|
Re: المعادلة الصعبة لوحدة السودان / الراحل ال� (Re: عبدالله الشقليني)
|
وحدة السودان( قبل الاستفتاء) المعادلة الصعبة بين المرغوب والممكن بقلم : الراحل الأستاذ / علي محمد صديق 2010
انقسم جمعنا في منتدى السودان الفكري إلى ست محاور ، وقد جاء تكليفنا أنا والأستاذ ( علي محمد صديق ) بالكتابة عن مخاطر الاستفتاء . وكان التوقيت قبل أشهر من الاستفتاء للإخوة من جنوب السودان ، بعد أن ضاق شعب الجنوب الأمرين من كراهة الإخوان المسلمين الذين يحكمون السودان – وكان ذلك عام 2010 . أعد الراحل ( علي محمد صديق) دراسته الذي اختار لها عنوان: {وحدة السودان المعادلة الصعبة بين المرغوب والممكن}
أعد لنا الأستاذ ( علي محمد صديق ) الدراسة ، وقد خطها بيده ، في عشر صفحات ، وقمت بطباعتها ، واكتملت المحار الست الأخرى ، ولكن هجمة الاستفتاء لم تمنح دراستنا أن ترى النور. انتهى عمله بمعهد الدراسات الاستراتيجية عام 2011 ، وأقمنا حفل وداعه لأبوظبي ، وبعدها بعام تعرض لحادث حركة في طريقه إلى الشارقة ، وانتظر في مستشفى الشارقة ، ثم تم تسفيره للعلاج في السلاح الطبي بالسودان ، حيث انتقل إلى رحمة الله عام 2012 . لقد أحب السودان واحداً موحداً ، وقد عمل في ستينات القرن العشرين ضابطاً إدارياً عام 1968 في منطقة أبيي ، ونفذ مشروعاً زراعياً هناك. أهيب بأسرته أن تلم بما خطته يداه الندية عام 2011 ، لينضم لمأثوراته ،
أنا لله وإنا إليه راجعون
**
| |
|
|
|
|
|
|
Re: المعادلة الصعبة لوحدة السودان / الراحل ال� (Re: عبدالله الشقليني)
|
نص دراسة الأستاذ ( علي محمد صديق ):
هل يأتي يوماً على السودان حيناً من الدهر لن يكن فيه شيئاً مذكوراً؟ سؤال مشروع ، يكتسب مشروعيته من واقع حال السودان المثخن بجراحات البلايا – لا الابتلاءات ، وهي بلايا لأنها تأتي بفعل الإنسان وتأتي الابتلاءات بفعل عوامل خارجة عن إرادة الإنسان ، والسؤال يكتسب عقلانيته من المخاطر والمهددات التي تتربص بوحدة السودان وبأمنه وسلامته ، وبمستقبله ، وبضياع فخامة تاريخ السودان وآثار هذا التاريخ الضارب في القدم ، وتفرد تركيبة السودان البشرية ومتانة الثوابت التي صاغت تآلف وتكاتف جزئيات تركيبته البشرية وبنيته الجغرافية ، ومن حيث الحظوات الإلهية الطبيعية والبشرية التي يتميّز بها السودان دون غالبية بلدان الكرة الأرضية ... والسؤال منشؤه هول الفجيعة الوطنية بسبب مآلات الواقع الأليم الذي يعيشه السودان اليوم . واقع ينبئ عن آتٍ لن يكون فيه السودان شيئاً مذكوراً ، واقع تتسارع فيه الخطى إلى متاهات مستقبل أكثر عتمة وأشد ظلمة من واقع اليوم ...واقع أفرزه قصور الرؤى ومحدودية مدى الرؤية .. واقع أوجده ائتلاف البصيرة وانكفاء العقول على مسلمات وصمديات وغيبيات تآكلت واهترأت بفعل الزمن بحكم التجربة وبديل خيبة الرجاء فيها .. تقييد أم استسلام ؟
ووقائع مآتي واقع اليوم الأليم يعرفها كل أهل السودان .. أحداث ووقائع تاريخية لعب فيها الأجنبي الدور الأبرز ..تجارب حكم وطنية انعدم خلالها الفكر الموجه وشمولية التناول ، والنهج العلمي المدروس ، وانعدم تحديد الأولويات ، ودقة رسم الإستراتيجيات والاختيارات الأصوب لوسائل التحقيق ، ثم كانت الطامة الكبرى التي تجسدت في الـ" الجهوية " ، وخاصة " الجهوية الدينية " بكل ما اعتورها من صفوية وانكفاء على الذات ، وبكل ارتباطاتها الخارجية التي فرضت عليها اتخاذ الإرهاب الديني منهجاً لإسكات أصوات الآخرين في بلد تلونت فيه كل مظاهر ومناحي حياة الإنسان بالقيم الدينية على اختلاف الأديان والعقائد ... يحدثنا التاريخ أن السودان كان منبع ومنشأ أقدم الحضارات الإنسانية ... حضارة " كرمة " في شمال السودان ..، ويحدثنا التاريخ أن تلكم الحضارة تمددت وازدهرت وانتشرت قبل حضارة " تدمر " في سوريا اليوم ، وقبل الحضارة الفرعونية . ويحدثنا التاريخ أن حضارة " كرمة " تفاعلت مع محيطها الجغرافي وتقدمت على من حولها ، مما مكنها أن تعيد تشكيل نفسها وفق مقتضيات كل مرحلة تاريخية . لذلك جاء من لدنها " ممالك كوش " و" نبتة " وإثيوبيا ، و " مروي" و " علوة " و" المغرة " و " سوبا " . ويخبرنا التاريخ كيف أن هذا التواصل الحضاري هو الذي هيأ وجدان الإنسان السوداني للتعامل مع الأديان السماوية وبخاصة المسيحية والإسلام ، بعد دخولهما السودان ، ويخبرنا التاريخ أن كلتا العقيدتين دخلتا السودان دون قسر أو إكراه لأهل البلاد ويحدثنا التاريخ أيضاً عن تأثير هذا التواصل الحضاري في قيام الممالك والسلطنات في مختلِف أركان السودان : " مملكة مروي " و " مملكة سوبا " و " سلطنة العبدلاب " و " السلطنة الزرقاء " و"سلطنة درافور " و " سلطنة النيمانج " في جبال النوبة الغربية ، و " سلطنة الميري " بقيادة "السلطان عجبنا " وغيرها . ويخبرنا التاريخ عن كيف أصبح السودان في تلكم الأزمان الغابرة قبلة لكل الشعوب من حوله ، وكيف ساعد ذلكم الانسياب التاريخي المتسلسل ، بذلك النسق البديع في تلاقح حضارة السودان مع حضارة " الداجو " في إفريقيا ، وحضارة " الفولاني " وحضارة " تمبكتو " والحضارة الفرعونية في الشمال والحضارة الحبشية في الشرق ، ويحدثنا التاريخ عن كيف اكتسب السودان المتنوع الإثني البديع الذي شكل هويته الوطنية الراهنة . ومع تعاقب مراحل التاريخ بدأ تاريخ السودان الحديث الذي يحمل في مكوناته عبراً ودروساً ونماذج كان من المفترض أن تكون هادياً للحكم الوطني إذا تمعنه الحكام ، ففي نهايات القرن التاسع عشر تمكن الإمام محمد أحمد المهدي من تحرير البلاد من حكم الأتراك العثمانيين ، وفي العقود الوسطى من القرن العشرين تمثلته الحركة الوطنية في نضالها ضد الاستعمار البريطاني وحررت البلاد من ربقته . وبعد استقلال السودان وتسلم السودانيين قياد البلاد تنكبوا جادة التاريخ الذي صنع كل ذلك المجد الذي ارتبط باسم السودان وإنسان السودان وتنامي الغي السياسي حتى بلغ ذروته في العقدين الأخيرين من تاريخ السودان الحديث .
محطات تاريخية فارقة :
في تاريخ كل أمة من الأمم محطات تتميز عن غيرها بوقائع وأحداث تترك آثارها في بنية الأمة جغرافيا , وفي وجدان الأمة عقديا وثقافيا , وفي واقع الأمة وفرة أو شح إتاحة اقتصاديا , وفي تقاليد أهلها وعاداتهم أخلاقيا .. في تاريخ عصر القديم كان تعاقب حكم الأجانب وتواليه محطة فارقة شكلت عقلية ووجدان الإنسان المصري , فعلى امتداد التاريخ لم تعرف مصر حكما وطنيا مصريا إلا بعد قيام ثورة يوليو 1952 . في الجزائر كان الاستعمار الفرنسي أبرز المحطات الفارقة .. ولأن الاستعمار الفرنسي كان يستهدف العقول قبل الحقول تأثر الإنسان الجزائري وجدانيا وعقليا بالثقافة الفرنسية فأعظمت هويته التي ما يزال يجاهد الزمن في البحث عنها . وعلى نقيض الاستعمار الفرنسي الذي – من حيث لا يدري – حلق وحدة ثقافية في التي استعمرها كان الاستعمار البريطاني يجنح إلى تمزيق وحدة البلدان التي يحكمها (سياسة فرق تسد) على نحو ما فعل في السودان والهند كنموذجين أكثر وضوحا ودلالة . في السودان كرس القبلية وأثار النعرات العنصرية والدينية ، ولعل أبشع النماذج ما ارتبط بجنوب السودان ومنطقة جبال النوبة بسنه قانوني ( المناطق المقفولة ) هذه المحطة بالتحديد أصبحت أبرز محطات تاريخ السودان الحديث على النمو الذي يعرفه كل أهل السودان , وأصبحت قضية القضايا .
قضية الجنوب والحكم الوطني : إذا كان الاستعمار البريطاني يتحمل جزءا من جريمة إفشاء الفرقة بين جنوب السودان وشماله , فإن الحكم الوطني – على اختلاف أنماطه ومقاصده – يتحمل الوزر الأكبر فيما آلت إليه العلاقة بين شطري البلاد ... لماذا وكيف ؟ لأن الحكم الوطني – منذ استقلال السودان في عام 1956 وحتى الآن – فشل في تحديد أسس ومواصفات المواطنة .. هذا الفشل أدى – تلقائيا – إلى حظر وخطأ التعامل مع إنسان جنوب السودان كمواطن ومع جنوب السودان كجزء أصيل من الوطن الكبير . ونتيجة لهذا التعامل ظلت كل أنظمة الحكم الوطني – باستثناء الحكم المايوي 1969-1985 – نتعامل مع أهل جنوب السودان كمتمردين . ولأن الحكم الوطني – باستثناء فترة الحكم المايوي – فشل في صياغة دستور دائم يحدد المبادئ والثوابت والحدود المشتركة القصوى التي تجعل من السودان وحدة عضوية واحدة تحتكم في حياتها إلى الدستور والقانون . ولأن أنظمة الحكم الوطني جميعها خضعت لموجات من الاستقطاب الإقليمي والدولي مما أدى إلى تقاطع توجهات الحكم الوطني مع الصالح العام الوطني . ولأن أنظمة الحكم الوطني جميعها كانت جهوية إما للجمهورية أو للحزبية ولم تستطع أن ترتقي بحسها الوطني إلى ما يتجاوز ذلك المحتوى المحدود الضيق . ولأن أنظمة الحكم جميعها اتخذت الحل العسكري خيارا أولا لحل قضية الجنوب برغم تكرار فضل ذلك الاختيار البغيض. ولأن أنظمة الحكم الوطني تجاهلت واجبات الحكم وهو تحقيق الوحدة الوطنية , ليس بين جنوب السودان وشماله فحسب , وإنما الوحدة الوطنية بمفهومها الأشمل لكل قيم العدل والمساواة والإحكام إلى القانون , ولكل خيوط نسيجها الثقافي والأخلاقي , ولكل أساطير الخير والرخاء الاقتصادية والاجتماعية والخدمية.. ولأن الحكم الوطني لم يستوعب حقائق تاريخ البلاد المشبع بالنماذج والأمثلة , ولم يسع استدراج الدروس والقدوة الأحسن المكنوزة في ثنايا ذلك التاريخ .. لم يستطع الحكم الوطني أن يدرك أن وحدة السودان التي حفظت وجوده وصانت تماسكه رغم التعدد لم تأت بقرار سياسي بقدر ما تحققت بالمعايشة , واحترام كل مجموعة اثنية لمعتقدات وثوابت المجموعات الأخرى , فنشأ بينها الانسجام والتكافل والتعاضد التي عرف بها أهل السودان .
كارثة الكوارث :
اصطحب الحكم الوطني كل هذه المثالب وغيرها كثير بما يقرب من نصف قرن من الزمان حتى حلت بالسودان كارثة الكوارث اليوم استدعى على السلطة في يونيو نفر من الإسلاميين بدعوى إنقاذ البلاد من ضياع محقق ، كانت البلاد على وشك السقوط في هاويته . جاءت بياناتهم الأولى تبشر بحل مشكلة الجنوب في مدى ستة أشهر فقط . بدءوا بشن حرب هوجاء على جنوب البلاد وفق سياسة (الأرض المحروقة ) وجندوا الشباب وساقوهم قسراً إلى ساحات القتال في جنوب البلاد في حرب قيل أنها جرب جهادية ففشلوا . لجئوا لسياسة التفريق وإشعال الفتن والحروب بين الفصائل الجنوبية ولم يفلحوا . عمدوا إلى شق صفوف أهل الجنوب باتفاقيات، بل أن قائدهم فضل الحرب على التفاوض ، ثنائية لم تجلب لهم سوى سخرية واستهزاء المواطنين . صحب كل هذا العبث السياسي والعسكري جهد مقدر من القوى السياسية الأخرى ، فشكلت جبهة عريضة لمنازلة الانقلابيين ، وخاصة عند ما صمّ الإسلاميون آذانهم عن كل نداءات العقل بأن يجنحوا إلى السلم وعندما ضاق عليهم الخناق رضخوا للأمر الواقع وتهديدات قوى دولية كبرى وإقليمية مؤثرة ، وبخاصة بعد أن فرضت المنظمات الدولية والقوى العظمى عقوبات متنوعة على السودان وضربت حصاراً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً على البلاد ، فكانت المفاوضات وكانت "نيفاشا "وتوقف القتال .
نيفاشا : كعب أخيل أم حصان طروادة ؟
كان مطلع العام 2005 موعداً لتوقيع اتفاق بين الحركة الإسلامية والحركة الشعبية لتحرير السودان سُميّ " باتفاقية نيفاشا " . ولسنا هنا بصدد تناول بنود هذه الاتفاقية بالتفصيل ، ما يهم هو ما أفضت إليه الاتفاقية من نتائج ، وما إذا كانت هذه النتائج توازي الجهد الذهني والبدني والكلفة المالية التي كلفتها الاتفاقية ، لأن العبرة هنا بالخواتيم .. فعلى الرغم من أن الاتفاقية قد أدت إلى توقف القتال المسلح ، إلا أنها أشعلت حرباً سياسية امتد أوراها إلى كل شبر من أرض السودان ، بل خلقت وضعاً خطيراً يهدد وحدة السودان وسلامة أراضيه وأهله ومقدراته ..لماذا ؟
أولاً :
لأن منطلقات الوفاق بين الطرفين متناقضة تماماً رغم توقيع اتفاقية السلام . فالحركة الشعبية تنادي ببناء سودان جديد يتساوى فيه المواطنون دون تفرقة ودون تمييز ، في حين أن الإسلاميين يدعون إلى سودان متجزئ يُحكم دينياً في الشمال ويحكم علمانياً في الجنوب ، وبين هذين الشعارين تقف أغلبية الشعب السوداني بعيداً عن قرارات ومواقف تمس حياتهم في الصميم . ثانياً : نصّب الإسلاميون أنفسهم متحدثين باسم الشمال دون تفويض من أهل الشمال ، فهم أقلية لا تذكر مقارنة بتعدد أهل السودان ، فضلاً عن أنهم استولوا على الحكم قسراً ولم يستشيروا حتى المسلمين من أهل الشمال إن كانوا يريدون حكماً دينياً . وما يقال عن الإسلاميين ينطبق على الحركة الشعبية لتحرير السودان ، رغم التفاوت بين الموقفين . ثالثاً : نصت الاتفاقية على أن يمنح جنوب السودان حق تقرير المصير في استفتاء لمواطني جنوب السودان ، على أن يعمل طرفا الاتفاقية على جعل الوحدة شعاراً جاذباً لأهل جنوب السودان ..عند تطبيق نصوص الاتفاقية غلبت المكايدات السياسية بين الطرفين على جدية وفاعلية تنفيذ بنود الاتفاقية ، فانقضت خمس سنوات دون أن يتخذ أي من الطرفين مواقف تجعل الوحدة شعاراً جاذباً ، والسبب – مرة أخرى – يعزى لتباين منطلقات صياغة الاتفاقية . بهذا السياق أصبحت اتفاقية " نيفاشا " مثل حصان طروادة لطرفي الاتفاق ، فكلاهما يتخذ من الاتفاقية ذريعة للانقضاض على معسكر الطرف الآخر ، على القل منطقياً وفكرياً ، وأصبحت الاتفاقية من جانب آخر ، مثل كعب أخيل للأغلبية الساحقة من شعب السودان بحكم أنها أصبحت أمراً واقعاً يتبارى طرفا الاتفاقية خلف فرضياته ، فلا سلام بمعناه الأشمل قد تحقق ، ولا كتبت النجاة لوحدة البلاد .
ما نتيجة كل ذلك ؟
لعل من أبرز نقاط الضعف التي تسم اتفاقية " نيفاشا " المناخ الذي جرت فيه المفاوضات وأفضى إلى هذه النتيجة المعيبة ، فالاتفاقيات جاءت نتاجاً لحالات استقطاب حادة من قبل قوى خارجية لها أجندتها الخاصة أو تريد أن تبحث عن موطئ قدم لها في السودان لتحقيق مصالحها ، سياسية كانت أو اقتصادية ن فالحركة الشعبية تجد الدعم والمساندة من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين عموماً ، والحكومة الإسلامية تجد الدعم والمساندة من المنظمات الإسلامية الإقليمية ومن الحركة الإسلامية العالمية ومن الجماعات الإسلامية داخل البلاد . هذا الصراع ما كان له أن ينشأ لولا تدويل قضية الجنوب ، ولولا التوجه الديني الذي انتهجته حكومة الإسلاميين ، مما استعد عليها كل القوى الحديثة في العالم على اختلاف مواقعها الجغرافية ومذاهبها الفكرية . وكان أمراً بديهيا أن يفرز هذا الصراع تداعيات خطيرة في التوجهات السياسية لأهل جنوب السودان ما يحيل الاستفتاء المزمع إجراءه في يناير عام 2011 م إلى كابوس حقيقي وخطر داهم يهدد وحدة السودان ويهدد ما تحقق في سيرة البلاد في العقود السابقة . إن هذا الوضع الخطير الذي يعيشه أهل السودان نتيجة لعدة عوامل تضافرت لتُنشئ هذا الواقع الأليم . في طليعة هذه العوامل هو الحكم الديني الذي فرضه الإسلاميون على أهل السودان . صحيح أن السودان أغلبية سكانه من المسلمين ، ولكن صحيح كذلك أن السودان هو آخر بلد في الكرة الأرضية يحتاج الحكم الديني ، فالسياق التاريخي في تكوين الجماعات البشرية في السودان لم يكن للأديان تأثير في نشأته ولا في استمرار وحدة أهله ولا في تشابه عاداتهم وتطابق منطلقاتهم الأخلاقية ، ولا في تماثل عاداتهم وتقاليدهم رغم تعدد معتقداتهم الدينية وتباين أصولهم العرقية ومنابتهم الثقافية . لذلك يصبح إقحام الدين في حكم البلاد مدخلاً لتنفيذ مخططات دينية خارجية ، ومحاولة للسيطرة على السلطة وإقصاء الآخرين . ولعل هذا ما يفسر أساليب البطش والتعذيب والتنكيل التي مارسها حكم الإنقاذ ولا يزال يمارسها . ويفسر لماذا فشلت حكومة الإسلاميين في تطوير حياة الناس ، بل ويفسر لماذا يشقى إنسان السودان وهو يعيش في بلد من أثرى بلاد الدنيا .
مصادر تهديد مستقبل السودان :
هذا الوضع يفرض على كل سوداني حادب على وحدة تراب وطنه أن يجأر بالحق ويسمي الأشياء بأسمائها . لا شك أن هنالك كثيراً من العوامل التي تهدد مستقبل السودان ، وتهدد معنى وجوده أصلاً ، ولا شك أن القضايا مثار همّ أهل السودان متلازمة ، يرتبط بعضها ببعض سواء كانت أسباب هذا الهمّ داخلية أم خارجية . لذلك لابد من بيانها وتحديدها .
الحكم الديني : ارتداء لبوس الدين في غير موضعه يضر بالدين قبل أن يضر بالحكم . فالأديان تحكمها نصوص قطعية لا مجال للفكاك منها أو الالتفاف عليها ، وبخاصة في المجتمعات المتعددة الأديان ، فضلاً عن أن الحكم الديني يستوجب وجود مناخ ديني معافى لا تشوبه شائبة دنيوية ، فإذا كان هذا متاحاً في عصور الأديان الأولى فإن طبيعة عالم اليوم تجعل من المستحيل إيجاد مثل هذا المناخ ، فضلاً عن استحالة وجود قدوة مُثلى يقتدي بها الناس ، وفوق ذلك فإن فرض الحكم الديني على عامة الناس من شأنه أن يوغر صدور الناس ضد حكامهم خاصة إذا كانت الحكومة الدينية غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها ، فالغاية من الحكم - أي حكم – هي توفير أرقى مستوى من العيش الممكن لأهل البلاد ، إلى جانب متطلبات أخرى لا حصر لها . فإذا اعتبرنا تجربة الحكم الديني الراهنة في السودان مثالاً لمثل هذا الحكم فمن الأصوب أن يترجلوا فوراً . السودان جزء من عالم تتحكم فيه عدة مقتضيات ، وهي مقتضيات فرضها تطور نتاج العقل البشري في كل أنحاء الأرض ، ولأن السودان لابد أن يتفاعل مع عالم اليوم ، ويصبح الانكفاء على دين عاملاً من عوامل العزلة ، التي ستحرم السودان من الانتفاع من ثورة العقل البشري ، بل وتقعد بالعقل السوداني عن الإبداع والابتكار . الحكم الديني ينتقص من حقوق غير المعتنقين للدين الحاكم ، لذلك لا يمكن بمقياس حقوق الإنسان - بمقياس إرادة الأغلبية – أن يكون الدين عنصراً في تحديد أهلية المواطنين للمشاركة في الحكم . - الحكم الديني يعتبر أوسع مدخل للانقسام والتشرذم ، وأقوى ذريعة للانفصال عن الأصل كما هو الحال في سودان اليوم . - - إلى جانب الحكم الديني كمهدد لوحدة البلاد هناك عوامل أخرى مثل تبني أطروحات وأجندة قوى خارجية بتدويل القضايا الوطنية والسماح للغير بالتدخل في الشأن الداخلي للبلاد . - وهنالك انعدام الأمان والحريات العامة بإنفاذ قوانين قمعية ، أو بإقصاء الغير وحرمانه من المشاركة أو كبت الحريات .
إلى أين يقودنا الاستفتاء القادم ؟
الاستفتاء القادم إما أن يؤكد وحدة البلاد أو يفضي إلى انفصال جنوب السودان عن الوطن الكبير . من السياق التاريخي الذي أشرنا إليه في صدر هذه المذكرة نخلص إلى أن وحدة السودان هي الأصل في وجود السودان عبر آلاف السنين ، لذلك يصبح مجرد التفكير في اقتطاع أي جزء من أرضه – مهما صغر حجمه – جريمة تاريخية لن يغفرها الحاضر ولا المستقبل ، هي جريمة لأنها تعرض البلاد بأسرها لمخاطر لا قبل للناس بها ، وهي جريمة لأن الانفصال يعني التفريط في أمانة ائتمننا عليها صناع التاريخ الأوائل بكل بطولاتهم وتضحياتهم ، وهي جريمة لأننا سنورث الأجيال القادمة مصاعب ومصاعب لا يقدرون على مجابهتها ، وهي جريمة لأنها تنطوي على مخاطر مفزعة . - فالانفصال يعني طمس وتشويه هوية الإنسان السوداني التي تشكلت من جذوره الأفريقية وانتمائه العربي ، فلا الأفارقة سيقبلون انتماءنا إليهم طالما أننا رفضنا زنوجتهم ، ولا العرب سيرحبون بنا لأن عروبتنا مطعون فيها أصلاً . - والانفصال يعني بتر جزء أصيل من وجداننا الثقافي والتخلي عن مصدر من مصادر قوة شخصيتنا . - والانفصال يعني أن نفقد من مواردنا بمقدار ما يجود به الجزء المنفصل . - والانفصال يعني أن يضيق مجال تفاعلنا مع الآخرين ، إما بفعل حواجز جغرافية ، أو بفعل مواقف سياسية ستنشأ قطعاً بسبب الانفصال. - والانفصال يعني أننا ارتضينا أن نصبح دولة دينية ، وأننا نرفض التعايش مع العالم الخارجي وهو عالم علماني . - والانفصال يعني أن يصبح السودان عرضة لمزيد من العداوات ويصير مسرحاً لحروب آتية قطعاً من قبل القوى التي تسببت في حدوث الانفصال أو شجعت عليه . - والانفصال يعني أن نتقوقع داخل حدودنا ليسهل حصارنا اقتصادياً وثقافياً وسياسياً . - والانفصال قد يفقدنا عضويتنا في الإتحاد الإفريقي والمنظمات والمؤسسات الإفريقية وقد كنا من المؤسسين لها . - والانفصال قد يعني أن يبدأ إخواننا الجنوبيون من الصفر ، أو أنهم قد يواجهون مصاعب التأسيس . - والانفصال قد يعني قطع التواصل الأسري بين أبناء الوطن الواحد ، الذين يتعايشون مع بعضهم البعض لما يقاس بمئات السنين . - والانفصال يعني أننا – من حيث لا ندري – أصبحنا عنصريين . هذه نماذج فقط لما سيؤول إليه حال البلاد لو تم انفصال جنوب السودان ، ولعل الغيب يخبئ للطرفين ما هو أسوأ مما ذكرنا . لذلك لا خيار أمام أهل السودان غير الوحدة ، ولا خيار لأن تكون وحدتنا فاعلة وراسخة الجذور وبتحديد قاطع وحاسم لملامح الوحدة ومواصفاتها ، نحن نريد وحدة بهذه المعايير : 1. يتساوى فيها أبناء الوطن بانتماء أصيل إلى الوطن دون تمييز أو مفاضلة . 2. تكون فيها المواطنة حق مكفول لجميع المواطنين دون تمييز أو انتقاء بسبب العرق أو الدين أو المعتقدات الفكرية . 3. أن يكون الحكم فيها للقانون وحده . 4. أن تصبح فيها الثروة وموارد البلاد حقاً مشاعاً لكل الناس بالتساوي . 5. أن تُكفل فيها الحريات العامة ويكفل فيها حق كل مواطن أن يحكم البلاد بغض النظر عن معتقداته الدينية أو أصوله العرقية أو منابت ثقافته ومعرفته . 6. أن يكون فيها العيش مكفولاً للمواطنين في أي جزء من البلاد يقصدون دون حجر بسبب المولد أو القبيلة أو أسبقية التواجد في المنطقة . نريد باختصار وحدة لا فضل غيها لمواطن على مواطن إلا بمقدار ما يبذل ويعطي لوطنه .
| |
|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|