فوجئت ودهشت حين أخبرني أحد الأصدقاء أنه سمع اسمي في إذاعة القضارف بأن تم اختياري لبرلمان الثقافة ، وسبب الدهشة أن توقعاتي أضحت تتراوح ما بين ضرب وسب ، واعتقال ونهب . ثم تسلمت الثلاثاء الماضي (23 فبراير) خطابا رقيقا أرفق معه القرار الوزاري رقم 5 ، ونص الخطاب المؤرخ بيوم 15 فبراير الجاري على (الأخ الكريم / أ.جعفر خضر الموقر .. نفيد بأنه قد تم اختيار معاليكم عضوا في برلمان الثقافة بولاية القضارف إيمانا منا بدوركم الرائد في تنمية وتطوير المجتمع في شتى ضروب العمل الثقافي والفكري والرياضي ورتق النسيج الاجتماعي) بتوقيع بشير حماد إبراهيم وزير الثقافة والشباب والرياضة بولاية القضارف . وظني أن هذه أول مرّة يخاطبني أحدهم بقول "معاليكم" .
وجاء في القرار الوزاري رقم 5 لسنة 2016 : عملا باختصاصات وزارة الثقافة والشباب والرياضة أصدر القرار الآتي نصه: أولا : اسم القرار وبدأ العمل به :أ) يسمى هذا القرار قرار وزاري بتشكيل برلمان الثقافة بولاية القضارف ، ب) يبدأ العمل به من تاريخ التوقيع عليه ./ ثانيا : التشكيل : يتم تشكيل اللجنة على النحو التالي : ... وذكر أسماء عدد 110 شخصية . وصدر بتوقيع الوزير بتاريخ 11 فبراير 2016 .
هنالك ثمة اختلاف بين "أولا" و"ثانيا" في القرار أعلاه ، فقرة "أولا" تحدثت عن "برلمان" ، وفقرة "ثانيا" فصلت تشكيل "لجنة" ، وليس "برلمان" ، ويبدو أن الفكرة بدأت بتكوين "اللجنة" المنصوص عليها في قانون تنظيم نشاط الجماعات الثقافية القومية لسنة 1996م المادة (15) ، والتي ظلت مغيّببة طوال السنوات الفائتة ، ثم فجأة كبُرت الفكرة ـ بين غمضة عين وانتباهتها ـ فأضحت "برلمان" .
ويتضمن الأمر خطأ إجرائيا آخر يتمثل في اختيار شخص لمهمة دون مشاورته! ، فقد لا يأنس الشخص في نفسه الكفاءة للقيام بتلك المهمة ، أو قد تحول ظروفه دون ذلك ، أو قد يكون غير راغب في القيام بها . لكن يبدو أنّ ثقافة جديدة تشكلت ، وأمسىى الأمر تشريفا ، وليس تكليفا كما يعلنون ، وظن الوزير أن أي شخص يتم اختياره لأي شيء سيوافق لا محالة ، حيث هنالك فرصة تصاب أو "عضة" تعض .
من هم الذين يكونون "برلمان الثقافة" ؟
ضمت قائمة القرار الوزاري 10 شخصيات اعتبارية هي : قائد الفرقة الثانية مشاه ، مدير شرطة الولاية ، مدير جهاز الأمن ، ومدراء شركات الاتصال الثلاث ، ومدير الشركة التجارية الوسطى ، ومدير شركة دال ، ومدير الشركة الأفريقية الزراعية ، ومدير بنك أمدرمان الوطني ، هذا بالإضافة إلى 100 شخصية طبيعية : دكاترة ، وأساتذة ، وسادة ، وشيوخ ، ونظار ، ومهندسان ، ومك ، وفريق ، ومقدم ، ورائد ! .
البرلمان عادة ما يكون منتخبا وليس معينا ، لذا كان الأحرى أن يكون برلمان الثقافة منتخبا ! وهذه ليست صعبة ، وذلك بأن تكون ركيزة هذا البرلمان الأساسية هي شخصيات اعتبارية من رؤساء الجماعات الثقافية المسجلة وفقا لقانون تنظيم نشاط الجماعات الثقافية لسنة 1996 ، باعتبار أنّ كلا منهم منتخب من جمعيته العمومية ، فكان ينبغي أن تتكون عضوية البرلمان من : رئيس اتحاد المهن الموسيقية ، رئيس منتدى شروق الثقافي ، رئيس جمعية نوابغ الثقافية .. الخ ، ويمكن لهؤلاء من بعد ذلك أن يضيفوا لبرلمانهم الثقافي شخصيات طبيعية فاعلة ثقافيا . ولكن يبدو أن الوزير لا يعترف بالجمعيات المسجلة وفقا للقانون وبإشراف مسجل الجمعيات الثقافية الذي يعمل تحت إدارة الثقافة بوزارته ، ومن ثم شكّل برلمان سمك لبن تمرهندي .
وما هي المهام التي سيقوم بها "برلمان الثقافة" ؟
كيف تُشكّل لجنة أو برلمان مجهول المهام ؟ الأولى أن تُحدد المهام أولا ، ليتم اختيار الأشخاص الذين يتوقع أن يكونوا قادرين على إنجازها . ولا سبيل لمعرفة مهام "برلمان الثقافة" إلا بالاجتهاد في نص قرار الوزير . يتشكّل "برلمان الثقافة" من كلمتين "برلمان" و"ثقافة" . إنّ مفهوم "برلمان" مستلف من الحقل السياسي باعتباره يمثل السلطة التشريعية والرقابية ، عليه يمكننا أن نستنتج أن الدور المنوط ب "برلمان الثقافة" سيكون هو التشريع والرقابة في الشأن الثقافي بولاية القضارف .
هل سيكون من اختصاص "برلمان الثقافة" كتابة مسودة لقانون تنظيم نشاط الجماعات الثقافية ؟
بالقطع لن يستطيع "برلمان الثقافة" أن يجيز قانونا ، فهذه من مهام المجلس التشريعي ، لكن يمكنه أن يصوغ مسودة قانون ليجيزها المجلس التشريعي . إن قانون تنظيم نشاط الجمعيات الثقافية القومية لسنة 1996 ، هو قانون قومي وليس ولائي ، ولم يوجد نظيره الولائي منذ ذلك الوقت وحتى الآن ، مما يدلل على هامشية الثقافة بولاية القضارف . وقد حكم السودان دستوران بعد قانون الجماعات الثقافية لسنة 1996 : دستور 1998 ، ثم دستور 2005 ، ولا يزال القانون هو قانون تنظيم نشاط الجماعات الثقافية القومية لسنة 1996م! مما يدل على هامشية الثقافة في تفكير القائمين على أمر الدولة في السودان ككل .
ولكن لا يظنن ظان أن مجرد صياغة قانون جديد يعني أن تطورا يجري ، فقد يكون القانون الجديد أسوأ من القديم . خاصة وأن قانون هيئات الشباب والرياضة لسنة 2003 ، الذي صدر وفقا لدستور 1998 ؛ وقانون تنظيم العمل الطوعى والإنسانى لسنة 2006 ، الذي يفترض أنه صدر وفقا لدستور 2005 ـ أسوأ من قانون الجماعات الثقافية لسنة 1996 الصادر بموجب المرسوم الدستوري الخامس لسنة 1991 ، لأنهما يكرسان أكثر لسلطة الوزير بما يسمح بخنق الهيئات المسجلة بموجبهما . وليتذكر أعضاء "برلمان الثقافة" أن دستور 2005 هو الأساس ، وليس القوانين الباطلة كقانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني الباطل .
ويكمن الإشكال ـ أيضا ـ في أن وزارة الثقافة والشباب والرياضة نفسها لا تلتزم بالقانون الذي ينظم النشاط ، ولا تستند على القانون في إصدار قراراتها ، والشواهد كثر .
هل سيقوم "برلمان الثقافة" بالرقابة والمحاسبة ؟
لا توجد لائحة واضحة لتنظيم العمل الثقافي ، بحيث تؤكد على ديمقراطية الجماعات الثقافية ، والتزامها بالمؤسسية والشفافية وانتظامها في عقد جمعياتها العمومية ، وإصدارها لخطابات الدورة والميزانية ونشرها مسبقا . بحيث يتم تحفيز الجمعيات الحقيقية ومنحها دورا للعمل ، وليس منح الدور للعاطلين الموالين الذين لا يعملون إلا بمقابل ، وإغلاق دور الفاعلين المثابرين كمنتدى شروق الثقافي الذي أغلق جهاز الأمن مقرّه بتاريخ 11/2/2014 ولا يزال مغلقا حتى الآن ، كما صادر جهاز الأمن ساوند وكاميرا وكتب وممتلكات أخرى تخص منتدى شروق ولا تزال مصادرة حتى الآن . جدير بالذكر أن الساوند سيستم أهداه للمنتدى ابن القضارف الصحفي عبد الله علقم ، ليصادر جهاز الأمن الساوند بدون مبرر ، بدون قانون ، بدون قضاء .. قلع بس ! ووزارة الثقافة لا تحرك ساكنا .. فتأمّل !! فهل يستطيع "برلمان الثقافة" أن يعيد لشروق ممتلكاته المصادرة ؟ وأن يفتح له مقرّه المغلق ؟ والأهم من ذلك هل يستطيع حماية الجماعات الثقافية من تغول الأجهزة الأمنية مستقبلا ؟
إن العدو الرئيسي للثقافة والحرية بولاية القضارف هو جهاز الأمن ، الذي حُظي مديره بعضوية "برلمان الثقافة" ، تُرى إلى أي مدى سينعم أعضاء البرلمان بالحرية والأمان عند مناقشتهم لشأن الولاية الثقافي ؟
سأحسن الظن وأشكر الوزير على حسن ظنه بي ، ومخاطبتي بذلك الخطاب الرقيق . وأؤكد أنني أعرف عددا من المخلصين الذين تم اختيارهم ل"برلمان الثقافة" ضمن ال110 شخصية راجيا لهم التوفيق ، ولكن عليهم أن يحذروا استغلال أسمائهم لتكريس الهيمنة على العمل الثقافي . وأذكّر بضيق أفق الاجهزة الأمنية التي أغلقت مركز الدراسات السودانية بالخرطوم ، واتحاد الكتاب السودانيين ، وبيت الفنون ، ومركز على الزين الثقافي وغيرهم ، وممارساتها بالقضارف ماثلة للعيان .
ختاما:
وصلتني دعوة شخصية لأكون عضوا في "برلمان الثقافة" ، عليه فإنني كتبت هذا المقال بصفة شخصية ، بمعنى أنني لا أمثل أي جهة بتاتا . وقد اعتذرت شفاهة بعد أن وصلتني الدعوة ، والآن أكرر اعتذاري ههنا كتابة ليعلم الذين سمعوا إسمي ، وبصورة مكررة ، في إعلام القضارف أنني لست عضوا في "برلمان الثقافة" .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة