السودانيون دفاعا عن ارضهم وترابهم . حول الدور الاستعمارى فى السودان : درج الاستعماريون وتلاميذهم ؛ على القول بان الاستعمار قد حقق الكثير من التطور للسودان ؛ وقضى على فوضى الدولة المهدية ؛ وبنى مؤسسات وخدمة مدنية ؛ لم نستطع ان نحافظ عليها بعد الاستقلال ؛ الامر الذى يعبر عنه بعض من الجيل القديم فى عبارة " يا حليل زمن الانجليز " ؛ فالى اى مدى تكمن الحقيقة فى هذه المقولات. تتجاهل هذه المقولات حقيقتين هامتين ؛ الاولى هى ان غرض الاستعمار من احتلال بلادنا قد كان غرضا انانيا بحتا ؛ وهو الحصول على المواد الخام لصناعته واقتصاده ؛ وخلق سوق لتصريف منتجاته ؛ وقد كانت هذا الغرض هو الحاكم لكل السياسات الاستعمارية فى بلادنا ؛ كما فى غيرها من بلاد العالم . اما الثانية فهى ان الاستعمار؛ لتوطيد سيطرته وبناء الامن والنظام الذى يزعمون ؛ قد مارس قدرا من الوحشية والقتل فى بلادنا ؛ مما يفوق الوصف ؛ كما فى كررى مثلا ؛ الامر الذى وصفه مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال بجرثومة العنف الاوربية ؛ وهى جرثومة غاشمة كاسحة ؛ انتجت حربين عالميتين ؛ والعديد من المجازر البشرية ؛ فى الهند وناميبيا والجزائر والسنغال ؛ ومن بعد فى فيتنام وجنوب افريقيا وفلسطين ؛ والتى تنفى اى صفة حضارية او بشرية عن الاستعمار او ممثليه . ومما لا ريب فيه ان الاستعمار قد بنى لتحقيق اهدافه لبعض المؤسسات الانتاجية والخدمية والتعليمية ؛ الا ان هذه المشاريع التى قامت ؛ كمشروع الجزيرة مثلا ؛ كانت ترمى حصرا الى اشباع حاجة المستعمر للمواد الخام . وكما تنبه الى ذلك العديد من الباحثين ؛ فان المناطق البعيدة عن ميناء التصدير ؛ قد اهملت تماما فى خطط الاستعمار ؛ فبنى بذلك اولى لبنات التطور غير المتوازن فى السودان ؛ حيث عاشت مناطق كاملة من القطر فى نمط الاقتصاد المعيشى ؛ ولم تلمسها يد التحديث المزعومة . اما فى مجال السياسة التعليمية ؛ فقد وصفها معاوية محمد نور فى الثلاثيات بالتالى : " فسياسة التعليم فى السودان لم تكن ترمى الى نشر الثقافة والعلم بين ابناء البلاد ؛ وانما كان اكبر همها فيما مضى ان تخرج موظقيين وطنيين يشتغلون فى الوظائف الصغرى فى البلاد " ؛ والدليل على ذلك ان الاستعمار عندما خرج من بلادنا كانت نسبة الامية تقارب ال90% وسط السكان ؛ وتكاد تقترب من المائة بالمئة وسط جماهير المناطق المهمشة والنساء . وفى مجال المؤسسات السياسية والتمثيلية ؛ فقد قضى المستعمر بفظاظة على كل المحاولات لخلق هيئات سياسية وتمثيلية حديثة ؛ وخصوصا بعد نهضة العام 1924 ؛ ومضى بدلا عن ذلك الى تكريس القيادات القبلية والعشائرية ؛ فى سياسة الادارة الاهلية ؛ وتقسيم السودانيين على اساس قبلى ؛ وتوسيع نفوذ القوى الطائفية ؛ بما وفره لها من دعم مالى وسياسى وتنفيذى ؛ فى خطوة جديدة لتمزيق عرى الوطنية السودانية ؛ واعتقال تطور البلاد فى علاقات قديمة عفى عليها الزمن . وحينما نهض المثقفون من سباتهم ؛ وانشاؤا مؤتمر الخريجين على علاته ؛ وكانوا من صفوة النخبة المدينية المثقفة فى البلاد ؛ فقد حاربهم الاستعمار ؛ وادخل وسطهم دسائسه ؛ ومزق مؤتمرهم عن طريق القوى التقليدية ؛ ولم يتورع عن انشاء كيانات هزيلة ؛ كالمجلس الاستشارى لشمال السودان ؛ والجمعية التشريعية ؛ ودعم الاحزاب الطائفية والقبلية ؛ كحزب الامة ؛ والحزب الجمهورى الاشتراكى ؛ فى الوقت الذى كان يطلق النار فيه على المظاهرات الوطنية ويحاول تحطيم الحركة السياسية والنقابية والصحفية الناشئة . كما تمثلت محاولات ايقاف الاندماج الوطنى فى سياسة المناطق المقفولة ؛ والتى اوقفت تدفق السلع والثقافة والبشر ما بين مناطق البلاد المختلفة . ورغما عن الطابع الظالم والمهيمن لعلاقة الجلابة بجماهير الجنوب والغرب وجبال النوبة فى الحقبة قبل الاستعمارية ؛ فان الاستعمار لم يسع الى ترشيدها ؛ وانما الى ايقاف اى تبادل ؛ واغلق بهذه السياسة التطور الطبيعى لعملية الاندماج الوطنى ؛ وساهم بذلك فى ايقاف تطور بناء الامة السودانية ؛ وزاد من تكريس الفروقات التاريخية باخرى جديدة . اما محاربة الاستعمار للقومية السودانية ؛ فقد تمثلت بشكل رمزى بعد ثورة 1924 ؛ ففى مقابل السؤال عن جنسهم ؛ كان ثوار24 يردوا بانهم سودانيون ؛ الامر الذى عرضهم للضرب والتعذيب ؛ لكيما يتخلوا عن هذه الاجابة وينطقوا باصلهم القبلى ؛ ويا لها اذن من سياسة حضارية تمدينية راقية قام بها المستعمر فى بلادنا !!! ان ما سبق يوضح ان السياسة الاستعمارية فى السودان قد كانت سياسة انانية ؛ ولم تقدم للسودان ؛ فى مقابل الاستنزاف الواسع لموارد البلاد الطبيعية ؛ اى عائد يذكر فى مجال البنى التحتية او الصناعة او تحديث الزراعة او فى السياسة التعليمية ؛ الا من مشاريع هزيلة تعد على اصابع اليد ؛ اما سياسة الاستعمار الاجتماعية فقد كانت وبالا على شعبنا ؛ وتكريسا للقديم والمتخلف ؛ وجزءا من عقلية فرق تسد ؛ وجرحا عميقا فى النسيج الاجتماعى والوطنى ؛ تركه لنا الاستعمار كهديته المرة لنا ؛ وهو يخرج رسميا من بلادنا .
|
|
|
|
|
|
|
|
|