( يا أيتها النفس المطمئنة، إرجعي إلى ربك راضية مرضية، فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي) صدق الله العظيم. وأنا أكتب مقالاتي هذه بعباراتي العاجزة وخاطري الكسير عن صديقي وأخي العزيز الدكتور محمد عثمان الجعلي رحمه الله، وأغالب حزني على رحيله الفاجع، أود أن أتعرض في عجالة لملامح من بعض عوالمه المدهشة. أولها ما أحببت أن أسميه "سنوات الرياض". جاءها، حين كانت الوظائف في دول الخليج تسعى لمثله، خبيرا بمجلس القوى العاملة السعودي. وفي هذا الجهاز الحكومي كان عطاؤه المهني متصلا مع زملائه وأصدقائه من الإخوة الذين عملوا معه ولا شك أنهم أقدر على الحديث عن هذا الجانب، وعن تميزه المهني في تلك الفترة الحافلة من سنوات عمله معهم. كانت الرياض في منتصف الثمانينات لاسيما بعد انتفاضة أبريل 1985م وما بعدها بؤرة نشاط متصل ثقافي واجتماعي وسياسي، وتعتبر بنوعية السودانيين وأعدادهم فيها، من المهاجر النشطة والمتميزة. كان التواصل بين الزملاء والأصدقاء فيها مستمرا لا يكاد ينقطع. جمعتنا مع عثمان الجعلي وإخوة أفاضل لقاءات المسامرة وحلقات النقاش في مساكننا، وفي جلسات مقهى الشلال، وفي الندوات والاجتماعات في بعض قاعات الفنادق والاستراحات، وإبان الحراك المتصل في جالية أم الحمام التي كانت مركز النشاط المعارض لنظام الإنقاذ في سنواته الأولى. إضافة لهذا تميزت الرياض بكونها العاصمة العربية الهامة التي استضافت عددا من رموز الفكر والثقافة والأدب والشعر السوداني أبرزهم الروائي العالمي الطيب صالح والشاعر الكبير محمد الحسن سالم حميد عليهما الرحمة وآخرون كثر. وفد للرياض في تلك الفترة السياسيون من مختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية. كان العزيز الراحل عثمان الجعلي رحمه في طليعة المحتفين بكل هؤلاء وكان مدهشا ومتفردا في تعليقاته ومداخلاته في اللقاءات التي جمعتنا ببعض أولئك الرموز. وقد أتاحت الصحف السودانية التي كانت تردنا في فترة الديمقراطية الثانية التي أعقبت الانتفاضة نافذة تابعنا من خلالها المشهد السياسي بصراعاته والتباساته ووفرت مادة لنقاشاتنا، وكان الجعلي رحمه الله بذهنه المتوقد سباقا ومبادرا في كل هذا. وبعد انقلاب الإنقاذ وحين عاودت صحيفة الخرطوم الصدور من القاهرة وصدرت بعدها صحيفة الاتحادي كانتا منبرا أسهم الجعلي بفكره ومساهماته القيمة المتميزة مع غيره من الكتاب السودانيين في مختلف دول الإغتراب والمهاجر، في إعطائهما الزخم والرواج الذي حظيتا به. لقد ألمحت وأنا بصدد محاولة الدخول لعوالم الجعلي المدهشة إلى عطائه السياسي، وأشرت إلى أنه رحمه الله ولج باب السياسة من منظور وطني واسع ومتجرد. وقلت إننا نخطئ وربما نكذب إن ظننا نحن "قبيلة الأشقاء الاتحاديين" أنه كان لنا وحدنا، وإن كنا قد عرفنا عنه في مسيرتنا الحافلة معه، الوفاء والإخلاص والعطاء الذي لا تحده حدود لحزب الحركة الوطنية. فشخصية الراحل العزيز الدكتور محمد عثمان الجعلي تستعصي على القولبة وأطر الانتماء الحزبي بمعناه الضيق. ولهذا لم يكن انتماؤه رحمه الله لحزب الحركة الوطنية بتاريخه وإرثه ومواقفه التي كانت محل فخره واعتزازه، وقربه من قيادة الاتحادي الأصل كأبرز المستشارين، قيدا على قدرته للتعامل مع الآخرين من ذوي الانتماءات المختلفة. وكان الجعلي يعجب كثيرا من بعض الذين يعمي بصائرهم نزق الاختلاف السياسي فيفْجُرون في الخصومة. كان شديد الاحترام لكل الرموز من كل الأحزاب والكيانات السودانية فهو من جيل، أزعم أني منه، لا يعرف الإساءة للكبار، هذه بضاعة لا يبيع الجعلي فيها ولا يشتري. فلكلٍ في رأيه كسبه يخطئ ويصيب، " الإساءة في شنو؟!" كما كان رحمه الله يقول. لهذا أيضا كان الجعلي أشقى الناس بالتشظي والانقسام والتناحر والخصام بين فصائل الأشقاء الاتحاديين، وليس عسيرا أن ندلل على هذا بما نعرفه عنه رحمه الله من خلال علاقة عمل حزبي لصيقة جمعتنا لسنوات، بذل فيها جهدا كبيرا، بحكم علاقته الخاصة بكثير من القادة في الفصائل الاتحادية المختلفة، لتأليف القلوب وتقريب وجهات النظر وجمع الصف. ولكننا نستشهد ببعض ما كتب لأنه الأثر المقروء الباقي وفيه إشارة لمساعي "العصبة أولي العزم" وكان هو رحمه الله في مقدمتهم. ففي رثائه للراحل الزعيم ابن الزعيم محمد إسماعيل الأزهري يقول الجعلي:(رحل ابن الزعيم وحفيد الولي والساحة السياسية الاتحادية تمور بكل "جلجلة وشيتن يحير" كما قال ود الفراش. رحل الشاب وقد نذر نفسه ،بمعاونة العصبة من أولي العزم، لرتق الفتق الاتحادي ..لم يدخر جهدا ولا وسعا ... كان يواصل يومه إصباحا وعشيات سعيا لإنجاز المهمة المستحيلة مستعينا بشبابه وثقة البشر وببيت أبي الطيب المتنبي: أزورهم وسواد الليل يشفع لي/ وأنثني وبياض الصبح يغري بي!) اللهم يا حنان يا منان أرحم الصديق الوفي والأخ العزيز البروفسور محمد عثمان أحمد الجعلي "إبن نوره" رحمة واسعة، وأجزل ثوابه وثقّل ميزانه وأشمله بمغفرتك وعفوك واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم تقبل دعاء كل من دعا له من الأهل والأحباب والأصدقاء والمعارف الذين أحزنهم فقده وأبكاهم رحيله، أولئك الذين اصطفوه حبيبا وأخا وصديقا لما حباه الله به من القبول وكريم السجايا، أولئك الذين يعلمون حقا وصدقا أنها مشيئة الله وقدره المقدور ولا يقولون إلا ما يرضي الله رب العالمين ( إنا لله وإنا إليه راجعون).
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة