أريد في هذا الكلمة "جرد" المصادر التي تحت أيدينا الآن ليتأسس عليها تحقيق حقوقي شرعي فيمن القاتل أو القتلة الذين صرعوا ضباط وجنود بيت الضيافة في اليوم الثالث والأخير من أيام انقلاب 19 يوليو 1971. ومبتغاي من هذا الجرد هو مكافحة هزء (cynicism) برجوازي صغير فاش يصرف مثل هذا المطلب بالتحري في جريمة بيت الضيافة كعبث لأن زمان الحادثة فات وغنّاية مات. فحتى المحكمة العليا كما سبق لي الذكر قالت للأستاذة أسماء محمود محمد طه في 1986 إن دعواها بالكشف عن مدفن والدها الأستاذ مستحيلة لأن من اغتالوه أخفوا جثته بمكر لا تبين بعده أبداً. واتضح فيما بعد أنهم حاولوا هذا الدهاء الإبليسي ولكن شهد عليه شاهد وكشف عن موضع القاء جثته من طائرة في خلاء أم درمان. وستجد من يقول لك من الفئة الهازئة هو حنحقق في شنو والا شنو؟ سنحقق فيها جميعاً إذا كان في ذلك ما يهدئ من روع بلد وأسر تؤوب به الدولة إلى الرشد والقسط . ورانا شنو؟
من أسطع مصادر التحقيق في مذبحة الضيافة تقرير القاضي مولانا حسن علوب الذي ترأس لجنة كونها نميري في 1971 للتحقيق في أحداث انقلاب الرائد هاشم العطا (قرار مجلس الوزراء 1814، 1971). وعلى علم الناس بوجود مثل هذا التقرير إلا أنه لم نتبين الحقائق حوله (لا التقرير ذاته) إلا بفضل برنامج مراجعات الذي قدمه الطاهر حسن التوم على قناة النيل الأزرق في يوم الجمعة 22 يونيو 2012. والبرنامج على اليوتيوب وشاهده نحو 12 ألف متصحف حتى يومنا. واستجوبت اللجنة جمعاً غفيراً من الشهود فيهم نحو 200 عسكرياً ملأت أقوالهم 11 مجلداً بخط اليد بجانب التقرير نفسه. وأثني القاضي على العميد أبو عفان الذي خط تلك الشهادات بيده خطاً جميلاً. وقال القاضي إن تعيينه لرئاسة اللجنة كان مفاجئاً له لأن نميري كان أعفاه من وضعه كمستشار لمجلس الثورة والوزراء وأعاده للقضائية. وسبب الإعفاء أنهم كانوا طلبوا منه استشارة بتعديل قانون مقاطعة إسرائيل ليأذن بدخول عربات روفر هدية للسودان من البريطاني توني رولاند صاحب شركة لونرو (ستكون لها أدوار في إخماد انقلاب 19 يوليو وحكايات أخرى) عن طريق خليل عثمان صاحب مصانع النسيج المشهور والنائب البرلماني في 1986. وكانت عربات الروفر مقاطعة لأنها تنتج في إسرائيل. وكان رأي القاضي ألا ضرورة للتعديل لقبول السيارات. ففي القانون نفسه استثناءات تُرخص مثل قبول تلك الهدية. ولكنهم قالوا له نميري طلب التعديل. ولما لم يُعَدل القانون صدر القرار بعودته للقضائية. لما اختاروه لرئاسة لجنة التحقيق طلبوا منه أن يرشح من يطمئن لتعاونهم فرشح العميد-اللواء عثمان أبو عفان ومكاوي (؟؟؟) من النائب العام. وعينت الحكومة من جانبها العميد محمود عبد الرحمن الفكي ومحمد سوار على نميري. فطلب القاضي من أحمد بابكر عيسى، وزير مجلس الوزراء، أن يرتب للجنة لقاءً مع نميري لتؤدي القسم أمامه. فراوغ وقال أخيراً (هو لازم تحلفو. ما خلاص قولوا "عليّ الطلاق" نقول الحق). وتم القسم أمام نميري بحضور منصور خالد. قال القاضي إنه بدأ يتخوف من لجنة هذه مطالعها. فقد بدت له وكأنهم يريدونها لجنة صورية. من جهة أخرى حددوا للجنة فترة قصيرة، 3 أشهر، لإنجاز أعمالها. وأصر القاضي على تمديد المدة لإنفاذ خطة عمله التي وضعها. فأخذ عمل اللجنة عاماً كاملاً. وكان تأخرهم مكروهاً لدى نميري حتى أنه كان يطاعن اللجنة في لقائه الشهري عبر التلفزيون بقوله إن هناك من كلفناهم بمهمة فلم يؤدوا واجباتهم بهمة. ثم جاءت أوقات أخرى أثنى عليها. كان من أول ما قال له نميري "أوعك المحاكمات" أي أنه غير مأذون له الاطلاع على محاكمات الكانقرو في الشجرة التي ذهبت بصفوة زملائنا الشيوعيين واليساريين في القوات المسلحة. وعليه قال القاضي لعبد الرحمن الفكي إنه بالطبع لابد له من قراءة وقائع المحاكم. وهدد بالانسحاب ما لم يأذنوا له بذاك. فتراجع نميري. واكتفى القاضي بمجرد الاطلاع على وقائع تلك المحاكم لأنه لم يجد حماسة من اللجنة لتخطي ذلك الحد الذي وضعه نميري لها. ووصف المحاكم بأنها سخرية من العدالة. واتسمت بإيجازية لا تصح حتى في محاكم المرور سأل الطاهر القاضي إن كانت مذبحة بيت الضيافة جزءاً من التحقيق. قال بالطبع لابد. لازم. ولكن المشكلة أن المسؤولين لم يقدموا البينات اللازمة لنشرع في التحقيق بما يكفل العدالة. وسئل عمن نفذ القتل في بيت الضيافة. فقال إن تحقيقات أخرى جرت عرفها من العميد عبد الرحمن الفكي، عضو اللجنة، كشفت بأنه كانت هناك بالخرطوم فرقة من القيادة الغربية (الفاشر) واستخدمها الرائد هاشم في حراسة بيت الضيافة من غير معرفة بها. وقال إنه طلب نتيجة التحقيق في أمر هذه الفرقة. ولم يواصل الطاهر السؤال عن نتيجة طلبه وعما إذا كان حصل على التقرير أم لا. ثم سأله إن كان قد قرأ كتاب عبد الرحمن الفكي الذي قال فيه إن لجنة التحقيق توصلت إلى أن حراس بيت الضيافة هم من قاموا بالمذبحة بأمر من الملازم الحاردلو قائد حرس المعتقلين بالبيت. فرد بأنه لم يقرأ الكتاب وأن اللجنة لم تصل إلى نتيجة مثل تلك. وقال بأنهم اكتفوا بوصف أحداث المذبحة لا من كان من ورائها لأنه لم تتوافر بيانات يوثق بها حول الجرم. وقال بأن عبد الرحمن الفكي ربما تأثر بأشياء لاحقة لعمل اللجنة. وذكر من الجانب الآخر أنه مما قد يوحي بدور الحراس الشيوعيين في القتل هو هتاف الشيوعيين خلال مظاهرتهم في يوم 22 يوليو "لا تحفظ بل إعدام". فواضح أن هؤلاء الضباط المطلوب قتلهم، لا التحفظ عليهم، هم ضباط بيت الضيافة من مؤيدي انقلاب 25 مايو. ونسب ذلك إلى السادية التي استقاها المتظاهرون من الفكرة الشيوعية التي لقنتهم فكرة الصراع الطبقي والعنف الطبقي. وهي فكرة قال إنها مستقاة من عنف روسيا التي كان فيها القيصر لا يرحم. لربما كان الهتاف ما استوحاه القتلة. ولكنه لا يتهم الشيوعيين ولا خلافه بالقتل. لا نجد معرفة حالية لا بالتقرير، الذي طبعت منه ثلاث نسخ، ولا ملاحقه. وكانت نسخة منه بطرف القاضي حتى أحالوه غصباً للمعاش في 1976 فسلمها لأمين مجلس القضاء العالي في سياق تسليم العهدة وتسوية الحقوق. وقال إنه سلمها بسرك يصل لعبد الله الحسن وزير شؤون الرئاسة. وهو يستبعد أن يكون التقرير قد تبخر. ولا سيرة لموضع لوجود التقرير إلا ما جاء في قول السفير ورجل الأمن عثمان السيد من أن نسخة جهاز الأمن قد أخذها منصور خالد. ويوجد التقرير الآن في صورتين. الأولى نسخة عشوائية من التقرير، لا الملاحق، نقلها أحدهم بخط اليد. وهي ناقصة بعض الصفحات. وعلق عليها المرحوم محمد سعيد القدال وشخصي في الصحف. ووجدت من اطلاعي عليها حرفية عالية جداً ولكنها لم تمس (كما هي عليه) مذبحة بيت الضيافة. ولكن اطلع القاضي عليها بفضل عبد الماجد بوب وقال إنها مطابقة لما يتذكر من تقريره. أما الصورة الثانية منه فهي "تقرير تنفيذي" قال عثمان السيد في لقائه مع الطاهر في "مراجعات" إنه ملخص إداري للتقرير وفيه تجريم للشيوعيين بالقتل. ونفى القاضي صدور هذا التقرير منه أو بعلمه. وواضح من حديث مولانا أن الحكومة حققت بصورة مستقلة في وقائع أخرى متصلة بالانقلاب وبيت الضيافة، مثل التحقيق في وجود فرقة من القيادة الجنوبية، الذي سمع عنه من العميد عبد الرحمن الفكي. وهذه تقارير لابد من توافرها للجنة التحقيق المرجوة. نعرض في حديث قادم إن كان بوسع الملازمين الحاردلو وجبارة ارتكاب جريمة بيت الضيافة من زاوية علم الجريمة ومفهوم الوجود في غير مسرح الجريمة وقت ارتكابها (alibi). .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة