متعة أي الكتاب تكمن في قدرته على إجبار القارئ على التفاعل معه. هكذا هي كتب الدكتور يوسف القرضاوي: تصعب الإستكانة أثناء قراءتها. فهي دائماً ما تحرك في القارئ شعيرات الإتفاق أو الإختلاف معه. هذا ما يسمى نقداً. إذن فالقرضويات المخطوطة بواعث نقدِ على ذاتها لا صحائف للتأمل. قرأت في السابق كتابه عن الإمام الغزالي و آخر عن الإجتهاد في الإسلام. فكان الإنطباع عن فكر الدكتور جيداً. وسطية محافظة و غير إقصائية. أما هذا الكتاب الذي بين يدي اليوم (الحلال و الحرام) فقد زعزع هذا الإنطباع بعض الشيء و أحالني مرة أخرى إلى دوائر التقصي و التحقق في فكر هذا الرجل المشهور. ربما يتطلب التعليق على هذا الكتاب كتابا بنفس حجمه (312 صفحة). و لذا سأكتفي ببعض النقاط التي إستوقفتني و الإستناجات العامة و للقارئ أن يرجع للكتاب و هو متوقر بكثرة على الإنترنت. بدءاً، أعتقد أن خطأ الدكتور يكمن في تصميمه على جمع كل المسائل التي تعرض لها الدين (إما بالتحليل أو التحريم) في كتاب بهذا الحجم. حجم الكتاب حرم القارئ الباحث عن الحقيقة بنقدية مجردة (لا الساعي إلى إعادة تثبيت المحفوظ سلفاً) من أمور عديدة: أولاً: ضَعُف الحديث في الكتاب عن مقاصد الدين و الحكمة الإلهية في التحريم و التحليل نفسه. و كانت الحجج (إن وردت) ضعيفة و غير مقنعة تماماً في بعض الأحيان. الأمثلة متعددة لكن خذ على سبيل المثال تحريم أكل الخنزير. يقول الكاتب أن حكمة التحريم تكمن في الضرر الصحي الذي يترتب على أكل لحم حيوان يتغذى على الفضلات. وصمت. دون الدخول في التفاصيل الطبية لهذه المسألة، نكتفي بالقول أن نسبة الضرر الناتجة عن أكل لحم الخنزير حسب التقارير الطبية الدولية تكاد تكون صفرية. إن كان هذا هو الحال فإن هنالك معنى آخر لهذا التحريم أغفله الكاتب في إستعجاله للإنتقال للفصل التالي من كتابه. و يا ليته قال (كما قال غيره) أن بعض أحكام التحريم لا يعلمها إلا الله العليم الحكيم. لكنه لم يفعل أيضاً. و لو قال ذلك الكاتب لتجنب تعجب القارئ الناقد من ضعف الزعم المطلق الذي طرحه؛ و لغطى الفجوة في حكمة هذا التحريم بالتأكيد على أن التسليم بحكمة العقل الأكبر هي أصل من أصول الدين. ثانيا: كان الكتاب أشبه بالأوامر و النواهي من كونه طرحاً لواقعية الإسلام في ما يبيحه و ينهى عنه. ثالثا: غاب صوت الفِرق و المذاهب المختلفة في المسائل الإجتهادية. و كأن الكاتب يزعم بأن ما يقول به هو الأصح و الأدق. الحقيقة هي أن صغر حجم هذا الكتاب لا يتناسب تماماً مع حجم الموضوع المطروح. و هذا الطرح الإختزالي من شأنه أن يوقع أصحاب الأذهان التقليدية و الفضفاضة في موبقات التشدق و التعصب و لربما حتى الطائفية. تجاوز الدكتور القرضاوي التسعين عاما الآن، و قد قدم لهذه الأمة الكثير. و لاندري إن كان ينوي التوسع في موضوعات هذا الكتاب أم لا. *** بلغ جاري العزيز كريستوف من العمر عتياً. هشاشة عظمه تقعده على كرسيه المتحرك طويلاً و تقتل لياقته البدنية. لكن كلبه الجميل روكسي يفيقه من سباته كل فجرِ و يأخذه إلى خارج المنزل في جولة صباحية مع نسيم الريف الإنجليزي الجميل. طلب مني كريستوف أن أقدم له كتابا يعرفه على الإسلام بالأمس. سأقدم له كتاب " محمد: حياة الرسول" لطارق رمضان. فيه سيتعرف على حب الإسلام للبشر و للطبيعة و للحيوان. و سأمتنع عن إعطاءه نسخة إنجليزية من كتاب الحلال و الحرام لأنه يحتاج روكسي كثيراً. و أنا كذلك : أريد أن أراه سعيداً في رحاب الريف.. لا وحيداً يموت تدريجيا على مقعده المتحرك. ** آه كم أحلم بمن يحدثنا طويلاً عن مقاصد هذا الدين قبل تعاليمه.. أه كم أحلم بسودان نحلل فيه الحوار و نحرم فيه الإقصاء.. كم أحلم بسودان عريضِ يسع الجميع...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة