في كتابة سبقت قلت إن الهامش لم "يميز ضربه" في شكواه من تجاهل المركز لثقافته. وشمل بشكواه من المركز الحكومة وأهله بغض النظر. وجئت فيها بجهود رفيقنا مأمون ود الوكيل في نقل ثقافة دارفور منتهزاً سانحة تحريره ل"رسالة دارفور" الأسبوعية من راديو أم درمان في السبعينات. مؤكد أن المركز لم يقصد بتلك الرسالة، استراتيجياً، تقديم تراث دارفور أو غيرها من خلالها. ولكن مثل مأمون وعوض محمداني وجدا في المركز فتقاً فوسعاه ببعث مشهود لثقافة دارفور وكردفان وتاريخهما. ومتى غض ناشطو الهامش الطرف عن هذا الشغل القاعدي للمئات المؤرقين بالتنوع في الوطن، والمعدودين عندهم في المركزـ توحشوا بقضيتهم وعز الحليف. فهم، في تعميمهم لشكواهم من المركز، لم يطلبوا حليفاً في المركز لأن كل "خشم المركز" جلابة، في تحوير لمقطع نبيه للخليل فرح. وأذكر أنني نبهت في مناسبة قدوم وفد المقدمة للحركة الشعبية بعد اتفاقية نيفاشا في 2005 إلى إسراف الهامش على نفسه في شكواه من ظلم المركز لا يفرق بين حكومة ومؤسسات حكومية يعمل فيها أولئك المؤرقون بثقافة الوطن. وطلبت منهم أن يدرجوا في برنامج ضيافتهم زورة لمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم ليروا شغل مؤسسة حكومية (في سياق استقلال الجامعة) جرى تكليفها بواسطة مجلس أساتذة الجامعة في نحو 1962 لتوثيق ثقافة عموم السودان. وما ونى المعهد ولا كلّ في هذه الخدمة إل يومنا. وقلت للوفد أن يزور المعهد ويقف على ضروب ثقافة الهامش التي عنى المعهد بها تسجيلاً وتدويناً وتصويراً ليحكموا عن ظلم ثقافاتهم المعلوم بغير إسراف. فإلى المقال:
ليسمح لي وفد الحركة الشعبية متي جاء الخرطوم بهذا التطفل. فإنني اقترح عليه أن يغشي معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم. فلربما كان المعهد هو المحل الوحيد الذي سيشككهم في سداد عقيدتهم أن السودان القديم محض عربسلامية. فأخطأ ما يقع فيه هؤلاء هو اعتقال الشمالي أبدياً في عروبته واسلامه اللذين اكتملا على مشارف القرن الخامس عشر. إن توقيف التاريخ في ذلك الزمن البعيد يجب ما بعده: وكأن التركية بحداثتها لم تقع، أو كأن المهدية تكرار بسيط للإسلام، وكأن الانجليز بمدنهم وغردونهم لم يأتوا، وكأن الفكرة الوطنية والماركسية مجرد لغو. فالسوداني الشمالي هو نتاج هذه المؤثرات وغيرها وقد تجمرت هويته في لهبها أو احترقت. واضرب لذلك مثلاً. فقد كنت اتسامر مع الدكتورين يوسف فضل واحمد عبد الرحيم نصر من أسرة المعهد حين اكتشفنا أن والد كل منا كان ناظر محطة بالسكة الحديد. وكانت السكة الحديد هي البيئة المدينية المثلي لنزع المرء من محيطه الضيق في القري الي عوالم لا تبلغها الا السكة الحديد. ففي مجالس عطبرة لا تسمع مثلاً روايات ممن كان في بابنوسة والسوكي وتهمايم والروجل وأم كويكه ودقش فحسب، بل تسمع لغات سودانية أخري تعلمها من أقام بين أهلها. وينشرح صدرك للسودان وتتملك الرغبة أن تعرف عن مواطنيك. وددت لو التقي وفد الحركة بالدكتور الأمين ابو منقه، مدير المعهد (يوم كتابة هذه الكلمة)، ليطلعهم على مشروعات ثلاثة هي المسح اللغوي، ومشروع مسح الموسيقي التقليدية، ومشروع جمع الفلكلور السوداني وسلسلة دراسات في التراث الشعبي الملحقة به. وسأقصر حديثي على المشروع الأخير لارتباطي السابق واللاحق به. وسيجد الوفد أن المعهد لم يفرق بين تراث السودان فبلغه ما استطاع وعارف بين السودانيين شعوباً وقبائلا. وكان ذلك كله بمنشورات رونيو فعل الشيوعيين والجمهوريين السمح. فقد احصيت وأنا منقطع هنا ما لا يقل عن عشرين إصدارة عن تراث جماعات سودانية مختلفة ناهيك عن تلك التي جمعنا أدبها الشعبي ولم ننجح في نشره لتداعي ميزانية ابحاث المعهد مؤخراً. فقد صدرت كتب في تراث الرباطاب والحمر والمحس والقريات والمسبعات والفور والبجا والمناصير والمسيرية الزرق والحمران والرشايدة والشكرية والنوبة. وكان المعهد يستأجر طلاباً من هذه الجماعات في العطلات الصيفية، أو يسعي لتفريغ باحثين عصاميين من مصالحهم الحكومية ويسند لهم جمع آثار أهلهم. وقد جري تفريغ السيد سيد محمد عبد الله لجمع تراث المحس، والسيد محمد هارون كافي لجمع تراث النوبة، والمرحوم عبد الله الشيخ البشير لجمع تراث المادح ود نفيسة الكباشي القادري. ومتي زار الوفد المعهد وددت لو تحدثوا الي الدكتور فرح عيسى محمد، سادن هذا النشاط المبروك منذ الستينات، ووقفوا على متاعبه الحالية في نشر ما تجمع لديه من مادة من تراث الجنوب وغيره. فقد حضرت اجتماعاً مع زملائي في العام الماضي وقفنا فيه على كيف حال ضيق ذات اليد من إصدار كتب جاهزة لتراث الشلك والنوبة غلفان والحلفاويين والمراريت والباري والمساليت والجوامعة. وودت لو صحب الوفد الاستاذ كامل عبدالماجد، مدير دار الأشقاء، التي هي من أعمال صلاح إدريس، للنظر في طبع ما لم يطبع وإعادة طبع ما نفد. وكله نفد تقريباً. سيدعو الناس وفد الحركة ليلقوا بأحاديث كثيرة في الخرطوم. ودعوتي لهم بزيارة المعهد هي للتصنت الجميل. فقد أجاد مثقفو الجهوية الشكوى عن إهمال تراث جماعاتهم. وسيرون في المعهد أنه لم يهمل طالما كانت جهاتهم آمنة للبحث وبيد الباحثين الموارد والعدة. ومع إحسان مثقفي الجهات الشكوى لضيعة تراثهم لم أر منهم همة في إحيائه ما استطاعوا. فقد تلاشي معهد الدراسات النوبية في القاهرة ولم تقم لمركز دارفور للأبحاث قائمة. ولم أسمع عن الحركة الشعبية عناية مذكورة بتراث شعوبها في السودان الجديد.
العنوان
الكاتب
Date
ثقافة الهامش: وكل خشم المركز جلابة بقلم عبد الله علي إبراهيم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة