لم أندم في حياتي مثل ندمي إهداء المدعو عبدالرحمن سوار الذهب أحد كتبي القيمة. إنه كتاب "مفهوم الدولة" للمفكر المغربي الدكتور عبد الله العروي. كم كنت ساذجا حين صورت الكتاب ثم أهديت الرجل الكتاب، ويا له من تنازل!!؟ لقد أتى به إلى ميونيخ بداية التسعينيات شرذمة من المغامرين المشعوذين من المصريين والسودانيين، كي يسهل لهم لهف الريالات الخليجية. فالرجل كما قال بنفسه، "أقطع يدي دي، ولا ألغي شريعة سبتمبر!!". يا ليته قطع يده، ولم تقطع أعناق السودانيين عبر الفقر والذل. لا يعتبر عبد الله العروي من كتاب "دول الخليج" إياهم .. وهو من المفكرين المسكوت عنهم إعلاميا وإن أمكن التعتيم عليهم، بل هو من المطلوب دفنهم. كنت حريصا أن اشتري كل كتبه ... وبعدها ضربني الكسل، لم يعد يثيرني شيء في المشهد السوداني أو الاقليمي العربي.. فالعرب جرب، هكذا أثبت الإنتصار السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد. يأتي الدكتور حسن مكي بمقالة كي يستفز النائم المسترخي لديَّ في اللاشعور، ويعنون مقاله هكذا "مفهوم الدولة من المنظور الإسلامي". يمكنك شم رائحة عبدالله العلوي خلف العنوان. ولا أدري إذا ما قرأ الدكتور مكي كتاب العروي. لا أدري، لم الآن استحضر طرفة شيخ الحنابلة ابن أبي يعلي الفراء، الذي أخذ كتاب الماوردي الشافعي "الأحكام السلطانية" ومزق كافة صفحاته سوى الغلاف والعنوان، وحشاه بالخرافات الحنبلية... واحتفظ بالعنوان "الأحكام السلطانية". ثم أتى بعدهما المدلس الدجال حسن الترابي بعد أن سجن نفسه بنفسه معتكفا، وبعد أن تمرغ في ساحتي الماوردي والفراء بالتراب، خرج علينا من السجن بكتاب ثالث في يده "الأحكام السلطانية". ولم ينس ان يهدي شيوخ الخليج نسخة من كتابه "العصري".. ويدعو لهم بطول العمر لقيادة الأمة!! لا تسألني ماذا كتب العروي في كتابه "مفهوم الدولة" لقد طال بي الأمد عنه وضعفت الذاكرة، وتبلد الإهتمام وحالي تمثل بقولة سعد زغلول لزوجته صفية: "غطيني يا صفية.. ما فيش فائدة!!". مقالة الدكتور مكي مُستفِزة في أكثر من نقطة. ونحن هنا، لسنا بصدد الدخول في جدل حول هذه النقاط، ولكن بصدد طرح أسئلة للدكتور مكي حولها. هل وإلى اليوم لم يكتشف الدكتور أن مصطلح "العلمانية" قد حورت دلالته وزيفت.. في ليل حالك السواد؟ فالإسلام هو علماني secular فعلا وقولا، طبقا لمدلول المصطلح الصحيح، فكيف تفوت على الدكتور هذه النقطة؟ ولم يُشكِك الدكتور في السلطات الثلاثة وفي أهمية الفصل بينهم، وهو إرث إنساني عظيم؟ ولقد فعلها الإمام علي عليه السلام .. في عاصمته الكوفة، حين أبقى على شريح قاضيا في عاصمته الكوفة وفي خلافته ولم يعزله، وأخذ يعلمه فنون القضاء، وقال له مقالته المشهورة: "يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلَّا نبي أو وصي نبي أو شقيّ". وهذا عين الفصل بين السلطات!! بينما لم يفعلها الخلفاء الذين سبقوا أمير المؤمنين، إذ أخذوا في عاصمتهم بناصية السلطات الثلاثة في يدهم الواحدة. فسردية مقالة الدكتور مكي هي محاولة تقليدية مكرورة لتبرير فشل الاطروحات الاسلامية المعاصرة، والإعتذار عنها ولها في مكابرة واضحة ضد منجزات وإضافات الغرب الإنسانية بصدد الحاكمية. وكنه محور هذا التبرير أو الإعتذار المتكرر قولهم ان "القدامى" لم يجتهدوا لتأصيل مفهوم للدولة .. وهو عين إعتذار الشيخ حسن الترابي. فإذن المطلوب مجهول ولا يوجد، ولا مفر إذن من دوران الإسلامويين في حلقة مفرغة وإدمان الفشل. وتأتي ثالثة الأثافي حين يُعزي الدكتور هذا الفشل التاريخي أو المعاصر في رسم ماهية ما يسمى ب "الدولة الإسلامية" إلى إبتعاد "القدامى" عن النص. ونحن نطالب الدكتور بإبراز هذا النص أو هذه النصوص إن وجدت. ولن توجد، وسيعييه البحث عنها بلا طائل. ولا شك أن الدكتور يعني بالنص النص المرجعي من القرآن والسنة النبوية. وقد حاول محمد عمارة وفشل، وبل فضح نفسه إلى مستوى التدليس حين أكد ان 70 صحابيا شكلوا مجلسا إستشاريا للرسول ص .. نقلا عن المستشرق فلوتن، ولم يكونوا سوى مساكين الصفة، فهمها المستشرق "الصفوة"، راجع كتابه بعنوان "أصول الحكم في الإسلام"، وهو نفس عنوان كتاب علي عبد الرازق بشكل موارب كمقابل موضوعي. ولا أدري كيف يؤمن الدكتور حسن مكي وهو صاحب الوزن الثقيل بمقولة ما يسمى ب "أهل الحل والعقد". هذه من خرافات وأطغاث "القدامى". وكما نحن نكون ضد الاسلام السياسي، نجزم ان الخوف منه والتوجس منه ليس من فراغ، وأفضل مثال على ذلك مآل نموذج المتأسلمين الذي حدث في السودان. وإلى الآن لم أجد ردا على المتأسلمين أفضل مما كتبه علي عبد الرازق 1888-1966م في كتابه الإسلام وأصول الحكم. صدر عام 1925م. دمر حسن الترابي الدولة القديمة عن سبق عمد وترصد لصالح مشروع تأصيل دولة اسلامية!!! بغباء!! وفشل. الآن مفهوم الدولة المنعكس في السلوك غير قائم في وعي المتعلم وغير المتعلم السوداني، وتلاشى تماما - المواطن السوداني صار يستهزئ بأي شيء قائم في السودان. لا تستخف عزيزي القاريء بهذه النقطة فالدولة قبل أن تكون شيئا ماديا هي شيء مثالي تصوري أو تخيلي في عقل المواطن وإن لم يجده يتفكك المجتمع - هذا التصور يشبه في آليته فعل الميثيولوجيا..في الربط النسيجي الاجتماعي. الترابي- أراحنا الله منه- هدم الدولة السودانية القديمة (في العقول) وببلاهة أخذ يبحث عن "عقد إجتماعي". ربما تتفاجأون أنني لا أعتبر الترابي مفكرا، بل مدلسا. شوقي إبراهيم عثمان [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة