البحث عن الاعتراف بك كمثقف هو هاجس لدى الكثير من السودانيين ، وكأن الثقافة رتبة عسكرية او درجة علمية ، ولذلك هناك صراع محتدم حول هذه الرتبة الوهمية يصل الى درجة التسفيه المتبادل بين المستثقفين ، وهذا الصراع المحتدم ليس مستغربا في دولة تعيش حالة صراع حول السلطة والثروة ، اي السيادة ، فهذه ثقافة المجتمعات البدائية وخاصة ما اسميته البروجنسيا ؛ اي ثقافة الانتلجنسيا الصاعدة من الكدح. ولكن هذا الصراع المحتدم حول احتكار الاعتراف بك كمثقف انتج مؤسسات (ان اطلقنا عليها مسمى مؤسسات من باب الاحترام) وهي مؤسسات مغلقة .. فلنلاحظ ان كل ما يمكن ان يكون مؤسسة هو مغلق ومحتكر وتحت الاستحواذ ، فالمؤسسات الرياضية خاضعة للاحتكار والمؤسسات الحزبية خاضعة للاحتكار والمؤسسات السلطوية خاضعة للاحتكار .. حيث قلة تخاف وتخشى من اقل منافسة قد تبدو جادة وحقيقية فتغلق عليها باب المؤسسة بالضبة والمفتاح. نفس الفهم نجده في مسألة المأسسة الثقافية والاعتراف برتبة الشخص الثقافية ، فالاعلام مثلا يرفض فتح ابوابه للمثقفين خشية منافسة ما استقر منهم في سيادة الاعلام .. ولذلك فالشعب السوداني مضطر -في كل المستويات- لخوض صراعات مستميتة من اجل اخذ حقوقه ، ومن ضمنها الرتبة الثقافية ... وفي الوقت الذي يحاول الجميع الحصول على اعتراف عام بكونك مثقفا فإن آخرين يحاولون بكل جهدهم تدمير هذه الرغبة واحباط اي محاولة لانجاحها وهكذا فليس من المدهش ان نقرأ مقالات متبادلة على الاسافير المفتوحة -طبعا الصحف الورقية مغلقة على اصحابها- وهذه المقالات تتم فيها عمليات تمجيد وتبخيس متبادل بين المتصارعين حول الاعتراف بهم كمثقفين. وتعتبر هذه حربا بمعنى الكلمة بل ربما من اقذر الحروب حينما تستخدم فيها كافة الاسلحة غير الاخلاقية وعمليات اعدام الشخص معنويا وتصفيته معرفيا ، وان يحدث هذا التبادل للاغتيالات بشكل علني جهارا نهارا ، وفي كل محفل ومقام. وكما قلت فان هذا نتيجة لخلل ابستمولوجي لدى البروجنسيا ؛ التي لا زالت غير مستقرة نفسيا ولا زالت تبحث عن ارض صلبة تقف فوقها ، فالسودان لم يخضع لتطورات ثقافية ناشئة عن اتصال حضاري ، فالاتصال الحضاري التاريخي هو ما يخلق تراكمات تؤثر على اسلوب ومنهج التفكير في مسألتين هامتين ؛ الاولى في مسألة التعايش ، والثانية في مسألة حل المشكلات. ولذلك واضح تماما السبب الجوهري لوقوعنا في هذين الشركين : شرك عدم القدرة على التعايش ، وشرك عدم القدرة على حل المشكلات. فنحن لم نمر بالتطور الحضاري الذي يخلق تجانسا لحياة مشتركة ، بل نحن قفزنا هكذا فجأة من مجتمعات قبلية زراعية ورعوية متخلفة الى دولة حديثة فرضها علينا الاستعمار فرضا ، وهكذا حدثت تلك النقلة الحضارية ولكن مستصحبة معها ثقافة بدائية جدا ، تماما كالمتسول الذي يرث فجأة من احد اقاربه ملايين الاموال .. فرغم كل هذه الملايين الا انه سيعود بسرعة الى ممارسة التسول لأن التسول هنا يتحول الى نطاق قيمي سايكولوجي ومن ثم بيئة لا يمكن الفكاك منها. ان الصراع محتدم جدا ؛ فالكل يحاول اثبات رتبته كمثقف ، وبكل الوسائل وفي نفس الوقت فانه يحاول ايضا نزعة النجوم من اسبليطة الآخر ؛ وهذا ما يؤدي الى وجود اشباه مثقفين شديدي الادعاء اما تدعمهم مؤسساتهم الحزبية او شللياتهم الصغيرة ، وان ما يقدمه هؤلاء لا يكاد يؤثر على سطح الماء الراكد .. فكل ما يلقونه ليس اكثر من احجار ملح ، تذوب بسرعة في الماء... نحن لدينا هشاشة ثقافية كبيرة جدا جراء هذا الصراع المحتدم ، لكن اليس لدينا ايضا هشاشة سياسية ورياضية وامنية ووطنية نتيجة نفس الصراع؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة