تجد من بين الشيوعيين في الحزب الحالي أو من تركوه حالة تعرف ب"ندامة المشتري". وهي ما يصيب من اشترى شئياً ثم ندم على ذلك ظناً منه أنه، لو لم يستعجل الشراء، لربما اشترى أفضل منه أو كان حصل عليه بثمن أقل. فتجد هؤلاء الشيوعيين تمنوا أن لو كان الحزب الشيوعي الذي قضوا فيه زهرة شبابهم هو الحزب الذي دعا له عوض عبد الرازق في خلاف الجيل الشيوعي الأول في 1952، لا الحزب الذي إرتاه عبد الخالق محجوب ومكث في الأرض بينما لم تقم لحزب عوض المشتهى قائمة. ومن أقوى مظاهر هذه الندامة عند هؤلاء الشيوعيين الاشمئزاز من اللينينية بعد خدمة طويلة ممتازة لها في كنف حزب عبد الخالق الذي كانت اللينينية من مرتكزاته الصريحة يتوخاها في تنمية استراتيجيته وتكتيكاته. بل كانت الستالينية "البغيضة" أيضاً من مرتكزاته قبل أن يزلزلها المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في 1956 ويستدبرها. فاكتشاف فساد اللينينية بواسطة هؤلاء الكتاب الشيوعيين بعد اعتقاد طويل في نفعها وبركتها تذكرني بتشنيعة أكثر من الإشارة إليها كارل ماركس سخرية بمن يكتشف فجأة شئياً عن نفسه كان يمارسه في غفلة عنه. وهي سخرية مأخوذة من مسرحية "البرجوازي النبيل" للمسرحي الفرنسي موليير. فمن أطرف عبارات المسرحية قول أحدهم إنه لم يعرف من قبل أنه كان يتحدث نثراً طوال حياته. وهؤلاء الكتاب الشيوعيون نظير البرجوازي النبيل أفاقوا متأخراً أنهم كان يتحدثون لينينية فصيحة ويزعمون الآن أنها مما ابتلى الله بها الحزب وهم في غفلة عنها. وتجد أعراض ندامة المشترى بينة على الزيلعي في مقالات نشرها مؤخراً في حجاج له مع السر بابو. فاستحسن فيها الزيلعي كلمة لعبد القادر اسماعيل في كتابه "الحزب الشيوعي السوداني من التأسيس الى التجديد" نقضت التهم التقليدية التي كالها الحزب الشيوعي لعوض عبد الرازق والتي تمسك السر بابو بها. وزاد الزيلعي ندامة بأن استشهد على حجته بخضوع حزبنا الوخيم للسوفيات والمعسكر الاشتراكي بورقة عوض عبد الرازق المعنونة "تقرير السكرتير التنظيمي للحركة السودانية للتحرر الوطني عن الفترة 1947-أكتوبر 1952 " التي دفع بها في صراعات الحزب في الخمسينات الأولى. فهو هنا كمن ود أن الحزب الذي دخله هو حزب عوض الحر لا حزب عبد الخالق المنجر سوفيتياً. أما اشمئزاز الزيلعي من لينين فتجده في نقده لدخول حزبنا المجلس المركزي لنظام عبود في 1963 برغم رفضه للنظام ومقاطعة الأحزاب الأخرى للمجلس. ولا يرى الزيلعي سبباً لذلك الدخول سوى تبنينا للنظرية الماركسية اللينينية وخاصة رأي لينين عن وجوب دخول الشيوعيين البرلمانات البرجوازية الذي طرحه في كتابه " مرض اليسارية الطفولية في الشيوعية". ودخول المجلس انصياعاً لمقولة لينين واحدة من مظاهر فقدان الحزب لاستقلاله بالنقل الأخرق عن اللينينية التي أحصاها الزيلعي عددا. واستغربت لاختيار الزيلعي دخولنا انتخابات المجلس المركزي للطعن في الحزب لخضوعه الأعمى لتعليمات لينين. وسبب استغرابي أن الحزب لم يتأخر عن خوض كل الانتخابات البرلمانية مذ جرت في السودان في 1954. فلماذا عزل الزيلعي انتخابات المجلس المركزي التي هي يد الحزب التي توجعه لما اكتنفها من اتهامات ووساوس ليقيم بها الحجة على تذلل الحزب للينينية التي دعت لدخول الشيوعيين البرلمانات البرجوازية؟ لماذا صرف النظر كلية عن خمسة انتخابات أخرى عبر عقود خاضها الحزب لبرلمانات برجوازية حسب ما أمر لينين؟ لماذا كان دخول انتخابات المجلس المركزي عارنا اللينيني في قول الزيلعي بينما صمت عمن أوحى لنا دخول الانتخابات الأخرى؟ يؤسفني القول إن الزيلعي كتب مقالاته الأخيرة عن الحزب الشيوعي بغير قليل من سوء النية. فكيف ساغ له كباحث عن الحقيقة أن يستشهد بعوض عبد الرازق الخصيم عن خضوعنا للسوفيات؟ هذه طعنة من الخلف ترجع بنا سبعين عاماً للوراء. لماذا احتاج لعوض طالما توافرت له "دلائل" جدت عددها الزيلعي على تبعيتنا للينين كأننا ننكرها!) ونعود لها في كلمة قادمة. ووجب التنبيه هنا أن الجملة في تقرير عوض التي دلل بها الزيلعي على تذللنا للسوفيات مرتبكة جداً. فقد بدأت ناقدة سير حزبنا "في طريق الانكفاء على الحزب الشيوعي السوفيتي". وهذا مأخذ سلبي في جملة عوض عبد الرازق لا غلاط. ولكن لم تنته الجملة حيث أنهاها الزيلعي جزافاً. فواصل عوض قوله في نفس الفقرة إن من خلفوه في الحزب (جماعة عبد الخالق) اعتقدوا أن العلاقة مع "الحزب السوفيتي والبلدان الاشتراكية "ضرورية وتكتسب أهمية استراتيجية لا تتعارض مع العلاقات بحركات التحرر الوطني العربية والأحزاب اليسارية من آسيا وأفريقيا واضعين في الاعتبار أهمية الأحزاب الشيوعية واليسارية الديمقراطية في أوربا. وذلك كي تكتسب الحركة حلفاء وأصدقاء جُدد لقضية الشعب السوداني في طريق الحرية وحق تقرير المصير وتحقيق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية". وفي عوض عبد الرازق الرحمة. أعطي ما له له وما لجماعة عبد الخالق مالهم. فاشتكي من الانكفاء على السوفيات والمعسكر الاشتراكي ولكنه أعطى خصومه فضل التفكير السوي في سلوكهم طريق "الانكفاء" الذي بدا كله خير وبركة على القضية. ولا أعرف من شكا لطوب الأرض من شرور المناهج الانتقائية مثل الزيلعي ليمارسها بخفة يد ثورية. وسنعرض بالنقد في كلمة أخرى لحجاج الزيلعي ونقضه لعبارتنا التقليدية، في معرض عزتنا باستقلال حزبنا نهجاً وإرادة، بأنه لم يتصل بمركز الحركة الشيوعية العالمية إلا بعد 1958. فمن رأي الزيلعي أن هذه عزة بإثم غرقنا به في لجج نفوذ المركز الشيوعي حتى شعر رأسنا. ولا استقلال ولا يحزنون.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة