الضوء خافت داخل المحكمة بسبب إنقطاع الكهرباء، ثمة ضوء يتسرب من النوافذ القديمة الكبيرة، لكنه ضوء خائف متردد، كأنه يخشى أن يلفّق له أحدهم تهمة ما، كأنه يعرف انه غير مرحّب به في دولة الجنجويد الكبرى، حيث السلطة التي تعشق الظلام. الضوء الخائف يتسرب ببطْ مدفوعا بالحنين و حفيف أجنحة العصافير، العصافير التي تقف في صفوف متوازية في الخارج، مثل حرس الشرف، ليستعرضها الصمت.
الضوء الخائف يجعل صور الناس كأنها مقلوبة، ظلال الناس التي تتكاثر بمعادلة هندسية تبدو أكثر من الناس، والصمت الذي يتوالد من رحم الضوء الخائف يبدو كأنه لا يمت بصلة لهذا العالم.
فجأة يقطع الصمت صوت شخص مشنوق على شجرة في الخارج، كان يغني بثقة من لم يعد لديه شئ يخسره
لم يهتم احد بصوت الميت، لا أحد يهتم في عجلة الصمت حتى بأصوات الأحياء! الذين يعبرون بنفس بريق العيون الميت الذي يتسرب من عينيّ المشنوق.
تلاشى صوت الميت في أمواج بحر الصمت المتلاطمة، نفس صمت الضوء الخائف الذي يقطعه مرة أخرى صوت الحاجب حين يعلن: محكمة.
جاءت مجموعة أخرى من الظلال الطويلة. جلست في وقار يليق بالظلال.
ثم إرتفع صوت القاضي، ضعيفا في البداية من رهق العدل، قبل أن ينطلق يهدر بقوة فوق قضبان لامبالاته اليومية. إنه قاض متعجل، يصلح للعب كل الأدوار: الشاكي والمتهم والقاضي والمحامي.
ليتقدم الشاكي.
هل أنت ضحية للجنجويد أو للنصب والاحتيال؟ هل سرق أحدهم قطعة أرضك وباعها؟ هل بدّلت زوجتك دينها؟
قال الرجل الغريب الملتحي: بل أنا من سيبدّل دينه إن لم أجد من ينصفني! ممن إستولوا على حقوقي وطردوني من هذه البلاد!
ثم تحول الغريب ليخطب في جمهور المحكمة: أيتها المحكمة الموقرة، أيتها العدالة الناجزة، إنني لا أطلب سوى العدالة والرحمة، إنني مجرد مواطن صالح! لقد طردت من عملي كمستشار دون ان أحصل على مستحقاتي، وتم إبعادي من هذه البلاد دون وجه حق!
قال القاضي: لابد أنك إرتكبت جرما كبيرا، لابد أنك تخابرت مع دولة أجنبية، أو أنك طابور خامس أو عميل خائن لوطنك أو أنك أصدرت تصريحا او فعلا يفهم منه انك توافق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على رمز السيادة أو ..
قاطعه الشاكي: لا أنكر أنني قمت ببعض العمال السيئة الصغيرة سيدي الرئيس، لكنها مجرد أشياء لا تذكر حين نقارنها بأفعال من طردوني من هذه البلاد!
أعترف أنني أغويت أناسا بشراب الخمر وشبابا بتدخين السجائر أو المخدرات الرخيصة التي توهم من يتعاطاها انه سعيد، نفس هذا الشئ تفعله الحكومة أيضا حين تحاول ايهام البعض بأجهزة إعلامها، بأنهم يعيشون في سعادة رغم القحط والفقر، وأنه لا يوجد متمرد واحد في الوطن، وأن أصوات طلقات الرصاص التي (تلعلع) في الشوارع يطلقها المواطنون بدافع البهجة بسبب الرخاء الذي يخيّم في كل مكان!
كما أغويت آخرين بسرقة مبالغ صغيرة، معظمهم كانوا يعيدونها لأصحابها بعد قضاء الحوائج التي أجبرتهم على عمل ذلك! لأنني لا أهتم بمتابعة من أغويهم بعمل سئ ليقوموا بتطوير مواهبهم في السرقة أو الاحتيال، أو يحافظون على مستوى تفوقهم في الخطيئة، أنا مجرد هاو، حين أغوي شخصا ما أبحث فورا عن شخص غيره، أهتم بالكم لا بالكيف. لكنني تعلمت ممن عملت معهم كمستشار أكثر من النصائح التي قدمتها لهم.
لقد وجدت من يبيع وطنا، أضعت عمري في إغواء مساكين بسرقة حمار أو حزمة علف صغيرة تكلّف ملاليم قليلة. لو أنك إشتريتها ستكلفك أقل من سرقتها! ، لقد وجدت من يسرق بئر بترول دون حتى أن يستشيرني، وحين طالبته بعمولتي، لأنني كنت أشرت له ليسرق أوراق ملكية بئر ماء في طريق القوافل في الصحراء، أرسل لي قوات الجنجويد لتطردني خارج الوطن! لقد أغويت أحدهم ليسجد الى صنم، ثم إكتشفت أنه سرق الصنم وباعه! لا وقت لديهم ولا حتى للعبادة، حتى أنا لم أفكر يوما في بيع آلهة! كان صنما من الذهب الخالص، ثم قال كمن تعلم درسا مكلّفا: في المرة القادمة سأصنع صنما من العجوة!
قاطعه القاضي دون حذر: سيأكله!
تلفت القاضي حوله حذرا خوفا من: البصاصين والطابور الخامس والجنجويد وقوات الدفاع الشعبي وقوات السلام وقوات الدعم السريع والدعم البطئ والشرطة الشعبية والأمن الشعبي والأمن الوطني والأمن العام والشرطة في خدمة الشعب، مسح العرق على وجهه بمنديله، وتأكد أن لحيته المزيفة مثبّته في نفس مكانها، ولم تتزحزح بفضل الخوف او العرق، ثم أعلن:
لا وقت لدي لحكايتك التي تبدو لي طويلة. سأعطيك خيارات حتى لا تضيع وقتك في الشرح. تبدو شيخا وقورا، ما هي مشكلتك التي طردت بسببها من عملك ووطنك؟ هل هي:
غسيل أموال
سرقة أراضي
سرقة أموال عامة!
أم مخدرات؟
قال الغريب: مثل هذه الجرائم لا تطردك من أية مكان، بالعكس حين ترتكب إحداها ستحصل على ترقية، فقط يجب عليك أن لا تنسى أولئك الذين يزعمون أنهم عميان حين تمر من أمامهم وأنت تحمل على ظهرك الأرض التي سرقت أو الأموال التي حللّت!
قال الشاكي: أنا من سيعطيك خيارات، يا مولاي، هل تشرب الخمر أم الماء أم اللبن؟
رد القاضي بسرعة ودون حذر: أشرب الخمر أحيانا! هل لديك القليل منها الآن؟
قبل أن يستدرك ويعرف انه إرتكب جرما كبيرا، تلفت القاضي حوله حذرا، حتى يتأكد أن عددا قليلا من الناس سمعوا بفضيحة تكالبه على البهجة، وعدم صبره حتى إنتهاء عمله وحلول المساء، وعلى إنكشاف حبه للظلام مثل أهل السلطة وخوفهم من الضوء الخائف، ثم تنحنح حتى يتأكد أن صوته إستعاد قوة سلطته، قبل أن يعلن بصوت جهوري شحنه بصرامة وخبرة ثلاثة عقود من إمتهان العدل: كيف تجرؤ على إتهامي بمعاقرة أم الكبائر؟
قال الغريب: الكبائر لم يعد لها أم الآن يا سيدي، بات لها أخوة. هم مثل أخوة يوسف، لا يحتاجون ولاحتى لخدماتي لالقاء كل من يقف في طريقهم في الجب!
قال القاضي: من تعني بأخوة الكبائر؟.
قال الغريب: إنهم هم من إستولوا على حقوقي وطردوني من هذه البلاد سيدي القاضي!
قبل أن نصل الى من طردوك دون وجه حق كما تزعم، هل لك ان توضح لي كيف تجرؤ على إتهامي بشرب الخمر، ألا تعلم أنني..
ضحك الرجل وقال: أنت الان تكذب يا مولاي وهذا أسوأ! ألم تشرب بالأمس يا مولاي زجاجة من الخمر المهرّبة! كانت خمرا جيدة، أعرف ذلك النوع! حين تشرب منه تشعر كأنك تحلق في الفضاء بعيدا عن مشاكل أسرتك ومشاكل العمل ومصاعب الحياة. ان كنت أنا أواجهك بالحقيقة وأطلب العدل فأنت ترتكب ثلاث جرائم يا سيدي. حين تشرب الخمر سرا وهي ممنوعة حسب القانون الذي يفترض بك تطبيقه، وحين تشتري خمرا مهرّبة بدلا من شراء الخمر المحلية، بدلا من أن تشجع الصناعة الوطنية، تشجع الناس على ترك كل شئ وإمتهان تهريب الخمور من الدول المجاورة، وذاك لعمري عمل لم يخطر حتى على بالي!
تلفت القاضي حوله حذرا، قبل أن يقول بدافع فضول غير حكيم: وماهي جريمتي الثالثة؟
قال الغريب: حين لا تدفع ثمن الخمر كله! تسرق حتى المهرّب نفسه، تدفع له مبلغا صغيرا وتستغل سلطتك حين تقول له: يكفي هذا وإلاّ حبستك! تنسى انك ستحتاج له، حين تشعر بالحزن، والوحدة، حين تغضب زوجتك وتترك لك البيت الكبير وحدك، البيت الذي حصلت على أرضه مجانا حين كنت مسئولا كبيرا في مصلحة الأراضي! تنسى أنك ستحتاج له، حين تفقد وظيفتك بسبب تساقط شعر ذقنك، لا بسبب نقص ورعك المزيف، بل بسبب مرض جلدي سيصيبك بسبب إفراطك في أستخدام هذه اللحي البلاستيكية المزيفة! يصنعون حتى اللحي في الصين !
أطرق القاضي قليلا قبل أن يعلن: حكمت المحكمة حضوريا بستة أشهر سجن للشاكي لإهانته المحكمة الموقرة! وتجسسه على المواطنين الآمنين، ومصادرة أجهزة التجسس التي يستخدمها!.
رفعت الجلسة.
• الأبيات من قصيدة أمل دنقل كلمات سبارتكوس الأخيرة
للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة