بسم الله الرحمن الرحيم (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور) الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية
الباب الرابع الطبيعة البشرية
الفصل الأول الفلسفة والإنسان
في تناولنا لقضية الإنسان في الحضارة الغربية، ركزنا حتى الآن، على الجانب العلمي، وهذا على اعتبار، أنه في تقديري، يمثل أكثر من غيره، المصدر الأساسي لتصور الحضارة الغربية للإنسان والكون.. كما أن العلم، عند أصحابه، هو دون غيره، الذي يعطي أكثر الحقائق التي تقوم على الواقع، والمعرفة العلمية هي أكثر المعارف دقةً، وهي موثوق بها.. ثم إن التطور في العلوم الطبيعية، وتطبيقاتها، هو السمة الأساسية للحضارة الغربية، وهو السمة التي تميزت بها عن غيرها من الحضارات.. يقول كارل بوبر، عن حقيقة أن النظرة العلمية، هي ما يميز الحضارة الغربية، ما نصه: "ليس ثمة ما يميز حضارتنا الغربية أكثر من حقيقة أنها مرتبطة بالعلم ارتباطاً لا سبيل إلى الخلاص منه.. أنها الحضارة الوحيدة التي أنتجت علماً للطبيعة، والتي يلعب فيها هذا العلم دوراً حاسماً".. ومعظم الفلسفة التي نشأت بعد ظهور العلم وتطوره، متأثرة بصورةٍ من الصور بهذا العلم.. فمن أجل هذا كان تركيزنا على الجانب العلمي، فهو الذي يعطي إنسان الحضارة الغربية تصوره الأساسي لكل قضايا الوجود الهامة. ثم أننا تحدثنا عن علم الأنثربولوجيا _علم دراسات الإنسان_ لأن موضوعه الأساسي هو الإنسان، وهو أيضاً مرتبط في معارفه، وفي منهجه، بالعلوم الطبيعية. ونحن الآن بصدد الحديث عن تصور الفلسفة الغربية للإنسان.. ومع الفلسفة، وفي إطارها، سنتعرض لعلم النفس.. وما يعنينا هو الفكر الأكثر تأثيراً، في تصور الإنسان الغربي للإنسان.. ونحن لأننا بصدد النظرة الكلية للإنسان، لا تعنينا التفاصيل، ولا القضايا التي ليس لها أثر واضح على تصور الإنسان. وعلى الرغم من أن أكثر الغربيين، يرون أن الأصل الفكري لحضارتهم، يرجع إلى الفلسفة اليونانية، إلا أننا لن نتحدث عنها، فلو كان لها أثر ما فسنجده عند مفكري الغرب، من علماء وفلاسفة. القضية الأساسية التي تناولت فيها الفلسفة الإنسان، من زاويتها، هي قضية (الطبيعة البشرية).. فمثلاً في كتاب (دونالد س أڤل Donald .C. Avel) المسمى: (نظريات الطبيعة البشرية قراءآت كلاسيكية ومعاصرة - Theories of Human Nature)، نجد الكاتب يتناول العديد من المفكريين الغربيين، ويوضح موقفهم من قضية (الطبيعة البشرية).. فهو مثلاً، يبدأ ببعض الفلاسفة اليونان، ثم يتابع مسيرته حتى الفلاسفة المعاصرين.. فقد تناول مثلاً أفلاطون، وأرسطو، وسنكا Seneca، وتوما الأكيوتي، وفرويد، وماركس، وهيوم، وسارتر، وسنكر دولسون، ونيتشا، وديكارت ..إلخ. إن القضايا الأساسية التي يتم تناولها، عند الحديث عن الطبيعة الإنسانية هي: (تعريف الإنسان)، (الخير والشر)، (البيئة والوراثة)، (الفردية والاجتماعية). ونحن سنتناول القضايا الهامة، التي تقوم على طبيعة الحضارة الغربية، وتصورها للإنسان والوجود.. ولا تعنينا الأفكار الفردية، التي لا ترتبط بالحضارة، وليس لها أثر يذكر، على تصور عدد مقدر من الغربيين للإنسان وطبيعته.. وسيكون تركيزنا على الفلسفة التي تقوم على مفهوم العلمانية، في الحضارة الغربية، فهي أكثر من غيرها، تمثل تصور الحضارة الغربية للإنسان وطبيعته. يقول الدكتور محروس سيد مرسى: "لقد اختلفت الفلسفات في النظرة الحقيقية للإنسان وطبيعته، وتعددت بتعدد العصور فقال (أرسطو) قديماً: أن الإنسان حيوان ناطق، وقال علم الاجتماع إن الإنسان حيوان اجتماعي، وقال (روسو): أن الإنسان خيِّر بالطبع، وقال (هوبز): إن الإنسان ذئب بالنسبة لأخيه الإنسان، وقال (سبينوزا): إن الإنسان مسير لا مخير.. وقال (أرنست كاسبنر): إن الإنسان خالق الرمز ومستخدمه.. وقالت المسيحية إن الإنسان مخلوق بهيمي تعميه شهواته، وتضلله نزواته، ولا خلاص له إلا أن يتطهر من آثامه بقتل الجانب الحيواني فيه.. وقال الماديون: إن الإنسان جزء من الطبيعة يخضع لما تخضع له من قوانين وأسس، فهو جزء منها، وليس منفصلاً عنها، وسلوكه معين محدد، ويمكن أن يدرس ويلاحظ ويحرر، شأنه شأن غيره من ظواهر الطبيعة.. وقال آخرون أن الإنسان كائن يحقق ذاته في ضوء ما يقوم به من فعل، وماهيته ليست سابقة على وجوده، بل وجوده سابق على ماهيته والإنسان ليس ما هو كائن، بل ما سوف يكونه، ولكي يكون فلابد من الحرية، والذات في حقيقتها حرية" 6 ص7.. وهذا النص يلخص جوهر نظرة التيارات الفلسفية الرئيسية، للإنسان وطبيعته. الفلسفة بين المادية والمثالية: تنقسم الفلسفة في الغرب، إلى تيارين رئيسين: التيار الأول الفلسفة المادية، والتيار الثاني هو الفلسفة المثالية.. التيار المثالي هو الأضعف، والأقل تأثيراً.. أما التيار المادي، فهو الأقوى، والأشمل، والأوضح تعبيراً عن طبيعة الحضارة الغربية المادية، والأقرب نسبياً للعلوم الطبيعية.. وهذا التيار هو الأكثر تأثيراً على فكر الناس في الغرب، وحياتهم.. وهذا التأثير هو تأثير مباشر أو غير مباشر.. والتأثير غير المباشر هو الأوضح.. فالأغلبية من الناس، لا يعرفون الفلسفات، ولا يدينون بها عن قناعة فكرية.. وإذا أستثنينا الماركسية، الفلسفات لا تقوم على مذهبية متكاملة.. فقد كانت الماركسية، أكثر الفلسفات التي لها طابع ديني يكاد يشمل جميع نواحي الحياة.. وقد كان معتنقوها، ينتمون إليها، على أساس قناعة فكرية بفلسفتها، ويعملون على تطبيق هذه الفلسفة، في نظام الدولة، والعيش وفق مبادئها، مع ملاحظة أن الكثير من الماركسيين، لا يعنيهم من الماركسية إلا الجانب الإقتصادي، ونظرتها الاشتراكية.. وعلى كلٍّ، الماركسية كانت أكبر فلسفة جماهيرية، في الغرب، وقد أثرت على الحضارة الغربية، تأثيراً واضحاً.. وبعد إنتهاء المعسكر الاشتراكي، الذي قام على أساس الماركسية، وشطر العالم إلى نصفين، انحسرت الماركسية وضعف زخمها، وقل معتنقوها بصورة كبيرة جداً.. ولكن دورها، في ترسيخ الطبيعة المادية للحضارة الغربية، لا يزال قائماً.. وبصورة عامة، التصور المادي للكون، وتأثيره على الفكر والحياة، هو الشيء الأساسي الوحيد المتبقي، في وقتنا الحاضر، من الفلسفات في الغرب.. الفلسفة الوحيدة بعد الماركسية، التي كانت تعتبر جماهيرية، إلى حدٍ ما، هي الوجودية، وهي قد انتهت، وانتهى دورها المباشر، أكثر من الماركسية، وهي أساساً لم ترتفع في يوم من الأيام، إلى مستوى يمكن مقارنته بالماركسية، من حيث التبعية الجماهيرية. في تقديري، الفلسفة الوحيدة المتبقية، والتي لها تأثير جماهيري، هي البراغماتية.. وهي أكثر الفلسفات تعبيراً عن الواقع الحضاري.. وهي أقرب إلى أن تكون أسلوب حياة منها إلى فلسفة فكرية، وكان فلاسفتها في البداية لا يرغبون في تسميتها فلسفة. نحن سنتعرض للفلسفات، المؤثرة على التصور الغربي للإنسان، من خلال القضايا الأساسية، المتعلقة بالطبيعة الإنسانية، وهي تتلخص في قضيتي: الخير والشر والبيئة والوراثة، وكلتاهما مرتبطتان بقضية الوجود وبصورةٍ أساسية.. وسنفرد لموضوع البيئة والوراثة، فصلاً قائماً بذاته، لاهميتهما، أما هنا سنتناول قضية الخير والشر. ولأهمية موضوع البيئة والوراثة، سنفرد له بابا قائماً بذاته في هذا الجزء الأول من الكتاب، هو الباب الخامس، أما هنا، فيما يلي، فسوف نخصص الفصول المتبقية من هذا الباب، لنتناول طبيعة الوجود، في الحضارة الغربية، والطبيعة البشرية وما إذا كانت في الأصل خيّرة أو شريرة، في فكر هذه الحضارة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة