من أعجب العجب أن يسومنا الشعوبي الجديد النور حمد على أن نقبل منه قوله إن الحياة الجاهلية في ممالك السودان الوثنية والنصرانية كانت أرقى من الناحية الإنسانية من الحياة في ظلال الحضارة العربية الإسلامية. وقد حاول أن يحملنا على ذلك بقوله:" بمراجعة متأنية للتاريخ السوداني، يمكننا أن نصل إلى المنعرج الذي حدث فيه التغيُّر الجوهري في بنية الحضارة السودانية، فارتدت عبر ملابسات معقدة من قيم الاستقرار والتمدن، إلى قيم البداوة والرعي، وأخلاقيات السلب والنهب، وفرض الإرادة على الغير بقوة السلاح. وأهم من ذلك في ما (يقصد فيما!) نحن مبتلون به اليوم". وهذا المنعرج هو في فهمه المنحرف الناشئ عن قراءته المغرضة للتاريخ يتمثل في هجرة العرب الشرفاء الأمجاد إلى السودان. وقد حدثت هذه الردة التي يتحدث عنها هذا الكويتب:" على مرحلتين:( يقصد فترتين؛ لأن المرحلة تعني دائما المكان لا الزمان؛ وهي المحطة التي يتوقف عندها الإنسان خلال السير ليلقي رحله!) كانت أولاهما حرب عبد الله بن أبي سرح (يقصد عبد الله بن أبي السرح!) الذي وَلِيَ أمر مصر، عقب عمرو بن العاص، وما تمخض عن حربه مع النوبة من اتفاقية، سميِّت اتفاقية البقط، في القرن السابع الميلادي". وفي رأي النور حمد:" جاء ابن أبي سرح (يقصد ابن أبي السرح!) وجيشه غزاة فاتحين، ولم يجيئوا دعاة كما يظن الكثيرون منا. لقد كان هدفهم الأساس هو توسيع الملك، وجلب الغنائم، وزيادة الخراج". فها هنا يتخلى هذا الجمهوري الصفيق عن كل أدب، وينفض عنه قليل التهذيب، فيصف الفتوح الإسلامية بأنها كانت فتوح مغانم مادية ويقول إن:" المواجهة بين الطرفين انتهت بما يشبه الاتفاقية التجارية للتبادل السلعي؛ بين إمبراطورية تسعى وراء المغانم الدنيوية، وبين مملكة صغيرة مرهقة". ولا يبالي هذا الجمهوري المرهق بأحقاده وسخائمه أن يصف الدولة الإسلامية بأنها كانت امبراطورية، وهذا خطأ فاحش يخالف حقائق التاريخ المعروفة بالبداهة. فإذا كانت الدولة الإسلامية امبراطورية فمن كان امبراطورها إذن؟! أهو عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، الذي كان يسمى خليفة المسلمين، وأمير المؤمين، أم هو شخص غيره؟! وعن هذا السؤال المنطقي الذي يتعلق بحقائق الأشياء (Factual things) نرجو أن يجيبنا هذا الجمهوري الذي ما له أدنى معرفة بالحقائق ولا له أدنى ذوق يتعامل به مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع خلفائه الراشدين. وأما الفترة الثانية (أو المرحلة حسب تعبيره الخاطئ!) التي جاء الإسلام فيها إلى السودان فهي في مرآه الاعتباطي:" ما أراه وهو ما تؤيده كثير من الشواهد أن نور الإسلام لم يصل إلى السودان نتيجة لحملة ابن أبي سرح (اسمه ابن أبي السرح ياخي!)، وإنما عن طريق المتصوفة الذين بدأوا يفدون إلى السودان ابتداء من القرن الرابع عشر وحتى الخامس عشر، وتوطدت أركان منظومتهم ورسخت عبر قرون السلطة الزرقاء". وبعد أن قرأنا قوله هذا أسرع (الباحث!) المتخبط النور حمد فنقض قوله هذا، أو مرآه هذا، واتجه إلى القول بأن المتصوفة لم يتمكنوا من إعادة صياغة وجدان السودان وتقويم ثقافتهم! وإذن فمن الذي نشر التصوف الذي تدين به الغالبية العظمى من أهل السودان؟! أهم الرعاة يا ترى أم قوم غيرهم؟! إن كل مستند (الباحث!) فيما قرره من فشل المتصوفة في نشر دعوتهم في السودان إنما كان مقتطفا يسيرا استله على عجل وغير تبصر من عمل لكاتب غربي يدعى سبولدينغ، عنوانه (عصر البطولة في سنار) وقد قال فيه:" لم تكن العلاقة بين رجال الدين وطبقة النبلاء مريحة، ويحوي السجل التاريخي فواصل كثيرة من حوادث الوحشية الرسمية ضد رجال الدين، والتي بادلها هؤلاء باللعنات المرعبة، والانذارات بحلول الكوارث... أنجز رجال الدين بعض الانتصارات الأساسية على منافسيهم وعلى السلطات المحلية". ومن هذا النص المبهم غير المترجم بصورة متقنة، أو غير المأخوذ بصورة سليمة من مصدره، يستدل (الباحث!) المتخبط على فشل المتصوفة ممن سبق له قبل قليل أن قال إنهم هم الذين جاؤوا بنور الإسلام الحقيقي إلى السودان. وواضح أن هذا النص الذي استند إليه (الباحث!) لا يشير إلى إخفاق المتصوفة في أداء مهمتهم في نشر الدعوة. وإنما يتحدث عن أن العلاقة بينهم وبين حكام سنار لم تكن جيدة. وهو القول لو صحَّ فإنه لا يدل على أن المتصوفة قد أخفقوا في نشر دعوتهم في السودان. فنشر الدعوة، سواء أجاءت على نمط صوفي أو سلفي، لا يتوقف على تأييد السلطان ولا يتقيد بشرط مثله. والغريب أن خاتمة هذا النص الذي اهتبله (الباحث!) ولم يتدبر معناه، تكاد تقول بغير ما أراد أن يستخلص منه. فالكاتب الغربي المستدلُّ برأيه يقول:" أنجز رجال الدين بعض الانتصارات الأساسية على منافسيهم وعلى السلطات المحلية". والمراد برجال الدين هنا هم علماء الصوفية بطبيعة الحال، وقد سبق للكاتب الغربي أن استخدم مصطلح رجال الدين بهذا المعنى في أول قوله. فيمكن إذن أن يستدلَّ بكلامه على أن المتصوفة أحرزوا بعض الانتصارات على منافسيهم من الفقهاء، والحكام وأحرزوا نجاحات أساسية في مهمتهم الرامية إلى نشر الدعوة على النهج الصوفي بالبلاد. وإنما اندفع (الباحث!) الجمهوري المتخبط في هذا الخبط الذي انتهجه لينجو من خبط أعظم مما أسس به (أطروحته!) من خبط خابط حول قدوم الإسلام إلى البلاد مع العرب الرعاة! وعوْدا إلى أول ما ابتدرنا هذا القول نسأل هذا الكويتب الذي زعم إأن المواجهة بين العرب المسلمين والنوبة السودانيين أشبهت اتفاقا:" بين إمبراطورية تسعى وراء المغانم الدنيوية، وبين مملكة صغيرة مرهقة".. نسأله كيف كانت دولة النوبة مرهقة وهي التي حالت بقوتها العسكرية – كما زعم - دون دخول جيش العربي الإسلامي الضخم السودان زهاء سبعة قرون؟! وإنما سألناه هذا السؤال ليتبين للقارئ أن هذا الشخص يرصف أقواله رصفا بلا وعي، ولا يبتغي من أي منها معنى محددا. ولذلك يهدم حجته بنفسه، وهذا دأبه وصنيعه الذي ظل عليه طوال عمله في أطروحته المزعومة. وهو صنيع الحمقى من أمثاله من دعاة الفكر الجمهوري الموتورين المُتنزِّين بسُمِّ الحقد!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة