في عام تسعة وثمانين وتمهيدا لانقلاب الجبهة القومية الإسلامية على النظام الديمقراطي انطلقت حملة شعواء قادتها صحف جماعة الإسلاميين لتسفيه النظام الديمقراطي وتضخيم الخلافات بين الأحزاب وتعميق الازمات وترويج شعار العذاب ولا الأحزاب لتمرير مؤامرة الانقلاب وقد اعترف لاحقا وبعد ربع قرن من انقلاب الإنقاذ عدد من الكوادر القيادية التي قادت عملية تشويه النظام الديمقراطي بفداحة الخطأ الذي ارتكبوه بعد أن تبينت لهم سوءات الإنقاذ فيما بعد مقارنة بماكان عليه الوضع في السابق ومنهم من أعترف بأن الانقلاب فوت فرصة تاريخية لبناء نظام ديمقراطي تراكمي تتناقص أخطائه تدريجيا ويعالج امراضه تلقائيا ويتيح الفرصة للناخبين بحرية لتغيير حكامهم كل اربع سنوات . لم يكونوا يعلموا بالطبع أنهم لايستطيعون في حال النظام الانقلابي تغيير حكامهم بعد أكثر من ربع قرن . وأنهم لن يستطيعوا إيقاف ومصادرة الصحف وتوجيه الاعلام وأنهم لن يتمكنوا من تناول قضايا الفساد بقرار السلطات الأمنية إلى آخر القائمة. كان الهدف في تلك المرحلة هو اغتيال الديمقراطية وتيئيس المواطنين من أي خير فيها تمهيدا للانقلاب واغتيال أي أمل في تطور النظام الديمقراطي ونجحوا في ذلك الانقلاب بحكم طبيعة النظام الديمقراطي الذي يتيح حريات واسعة استغلت للإطاحة به باسم القوات المسلحة التي أذيع البيان الأول باسمها والتي هي في الواقع من يفترض أنها ستحمي النظام الديمقراطي والدستور . كثيرون بالطبع يعلمون عن تفاصيل خدعة انقلاب الإنقاذ تحت شعار مسرحية " أن يذهب الترابي للسجن حبيسا وأن يذهب البشير للقصر رئيسا " وقد كتب كثيرون عن تفاصيل استغلال اسم القوات المسلحة وتمرير الانقلاب حتى اصبح امرا واقعا قبل أن تواجه القوات المسلحة نفسها بعمليات تصفية كبيرة طالت الضباط الوطنيين وطالت المؤسة العسكرية القومية الأولى في البلاد تحت شعارات التمكين التي طالت مؤسسات أخرى عديدة . مضت الآن سنوات عديدة تجاوزت الربع قرن على هيمنة الإسلاميين على الحكم دون حسيب او رقيب بكل تفاصيلة وتسنى لهم بحكم طبيعة الشعب السوداني المسالمة مالم يتسنى لغيرهم من الإسلاميين في البلدان الأخرى ولعل قصص وقضايا الفساد واستغلال النفوذ واستباحة المال العام وموارد الدولة وتحويل الدولة إلى حزب متحكم في الزاد والزناد تمثل العناوين الرئيسية لهذه الفترة التي غمرها الفشل بكل معانيه . وضيع اسلاميو السودان على انفسهم فرصة نادرة لن تتعوض مرة أخرى في بناء تجربة جديدة تحقق الحرية والتنمية وتحافظ على حقوق الانسان لتبرير انقلابهم وليحتذوا بالتجربة الماليزية أو التجربة التركية لكنهم 1هبوا عكس ذلك تماما بل كانوا أقرب في بداياتهم بالطالبانية قبل ان ينتهي بعض رموزها إلى مجموعات طفيلية تزاوج بين السلطة والنفوذ والفساد على نحو مانشاهد ونرى مما تفيض به الصحف وتكشف عنه المواقع الإخبارية.
وبعد مرور مياه كثيرة تحت جسر الإنقاذ بكل قراءاتها ينظر الكثيرون سواء من المعارضين أو المراقبين أو المتفرجين وحتى من قيادات داخل الحزب الحاكم بشيء من الشك والريبة إلى مستقبل مخرجات الحوار الوطني الجاري حاليا بشكله المنقوص والسطحي باعتباره تلبية لرغبات النظام في تجديد شرعيته ، أكثر من كونه رؤية شاملة لحل أزمات البلاد الأمنية والاقتصادية والسياسية تحقق تنازلا جوهريا للنظام عن سياساته الآحادية بحجة ان رئيس النظام هو من تفضل باتاحة الحوار على الاخرين الذين عجزوا عن إحداث التغيير كمايرى اعلام الحزب الحاكم . غير أنه لن يكون ممكنا من الناحية العملية في ظل بنية النظام الفكرية والقانونية والأمنية والإقتصادية الحالية التي تسيطر على مقاليد الدولة إحداث أي تغيير جذري أو تحول ديمقراطي حقيقي يعيد الدولة إلى حضن الوطن بعد أكثر من ربع قرن من سيطرة الإنقاذ وتحولها إلى مجموعات نفوذ ومراكز قوى سياسية واقتصادية لن تسمح باي مساس بمصالحها التي حققتها في غياب القانون والمساءلة .
أما سياسيا فقد رأينا كيف تم استدعاء النواب الذين رفضوا زيادة أسعار الغاز وطالبوا بمثول وزير المالية للاستجواب وكيف تم حملهم من قبل الحزب الحاكم على سحب أسمائهم من قائمة المطالبين بالاستجواب ، ثم كيف ألغى رئيس الجمهورية إرادة برلمانه من خلال تصريحاته بأن لاتراجع عن الزيادة حيث اصبح التراجع هو للبرلمان الذي ظن بعض نوابه أنهم نواب في برلمان ديمقراطي وصدقوا أنهم منتخبون بإرادة ناخبيهم وليس بإرادة حزبهم الحاكم . التحول الديمقراطي في ظل هيمنة الحزب الحاكم على مفاصل الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والتنفيذية والسيادية والإعلامية والقانونية والأمنية والحوارية عين المستحيل . بل ان الممكن فقط هو أن يختار الحزب الحاكم من أي مخرجات حوارية يتم إعلانها تحت اشرافه بالطبع مايناسبه منها فالحريات هو من يحدد طبيعتها ومداها والقوانين هو من يفصلها حسب حاجته إليها والاقتصاد هو من يتحكم في سياساته وتنفيذها والأمن هو من يحدد كوادره وقياداته وصلاحياته والقوات المسلحة هو من يملك زمام أمرها وأنشطة الأحزاب المحاصرة أنشطتها وحركتها أصلا منذ ربع قرن حتى أصيبت بالروماتيزم هو من يحدد مدى خطرها على الأمن الوطني يسمح لمن يشاء ويمنع من يشاء حتى من يتسق معه هو وطني ومنتمي لتراب الوطن ومن يختلف معه هو مرتهن لقوى خارجية ولا يملك قراره .
في ضوء هذا الواقع ماهو مستقبل تحقيق التحول الديمقراطي وبسط الحريات في بلادنا في ظل منظومة النظام الحالي ومصالحه وحساباته ورؤيته لمفهوم التحول الديمقراطي ومفهوم ممارسة الحرية ومفهوم ممارسة النشاط الحزبي ومعايير تطبيق القوانين التي تتعارض مع حقوق يكفلها الدستور كل ذلك وفقا لمخرجات الحوار الوطني التي يرعاها النظام بغض النظر عن رؤية المعارضين لها ؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة